النيابة

قال عيسى بن هشام: ولما تركت صاحبي في حبسه وذهبت إلى داري بتُّ طول ليلتي في هم وأرق، وقضيت رقادي في اضطراب وقلق، لمَا أصاب الرجل من ضربات الدهر المتتالية وهو غريق في دهشته وحيرته لا يدرك مُضيّ الزمن ولا يدري ما الحال، ولا يعلم بتغيير الأمور وما أحدثه الدهر بعد عهده وزوال دولته من تبدل الأحكام وانقلاب الدول، وكنت هممت أن أكاشفه بشرح الأحوال وتفصيل الأمور عند أول مصاحبتي لهُ لولا ما دَهمنَا به القضاء المحتوم فأوقعنا فيما ألمّ بنا، ثم فكرت بعد ذلك فكان من حسن التدبير وسداد الرأي عندي أن يبقى الرجل جاهلًا بالأمر حتى ينتهي من خطبه ويكون جهلهُ بتغيير الأحوال قائمًا بعذره في التخلص من محاكمته، ثم عقدت العزيمة على أني لا أفارق صُحبته بعد ذلك حتى أُريه ما لم يَرَ، وأسمعه ما لم يسمع، وأشرح له ما خفي عليه وغمض من تاريخ العصر الحاضر، لأطَّلع على ما يكون من رأيه فيه عند مقابلته بالعصر الماضي، ولأعلَمَ أيَّ العهدين أجلّ قدرًا وأعظم نفعًا وما الفضل الذي يكون لأحدهما على الآخر، فبكرت إلى القسم في اليوم الثاني وحملت معي ما يليق بصاحبي من الثياب ليرتديها عند خروجه من حبسه، فوجدت العسكري يستعد به للذهاب إلى قلم «السوابق» في دار المحافظة، فلما بَصُرَ بي ناداني بقوله:

الباشا : ما هذه الخطوب والملمات، قد كنت أظن أن ما وقع لي أمس كان لسخط وليّ نعمتنا الداوري الأعظم وغضبه على عبده بمكيدة كادها لي أعدائي أو فرية افتراها حسّادي؛ فلذلك صبرت لحكم الضرورة، وامتثلت على تلك الصورة، حتى أتمكن من التشرب بالأعتاب، والمثول بين يدي مالك الرقاب، فأزيل الشبهة وأنفي الريبة مما رماني به الساعي والواشي، وأُجلي له حقيقة عبودتي وإخلاصي، فيضاعف عليَّ رضاهُ لحسن ما قمت به من الطاعة في احتمال هذا الهوان.
طال مني تحملٌ خلتُ أني
قابضٌ من أذاته فوق جمر
ثم إني أعمد بعد ذلك إلى إفشاء العقاب، عقاب القتل والصَّلب في هؤلاء الأدنياء السفهاء والأشقياء الأغبياء جزاء ما اجترؤوا عليه في معاملتي واقترفوه من جهل منزلتي، ولكني سمعت في الحبس — ويا سوء ما سمعت — وعلمت — ويا شر ما علمت — أن الدول دالت والأحوال حالت، وأنكم أصبحتم في زمان غير ذلك الزمان، وفي حال من الفوضى يصح فيها قول ذلك المكاري: «إنه هو والباشا في المنزلة سواء» وتلك التي:
تصم السميع وتعمي البصير
ويُسْأَلُ من مثلها العافيهْ
فاللهمَّ عفوك وصفحك، هل قامت القيامة وحان الحشر فانطوت المراتب وانحلت الرياسات، وتَساوى العزيز بالذليل والكبير بالصغير والعظيم بالحقير والعبد بالمولى، ولم يبق لقرشيٍّ على حبشي فضل ولا لأمير مِنَّا على مصريّ أمر، ذلك ما لا يكون ولا تحتملهُ الظنون، ثم اعلم أيها الرجل أن ذنب أولئك السفهاء فيما جنوه عليَّ لا يُعد في جانب ذنبك عندي إلا كالخردلة من الصخر، والقطرة من البحر، لكتمانك عليَّ الأمر حتى دخلت بي بلدًا هذا حاله وذاك شأنه، وأعوذ بالله منك ومن شياطين الجن.
عيسى بن هشام : إنما أقول لك أيها الأمير أيضًا ما قاله موسى للخضر عليهما السلام: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ولقد نزل بي من الخوف والذهول عند انتشارك من القبر ما أورثني التبلد والتحير، ومنعني عن تبصرتك بالواقع وتنبيهك إلى ما تغيرت به الحال من بعد عهدك، وما كدت أنتبه إلى تعريفك بها حتى دُهِينَا بذلك المكاري ودُهِمْنَا بتلك الحادثة فلا ذنب لي فيما أتيتُ، والعذر مقبول لديك، فاصبر على ما تلاقيه، واحتمل ما أنت فيه، وتقبّل القضاء بوجه الرضاء، ولا تأسَ على ما فات، لتكفر عنك السيئات.
العسكري (للباشا) : هلم إلى «السوابق».
الباشا : سبحان العزيز القادر، أتُرى قد زال عني بؤسي وانقشع نحسي ورجع إليَّ عزي فجاءوني بموكبي وخيلي.
عيسى بن هشام : ليس المقصود «بالسوابق» تلك الجياد الصافنات، والعتاق الصاهلات، وإنما هو ديوان تُقَيَّد فيه سحنة المتهم وسيمَاه، ويكشف فيه عما جنته يداه.
العسكري (للباشا وهو يسحبه) : لا تُطل في الكلام وامش معي ساكتًا ساكنًا.
الباشا (وهو يمتنع) : ما الحيلة في القضاء، وما العمل في المقدور، وكيف الخلاص وأين النجاة، ومن لي بالموت ثانية ليردني إلى راحة القبر؟
عيسى بن هشام (وهو يتضرع) : أقسمت عليك بدفين القلعة، ووقع سيوفك في المعمعة، إلَّا ما قبلت نصيحتي وعملت بمشورتي؛ فلا تعارض ولا تعاند، فإن الامتناع لا يفيد ولا يزيدنا في ملتنا إلا شدة، والعقل يرشدنا أن نسلم للأقدار حيث لا عمل، وأن نلبس لكل حالة لبوسها. إما نعيمها وإما بوسها.
الباشا (ممتثلًا) : اللهمّ لا رأي مع القضاء.

قال عيسى بن هشام: وسرْنَا مع العسكري فوصلنا إلى «قلم السوابق وتحقيق الشخصية»، فرأى الباشا هناك من الشدة ما تنخلع لهُ القلوب وتشيب منه النواصي، فجردوه من ثيابه وفحصوا بدنه عضوًا عضوًا وقاسوا وجهه وجسدهُ، وحدقوا في عينيه، وصنعوا به ما صنعوا وهو يتنفس الصُّعَدَاء، حتى انتهوا من عملهم، ثم سألوا عن ضمانته فلم يجدوا لهُ ضمانة؛ لأن المعاون — قاتله الله — رد شيخ الحارة عن التصديق على ضمانتي ليجوز له الحبس، فأرسلونا مع العسكري إلى النيابة، ولما دخلنا على النائب وجدنا أمامه قضايا جمة وأصحابُها مزدحمون ينتظرون نوبتهم، فانفردنا ناحية ننتظر نوبتنا أيضًا، والتفت إليَّ صاحبي يسأل ويستفهم.

الباشا : أين نحن الآن ومن هذا الغلام وما هذا الزحام؟
عيسى بن هشام : نحن أمام النيابة، وهذا عضو النيابة، وهؤلاء أرباب الدعاوى.
الباشا : وما النيابة؟
عيسى بن هشام : النيابة في هذا النظام الجديد هي سلطة قضائية مكلَّفة بإقامة الدعاوى الجنائية على المجرمين بالنيابة عن الهيئة الاجتماعية، والغرض من إنشائها ألا تبقى جريمة بلا عقوبة، ووظيفتها أن تدافع عن الحق، فتظهر ذنب المذنب وتكشف عن براءة البريء.
الباشا : وما «الهيئة الاجتماعية» التي تنوب عنها؟
عيسى بن هشام : هي مجموع الأمة.
الباشا : ومَن هذا الأمير العظيم الذي اتفقت الأمة عليه لينوب عنها؟
عيسى بن هشام : ليس هذا الذي تراهُ بأمير ولا بعظيم من عظماء الأمة، وإنما هو أحد أبناء الفلاحين أرسلهُ أبوهُ إلى المدارس، فنال الشهادة فاستحق النيابة فتولى في الأمة ولاية الدماء والأعراض والأموال.
الباشا : نعمت المنزلة عند الله منزلة الشهادة، وللشهيد في الجنة أعلى الدرجات، ولكن كيف تتصور عقولكم — وأظنكم فقدتموها — أن تجتمع الشهادة في سبيل الله والحياةُ في الدنيا لأحد من الناس، والذي يفوق ذلك عجبًا ويزيد العقل خبالًا أن يحكم الناس فلَّاح وينوب عن الأمة حراث، ويشهد الله أنني خرجت من شدة إلى شدة، وانتهيت من خطب إلى خطب فسلمت وصبرت، ولكن لا صبر لي على هذه الخارقة، فما أعظم الفاجعة وأشقّ النازلة، لقد فَنِيَ مني الصبر، ومن لي بفناء القبر.
عيسى بن هشام : اعلم أن هذه الشهادة ليست بشهادة الجهاد، بل هي ورقة يأخذها التلميذ في نهاية دروسه ليثبت بها أنه تلقى العلوم وبرع فيها، وقيمتها لمن يريد الحصول عليها ألف وخمسمائة فرنك في بعض الأحيان.
الباشا : مه مه كأنك تريد الإجازة التي يجيزها علماء الأزهر لمن تلقَّى عليهم العلوم من الطلبة وفاق فيها، غير أننا ما سمعنا في دهرنا بهذه الأثمان، وما عهدنا أن الأزهر الشريف يعرف ما الفرنكات أو يفقه من العملة سوى الجرايات.
عيسى بن هشام : ما هذه العلوم بعلوم الأزهر، ولكنها علوم إفرنجية يتلقونها في بلاد الإفرنج، والفرنك عملة تلك البلاد، ويقال لتلك القيمة عندهم: رسم الشهادة، وهي قيمة لا تُذكر بالنسبة إلى كثرة فوائدها؛ لأن القاعدة في هذا النظام «أن الشهادة بلا علم خير من العلم بلا شهادة»، وصاحبُ الشهادة إذا قدمها للحكومة يكون لهُ الحق في الاستيلاء على مرتب وظيفة يزيد على الدوام ويَرقَى.
الباشا : الآن كدت أفهم، وأظن هذه الشهادة تعادل «أوراق الالتزام» و«سراكي الروزنامجه» في أيام حكومتنا.
قال عيسى بن هشام: وبينا نحن في هذا الحديث إذا بشابين رشيقين رقيقين قد أقبلا يخطران في مشيتهما والطِّيبُ ينتشر في الجو من أردانهما وهما يُصعِّران خديهما كبرًا واختيالًا،١ ولا يلتفتان إلى من حولهما تيهًا وإعجابًا، أحدهما يشق الهواء بعصاه، والثاني تلعب «بالنظارة» يداه، فشخصت فيهما الأنظار، وتحولت نحوهما الأبصار، والحاجبُ من أمامهما يدفع الناس من طريقهما حتى وصلا إلى باب النائب، فقام لهما عن مجلسه وأمر بأرباب القضايا أن ينصرفوا من حضرته، واشتغل الحاجب بسحبهم وجرِّهم وطردهم ونهرهم، واشتغل النائب بطيِّ المحاضر ورفع المحابر، حتى خلا لصاحبيه من كل شغل وعمل.
الباشا (لعيسى بن هشام) : يظهر لي أن هذين الشابين من أكبر أولاد الأمراء أو أنهما مفتشان للنيابة كما رأينا المفتش للقسم.
عيسى بن هشام : ما أظنهما إلا زائرين من قرناء النائب في المدرسة كما يظهر لي من شمائلهما.
الباشا : وهذا أعجب وأعجب.

قال عيسى بن هشام: وأردت أن أخبُر خبرهما وأكشف أمرهما، فانتهزت فرصة التزاحم بين الناس واشتغال الحاجب بهم فانزويت عقب الباب من وراء الستار بحيث أسمع وأرى، فسمعت هذه المحاورة بينهم:

الزائر الأول (بعد السلام والجلوس) : لماذا تركتنا أمس أيها الخبيث من قبل أن ينتهي اللعب؟
النائب : لأنهُ كان قد مضى من الليل أكثره، وعندي من القضايا ما يضطرني إلى التبكير.
الزائر الثاني : وهل سمع أحد أن القضايا تعوق الإنسان عن مجالسة الإخوان، ومثل هذا العذر يُعتذر به لغير الواقفين على أعمال النيابة وقضاياها، أوَلم تعلم أن فلانًا وفلانًا وسواهما من أقرانك لا تستغرق منه قضايا اليوم كله أكثر من ساعة واحدة، وأخص بالذكر منهم فلانًا فإنه يكتفي بأن يمر عليها بلحظة منهُ، ويستغني عن مطالعتها ويرتكن على توقد ذهنه ونباهة قريحته وكثرة تمرنه للإحاطة بفهمها، وما دام الشقاق والنزاع قد انتهى أمره بين النيابة والبوليس فالأولى الاكتفاء بمحاضر البوليس أو إعادتها إليهِ لاستيفائها، ولا محل لتجديد التحقيق بعدهُ وتضييع الوقت سُدًى فيما عساه أن يولد الشقاق أو يعيد النزاع مرة أخرى.
النائب : ذلك ما أفعله ولكن لا بد من التمسك «بالظواهر والأصول» على قدر الإمكان.
الزائر الأول : أفما عندك الكاتب يقوم في ذلك مقامك ويكفيكَهُ.
النائب : صدقت إن الكاتب ليكفي، والقول الصحيح أن السبب في مفارقتكم أمس وفي ترك اللعب هو أنني خسرت ما كان معي من مرتب الشهر، ونحن لا نزال في أوائله.
الزائر الأول : تلك هي عادتك في ادعاء الخسارة دائمًا مهما ربحت ومهما كسبت، وما سمعتُ منك في عمري إلا أنك خسران، أفلم تربح مني في «اليد الأخيرة» التي كانت بيننا خمسة جنيهات؟
النائب : وحقِّ شرفي وذمتي ومستقبلي أني قمت من عندكم أمس بالخسارة.
الزائر الثاني : ما علينا، ولكن قل لي هل أنت لا تزال على وعدك معنا في التوجه إلى صاحبنا لمشاهدة الرقص البلدي من فلانة المشهورة؟
النائب : أسألك المسامحة فإنه لا يمكنني ذلك، أولًا: لأن هذا الرقص الذي يعجب أولاد البلد والفلاحين لا يعجبني، وثانيًا: لأني دعوت «مادموازيل فلانة» المشخصة في «الأوبرا» مع فلان وفلان المشخصين لتناول الغداء في الأزبكية عند «سانتي»، وسنذهب بعد ذلك إلى «خان الخليلي» و«قصبة رضوان» و«مقابر الخلفاء» وبعض الأماكن القديمة من البلد للتفكه والتسلي.
الزائر الأول : دعواك الآن أنه لم يبق معك من مرتب الشهر شيء، فكيف لك بما يلزم لمثل هذا من النفقات.
النائب : فاتني أن أذكر لكما أن معنا فلانًا المحامي ومعه صاحبُه العمدة.
الزائر الثاني : وكيف يميل هذان الشخصان إلى مثل هذا المجلس الإفرنجي، أو يستريحان لهُ وهما لا يعرفان شيئًا من اللغات والاصطلاحات الأوروبية.
النائب : ألم تعلم يا أخي أن أمنية المحامي أن يكون مصاحبًا لأهل القضاء، وأمنية الفلاح أن يتحكك بنا، والرغبةُ عند أمثالهما عظيمة في حضور المجالس الإفرنجية وإن كلفهم ذلك ما كلفهم، وخرجوا منها على غير فائدة لهم؟
الزائر الأول (مقتضبًا) : من أين اشتريت هذا «الكرافات» «رباط الرقبة»؟
النائب : ما اشتريته يا «مونشير» «عزيزي» وإنما جاءني مع ملابسي من عند الخياط في باريس وهو من آخر طرز.
الزائر الثاني : هل بلغك زواج فلان بمعشوقته؟
الزائر الأول : هل ركبت مع فلان في «الأوتوموبيل»؟
النائب : قد وقفت لكما على سبب انتحار ابن فلان المتمول.
الزائر الأول : أنا أعرفه فهو الغرام.
النائب : لا.
الزائر : المال؟
النائب : لا.
الزائر : المرض؟
النائب : لا، وإنما هي سُنَّة جديدة في شبان باريس اقتدى المسكين بها.
الزائر الأول : وأنا وقفت لكما على سبب استعفاء فلان من وظيفته.
النائب : سيرته؟
الزائر : لا.
النائب : وطنيته؟
الزائر : لا.
النائب : فرنسويته؟
الزائر : لا، وإنما هي «إنكليزيته».
١  صعر خده: أماله تكبرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤