الوجه الأخير للاستعمار

وهو وجه «المحاق». وقد عادت فكرة الاستعمار كالعرجون القديم، وأظهر ما في هذا الوجه هجوم إيطاليا على الحبشة على الرغم من وجود عصبة الأمم. وخطورة الأمر ترجع إلى أن كلًّا من الحبشة وإيطاليا عضو في تلك العصبة. وقد بذلت دول أوروبا غاية ما تستطيع في التوفيق والحيلولة بينهما وبين الحرب، فأعلنت إيطاليا بعملها إفلاس العصبة، وأثبتت أن حب الاستعمار لا يزال نارًا تتأجج في صدور أهل أوروبا، حتى بعد الحرب العظمى ومؤتمر نزع السلاح.

ولكن إيطاليا أحسنت إلى العالم في شيء واحد،١ وهو أنها جاهرت بأنها تُحارب لأجل التوسع، وحبًّا بتوفير الرفاهية لأبنائها، ورغبة في إيجاد ميدان جديد لنشاط الأجيال المقبلة من سلالة الفاشيين، وتنفيسًا عن صدر الأمة التي تكاد بلادها تضيق بشعبها. وبعبارة أخرى، تريد إيطاليا أن تقول: «طالب العيش ما تعدَّى» ولمَّا يمضِ على استيلائها على طرابلس ربع قرن، وقد يعزُّ على الزعيم أن لا يضيف إلى أملاكه أرضًا جديدة يضمها إلى إريتريا والصومال ليزهو بحكم أهلها وثروتهم بين الأمم. ولكنه كان صريحًا، فلم يخفِ أغراضه، ولم يخجل من التصريح بها، بل عيَّر بعض الدول العظمى بما فعلته في سبيل الاستعمار.٢
وإذن تكون غزوة إيطاليا للحبشة من نفس النوع الذي وصفناه في النبذة الثالثة من هذه العجالة، فها هي أمة متحضرة، ووارثة لدولة عريقة في المجد، وموجدة نظامًا جديدًا في الحكم الداخلي، وهو النظام الفاشي، قد أدركتها أعراض الوراثة من دماء الذين أغاروا على روما وحكموها، فأغارت على بلاد أجنبية بعيدة عن مقر ملكها بألوف الأميال، ولم يعقها عن تلك الغارة أن تلك البلاد الأجنبية البعيدة عريقة هي الأخرى في الاستقلال والحرية، وفي الشجاعة الحربية، وفي الإيمان الديني، ولم يعقها أن تلك البلاد داخلة في زمرة الأمم التي أرسلت مبعوثيها إلى عاصمة جامعة الشعوب بجنيف.٣

مما يُثبت التناقض الإيطالي وعدم الثبات على المبادئ أن مندوب إيطاليا في عصبة الأمم في جلسة ١٥ سبتمبر سنة ١٩٢٣، وهي الجلسة التي قُبلت فيها الحبشة في العصبة، وكان إذ ذاك هو الكونت بونينو لونجاري (سلف بارون الوازي) قال إنه يُرحب باسم إيطاليا بقبول الحبشة، تلك الدولة العريقة في الحرية والعقيدة منذ ثلاثة آلاف سنة لدى دخولها في عصبة الأمم، وإن إيطاليا تعد طلبها العضوية في العصبة تحية عظمى تقدمها الحبشة إلى العصبة. وقد دافع عنها خير دفاع وقال: إنها مصدر نور وحضارة في أفريقيا.

وإذ كانت القبائل المتوحشة تغير على الأمم المتحضرة بأقواس، وسهام، وسيوف، ورماح، وخوذات، ودروع، فإن إيطاليا المتحضرة تغير على الحبشة بالطائرات، والغازات، وأشعة الموت، والأساطيل، والدبابات، والمدافع الرشاشة، وقنابل الديناميت. وهذه الأمة الحبشية نفسها لم تكن تملك إلا الأقواس والنبال والرماح.

الأدلة المادية على أن الحرب الناشبة غايتها طلب الرزق!

لقد نوَّه مندوبو إيطاليا بجنيف في ١٨ سبتمبر سنة ١٩٣٥ بأن إيطاليا يجب أن تتحصل على متسع من الأرض لزُرَّاعها العاطلين عن العمل، وأن تستعمر البلاد، وتمد المصانع الإيطالية بالمواد الخام، وأن هذا لا يتسنى إلا إذا كان لإيطاليا جيش احتلال دائم في الحبشة، ورقابة على إدارة الحكومة، وقال الزعيم موسوليني في يوم ١٩ سبتمبر لمستر وارد برايس في روما:

إن منطقة الدناكل التي تقترح لجنة الخمسة إعطاءها لإيطاليا ليست سوى مهد قديم لبحر جف ماؤه، فلا تنمو فيه عشبة خضراء، ولا يمكن حتى الحبشي نفسه أن يجد فيها وسيلة للارتزاق، تلك هي صحراء أوجادين أو الصحراء الحجرية … وقد عالجنا بعض الصحراء الليبية وصيرناها صالحة للسُّكنى. أما الصحاري الجرداء القاحلة المملوءة صخورًا هائلة صماء؛ فلا يمكننا أن نفعل بها شيئًا.

ماذا يقول سنيور بنيتو موسوليني لو أن دولة أقوى من دولته أعلنت عليه حربًا جائرة، وكادت أن تقهره، فعرض عليها جزيرة صقلية وجنوب شبه الجزيرة لتستعمرها، فرفضت عرضه، وطلبت سهول لومبارديا وتوسكانيا لخصوبتهما، وذلك بحجة أن عمالها عاطلون، وزُرَّاعها لا يجدون ما يزرعون، هل يطيق الحياة حينئذ، أم يقبل التنازل عن أرض الوطن؟

النتيجة

ويُستنتج من كل ما تقدم، وهو بعض ما يجب أن يُقال، أن غارات الأمم على بعضها بعضًا لا تزال مستمرة، وأنها تطورت، فبعد أن كان المتوحش يهاجم المتحضر، أمسى الذي يعتبر نفسه في أعلى قمة الحضارة يهاجم الأمة التي يعتبرها هو متوحشة، فقد قال مندوب إيطاليا في إحدى جلسات العصبة: «إن الحبشة ليست أمة، ولا تستحق أن تكون عضوًا في جامعة الأمم.»٤

ولكن على الرغم من هذا التطور الذي تمَّ في مدى عشرين قرنًا؛ فإن سبب الغارات لا يزال واحدًا، وهو التوسع في طلب القوت، والبحث وراء الرغيف اللدن، سواء أكان في أمريكا أو أفريقيا أو آسيا.

ولما كانت القبائل البربرية قد انقرضت، فلا شعوب سلافية تنحدر من الشمال على روسيا، ولا هون، ولا فيزيجوت، ولا فندال، ولا تتر، ولا مغول؛ لأن دول أوروبا أبادتها في منابتها، فقد حلَّت تلك الدول المتحضرة نفسها محل تلك القبائل، واتخذت خطة الهجوم والإغارة، وهي لا ترحم حتى نفسها، حتى تُغير ألمانيا على الألزاس، وإنجلترا على أيرلندا، وروسيا وألمانيا والنمسا على بولونيا، وذلك بأسباب شتى؛ كالحدود الطبيعية (نهر الرين)، وضرورة الجوار (أيرلندا)، أو الخوف من النزعة الحربية (ضد بولونيا).

الزمن تغير والعالم تطور، ولكن غريزة الشر، ورغبة الاعتداء، والطمع الأعمى فيما بين يدي السوى باقية لم تتحول، سواء أكان الحاكم ملكًا مستبدًّا، أو رئيس جمهورية شعبية، أو زعيمًا فاشيًّا!

١  إذا كان في الجرائم الإنسانية الدولية إحسان!
٢  سيرى القارئ كم تكبدت إيطاليا في سبيل استعمار إريتريا من المال والرجال.
٣  كما أن لروما أساطير في تأسيسها بفعل التوءمين رومس ورينس اللذين رضعا لبان الذئبة، كذلك للحبشة تأسيس أسطورة عن ملكها بفعل أول ملوكها منليك الأول، الذي حمل إلى عاصمتها «أكسوم» ألواح موسى.
٤  راجع ما ينقض ذلك في هذا الفصل (الوجه الأخير للاستعمار).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤