حكايات خرافية تومئ بالحكمة

مقدمة بقلم د. شاكر عبد الحميد
الخرافة Fable هي قصة مَجازية قصيرة على هيئة شعرية أو نثرية، وهي غالبًا ما تتعلق بالحيوانات، أو تدور على لسانها. كما أنها تُحكَى من أجل توضيح حكمةٍ أخلاقية أو الإيحاء بموعظة حسنة.

وأشهر الخرافات هي «خرافات أيسوب» (٦٢٠–٥٦٠ق.م.) ثم «حكايات لافونتين» (١٦٢١–١٦٩٥م) وبعض قصص رود يارد كبلنج (١٩٠٢م)، و«خرافات من زمننا» لجيمس ثيربر (١٩٤٠م)، و«خرافات أكثر من زمننا» لنفس المؤلِّف (١٩٥٦م)، كما تُعتبَر «مزرعة الحيوانات» لجورج أورويل (١٩٤٥م) حكايات خرافية طويلة.

و«خرافات صينية»: حيوانات وطيور تنطق بالحكمة والموعظة الحسنة، مجموعة من النصوص لمؤلِّفِين صينيين — عديدِين ترجمها طلعت الشايب عن الإنجليزية بمهارة واقتدارٍ شديدَين.

ساحة الخرافات هنا شبيهة بغابة تعجُّ بالحيوانات والطيور والزواحف والأشجار والبشر، حيوانات كأنها مخلوقات آدمية، ومخلوقات آدمية كأنها الحيوانات، بشر يتحوَّلون إلى تماثيل، وتماثيل تتحوَّل إلى بشر، طيور تنطق بالحكمة، وحيوانات تَتذاكَى وتَضحك وتبكِي، أفكار تربوية وسياسية واجتماعية وفلسفية، وجمالية، ولغة شديدة الجمال والصفاء والنقاء والتدفُّق والشاعرية، ومترجِم يُعيد خلْق النص من جديد، ترجمة هي إبداعٌ على إبداع، وقدرة هائلة على نقْل العالم الأصلي للحكايات من خلال جُمَل قصيرة وتعبيرات مُوحِية، ومَشاهد بصرية شديدة الرهافة والعمق والحيوية. ترجمة دون أدنى مُعاظَلة، إعادة إنتاج وكأنها الإنتاج نفسه، ترجمة تجعلُك كأنك تعيش حياتك مرة أخرى تَخطفُك من حياتك العابرة الحاسرة وتجعلُك تعيش في قلبها مستمعتًا ومستفيدًا أو متأمِّلًا وخالدًا. فلا تدري هل أنتَ تعيش في قلب الأحداث، أو أن هذه الأحداث تعيش في قلبك أنت؟!

يستخدم «طلعت الشايب» في ترجمته لهذه المجموعة من الخرافات، بل من القصص الخرافية الصينية، العديدَ من الطاقات الإبداعية الكامنة في اللغة العربية، فهو يستخدم الألفاظ المُوحِية، والجُمَل البسيطة السهلة التي تشعُّ جمالًا، والتعبيرات القرآنية والتراثية بديعةَ التصوير عميقة التأثير، ولعلَّ ذِكر بعض الاستخدامات لبعض التعبيرات القرآنية في قصة «الثعبان والموسيقى» مثلًا تُوضِّح للقارئ العزيز بعضًا من هذا التوفيق وهذا النجاح الذي حقَّقه هذا المترجِم القدير في استفادته من مثل هذه التعبيرات، لقد ظهر ذلك مثلًا في قوله: «وضَع الموسيقيُّ لحنًا جمَع فيه كل مشاعر الألم والفَقْد والاستنكار والغضب، وكان كل من يستمع إليه مع الصبح إذا تنفَّس، أو في الليل إذا سجَى، يشعر بالألم الدفين.»

ونجد نفس الشيء أيضًا في قصصٍ عديدة من قصص هذه المجموعة، ومن ذلك ما جاء في قصة حوض الاستحمام المسحور (١٨) من أن ذلك الفلاح الأجير الذي اكتشف الحوض المسحور الذي يُضاعِف الثمار والنقود إذا أُلقِيَت فيه، كان بعد أن استولى صاحبُ الأرض ثم العمدة ثم المَلك على الحوض، وبعد أن قفز المَلك في الحوض خرج وراءه مَلكٌ ثم مَلك ودبَّ الصراع بينهم وانتشرت الفوضى في البلاد. كان هذا الفلَّاح الأجير الذي اكتشف الحوض «يجلس مَلُومًا محسورًا» وهو يقول لنفسه: «ليتني متُّ قبل هذا!»

في الخرافات التي تحتويها هذه المجموعة إدانةٌ وسخرية من البشر والحيوانات، وليست هناك فواصل صارمة أو حادَّة بين عوالم البشر وعوالم الحيوانات، ولا بين قيم وسلوكيات وأفكار ومناورات ورغبات ومطامح قاطِنِي هذه العوالم أو تلك، هناك وحدة وجود عارمة بين الجميع في دراما الحياة وغرائزها المُتناوِبة صعودًا وهبوطًا.

ثنائيات في العناوين والمفرَدات، وأقطاب للصراع، وهناك دائمًا هذه الثنائية وعلى أطرافها هناك قطبٌ ثالث يراقب، هناك الجرادة الرمادية والجرادة الخضراء (١٦)، والأفعى الذهبية والأفعى الفضية، والحمار الرمادي والحمار البُنِّي، وهناك: بوذا والجسر، والذهب والنحاس، والحقيقة والوهم، والثعلب والسلطعون، والبحَّار وابنه، والنحَّات والتمثال، وابن عِرس والقنفذ، والأسد والجَمل، والذبابة الصغيرة والمصباح (١٥) … إلخ، وعلى هامش الأحداث هناك طرفٌ ثالث يراقب دائمًا. وقد يكون هذا الطرف المراقب للأحداث هو الإوَزَّة كما في قصة «الديك والدودة الصغيرة» أو السلحفاة في قصة «الحوت الطيب» أو الراوي نفسه الذي يُعلِّق على الأحداث ويستقْطِر الدلالة منها في قصصٍ كثيرة من قصص هذه المجموعة.

هناك ثعالب ذكية في القصص، وثعالب شديدة الغباء أيضًا، هناك حقائق صارمة وحقائق عارية، وحقائق تَتسربَل بالوهم، وملابسه الزاهية، تجريدات عقلية وتجسيدات حِسِّية، آلهة وثعابين، حيوانات وطيور، بشر وتماثيل، وحِكَم ومأثورات وطرائف، مَعادن ورحلات، حقائق وأوهام، ودروس في التربية وفي صراع الأجيال، حيوانات أليفة وحيوانات مفترِسة، تفَّاحات معطوبة وزهور مُشِعَّة، ثعابين وموسيقى، ذباب ومصابيح، دروس في الجشع والطمع والفساد والوطنية، وأُمثولات حول الغرور والزَّهو والكبرياء والحذر والحُمق، وحول الأنانية التي تُطيح في طريقها بكل شيء، فقط أنا وحدي وبعدي الطوفان (قصة: الذئب العجوز وابنه مثلًا) (١٣).

منطق القوة يواجِه منطق المَكر، قوة المَكر وبطش القوة، الحقيقة والتظاهُر بالقوة، الخداع والوعي بالخداع وسهولة الانخداع، أساليب معرفية وطرائق في التعامل مع القوي ومع الماكر، ومع القوي والماكر القوي أيضًا.

تعجُّ هذه الخرافات بحالات حيوانية وطبيعية وإنسانية، فردية واجتماعية، معرفية ووجدانية، وهناك دائمًا دلالةٌ عميقة قائمة، هناك التظاهر بالرحمة ثم خداع الآخرِين، وهناك ضرورة تسلُّح الضعيف بالذكاء في مواجهة بطش الكبار وجبروتهم، وهناك ردود أفعال البعض الهائلة والمُدمِّرة في مواجهة أحداث صغيرة وعابرة، وهناك الأشجار التي تبكي وتضحك والتماثيل التي تحمل ملامح البشر وعواطفهم وسلوكياتهم.

هنا نقدٌ للتبعية والاتِّكالية وفقدان الهدف والاعتماد على الآخرِين، نظرة الناس للأغنياء والفقراء، تمسُّك الناس بالوهم مُفضِّلين إيَّاه على الحقيقة، حب الإنسان لنفسه ولأبنائه واعتبارهم أجمل البشر حتى لو كانوا غير ذلك. (قصة: أجمل طفل في القرية مثلًا).

ومن الحب ما قَتل، فالأب الذي يريد ابنه على صورته في قصة «البحَّار وابنه» يخلع ملابس الابن كلما شعر هو بالحر، أي الأب، رغم أن ذلك الابن كان يجلس في البرد القارس، البرد القارس قد يكون بردًا مَجازيًّا، وقد يكون ناجمًا عن الإهمال الحقيقي الذي يعانيه الابن في علاقته بأبيه رغم هذه الحماية الزائدة المبالَغ فيها والقاتلة أيضًا، هناك سُلطة أبوية، فردية وجماعية، تَعوق النمو والتَّحقُّق أو التفرُّد والخصوصية، وهذه القصة تنتقد هذه السلطة على نحوٍ مرير وساخر في نفس الوقت.

هناك في هذه المجموعات إيحاءٌ بالدور الذي يمكن أن تلعبه الأسماء في خلق التصوُّرات الذهنية الخاصة عن الأشياء فبأسمائها قد تتمايز الأشياء، والقط يمكن أن يصبح نَمِرًا أو تِنِّينًا أو سحابًا أو ريحًا أو جدارًا أو فأرًا … كذلك تتبدَّل الأدوار ما بين الصانع والمصنوع، ما بين الفاعل والمفعول، فالتمثال المصنوع يتحوَّل إلى صانِع ومسيطر، والمثَّال الصانع يتحوَّل إلى عبْد مستعطِف يرجو عفو التمثال وكرَمه. (هل نتذكر أسطورة بيجماليون؟) هنا نقدٌ مرير لفكرة الاغتراب، وتحذير من سيطرة ما نصنعه ونقوم به علينا وعلى سلوكياتنا وأفكارنا بحيث نتحوَّل من ذات إلى موضوع، ومن فاعِل إلى مفعول به، ومن مسيطِر إلى مسيطَر عليه.

يحضر الثعلب كثيرًا في هذه المجموعة، فهو يحضر في قصص: «الثعلب والسلحفاة» و«الثعلب والسلطعون» و«هدية النمر» (١٤) و«الثعلب الذي سقط في المستنقَع» وغيرها من قصص هذه المجموعة المتميِّزة، وهناك احتفاء وسخرية في نفس الوقت بهذا الحيوان ومنه، هناك احتفاء بالذكاء، وهناك سخرية مما قد يجلبه هذا الذكاء على صاحِبه من عواقب وخيمة. وهناك سخرية أكثر من هؤلاء الذين يعتقدون أنهم أذكى المخلوقات ومن ثَمَّ يَحتالون على غيرهم ويُسيطِر الجشع والخداع على سلوكياتهم ثم يُورِدون أنفسهم في النهاية مَوارد التهلكة.

الثعلب ميثولوجيا رمزٌ للدهاء والمكر والاختلاس والمُخاتَلة والنفاق والمهارة والخداع والشر، وهو أيضًا رمز للإعمار أو طول العمر والبقاء في ظل كل الظروف نتيجة للقدرة على التحول وعلى التكيُّف مع كل المتغيِّرات، والثعالب أشباح أرواح الموتى في بعض الأساطير.

بالحيلة يهرب الفقراء من المأزق التي يضعهم فيه الأغنياء (قصة: الذكاء بعينه)، وبالحيلة تتخلَّص الأفاعي من الدواء المرعب الذي ابتكره أحد الأشخاص لقتلها (الأفعى الذهبية والأفعى الفضية)، والوجه الآخر للذكاء هو الحُمق والغفلة، وهو ظاهِر في قصص كثيرة منها قصة «الحيوانات الأليفة وصاحبها» حيث نجد حَذَر الإنسان من الأخطار المباشِرة وغفْلته عن الأخطار غير المباشِرة الأشد خطورة.

ونجد نفس النقد لآلية حُمْق التفكير وغَفلته في قصة «الأسد والحَمل» (١١) وقصة «أساليب الحيَّة» أيضًا.

والجمود الفكري والعقائدي والتصلُّب والإصرار على الرأي مَهما كان عليه هذا الرأي من خطأ، هو شكلٌ آخَر مِن أشكال اضطراب العقل واعوجاجه، ونجد ذلك على سبيل المثال لا الحصر في قصة قرار (١٠).

التردُّد، وعدم انتهاز الفرص، والتسويف والإرجاء والمماطلة، وعدم اختيار الوقت المناسب للعمل والفعل، والافتقار للمبادرة هو أيضًا من أشكال اعوجاج التفكير وانحرافه، ونَجِد ذلك في قصة «القارب والمد» مثلًا (٤٢).

التناحُر يؤدي إلى الفساد، وعلى نفسها جَنَتْ براقش (قصة: إنكار الذئب) (٣١)، وأحيانًا يُفضِّل الناس الصِّيت على الغنى، والثعلب يستغل صِيت شراسة الذئب ويهاجم الماعز، (قصة: الثعلب والماعز).

والفن لا بد أن يكون من أجْل العدل والحرية، فالموسيقى قد تقتل الثعابين مثلما قد يقضي الفن على الشر (قصة: الثعبان والموسيقى) (٢٨)، والتدخُّل في شئون الآخرِين قد يؤدِّي بنا إلى التهلكة (البئر والنهر) (٢٦).

ليس الكبار هم فقط من يُعلِّمون الصغار، بل قد يقوم الصغار بتعليم الكبار، فالنسر الكبير الواهن الضعيف في قصة: (النسر وابنه) (٣٥) تحرَّك وطار بجسارةٍ حين وجد ابنه يطير بقوة وسرعة، فالطفل أبٌ للرجل كما أشار «فرويد» ذات مرة، وقال «القديس أوغسطين» ذات مرة أيضًا: «وقفت على قمة العالَم، حينما أحسستُ في نفسي أني لا أشتهي شيئًا ولا أخاف شيئًا.» وفي «قصة البقرة والجمل» نقدٌ لفكرة المِلْكية والتكالب على الامتلاك، واعتبار ذلك سبب المِحْنة، المِلْكية في رأي «فنج زو فنج» — مؤلف القصة — قيد، والإنسان حرٌّ بمقدار ما لا يملك وليس بمقدار ما يملك، ولكن كم من البشر عَبْر تاريخهم اقتنع بهذا؟!

حيوانات كأنها فِرَقٌ عسكرية تشارك في حربٍ طاحنة، وضفدع ينقُّ بصوتٍ مرتفع، وثعبان يتقدَّم منتفخًا بالزهو والغضب نحو عربة بضائع تمرُّ على الطريق، والعربة تدهس الثعبان الذي كان يريد أن يقلبها ويستولي عليها في ظل نقيق الضفدع، الضفدع يظل على نقيقه، وينزل سِرب الطيور ويواصل الْتِهام جثة الثعبان ويُنظِّف منها ساحة القتال، ثم يتجه نحو الضفدع كي يأكله، في القصة (الضفدع الطبَّال) (٤) نقدٌ للتبعية، للقعقعة بلا طحنٍ، وللادِّعاء، وللأصوات الشِّعرية والموسيقية الرديئة التي تُزيِّن للطغاة أعمالهم الشريرة.

لا وجود للجزء بدون الكل ولا للكل بدون الجزء، لا وجود للفرد بدون الجماعة ولا للجماعة بدون الفرد، ولكلٍّ حضوره. الأشجار تعمل معًا على تكوين الغابة، ولكن هل هناك غابة دون أشجار؟ العمومية لا تستبعد الخصوصية والتفرُّد، كما لا تستبعد الغابةُ الأشجارَ (قصة النجار والغابة والشجرة) (٢).

ما يَكمُن في داخلنا قد يكون أجمل مما يقع خارجنا، وعلينا نحن في حالاتٍ كثيرة أن نتقبَّل أنفسنا على ما فيها من نقائض، وأن نحاول أن نكتشف الأعماق الأعمق والأكثر توهُّجًا وأصالة وإنسانية فينا، في قصة «بحثًا عن الزهور» يتحدث العجوز عن الزهور الجميلة النادرة البعيدة عن منزله بينما تمتلئ حديقة منزله بزهور المشمش الأكثر جمالًا والتي يتزاحم الناس حولها كل يوم. وفي قصة «الجرادة الرمادية والجرادة الخضراء» غيَّرَت الجرادة الرمادية مِن جلدها كي تصبح خضراء، لكنها سرعان ما تُكتَشف وتتعرَّض للافتراس، لقد أضعفَها هذا التبدُّل، أو بالأحرى هذا التلوُّن أمام أعدائها، فهل هي دعوةٌ لتقبُّل الذات وللتمسُّك بالجذور؟!

لغة «طلعت الشايب» في هذه الترجمة — وكما هو شأن ترجماته دائمًا — لغةٌ مُشرِقة جميلة، سهلة وعميقة، بسيطة ومُوحِية، ورصينة ومُنتقاة، وهي قبل كل ذلك وبعده، لغةٌ حيَّة مُرهَفة، شديدة الإحاطة، شديدة الإمتاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤