الفصل السادس

بعد بضع لحظاتٍ دلفَ جوليان إلى حجرة الاستقبال على عجل. رمَقَ المكان حوله بسرعة يُراوده شعورٌ واضح بخيبة الأمَل. ودَعته أمُّه إلى جوارها حيث كانت تُرتِّب طاولة البريدج.

وقالت مبتسمة: «يبدو أنك تفتقد أحدًا، يا بُني العزيز.»

فأفضى إليها قائلًا: «أريدُ أن أتحدثَ إلى الآنسة آبواي على وجه التحديد.»

فابتسمت الليدي مالتينبي ابتسامةً سمحة.

«بعد قرابة ساعتَين من الحديث على العشاء! حسنٌ، لن أُبقيك متشوقًا أكثرَ من ذلك. كانت تريد مكانًا هادئًا لتكتب بعض الخطابات؛ ولذا أرسلتها إلى المخدع.»

غادر جوليان على عجَل بعد أن شكرها. كان المخدع عبارةً عن غرفة صغيرة مفتوحة على الجناح الذي خُصِّص للأميرة وابنة أخيها، وكان الجناح يتخذ شكلًا شبهَ دائريٍّ مزيَّنًا بستائر من الحرير الصيني ذي اللون الأزرق الباهت، ومفروشًا بقطع متفرقةٍ تعود إلى حقبة لويس السادس عشر، تحديدًا خِزانة من خشب الورد جاءت من فرساي، طالما ارتبطَت في ذهن جوليان بالرائحة الخافتة لجَرَّتين خزفيَّتَين قادمتَين من سيفر من أوراق الأزهار الجافة. فُتِحَ بابُ المخدع بلا أي ضوضاء تقريبًا.

التفتَت إليه كاثرين لدى دخوله، وكانت تجلس إلى طاولة كتابة صغيرة من خشب الأبنوس.

صاحت قائلةً: «أنت؟»

أرهف جوليان السمعَ لحظةً ثم أغلق الباب. وأخذت تُراقبه وكان القلم لا يزال بين أصابعها.

قال جوليان: «آنسة آبواي، هل سمعتِ أيَّ أخبار هذا المساء؟»

فجأةً توقف القلم الذي كانت تطرق به على الطاولة. ثم استدارت أكثر قليلًا.

وكرَّرَت قائلةً: «أخبار؟» واستطردَت: «لا! هل هناك أي أخبار؟»

«اعتُقِلَ رجلٌ عند الأهوار هذا الصباح وأُطلِقَت النارُ عليه قبل ساعة. يقولون إنه كان جاسوسًا.»

كانت كاثرين جالسةً بلا حَراك وكأنها قد تحوَّلت إلى قطعة من الحجر.

«وبعد؟»

«والشرطة العسكرية لا تزال تبحث عن رفيقه. إنهم يُفتشون المرأب الآن لِيرَوا إن كان يمكنهم أن يجدوا سيارة كوبيه صغيرة رمادية اللون.»

لم تنبس ببنتِ شَفة هذه المرة، لكنَّ كل تلك المخاوفِ غيرِ المحددة التي تزاحمت في نفسها بدَت فجأةً وقد وصلت إلى ذروتها. كان مظهرها قد تغيَّر على نحوٍ غريب خلال الساعة المنصرمة. فلاح في عينَيها وميضُ رعب يرقى إلى اليأس، وعلى فمِها ارتسمت ملامحُ القلق بينما كانت جالسةً تنظر إليه.

سألته قائلة: «كيف عرَفت ذلك؟»

«الكولونيل قائد الكتيبة العسكرية المتمركزة هنا وصلَ لتوِّه. إنه في المرأب الآن مع أبي.»

فغمغمَت قائلة: «قُتِل!» وأضافت: «يا إلهي!»

أردفَ قائلًا: «أريدُ أن أساعدكِ.»

تفرَّسَت ملامحه بنظرة عنيفة من عينَيها.

«أنت واثقٌ من ذلك؟»

«واثق.»

«أتعرف معنى هذا؟»

«أعرف.»

«كيف عرَفتَ الحقيقة؟»

أخبرها قائلًا: «تذكَّرتُ فمكِ. رأيتُ سيارتكِ ليلة أمس، ورُحتُ أتتبع آثارها هذا الصباح عبر الطريق.»

فعلَّقَت بابتسامة باهتة للغاية: «الفمُ ليس دليلًا قويًّا للاستناد إليه.»

فأجابها: «لكنه فمُكِ.»

هبَّت واقفةً على قدميها ووقفت لحظة وكأنها تسترقُ السمع. ثم دسَّت يدها في صدر فستانها، وأخرجت لُفافةً ورقية صغيرة مغلَّفة بقطعة من المشمَّع. أخذها منها على الفور ودسَّها في جيب صدر معطفه.

قالت في إصرارٍ: «أتفهم معنى ما تفعل؟»

أجابها: «تمامًا.»

سارت عبر الغرفة نحو البساط المفروش أمام الموقد ووقفَت هناك لحظة، وكانت تتَّكئ على رف الموقد.

سألها جوليان: «هل هناك شيءٌ آخر بإمكاني فعله؟»

فالتفتت إليه. كان قد طرَأ على وجهها تغييرٌ مذهل.

وقالت: «لم يرَني أحد. لا أعتقد أنه كان هناك أيُّ شخص آخر غيرك يمكن أن يتعرَّف على السيارة على نحوٍ قاطع. وعمتي والخادمة التي معنا ليس لديهما أدنى فكرةٍ أنني غادرت حجرتي ليلة أمس.»

«وملابسك؟»

طمأنته بابتسامةٍ وقالت: «تخلَّصتُ منها تمامًا. أتمنى أن أجدَ الشجاعة يومًا ما لأسألك إن كنت تجد ثيابي أنيقة.»

ردَّ بنبرة جادة بعضَ الشيء قائلًا: «يومًا ما سأتحدث معكِ حديثًا جادًّا للغاية يا آنسة آبواي.»

«هل ستكون عابسًا حينها؟»

لم يستجب لحالتها المِزاجية التي صارت أكثرَ مرحًا وابتهاجًا. فقد تركَته جاذبيةُ عينيها أكثرَ برودًا من أي وقت مضى.

ثم قال: «أرغبُ في إنقاذ حياتكِ، وأنوي فعلَ ذلك. ولكن، في الوقت نفسِه، لا يُمكنني أن أنسى جريمتكِ ولا تُواطئي فيها.»

فقالت في شيء من التحدِّي: «إن كنت تشعر بهذا، فقل الحقيقة. كنتُ أعرف المخاطرةَ التي أخوضها. ولست أخشى شيئًا، حتى في هذه اللحظة. يمكنك أن تُعيد لي تلك الأوراقَ إن شئت. أؤكِّد لك أن الشخصَ الذي سيجدون هذه الأوراق معه سيُقتَل رميًا بالرصاص بلا أدنى شك.»

فقال بنبرةٍ حاسمة: «إذن سأحتفظ بها بكل تأكيد.»

قالت وهي تبتسمُ في جُرأة: «أنت شهم للغاية يا سيدي.»

أجابها جوليان: «أنا فقط أناني لا أكثر. إنني حتى أحتقر نفسي لما أقوم به الآن. إنني أجعلُ من نفسي خائنًا؛ فقط لأنني لا أستطيع أن أتحمَّل فكرةَ ما يمكن أن يحدُث لكِ إن اكتُشِف أمركِ.»

سألته: «إذن أنت تُكنُّ لي شيئًا من الإعجاب يا سيد أوردين؟»

تنهَّد قائلًا: «قبل أربعٍ وعشرين ساعة، تمنيتُ لو أجبتُ عن هذا السؤال قبل أن يُطرح.»

غمغمَت قائلة: «هذا أمرٌ مثير كثيرًا. إذن ستنقذ حياتي وبعدها ستُعاملني وكأني منبوذة؟»

قال جوليان: «آمُل أن يكون لديكِ تفسيرات … أن أجد …»

رفعَت يدَها وأسكتَته. مرةً أخرى اتسعت عيناها وتصلَّب جسدُها. كانت تسترقُ السمع باهتمامٍ بالغ.

همسَت قائلة: «ثَمة شخصٌ آتٍ، أعتقدُ أنهم رجلان أو ثلاثة رجال. يا لنا من حمقى! كان ينبغي لنا أن نحسم أمرنا … بشأن السيارة.»

أطبقَت أسنانها معًا للحظة. كان ذلك هو أقصى جهدٍ يمكن أن تبذله للسيطرة على نفسها. ثم ضحكت بطريقةٍ شبهِ طبيعية، وأشعلت سيجارة، وجلست على ذراع كرسي وثير.

وقالت بصوت عالٍ: «أنت تتدخَّل في مراسلاتي بصورةٍ صارمة، وأنا واثقةٌ أنهم يُريدونك من أجل لعب البريدج.» ثم أضافت وهي تنظر نحو الباب: «ها قد أتى اللورد مالتينبي ليُخبرك بذلك.»

كان اللورد مالتينبي مختالًا وفي غاية الجمود، لكنه بدا آسفًا. كان يعتبر أن المسألة التي أصبح ضالعًا فيها سخيفةً برُمتها.

فقال: «آنسة آبواي، اسمحي لي أن أُقدم لكِ الكولونيل هيندرسون. لقد وقع حادثٌ مؤسف هنا ليلةَ أمس، وأصبح من واجب … آه … الكولونيل هيندرسون أن يتحرى عنه لاستجلائه. إنه يرغب في أن يسألكِ سؤالًا بخصوص … آه … سيارتك.»

قطَّبَ الكولونيل هيندرسون جبينه. وتقدَّم للأمام قليلًا وكأنه يرغب في أن يُعفي الإيرل من المزيد من الحديث.

وبدأ حديثه قائلًا: «هل لي أن أسألكِ، يا آنسة آبواي، إن كانت السيارة الكوبيه الصغيرة التي تقف على مسافة مائة ياردة في الشارع الخلفي مِلكًا لكِ؟»

قالت مؤكدةً بتنهيدة خفيفة: «إنها سيارتي. وهي لا تعمل.»

كرَّر الكولونيل: «لا تعمل؟»

فأوضحت قائلةً: «أظن أنَّ لديك بعضَ المعرفة بالسيارات. لقد أخبروني أن اثنتَين من شمعات الاحتراق معطوبتان. وأُفكر في تغييرهما صباح الغد، إن تمكَّنت من الحصول على مساعدة السيد أوردين.»

سألها الكولونيل: «كم مضى على وجود السيارة هناك في حالتها تلك إذن؟»

أجابت: «منذ نحو الخامسة من بعد ظهر أمس.»

«ألا تظنين إذن أنَّ من المحتمل أن السيارة كانت موجودةً على الطريق في مكانٍ آخر ليلةَ أمس؟»

ضحكت قائلة: «على الطريق!» واستطردَت: «لم أستطع أن أستقلَّها إلى المرأب! اذهب وألقِ نظرةً عليها بنفسك أيها الكولونيل، إن كنت تفهم في أمور السيارات. لقد ألقى السائقون هنا نظرةً على شمعات الاحتراق حين أحضرتها إلى هنا وستجدون أن أحدًا منهم لم يمسَسْها.»

فتدخل الإيرل قائلًا: «أثقُ أن سائقي عرَض القيام باللازم، أليس كذلك؟»

طمأنَته قائلة: «لقد فعلَ بكلِّ تأكيد يا لورد مالتينبي. ولكني أحاول جاهدةً أن أُصلح سيارتي بنفسي، وقد قررت تغيير هاتين الشمعتَين بنفسي صباح الغد.»

سألها مستجوبُها: «إذن أنتِ تقودين سيارتكِ بنفسكِ يا آنسة آبواي؟»

«بكل تأكيد.»

«ربما يمكنكِ تغييرُ الإطارات إذن؟»

«يمكنني ذلك نظريًّا، لكنني في الواقع لم أُضطرَّ إلى فعل ذلك من قبل قط.»

تابعَ الكولونيل هيندرسون: «إنَّ إطاراتكِ تحمل نقوشًا غير مألوفة إلى حدٍّ ما.»

أخبرته قائلة: «إنها روسيةُ الصنع. وقد اشتريتُها لأجل ذلك السبب. في الواقع، إنها إطارات جيدة للغاية.»

قال الكولونيل: «آنسة آبواي، لا أعرفُ إن كنت تعلمين أن قواتي في الشرطة العسكرية يبحثون عن جاسوس أُبلِغ عن هروبه من الأهوار ليلة أمسِ في سيارة صغيرة تُرِكَت في بقعة معيَّنة على طريق سولتهاوس. وفي اعتقادي أن نورفولك لا يوجد بها إطاران شبيهان بإطارات سيارتكِ. فكيف تُفسرين وجود آثار إطاراتكِ ظاهرةً بوضوح على الطريق حتى بقعة معينة بالقرب من سولتهاوس؟ لقد تتبَّعت الشرطة آثارها هذا الصباح.»

التزمَت كاثرين الصمتَ التام. وبدأت ابتسامةُ انتصار ترتسم ببطءٍ على شفتَي مُتَّهِمها. وارتفع حاجبا اللورد مالتينبي وكأنه يشعر بالذعر.

تدخَّل جوليان قائلًا: «ربما يمكنني تفسيرُ سبب وجود آثار الإطارات على الطريق. لقد أوصلَتني الآنسة آبواي إلى كوخ فورلي، حيث أمضيتُ الليلة هناك، وكان ذلك في وقتٍ متأخر بعد الظهيرة. وكانت الآثار لا تزال موجودةً حين عُدَت هذا الصباح؛ لأنني لاحظتُ وجودها.»

سأله الكولونيل مقطبًا جبينه: «الآثار نفسها؟»

أجابَ جوليان: «هي نفسها من دون شك. لقد رأيتُها في مكانٍ ما حيث انزلقَت السيارة بعضَ الشيء.»

ابتسم الكولونيل هيندرسون ابتسامة أكثرَ طبيعية قليلًا.

واعترف صراحة: «أرى أنني انزلقتُ في موقفٍ آخر معقَّد. لكنني مضطرٌّ إلى أن أسألَكِ هذا السؤال يا آنسة آبواي. هل غادرتِ حجرتكِ بأي حال ليلة أمس؟»

فأجابته: «ليس إلا إن كنت أسير أثناء نومي. لكن من الأفضل أن تسأل عمتي والخادمة باركينز. فكل واحدة منهما تنام على جانب من جانبَي فراشي.»

تابعَ الكولونيل بنبرة أكثر مرحًا: «أظنكِ لن تُبدي اعتراضًا لو ارتأى رجالي أن يُفتشوا في أغراضكِ؟»

فأجابت كاثرين في هدوء: «إطلاقًا، فقط إن كنت ستفرغ حقائبي، فأرجو أن تسمح لخادمتي أن تتولى فَرْدَ ملابسي وطَيَّها.»

قال الكولونيل هيندرسون للورد مالتينبي: «لا أظن أن لديَّ أسئلةً أخرى لأطرحها على الآنسة آبواي في الوقت الراهن.»

قال الإيرل بنبرة رسمية جامدة بعضَ الشيء: «في هذه الحالة سنعود إلى حجرة الاستقبال. أثقُ يا آنسة آبواي أنكِ ستقبلين اعتذاري عن تطفلنا عليكِ. أشعرُ بالأسف لتعرُّض أحد ضيوفي لشكوك شنيعة كهذه.»

ضحكت كاثرين ضحكة رقيقة.

وقالت: «ليست شنيعة للدرجة يا عزيزي اللورد مالتينبي. فأنا لا أعرف تمامًا ما كان مشتبهًا بي في ارتكابه، لكنني واثقة من أن الكولونيل لم يكن ليطرحَ هذه الأسئلة لو لم يُملِ عليه واجبُه ذلك.»

فأكدَّ الكولونيل بشيء من الترفُّع والهيبة: «لو لم تكوني ضيفة في هذا المنزل يا آنسة آبواي، لأمرتُ باعتقالك أولًا ثم استجوبتكِ في وقتٍ لاحق.»

قالت في لباقة: «كولونيل هيندرسون، أنت منحدرٌ من سلالة من رجالٍ اعتادوا الانتصار في الحروب. وأنت أدرى بنفسك.»

سألها اللورد مالتينبي وهو واقفٌ عند الباب: «آمُل أن تنضمِّي إلينا سريعًا، ألن تفعَلي؟»

فوعدَته قائلة: «في غضون دقائق قليلة.»

أُغلِقَ الباب خلفهما، وانتظرت كاثرين لحظة، ثم غاصت في أحد الكراسي في شيء من الهستيريا.

وقالت معترفة: «لا يُمكنني أن أتجنَّب مسحةً من الإثارة في حياتي كما ترى، إنها مرافقة لشخصيتي وجنسيتي. لكن جديًّا، والآن وبعد أن انتهى ذلك، لا أظن أنني في خطرٍ من أي نوع. إن المسكين الذي قُتِلَ اليوم ينتمي لمجموعة مختلفة. كان جاسوسًا هنا منذ بداية الحرب.»

فسألها بصورة مباشرة: «وماذا تكونين أنتِ؟»

ضحكَت في وجهه.

وصرَّحَت قائلةً: «شابة جذابة للغاية، على الأقل أشعرُ بالثقة في أنك ستقتنع بذلك حين تعرفني على نحوٍ أفضل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤