الفصل الأول

عقل يلتمس الطريق

١

العقل الذي نؤرِّخ له في هذه الصفحات، ونحاول الترجمةَ لمراحل تطوُّره منذ ظهوره وحتى أوشَكَ على نهاية رحلته، ليس هو «العقل» بمعناه العام الذي تندرج فيه الإدراكات بشتى صورها من مرئي ومسموع، ومن مشاعر الرضا والغضب والحب والكراهية، بل هو العقل بمعناه المنطقي المحدود فيما يُسمَّى ﺑ «الأفكار» — على صعوبةِ تحديد «الفكرة» ماذا تكون — ولكن الذي نريده هنا بهذه الكلمة ليس هو مجرد التصورات التي ترتسم في ذهن صاحبها عن الأشياء، بل هو ربط تلك التصوُّرات في أحكامٍ عن تلك الأشياء، فإذا ما نسجت تلك الأحكام المتفرِّقة بعضها مع بعض في منسوجة واحدة، كان لصاحبها موقفٌ معين من الكون، ومن الحياة، ومن الإنسان.

فمتى وكيف استقام لي موقف فكري؟ لقد دفعتُ بالذاكرة دفعًا إلى الماضي حتى أوصلتُها إلى أول ما تستطيع استعادتَه من ذلك الماضي؛ فقدَّمتْ لي، أولَ ما قدَّمتْ، طفولةً متردِّدة بين الفزع والطمأنينة، بين الخوف والجرأة، فترتاعُ من مواقف الحياة لحظةً، وتَتقحَّم تلك المواقف في شجاعةٍ لحظةً أخرى. فقلتُ للذاكرة: لا، ليس هذا هو ما أنشده؛ فالذي تقدِّمينه هو «حالات» وجدانية وسلوكية، وأما ما أنشده فهو «أفكار» أو هو ضرب من «الأحكام» على الكائنات والمواقف، سواء اتَّسقت تلك الأحكامُ بعضُها مع بعضٍ في رؤية واحدة وشاملة، أم كانت ما تزال فُرَادى لم تنخرط بعدُ في عَقدٍ واحد.

فقدَّمَتِ الذاكرةُ بعدئذٍ صورًا من مرحلة المُراهَقة، فرأيتُ غلامًا تَسرِي في أوصاله المشاعرُ الدينية إلى حدِّ الخشوع الذي يتصدَّع له الجبل، فماذا يكون شأنه مع غلامٍ لم يبلغ من عمره الخامسة عشرة؟ فقلتُ للذاكرة مرةً أخرى: لا، ولا هذا هو ما أنشده؛ لأنك ما تزالين تقدِّمين لي «حالاتٍ» وجدانيةً لا أفكارًا ذهنية تربط التصورات العقلية بعضها مع بعض في إحكامٍ، يمكن الاستدلال منها، أو يمكن قبولها ورفضها على ضوء الخبرة.

فراحَتِ الذاكرة بعد ذلك تبحث في طوايا الماضي حتى وقفَتْ بي عند سنة ١٩٢٥م، وكان لي من العمر عامئذٍ عشرون عامًا، وهناك أوقفَتْني عند «عقل» يأخذ ولا يعطي؛ فهو يأخذ أشتاتًا من الأفكار يعرضها كاتبوها في الكتب والصحف والمجلات، ولم يكن هؤلاء العارضون جميعًا من لون واحد؛ وعندئذٍ رأيتُ أمامي شابًّا نَهِمًا لا يريد لفكرةٍ واحدة ممَّا يكتبه الكاتبون تفلت منه، فأخذ يتعقَّب كلَّ ما تجري به الأقلام في ذلك المضمار على كثرته وغزارته وتنوُّعه.

لكن الذي يستوقف النظرَ في ذلك الشاب وهو يتصيَّد أفكارَ الكاتبين، أنه مع إفساح صدره لكلِّ ما يصادفه في الطريق — حتى ولو كانت أفكارًا ينقض بعضها بعضًا — إلا أنه كان أشدَّ اغتباطًا للفكرة التي تَنطوي على ثورةٍ تَهدم المألوف، فإذا صادَفَ — مثلًا — فكرتين عن شِعر أحمد شوقي، تقول إحداهما إنَّه شِعر يسلك صاحبه مع فحول الشعر، وتقول الأخرى إن شوقي لا هو شاعر ولا هو شبه شاعر (وهي عبارةٌ قِيلت بنَصِّها هذا)؛ أسرع صاحبنا الشاب إلى هذا الحكم الثاني يجعل له من نفسه مكانةً أعلى من مكانةِ الحكم الأول في نفسه. وكذلك إذا صادَفَ صاحبنا فكرتين عن امرئ القيس، تقول إحداهما عن الرجل ما تقوله دون أن ترتاب في وجوده أصلًا، وأما الأخرى فلا تقول ما تقوله عن امرئ القيس إلا بعد أن تَتحوَّط بالشك: هل كان هنالك حقًّا رجلٌ بهذا الاسم؟ وهل كان هو نفسه الشاعر الذي يُنسَب إليه ما يُنسَب من شعر؟ أقول: إن صاحبنا إزاء هاتين الفكرتين لم يكن ليتردَّد لحظةً في اختيار الثَّانية ليتمثَّلَها ويدافع عنها وكأنَّها كانت فكرته.

ولقد كان صاحبنا — في نَهَمه الفكري من جهة، وفي اختياره للأفكار الثائرة على المألوف من جهة أخرى — ذا حظٍّ حسن؛ لأنه اجتاز بشبابه ذاك فترةً غنيةً غايةَ الغنى، ثائرةً أعنفَ الثورة، فما أكثرهم أولئك الأعلام خلال العشرينيات، الذين ما انفكُّوا يومًا بعد يوم يهزُّون العقولَ هزًّا بما يعرضونه من أفكارٍ يأتون بها من هناك ومن هنا، وقَلَّما كانت من إفرازِ عقولهم، حتى لقد أخذَتِ الصورةُ كلها تتغيَّر أمام صاحبنا عمَّا كان يألف سماعَه في مراهقته المبكرة والمتأخرة معًا.

فلأول مرة يسمع عن معيار «الوحدة العضوية» في نقد الأدب، والشِّعر منه بصفةٍ خاصة، فيُطبِّق هذا المعيار — جهد طاقته — على معظم ما حفظه من قصائد الشعر، فإذا هي تَتبدَّى أمامه وقد فقدَتْ كثيرًا من سِحرها الذي كانت قد فتنَتْه بها وهو في أعوامِ ما قبل العشرين، وكان صاحبنا منذ تلك السن الباكرة مفتونًا بقراءة الشعر وحفظه، ولأول مرة يسمع بشيء اسمه «العقل الباطن»، وبرجل اسمه «فرويد»؛ وإذن فلم يَعُدِ الإنسان هو الإنسان الذي قيل له عنه قبل ذلك إنه يحيا مهتديًا بنور العقل؛ إذ أصبح الإنسان في صورته الجديدة كائنًا تُسيِّره غريزته ورواسب طفولته. ولأول مرة يسمع بشيء اسمه «التطور»، وبرجل اسمه «دارون»، وإذن فلم يَعُدِ الإنسان — مرةً أخرى — مخلوقًا فريدًا ذا تاريخ خاص به منذ بدايته؛ إذ هو سليلُ أصلٍ يختلف به عن أصول سائر الحيوان، بل هو حلقة — حتى وإنْ تكن هي الحلقة الأخيرة والأكثر تقدُّمًا — من سلسلةٍ تعاقبَتْ فيها حلقاتُ الحياة الحيوانية كلها.

لأول مرة قرأ صاحبنا عن السؤال الذي يسأل عن القرآن الكريم: أهو أزليٌّ قديم، أم هو حادثٌ نشأ عند نزوله وحيًا على الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهي المشكلة التي كانت أدَّتْ بابن حنبل إلى محنته لقوله عن القرآن إنه أزلي قديم؛ لأنه كلام الله، وكلام الله يكون أزليًّا مع الله؛ فاشتدَتِ الرغبة بصاحبنا أن يزداد علمًا بهذه المشكلة العجيبة، ولم يَدْرِ أين يجد ما يقرؤه عنها، فانتهَزَ أولَ فرصة سنحت وسأل أستاذَ التاريخ الإسلامي لعلَّه يَهديه، وإذا بالأستاذ يتوهَّم أن الطالب يتحدَّاه بسؤاله ذاك ليكشف مدى إلمامه وعِلمه، وقرَّر أن يَحرِم ذلك الطالب من نعمةِ الحضور في محاضراته.

ولأول مرة يقرأ صاحبنا عن «الجمال» بما يفسِّره ويعلِّله، وكان قبل ذلك لا يعرف عن الجمال إلا أنه شيء يُثِير النشوةَ في الحس، بصرًا كان أو سمعًا، أما السؤال وراء ذلك، الذي يسأل: لماذا يثير ما يثيره من نشوةٍ؟ فلم يكن يطرأ له ببال. ولأول مرة يقرأ عن موقف الإسلام من الخلافة، فيعلم أن الإسلام لم يحدِّد للحُكم صورةً معينة، خلافةً كانت أم غيرَ خلافة، مع أن صاحبنا لم يقرأ في تاريخ المسلمين عن عهد لم يكن الحُكم فيه لخليفة.

وفكرة «المنهج» تعرض على صاحبنا لأول مرة، فهو قبل ذلك كان يقرأ ما يقرؤه من فلسفةٍ وتاريخ ونقد أدبي وغير ذلك؛ ليعجب بما يقرؤه أو لا يعجب، أمَّا أن يكون الكاتب ذا منهج معين فيما كتبه، وأن ذلك المنهج يمكن تحديده وتقنينه، فلم يكن يعلم من أمر ذلك شيئًا، حتى قرأ — أولَ ما قرأ في ذلك الباب — تفصيلًا لمنهج «تين» في كتابة التاريخ، والتاريخ الأدبي بنوع خاص؛ وهو أن الرجل يصنعه التقاءَ خطوطٍ ثلاثة: البيئة المكانية، واللحظة التاريخية، وشخصيته ونَسَبه الأُسَري. وإنني لَأقلِّب في أكداس المقالات التي كتبتُها على طول فترةٍ امتدَتْ حتى اقتربت من ستين عامًا، وأعني المقالات التي لم تُنْشَر بعدَ ذلك مع غيرها في كتاب، فأجد بين الأكداس مقالةً طويلة صدرَتْ في شهر مارس سنة ١٩٢٧م عن الخليفة أبي بكر الصديق، وأقرأ صفحاتها الأولى فأرى أن صاحبنا الشاب، وهو في سن الثانية والعشرين، يبدأ بحثه بتفصيلِ منهج «تين» الذي يعتزم الكتابةَ عن أبي بكر على أُسُس قواعده.

كثيرة هي الأفكار التي صادفَتْ صاحبنا إبَّان النصف الثاني من عَقد العشرينيات، وكثيرون هم أعلامُ الفكر الذين سمع عنهم لأول مرة. نعم، إنه كان بالطبع قد عرف أشخاصَ الفلاسفة وأسماءَ مذاهبهم، وذلك بحكم دراسته، ولكن العجب هو أنه لم يكن يتأثَّر بما يتلقَّاه في قاعات الدرس تأثُّرَه بما يحصِّله من كتابات المفكِّرين الأحياء، الذين يلتقي بهم في كتبهم وصحفهم وكأنه يلتقي بأشخاصهم يتحدَّثون إليه حديثًا حيًّا نافذًا إلى عقله.

وإنه لَمِمَّا يلفت نظري الآن، أن ذاكرتي وهي تعرض أمامي من المؤثرات في تلك المرحلة من العمر ما تعرض، فإنها لا تذكر كلمة واحدة عن أدب القصة وأدب المسرح؛ فلماذا لم أقرأ يومئذٍ قصةً ولا مسرحية؟ كانت أول مسرحية قرأتها هي «أهل الكهف» للحكيم في أوائل الثلاثينيات، وكانت أول قصة قرأتها هي قصة «سارة» للعقاد، وأمَّا كل ما عرفتُه عن القصة والمسرحية فقد جاءني من الأدب الإنجليزي بصفةٍ مباشِرة، ومن الأدب الفرنسي أو الألماني بصفة غير مباشِرة عن طريق الترجمات العربية، وأبرزُ مَثَل في هذا المجال هما: ترجمة الزيات لقصة «آلام فرتر» لجوته الألماني (ترجَمَها الزيات عن الفرنسية فيما أظن)، وقصة «رفائيل» للامارتين الفرنسي. على أنني هنا أبحث عن «الأفكار» التي هي بضاعة «العقل» ومكوناته، وأمَّا شأن الأدب الخالص في تكوين العقل فأمرٌ آخَر يحتاج إلى توضيح وتحليل.

٢

أسدلَتِ العشرينيات أبوابَها، وبدأ عَقد الثلاثينيات، وفي أول أعوامه (١٩٣٠م) تخرَّجَ صاحبنا في مدرسة المعلمين العليا، وبدأ حياةَ التدريس ليجعلها أحد خطين متوازيَيْن سار عليهما، أما الخطُّ الثاني فهو الإقبال الشديد على مُتابَعة الحياة الثقافية مُتابَعةً كادت ألَّا تترك كتابًا أو مقالة مما كان يكتبه أعلامُ الحركة الفكرية والأدبية في مصر، ومعها مُتابَعة أخرى — لم تكن شاملة — لما يصدر في أوروبا، وإنجلترا بصفة خاصة، من نتاج ثقافي. ولنا أن نضيف خطًّا ثالثًا كان له أعمق الأثر في سيرة حياته بعد ذلك بأعوام، وذلك هو أن صاحبنا لم يَكَدْ يضع قدمَيْه على طريق الحياة العملية حتى أدرك أنه إنما يمشي في طريق مسدود؛ فمهنةُ التدريس لم تكن تؤدي إلى مَنزلةٍ مرموقة في دنيا الفكر والأدب، ولم يكن من سبيلٍ إلى مثل ذلك المركز المرموق إلا أستاذية جامعية. فأما وباب البعثات العلمية إلى أوروبا مغلق في وجه صاحبنا يومئذٍ لسببين: أولهما ضائقة اقتصادية شملت العالَمَ كله في بداية الثلاثينيات، وثانيهما هو أنه حتى لو لم تكن تلك الضائقة قائمة، فقِصَرُ البصر لم يكن ليأذن بنجاحٍ في «الكشف الطبي» الذي كان في تلك الأعوام شرطًا مفروضًا على كل مَن تتولَّى الدولةُ إرسالَه في بعثة علمية؛ فلم يَبْقَ أمام صاحبنا إلا مَخرجٌ واحد، وهو أن ينتسب إلى جامعة لندن؛ فلقد سمع عن جواز ذلك الانتساب وألَمَّ بشروطه، وجمع عزيمته وأخذ في إعداد نفسه، لكنه كان بهذه الإضافة إلى حياته العملية والثقافية أمامَ عبءٍ دونه زحزحة الجبل، فكان كُلَّما اصطدمَتِ الأهداف بعضها ببعض، أرجأ نشاطه في التحصيل العلمي المطلوب في انتسابه لجامعة لندن.

كانت الثلاثينيات — وما بعدها بقليل — مرحلةً لم يشهد الشاب مثلها في حياته، لا من قبل ولا من بعد، من حيث تَضارُب الميول والاتجاهات العقلية، فلم يكن طوال تلك الفترة على لون ثقافي واحد، وإن تكن «الفلسفة» أبرزَ مِن سواها وجودًا وأوضحَ ظهورًا، لكننا شهدناه إبَّان تلك الفترة — إلى جانب نشاطه الفلسفي — صُوفِيًّا على الطريقة الهندية مرةً، متحمِّسًا للعلم مرةً، مُتشكِّكًا في حضارة عصرنا العلمية مرةً، باحثًا عن صورة جديدة للحياة الاجتماعية مرةً … وهكذا أخذَتْ تقذف به الأمواج هنا وهناك كأنما هو مفقودُ الإرادةِ معدومُ الهدف، حتى لنراه في آخِر تلك المرحلة، وقُبَيْل سفره مبعوثًا إلى إنجلترا للحصول على درجة الدكتوراه في الفلسفة، كما سنروي فيما بعدُ؛ حتى لنراه يَثُور على نفسه في مقالةٍ كان عنوانها: «هجرة الروح»، وسنعرض مضمونها بعد حين.

كانت أولى لَفتاتِه الفِكرية في أول أعوام الثلاثينيات مُتجهةً نحوَ صوفية ترى في الوجود كله وَحْدةً لا تعدُّدَ فيها ولا تمايُزَ بين أجزائها، اللهم إلا في المظهر الخارجي الخادع، وهو المظهر الذي تدركه الحواسُّ بصرًا وسمعًا ولمسًا، فلقد كان ذات يومٍ من ربيع عام ١٩٣١م يسير وحْدَه بين الحقول في الريف، ووقف طويلًا أمام ماشية أُلقِيَتْ أمامَها أعوادُ الذرة لتطعم، فدارت في ذهنه صورٌ متلاحقة: نبات يتغذَّى من عناصر الأرض، وحيوان يتغذَّى من النبات، وإنسان يتغذَّى من لحم الحيوان تغذيةً تَسري في دمائه وفي أعصابه، فإذا هو يُخرِج غذاءَه ذاك عِلمًا وفلسفةً وشِعرًا … ملأَتْه هذه الفكرة، فكَرَّ راجعًا إلى داره ليكتب مقالًا مستفيضًا فيها بعنوان «وَحْدة الوجود»، ويُرسِلها فتُنشَر في مجلة كان يُصدِرها سلامة موسى، وربما كان اسمها «المجلة الجديدة» أو ما يقرب من هذا المعنى.

وسارت به الأيام بعد ذلك متقلِّبةً به بين سُبل الفكر، لكنَّ فكرةَ وَحْدة الوجود كانت تُعاوِده، وقد يكون أجملَ ما كتبه فيها مقالة بعنوان: «درس في التصوُّف»، نُشِرت في عدد خاص من مجلة الرسالة (في ٣ مارس ١٩٤١م)؛ إذ كان صاحب الرسالة أحمد حسن الزيات يُصدِر أعدادًا خاصة في أعياد الهجرة، عامًا بعد عام.

المقالةُ حوارٌ بين أستاذٍ متصوف مؤمن بوَحْدة الوجود، وتلميذِه الشاب الذي كان في أول الدرس عابسًا نافرًا مما يقوله الأستاذ؛ إذ يقول ما معناه أن لا فرق في الأعماق بين إنسانٍ ونباتٍ وحيوان، لا بل لا فرقَ بينه وبين الجماد نفسه. فلما رأى الأستاذ عُبوسَ تلميذه ونفوره، قال له: انظر يا بني إلى هذا الفضاء الطَّلق، وأَرسِلْ بصرك في أرجاء الكون الفسيح، أفينقص من عنفوان شبابك يا بني أن تكون هذا السيل الدافق، أو ذلك الطَّوْد السامق؟ هل يَحدُّ من شبابك يا بني أن تكون هذا البركان الفوَّار، أو ذلك الخِضَم العنيف الجبَّار؟ هل يَضِيرك يا بني أن تكون هذه الزهرة في رِقَّتها وجَمالها، أو أن تكون هذا الليث الكاسر في جدِّه وصرامته؟

فقال التلميذ الشاب: وما لي ولهؤلاء يا أبتاه؟ إنني إنسان، وهي جماد ونبات وحيوان.

فقال له الأستاذ: أنت يا بني كل هؤلاء، وكل هؤلاء هو أنت، أنت الكون العظيم بكل ما فيه من قوة وفتوَّة وجلال وجمال.

قال التلميذ: ولكن أراني — يا أبتِ — فردًا واحدًا محدودًا، وها هي ذي حدودي، أراها بعيني وأحسها بأصابعي.

فقال له الأستاذ: ذلك يا بني عند النظر الضيق السقيم، أو إنْ شئتَ فقل: إنها لغة الأبصار والأيدي … دَعْني أحدِّثك بلغة تفهمها، ائْتِني بثمرة من تلك الشجرة.

– ها هي ذي.

– ماذا ترى في جوفها؟

– أرى في جوفها بذورًا صغيرة.

– اقطع بذرة منها نصفين.

– ها أنا ذا قد فعلت.

– ماذا ترى فيها؟

– لا أرى شيئًا.

– إن الجوهر الدقيق الذي عجزَتْ عينك أن تراه هو الذي تَنبتُ منه تلك الشجرةُ الباسقة، ومن مثل ذلك الجوهر الذي لا تراه الأعين جاء الوجود، وهذا الجوهر الذي لا تراه هو الحق الموجود، هو الرُّوح الشامل لأطراف الوجود، هو أنت.

تلك إذن كانت لمحةٌ صوفية نزع إليها صاحبنا منذ فرغ من دراسته، وأخذتْ تُعاوِدُه حينًا بعد حين، وامتدت معه أعوامًا جاوزَتْ في عددها عشرة، ولكنه خلال تلك الأعوام نفسها كانت تغلب عليه النظرة العلمية الصارمة التي لم تكن تريد له أَلَّا يأذن لشيءٍ في الوجود كله أن يفلت من قبضة العلم، لا يَستثني من ذلك القِيَم الخُلُقية نفسها وما نسمِّيه بالمُثل العليا؛ فالحريةُ مثلًا، أو المغامرة أو ما شئتَ من معنًى، يمكن ردُّه إلى سببٍ من البيئة التي نشأ فيها هذا الإنسان أو ذاك، ففي أواسط الثلاثينيات كان قد لحظ أن الأوروبي أشدُّ تمسُّكًا بحريته وفرديته من الشرقي، فطرح صاحبنا سؤالًا على نفسه يريد به العِلة الحقيقية التي أنشأَتْ مثلَ هذا الفارق بين الأوروبي والشرقي، أو إنْ شئتَ فقُلْ بين أهل الشمال وأهل الجنوب.

وطفِقَ يبحث عن العلة التي اشترط على نفسه أن تكون علميةً بأضيق معاني هذه الكلمة، حتى هداه البحث إلى حقيقةٍ في طبيعة التنفُّس في الهواء البارد والتنفُّس في الهواء الدافئ أو الحار؛ وبالتالي فهي حقيقة تمسُّ نوعَ الطعام الضروري في كلتا الحالتين، وأخذ يسلسل الحلقات حتى انتهى إلى أن «الحريةَ» والتشبُّث بها بين سكان الجهات الباردة أكثرُ مما يتشبث بها أهل الجهات الحارة.

قال في ذلك البحث العلمي ما يأتي: «لمَّا كان الإنسان في الجهات الباردة يتنفس من الأكسجين أكثر من زميله ساكن الجهات الدافئة؛ أولًا: لأن الهواء أكثف في الجهات الباردة، فيكون مقدار الأكسجين في الشهقة الواحدة أكثر مما لو كان الهواء مخلخلًا خفيفًا، وثانيًا: لأن الإنسان يتنفس في الجهات الباردة مراتٍ أكثرَ عددًا في الفترة الزمنية المعينة مما يحدث لساكن الجهات الدافئة، ومن شأن هذا التنفس السريع من هواء كثيف أن يُضاعِف كميةَ الأكسجين الداخل في الجسم؛ فينتج عن ذلك ضرورةُ أن يُزوِّد ساكنُ الجهات الباردة جسمَه بمقدارٍ من الكربون في طعامه أكثر جدًّا مما تطلَّبَه ساكنُ الجهات الدافئة، ومعنى ذلك أن ساكن الجهات الباردة لا بد له في طعامه من لحومٍ بمقدارٍ أكبرَ من زميله في الجنوب الدافئ أو الحار، بل إن هذا الأخير يستطيع أن يعيش على نباتٍ صِرْف … ثم يمضي المقال فيُبيِّن كيف أن الحصولَ على لحوم الحيوان أشقُّ من الحصول على النبات؛ وبالتالي لا بد بحُكْم الضرورة أن تقلَّ نسبةُ الزيادة في سكان الشمال عنها في سكان الجنوب، والنتيجة هي ندرة الأيدي العاملة في الشمال وكثرتها في الجنوب، فتعلو قيمةُ العامل في الحالة الأولى وترخص في الحالة الثانية؛ فينتهي الأمر في الحالة الثانية بفروقٍ شاسعة بين الأغنياءِ من أصحاب الأعمال والفقراءِ من العمَّال المأجورين، على خلافِ ما يحدث في الشمال، فيكون استعبادُ الغني القوي للفقير الضعيف أيسرَ في الجنوب منه في الشمال، فلا تكون أمامَ الإنسان في الجنوب فرصةٌ يتمسَّكُ فيها بحريته وكرامته كالتي يجدها إنسان الشمال …»

مثل هذا التصور للتفكير العلمي نراه قد استبدَّ بصاحبنا في كثيرٍ جدًّا من محاولاته خلال الثلاثينيات، لولا أنه كان في لحظاتٍ ليست بالقليلة يَتعرَّض للقلق، فيردُّ على نفسه بمقالٍ يثبت فيه أن هذا النظرَ الضيق للتفكير العلمي — النظرَ الذي يحصر العلميةَ في الروابط المادية — لا تَطمئِنُّ له نفْسُ الإنسان آخِرَ الأمر.

ومن أمثلة حوار الكاتب مع نفسه على هذا النحو ما كتبه ذات مرة خلال الثلاثينيات، تحت عنوان: «بين المعجزة والعلم»، وذلك أنه كان قد قرأ من فلسفة إسبينوزا ما أقنَعَه بأن قدرة الخالق — جل وعلا — إنما تتمثَّل في أن تطَّردَ قوانين الكون اطِّرادًا لا يقف في سبيله شيء، وليستْ قدرته في أن يُوقِف الشمس كما يقول رُواة المعجزات إنها وقفت ليوشع، أو أن يشقَّ البحر كما يقولون إنه انشقَّ لموسى، ولا أن يُبرِئ الأكمه والأبرص بلمسةٍ كما يقولون عن عيسى (عليهم جميعًا السلام). وكان صاحبنا عندئذٍ يرى أنه لا بد من «تأويل» هذه «المعجزات» تأويلًا يُبقِي على الإيمان بما ورد في الكتب المُنزَلة، ويتفق — في الوقت نفسه — مع ما يتفق ومنطقَ العقل. أقول: إن صاحبنا كان قد اقتنع بأن قدرة الله سبحانه وتعالى إنما تتجلَّى في اطِّرادِ قوانينِ الكون لا في إيقافها.

لكنه لم يلبث في إحدى لحظاتِ فكْرِه أن أقام حوارًا مع نفسه، وأثبَتَ ذلك الحوارَ في المقالة المذكورة، والتي خلاصتُها هي أن المعجزة لا تُبطِل القانونَ العلمي، بل هي تَحُول دونَ سريانه بفعلٍ إراديٍّ يتدخل في الطريق، مثال ذلك: أن نرى تفاحة تسقط من فرعها فتَهوي نحو الأرض بفعل قانون الجاذبية، لكنك تُسرِع فتَمدُّ يدك لتَلقَفها وهي في طريق سقوطها، فلا تقول عندئذٍ إنك أبطلْتَ القانون، بل إن القانون الطبيعي لم يَزَل قائمًا كما كان، وكلُّ ما حدث هو فعلٌ إرادي منك تَدخَّل ولم يَدَع التفاحة تُكمِل طريقها إلى الأرض. وهاك فقرةً من ذلك الحوار الباطني بيني وبين نفسي:

«… سأفرض معك أن قوانين الطبيعة يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييرًا ولا تبديلًا عمَّا رسَمَه لها قانونُها الأعلى، فمَنْ ذا الذي زعم لك أن المعجزة كسْرٌ لقانون الطبيعة، وأنه لذلك يجب اطِّراحُها ونبْذُها؟ نحن نسلِّمُ معك أن قانون الجاذبية صارمٌ لا يَقبل الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلَتْ عن فرعها سقطَتْ من فورها على الأرض بفعل قانون الجاذبية هذا، ولكن هَبْ يدًا امتدت إلى التفاحة وهي في طريقها إلى الأرض فلقفَتْها، فحالَتْ بذلك بينها وبين الأرض، أيكون ذلك كسْرًا للقانون؟ كلا؛ فالقانون لا يزال قائمًا قويًّا سليمًا، غير أن إرادةً بشريةً حالت دون تطبيقه لا أكثر ولا أقل … أَئِذا تركْتَ أقلامَك وكُتبَك مبعثرةً على أرض غرفتك، ثم عُدتَ بعد حين فوجدْتَها صعدَتْ إلى ظهر المكتب صفوفًا مُنظَّمة؟ أفتقول: إن قانون الجاذبية قد انقلب رأسًا على عقب؛ لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى، بدل أن تستقر على الأرض منجذبةً بها؟ أم أنت جازم في مثل هذه الحالة بأن شخصًا ما قد تدخَّلَ في الأمر بإرادته وحالَ بين قانون الجاذبية وبين تنفيذه حينًا، فأمكن للأقلام والكتب بذلك أن تفلت من يده، لكن القانون ما يزال قائمًا لم يَخدشْ ذلك من قوَّتِه وشموله؟ … إنك متفق معي — ولا شك — أن الإرادة البشرية قد تستطيع أن تتوسط بين القانون وتطبيقه، فتُعطِّله دون أن تُبطِله، حتى إذا ما حوَّرتُ لك العبارة قليلًا، سائرًا بها نحو الأقوم والأصح، غضبْتَ للعلم وكرامة العلم! لو زعمتُ لك أن لله إرادةً حرَّة كهذه التي للإنسان، يستطيع بها أن يُعطِّلَ قانونَ الطبيعة حينًا قد يَقصر أو يَطول، ولكن القانون يظل قائمًا ومعمولًا به، كان هذا الزعم مني في رأيك جهلًا وحماقةً! يرعاك الله! هلَّا أنبأْتَني لماذا يكون للإنسان ما ليس لله؟»

٣

أصدر أحمد حسن الزيات مجلة الرسالة في أوَّل سنة ١٩٣٣م، فكأنَّما كان صاحبنا يترقَّب ظهورَ مجلة تُناسِبه؛ إذ لم تَكَد الرسالة تَصدر حتى أخذ يرسل إليها مقالاتٍ متلاحقةً عن الفلاسفة، والفلاسفة المُحدَثين على وجه الخصوص؛ فكتب عن ديكارت، واسبينوزا، ولينبتنر، وهيجل، وسبنسر، وبرجسون، ورسل وغيرهم، كل ذلك ولم يكن قد ذهب إلى مكتب المجلة ليقابل صاحبها ورئيس تحريرها، لكنه بعد أن نُشِرت له مقالات تبلغ العشرين أو نحوها، تغلَّبَ على خجله وانطوائه وقصد إلى صاحب الرسالة في مَقرِّه، وإذا ذلك المَقرُّ هو غرفة مستعارة من الشقة التي كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر تَتَّخذها مكانًا لها، وعندما وصل صاحبنا إلى مكتب المجلة وجد أحمد أمين هناك، ولم يكن قد رآه قطُّ من قبلُ، وأحمد أمين هو رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ نشأت سنة ١٩١٤م وحتى وافاه الأجل سنة ١٩٥٤م، فما إن عرف أنَّ القادم عليهما هو فلان؛ رحَّب به ترحيبًا لم يكن صاحبنا الشاب يتوقَّعه أو يتصوَّره، وكذلك فعَلَ الزيات، وأثنى كِلاهما ثناءً طيبًا على مجموعة المقالات التي نُشِرت لصاحبنا في الرسالة، ثم ما هو إلا أنِ اصطحبه الأستاذ أحمد أمين إلى رَدْهة المكان، وجلسا معًا ليعرض الأستاذ على صاحبه أولًا أنْ يقترح ضمَّه عضوًا في لجنة التأليف، وثانيًا أن يتعاونا معًا على إخراجِ سلسلةٍ من كتب تعرض الفلسفةَ في أسلوبٍ سهل واضح يناسب أوساطَ المثقفين، فكادت استجابةُ الكاتب الشاب تَسبق العرض، وفي أَشْهرٍ قليلة — لا أظنها جاوزَتْ أربعة أو خمسة — كان كتاب «قصة الفلسفة اليونانية» مُعَدًّا للمطبعة ١٩٣٥م، وبعدَه بما لا يزيد عن عام وبعض عام، كان الكتاب الثاني بجزْأَيه «قصة الفلسفة الحديثة» تدور به عجلات المطبعة.

كانت خطة العمل في هذين الكتابين — كما هو مذكور في مقدمتَيْهما — هي أن يُختار لكلٍّ منهما مَرْجعٌ إنجليزي جيد؛ ليُتخَذ أساسًا، ثم يُضاف إليه هنا وهناك ما يظن أنها جوانبُ لم يَذكرها الكِتاب المختار، مع ضرورة ذِكْرها في رأيهما؛ ولهذا وجد «المؤلِّفان» أن الكتب التي أخرجاها بهذه الطريقة ليست «تأليفًا» بالمعنى الأكاديمي الصحيح، فأطلقا على العمل كلمة «تصنيف»، ووضعا هذه الصفة فوق الغلاف.

وها هنا أريد أن أنقل الحديث من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وبدل أن أتحدَّث عن صاحبنا، أجعل الحديث منسوبًا إلى شخصي الراهن، فأقول: إنني كنتُ في كتاب «قصة الفلسفة الحديثة» صاحبَ فضلٍ على المصطلح الفلسفي لم يذكره لي دارسٌ واحد من دارسي الفلسفية، وأبى عليَّ خيالي أن أذكره بنفسي عن نفسي، وإذا لم أغلب هذا الحياءَ الآن قبلَ أن تفلت هذه الفرصةُ الأخيرة، فربما ماتَتِ الحقيقة مع موتي؛ وذلك أنه كانت الفلسفة اليونانية قد سبق إلى نقلها العربُ الأقدمون إلى اللغة العربية، فصاغوا لها مصطلحها، فإن الفلسفة الحديثة لم تظهر متكاملةً في كتاب عربي قبل كتابنا «قصة الفلسفة الحديثة»، فكان لا بد من خلق المصطلحات العربية لأول مرة، ولست أفتري على الحق إذا زعمتُ بأن عددًا كبيرًا مما شاع بعد ذلك واستقرَّ في مصطلح الفلسفة الحديثة هو من صناعتي، ذلك هو الحق، ولعن الله الساكت عن الحق، فهو — كما يُقال — شيطان أخرس.

كان توفيقنا في عرض الفلسفة بهذين الكتابين: «قصة الفلسفة اليونانية»، و«قصة الفلسفة الحديثة»، في بيان عربي واضح وجذاب، سببًا في انتشارهما على نطاق واسع؛ فلقد مرت خمسون عامًا تقريبًا منذ ظهورهما إلى هذا اليوم الذي أكتب فيه الآن (١٩٨٢م)، ومع ذلك ما زالتْ تتوالى فيهما الصعاب، وما زالا يؤديان الرسالةَ التي أُريدت لهما حين كُتِبا أول مرة، وهي أن يَعرضا تاريخَ الفلسفة في صورةٍ مشرقة ينجذب إليها القارئُ العابر والطالبُ الدارس على حدٍّ سواء.

وأعود إلى الحديث عن صاحبنا الشاب خلال الثلاثينيات عندما كان متوهِّجَ الشعلة، لا يَكلُّ ولا يَملُّ ولا يَفتُر، يُواصِل العمل كلَّ ساعات النهار وشطرًا كبيرًا من ساعات الليل، لا يريد لنفسه راحةً أو متعةً كأنه كان مُسَخَّرًا من إرادةٍ خفية تحفِّزُه إلى النشاط الدائب، ولا تَدَعُه ليستريح ساعةً إذا أمكَنَ أن يملأ تلك الساعة بالعمل والدرس والتحصيل والكتابة.

ففي الفترة الزمنية القصيرة نفسها، التي كتب فيها قصتَي الفلسفة — اليونانية والحديثة — ترجَمَ عن الإنجليزية أربعَ محاورات لأفلاطون، وهي المحاورات الأربع التي تُوصَف أحيانًا بأنها المحاورات السقراطية؛ بمعنى أن ما يتحدَّث به سقراط فيها هو حقيقةٌ تاريخية عن شخصِ سقراط، وليس هو فيها مجرد شخصية يستخدمها أفلاطون ليُجرِي على لسانه ما يريد أفلاطون أن يقوله، شأنُ سقراط في ذلك كشأن سائر الشخصيات التي نراها في الأدب المسرحي. وأما تلك المحاورات السقراطية الأربع التي نقلها صاحبنا إلى العربية في تلك المرحلة من حياته العقلية فهي: الدفاع، وأقريطون، وأوطيفرون، وفيدون. والحمد لله؛ فقد كان نصيب تلك الترجمة من النجاح مُماثِلًا لنصيب قصتَي الفلسفة، فما تزال تُطبَع مرةً بعد مرة كلَّ عام، لم ينقص طلبُ الدارسين لها حتى بعد أنْ مرت على ظهورها نحو خمسين عامًا.

٤

منذُ حمَلَ صاحبنا القلمَ لأول مرة وإلى هذه الساعة التي أكتب عنه هذه الصفحات، وهو يؤمن إيمانًا جازمًا بحرية الأفراد، لا يريد لتلك الحرية أن تُنتَهَك لأي سببٍ من الأسباب، شريطة أن نحدِّد للفردية معناها بحرصٍ شديد حتى لا يُساء فهمها، وينقلب تعاوُنُ الأفراد داخلَ الأمة الواحدة — بل داخلَ الأسرة الواحدة — حَربًا يعلنها فردٌ على فرد كُلَّما تعارضَتْ بينهما الرغبات والأهداف؛ لأننا لو قبلنا مثل هذا الصراع لَمَا بَقِي للفردية نفسها وجود، فهي تَفنى بفناء الأفراد على طول المدى، وإنَّ منطقَ العقل من جهةٍ والفطرةَ السليمة من جهةٍ أخرى لَيقضيان بأن الفكرة المعينة إذا كانت بحكم مفهومها ذاته، تفنى بالوسائل نفسها التي تثبت بها وجودها، فإنما هي فكرة باطلة بموجب كيانها، وفكرة الفردية الحرة لا يدوم لها وجود إلا إذا تجدَّدَ معناها بما يَصون لجميع الأفراد أن يُصان وجودهم.

وكان صاحبنا إبَّان الثلاثينيات وما بعدها بقليلٍ يحسُّ خطرًا داهمًا على حرية الأفراد، في نُظُم قامت واشتد عودها، وكان الخوف هو أن تنتشر عَدْواها لتشمل الدنيا بأَسْرها، وأعني بها — بصفة خاصة — النازيةَ في ألمانية والفاشيةَ في إيطاليا. وعلى الرغم من أن صاحبنا لم يَمِلْ بهَواه نحو السياسة قطُّ، إلا أنه من الناحية العقلية الصِّرْف لم يجد في نفسه نازعًا يَستهويه تجاهَ الدكتاتورية كائنةً ما كانت صورها وأهدافها؛ فالوسيلةُ هنا أهم من الهدف، وماذا تكون الوسيلة التي أرادوا التضحية بها في سبيل أهداف القوة والمجد، إلا حرية الأفراد، يُجهِزون عليها لتصبح الحرية مقصورةً على فردٍ واحد هو الدكتاتور.

والدكتاتور لا يسمِّي نفسه ولا يسمِّيه أتباعه «دكتاتورًا»، بل يسمِّي نفسه ويُسمُّونه «زعيمًا»؛ ومن هنا تتوالى الكوارث. كتب صاحبنا (الثقافة، ٨ أكتوبر ١٩٤٠م) يقول في ذلك: وفي هذا الزعيم تجتمع السلطة التنفيذية والتمثيل النيابي معًا، فهو الذي ينطق برغبات الشعب، وهو الذي ينفذ هذه الرغبات. وليته يقف عند هذا الظن بأنه هو الذي يمثل أمته في زمانه وحده، بل تراه يتوهم أنه إنما يمثلها على طول تاريخها؛ ففيه جوهرها لا فرق بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، فكأنه لم يعُد شخصًا واحدًا ذا أجلٍ محدود ببداية ونهاية، بل هو أقرب إلى الفكرة المجردة التي تُجاوز حدود المكان والزمان! إذا نطق الزعيم فكلماته قانون، وإذا سلك الزعيم على صورة معينة فسلوكه ذاك سنَّة على الناس أن يحتذوها، وهل الزعيم من أمَّته إلا رأسها الذي يفكر ويدها التي تدبر؟ فأين هي أعضاء الجسد التي يجوز لها أن تعصي ما يفكر لها الرأس وما تدبر اليدان؟! الزعيم في أمته أبٌ يرعى أسرته؛ لا لأن أفراد الأسرة انتخبوه أبًا لهم، بل هو الأب بحكم طبائع الأمور التي لا اختلاف عليها ولا نزاع، والعجَب هو أن الزعيم وأتباعه يطلقون على هذه الصورة اسم ديمقراطية! ولكنها ديمقراطية من نوع جديد.

ولم تكن مصادفة من صاحبنا أن يقرأ في تلك الأيام نماذج من المدن الفاضلة لما تصورها الفلاسفة على اختلاف عصورهم ليخلُص لنفسه منها بصورةٍ مُثلى. لقد كان بالطبع على علم تام بتفصيلات «الجمهورية» لأفلاطون، فقرأ «أطلنطس الجديدة» لفرنسيس بيكون و«يوتوبيا» لتومس مور، و«إريوون» (أو الأرض التي لا وجود لها) لصموئيل بتلر، و«يوتوبيا حديثة» تأليف ﻫ. ﺟ. ولز، وغيرها، وجمعها في كتابٍ وقدَّم له بمقدمة تدل على موقفه إذ ذاك، جاء فيها:

«عندما يضيق الإنسان ذرعًا بالظروف المحيطة به ثم يعجز عن تغييرها على النحو الذي يرتضيه فإنه يسترسل في أحلامه ليظفر في دنيا الخيال بما استحال عليه أن يظفر به في عالم الواقع …»

كان عقلًا يبحث لنفسه عن طريق، وظل يبحث خلال أعوام الثلاثينيات، إنه لم يكفَّ يومًا عن القراءة، ولم يكفَّ يومًا عن الكتابة، لكنه كان حائرًا لا يجد ما يستريح إليه، أو قل: إنه كان يستريح للفكرة المعينة مرةً ولنقيضها مرةً أخرى، لقد رأيناه متعلقًا بالصوفية يومًا، وبالعلم في صرامة منهجه يومًا آخر، لكنه من خلال ذلك كله كان يحس في طوية نفسه إحساسًا فيه قوة وفيه غموض في آنٍ معًا بأفكار واتجاهات أحب إلى نفسه من أفكار أخرى واتجاهات أخرى، وكأنما كان في صدره سؤال يتردد وينتظر الجواب: أليس من سبيل يجمع عدة أطراف في رقعة واحدة؟ يجمع العلم والدين والتصوف والحرية؟ أليس ثمة من سبيل يجمع مادة إلى روح ويجمع عقلًا إلى غريزة؟ …

وفي ١٧ من يناير سنة ١٩٤٤م كتب — في عيد الهجرة — مقالًا بعنوان: «هجرة الروح» (مجلة الرسالة)، فكان بمثابة الإعلان عن بداية عهد جديد؛ عهد لا يترك نفسه فيه نهبًا لما يقوله الآخرون، بل يتابع الآخرين تحصيلًا وفهمًا ونقدًا ومناقشةً، حتى يرسو لنفسه على رأي يكون رأيه هو، وإلى موقف يكون موقفه هو، وذلك ما حدث بالفعل، وسنرى في الفصول التالية من هذا الكتاب كيف أن صاحبنا قد بدأ طريقًا عن اقتناع ودراية، والتزمه حتى هذه الساعة.

جاء في مقاله «هجرة الروح»: كم قرأت وقرأت، فكنت أتلوَّن بما أقرأ، كأني دودة ضعيفة تتلون بلون الأرض التي تدبُّ عليها وتسعى؛ فهي تصفرُّ إن كانت تحبو فوق الرمال، وهي تخضرُّ إذا كانت تزحف في المروج. كنت أقرأ للشُّكاك فأشك، ثم أقرأ للمؤمنين فأومن، هذا كتاب متشائم أطالعه، فإذا أنا السَّاخط الناقم على حياتي ودنياي؛ وذلك كتاب متفائل أطالعه، فإذا أن الهاشُّ الباشُّ المرح الطروب، ولكن أراد لي الله خيرًا، أفقت إلى نفسي فوجدتها مضطربة هائمة يعصف بها الريح هنا وهناك، وهي في كل ذلك تعاني من القلق والهم ما تعاني.

نعم، كانت تلك الصرخة بداية عهد جديد، أكون فيه نفسي لا لنفس غيري، وحتى إذا أخذت عن الآخرين فكرًا فلا يكون ذلك إلا عن اقتناع.

وكأنما أراد الله تثبيتًا لعهدي فنقلني من حال إلى حال، ومن بلد إلى بلد؛ إذ سافرت بعدها فورًا في بعثة دراسية إلى إنجلترا، وهناك عشت بعقلي مرحلة الانتقال.

فوداعًا يا صاحبي الشاب، الذي كنت أروي عنه كأنه شخص آخر، وسأتحدث بعد الآن عن نفسي بضمير المتكلم؛ لأنني وُلِدتُّ ولادة جديدة، وسلكت طريقًا فكرية جديدة هي طريق إلى يومي هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤