الفصل السادس عشر

انطلق جوليان في مهمته رسميًّا، وانتظر مدةً قصيرة إلى حدٍّ لم يكن يتوقَّعُه في الجناح الكبير القاتم الذي كان كبيرُ خدم السيد ستينسون قد أرشده إليه في شيءٍ من الارتياب. دلف رئيس الوزراء في شيء من العجلة. كان هو أيضًا متفاجئًا بعض الشيء.

صاح قائلًا وهو يمدُّ يده إليه: «عزيزي أوردين، ماذا يمكنني أن أفعل لك؟»

أجابه جوليان بنبرة جادة: «الكثير. لكن أولًا وقبل كل شيء، ثمة تفسير يجب أن أُقدِّمه لك.»

قال السيد ستينسون في أسفٍ: «أخشى أنني مشغول كثيرًا هذا المساء ولن يمكنني التطرقُ إلى المسائل الشخصية. فأنا في انتظار رسولٍ هنا في أمر رسمي غايةٍ في الأهمية.»

صرَّح جوليان قائلًا: «أنا ذلك الرسول.»

ذُهِل السيد ستينسون. كانت نبرة زائره جادةً ومقنعة.

«أخشى أن ثمة سوءَ فَهم. إنما أنا في انتظار مبعوثٍ عن الحزب العمالي.»

«أنا ذلك المبعوث.»

صاح السيد ستينسون في ذهول تام: «أنت؟»

«ربما ينبغي لي أن أفسِّر الأمر أكثر. لقد كنتُ أكتب عن القضايا العمالية لبعض الوقت تحت اسم «بول فيسك»، وهو اسمٌ مستعار.»

شهقَ السيد ستينسون في دهشة قائلًا: «بول فيسك؟» وأضافَ: «أنت … بول فيسك؟»

أومأ جوليان بالإيجاب.

ثم تابع قائلًا: «أنت مندهش بالطبع، لكنها الحقيقة. لقد ظهرَت هذه الحقيقة لتوها إلى النور، ودُعيتُ للانضمام إلى هذا المجلس الطارئ الجديد، الذي يتألف من رجل أو اثنين من الاشتراكيِّين والكتَّاب، ومن بينهما أسقفٌّ بارز للغاية؛ وهناك أيضًا أعضاء في البرلمان عن حزب العمال، وممثِّلون عن مختلِف النقابات المهنية؛ مجموعة من الرجال لا شك أنك تعرف عنهم كلَّ شيء. وقد حضرتُ اجتماعًا معهم في ويستمنستر قبل ساعةٍ مضت، وعُهد إليَّ بمهمة التحدث إليك.»

جلس السيد ستينسون فجأة.

وصاح قائلًا: «ليرحم الرب روحي!» وأردف: «أنت … جوليان أوردين!»

عمَّ صمتٌ للحظة. غير أن السيد ستينسون كان رجلًا يتمتع بقدرات هائلة على التعافي من الصدمات واستيعابها. فاستوعب الموقفَ الجديد وامتثل له دون مزيدٍ من الاعتراض.

وقال معترفًا: «لقد أتيتَني بمفاجأة العمر يا أوردين. لكن ذلك أمرٌ شخصي. إن هاناواي ويلز في غرفة المكتب. أعتقد أنك لا تعترض على وجوده؟»

«ليس لديَّ أدنى اعتراض.»

دقَّ السيدُ ستينسون الجرسَ، وفي غضون دقائقَ قليلة انضم زميله إليهما. ولم يُضيِّع الأول أي وقت لكي يشرح الأمر.

إذ قال: «لا شك أنك ستندهش مثلي يا ويلز، حين تعلم أن صديقنا جوليان أوردين هنا بصفته ممثلًا عن المجلس العمالي الجديد. ومؤهلاته لذلك — من بين مؤهلات أخرى — أنه كاتِب تلك المقالات الرائعة التي كانت بمثابة المنارة ومصدر الإلهام للحزب العمالي على مدى العام الماضي، والتي كتبها تحت اسم «بول فيسك».»

كان السيد هاناواي ويلز يتفاخر بأنه لا يندهش من أي شيء أبدًا. وكانت الطريقة الوحيدة ليحفظَ سُمعته هذه المرةَ هي أن يمسك عليه لسانه.

واصل السيد ستينسون ملتفتًا إلى زائره: «نحن مستعدان الآن لسماع رسالتك.»

بدأ جوليان حديثه قائلًا: «أظن أنك تعرف شيئًا عن ذلك المجلس العمالي الجديد؟»

أجاب السيد ستينسون: «القليل الذي نعرفه وصلَنا بصعوبة بالغةٍ من خلال قسم الخدمة السرية. أظنُّ أن تحالفًا صغيرًا من الرجال تشكَّل في نطاق ميلٍ واحد من مجلسَي البرلمان، وهم متهَمون بالخيانة والتواصل مع الأعداء، بغضِّ النظر عن دوافعهم.»

أقرَّ جوليان قائلًا: «بالضبط، أنت محقٌّ تمامًا بلا شك.»

أضاءَ السيد ستينسون مصباحًا كهربائيًّا.

ثم قال موجهًا دعوة إلى جوليان: «اجلس يا أوردين. لسنا بحاجة إلى أن نقف ونُحدِّق بعضنا في بعض. فلقاؤنا هذا له أهمية حقيقية بما يكفي ولا يحتاج إلى مزيد من الميلودراما.»

ألقى رئيس الوزراء بنفسه في كرسيٍّ وثير. واختار جوليان كرسيًّا من خشب البلوط ذا ظهر مرتفع وهو يتنهَّد تنهيدةَ ارتياحٍ بسيطة، وأسند قدميه على مسند قدم. وظلَّ هاناواي ويلز واقفًا على البساط المفروش أمام الموقد.

قال السيد ستينسون في رجاء: «ادخل في صُلب الموضوع من فضلك يا أوردين. لنرَ إلى أي حدٍّ وصلَت تلك المؤامرة اللعينة.»

قال جوليان: «لقد قطعتُ أشواطًا كبيرة للغاية. يوجد أعضاء في هذا المجلس العُمالي المؤلَّف حديثًا كانوا على اتصال لبضعة أشهر مع الحزب الاشتراكي في ألمانيا. وقد تسلَّموا من ذلك الأخير مقترحَ سلام محدَّدًا وموثوقًا فيه، وممهورًا بتوقيعات أهم ثلاثة رجال في ألمانيا. وأنا هنا لأعرضَ أمامك مقترح السلام ذاك، وأطلبُ منك أن تتخذ بشأنه إجراءً دون تأخير.»

ثم أخرجَ جوليان لفافة الأوراق. بينما ظلَّ الرجلان بلا حَراك. فقد وصلوا إلى الذروة بسرعةٍ تشل الأوصال.

قال السيد هاناواي ويلز بنبرة صريحة: «نصيحتي لك يا سيدي …» والتفت إلى رئيسه: «هي أن ترفض مناقشة هذه المقترحات أو النظر فيها، أو حتى النظر في تلك الوثيقة. أؤكِّد على أنك رئيس حكومة جلالة الملك، وأن أيَّ تواصل مصدره دولة أجنبية ينبغي أن يكون موجَّهًا إليك. وإن درست هذه المسألة وناقشتها مع السيد أوردين هنا، فأنت بذلك تربط اسمك بخرق للقانون ينطوي على خيانة.»

لم يُبدِ السيد ستينسون ردًّا مباشرًا. إنما نظر تجاه جوليان، وكأنه يريد سماع ما لديه.

أقرَّ جوليان قائلًا: «إن نصيحة السيد هاناواي ويلز، بلا شك، صحيحة من الناحية العمَلية، لكن الأمر جلَل والقضايا المتعلِّقة به أفظعُ من أن نقيم فيها وزنًا للأصول أو حتى اللياقة. الأمر راجعٌ إليك يا سيدي في أن تُقرر الأفضل للبلاد. ولن تكون ملزَمًا بشيء بقراءتك لهذه المقترحات، وأقترح عليك أن تقرأها.»

فقرر السيد ستينسون قائلًا: «سنقرؤها.»

مرَّر جوليان الأوراق. واتجه الرجلان إلى الجانب الآخر من الغرفة ومالا على طاولة الكتابة الخاصة برئيس الوزراء. وسحبَ السيد ستينسون المصباح الكهربائي إلى أسفل، وظلا هناك في مباحثات مغلقة نحو ربع الساعة. وجلس جوليان موليًا ظهره لهما وأغلق أذنَيه تمامًا دون أي محاولة لاستراق السمع. بدا لجوليان، في ذلك الجو السياسي، أن موقفه غريب وأحمق. فقد راوده إحساسٌ بالوهم ألقى بثقله على أفكاره. وحتى تلك البرهة من الصمت التي تخللت المفاوضات الفعلية ملأته بالشكوك. وبالكاد استطاع أن يُصدِّق أنه هو من يُملي الشروط على الرجل المسئول عن حكم البلاد؛ أنه من يفرض قرارًا يحمل في طياتِه تبعاتٍ بعيدةَ المدى على العالم بأسره. لاحت هيئتا فين وبرايت أمامه على نحوٍ يُنذر بالسوء، على الرغم من أنه قد حاول جاهدًا أن يُبعدهما عن ذهنه. هل كان هو مَن يحمل تعليمات لمثل هذين الرجلين؟

بعد قليلٍ عاد الوزيران إلى مكانهما. كان جوليان قد سمع صوتهما يتحدَّثان خلال الدقائق القليلة الماضية دون أن يتمكن من تمييز كلمةٍ واحدة من حديثهما الفعلي.

قال رئيس الوزراء: «لقد نظرنا في الوثيقة التي أحضرتَها يا أوردين، ونُقرُّ صراحةً أننا نجد محتوياتها مذهلة. إن شروط السلام المقترَحة تُشكِّل أساسًا ممكنًا تمامًا للمفاوضات. وفي الوقت نفسه، أنت تُدرك على الأرجح أن وزراء جَلالته لم يضَعوا في حُسبانهم مناقشة أي شروط سلام مع القيادة الألمانية الحاليَّة تمامًا.»

قال جوليان على سبيل التذكير: «مَن أملى هذه الشروط ليس القيصر ولا مستشاريه، بل الحزب الاشتراكي والعمالي.»

أوضحَ السيد ستينسون قائلًا: «من الغريب أننا لم نسمع سوى القليلِ عن ذلك الحزب. بل من المذهل أن نجدهم في موقعٍ يُمكِّنهم من إملاء شروط سلامٍ على أسرة هوهينتزولرن.»

فسأله جوليان: «ألا تشكُّ في موثوقية الوثيقة؟»

أجاب السيد ستينسون في حذر: «لن أذهب إلى ذلك الحد. فقد أبلغتنا الخدمة السرية لدينا منذ مدة أن فرايشتنر، زعيم الاشتراكيِّين الألمان، كان على اتصالٍ بأشخاص بأعيُنِهم هنا في هذا البلد. ولا يُراودني أدنى شكٍّ في أن هذه المقترحات التي بين يدَيَّ هي مقترحات الحزب الاشتراكي المفوَّض في ألمانيا. لكن ما لا أفهمه هو كيف اكتسَبوا فجأةً القدرة على الدفع نحو وضع مقترحاتٍ للسلام كهذه.»

قال جوليان: «لقد تمت الإشارة إلى أنه حتى أسرة هوهينتزولرن، بل الزمرة العسكرية الألمانية، يرَون أمامهم الآن استحالة جني ثمار حملاتهم الناجحة. لقد صار السلام ضرورةً حتمية لهم. ولذا سيُفضِّلون أن يُبدوا أنهم مستسلمون لمطالب الاشتراكيِّين لديهم، بدلًا من الاستسلام لضغط أجنبي.»

أقرَّ السيد ستينسون: «قد يكون الأمر كذلك. لِنَمضِ قدُمًا. لقد انتهى الجزء الأول من مهمتك يا أوردين. ماذا في جعبتك أيضًا؟»

قال جوليان: «لديَّ تعليمات بأن أناشدك بأن تدعوَ إلى إقامة هدنة، من خلال السفير الإسباني، أثناء النظر في هذه الشروط وعقد الترتيبات الخاصة بمناقشتها.»

«وإذا رفضت؟»

«لن أتهرَّبَ حتى من هذا السؤال. من بين الأعضاء الثلاثة والعشرين في المجلس العمالي الجديد، هناك عشرون عضوًا يُمثِّلون النقابات العمالية للصناعات الكبرى في المملكة. وهؤلاء الأعضاء العشرون سيُعلنون بالإجماع إضرابًا عامًّا، إذا ما رفضتَ الهدنة المقترحة.»

قال السيد ستينسون بنبرةٍ جافة: «بعبارة أخرى، سيُغرقون السفينة بأنفسهم. هل توافق على هذه الخطط؟»

قال جوليان: «أرفض الإجابة عن هذا السؤال، لكنني سأوضح لك أنك مهَّدت الطريق لمثلِ هذه الأزمة حين اعترفتَ بهزيمتك من عمال المناجم في ساوث ويلز.»

أقرَّ السيد ستينسون قائلًا: «قد يكون ذلك صحيحًا. لكنني في هذه اللحظة ليس عليَّ سوى أن أتعامل مع الوضع الحاليِّ للأمور. فهل تعتقد جديًّا أن المجلس العمالي، كما يُطلقون على أنفسهم، سيتخذ التدابير التي يُهدد بها إن أجبتُ بالرد الوحيد الذي يبدو متاحًا أمامي الآن؟»

قال جوليان بنبرة جادة: «أعتقد أنهم سيفعلون. أعتقد أن البلاد تنظر إلى أي استمرارٍ لهذه الحرب على أنه استمرار لمذبحة مروِّعة لا مبرر لها. وتغيير الموقف العسكري على نحوٍ ملحوظ يعني التضحية بملايين الأرواح، ويعني استمرار الحرب عامَين آخرَين. وأعتقد أن الأشخاص المؤثِّرين ذَوي الحيثية في ألمانيا لهم الرأي نفسُه. في رأيي أن التغيير الحتمي للحكومة في ألمانيا سيُبرز أمامنا أمةً متحررة من شهوة الغزو البشعة تلك، أمَّةً حين تتطهر من سموم السنوات المنصرمة يمكننا أن نعيش معها بشكل أخويٍّ ومنفعة متبادَلة.»

قال هاناواي ويلز: «أنت رجل متفائل جدًّا يا سيد أوردين.»

أجاب جوليان: «لم أجد المتشائم قطُّ يمشي ورأسه موجَّه نحو الحقيقة.»

سأله رئيس الوزراء بعد برهة من الصمت: «كم لديَّ من وقتٍ قبل أن أرسل ردِّي؟»

ردَّ جوليان: «أربعٌ وعشرون ساعة، وفي أثناء تلك المُهلة نأمُل أن تتواصل مع حُلفائنا وتمهِّد الطريق نحوَ مزيدٍ من التفاهم. إنَّ المجلس العُمالي لا يطلب منك وعدًا أو التزامًا فيما يتعلَّق بسلامتهم. نحن نعرف جيدًا أننا جميعًا متهَمون بالخيانة من الناحية القانونية. لكن على الجانب الآخر، فإن اتخاذ خطوةٍ واحدة من شأنها تقييد حرياتنا سوف يعني شللًا كاملًا في كلِّ صناعة من صناعات المملكة المتحدة.»

قال السيد ستينسون بجفاء: «أُدرك الموقف تمامًا الآن.» وأضاف: «لا أعرف بالضبط ماذا يمكن أن أقول لك على الصعيد الشخصيِّ يا أوردين، لكن ربما من الأفضل لنا لو أن المجلس اختار سفيرًا يمكن التناقش معه على أي حال. ومع ذلك، أشعر بأن عليَّ أن أذكِّرَك أنك قد أخذتَ على عاتقك واحدًا من أكثر الأعباء المحفوفة بالمخاطر يمكن لرجلٍ أن يحمله، بالنظر إلى أصلك وتعليمك.»

أجاب جوليان بنبرة حزنٍ مفاجئة في صوته: «لقد فكَّرتُ مليًّا في العواقب. أنا أعرف كم السخط الذي تحمله صفة «داعٍ للسلام». وأعرف كم نحن ملتزمون كأمَّةٍ بسلام نظفر به بقوة السلاح. وأعرف كيف يغلي دمُنا الإنجليزي من فكرة ترك دولةٍ أخرى أجنبية تتمتع بالكثير من المميزات العسكرية كالتي تتمتَّع بها ألمانيا. لكنني أشعر أيضًا أن ثمة جانبًا آخرَ للأمر. لقد أحضرتُ لك دليلًا على أننا لا نُقاتل الأمة الألمانية، رجلًا في وجه رجل، إنسانًا في وجه إنسان. في اعتقادي أن الاستبداد وأسرة هوهينتزولرن سيتَداعيان نتيجةً لمفاوضات اليوم، تمامًا كما أنا متأكد من أننا ضحَّينا بالكثير من الأرواح التي لا يعلم عددها إلا الربُّ من أجل تحقيق قدرٍ أكبرَ من الانتصار العسكري.»

هنا دقَّ رئيس الوزراء الجرس.

ثم قال: «أنت رجل مخلص يا جوليان أوردين، ومبعوث محترم. أجِبْهم بأننا سنأخذ مهلتنا في التفكير. هذا يعني أننا سنلتقي في التاسعة من مساء الغد.»

ومدَّ يده مودِّعًا إياه، في فعلٍ جعل جوليان يرحل في حالةٍ أكثرَ سعادة بطريقة ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤