الفصل التاسع

أصالة ومعاصرة

١

إذا استعرضت حياتي الفكرية من أولها إلى آخرها، وجدت أنه ربما كانت قضية الجمع بين الأصالة الثقافية التي تضرب بجذورها إلى المقومات الأولية التي جعلت من العربي عربيًّا على طول التاريخ العربي ومن المصري مصريًّا بما قد كان قبل العروبة وبعدها، وبين المعاصرة التي تجعلنا جزءًا من زماننا، لا بمجرد وجودنا الجسدي بل بنشاطنا الفكري كذلك. أقول: إن قضية الجمع بين أصالتنا وضرورة معايشتنا لعصرنا ربما كانت أهم ما تعرضت له من اهتمامات بالتفكير وبالكتابة. ثم ما هو أكثر من ذلك؛ فقد أصبحت على يقين من أن هذه المسألة هي أُمُّ المسائل الثقافية جميعًا، من أهمها من صفوة رجال الثقافة بيننا، فكأنما أزاح عن عاتقه العبء الذي بغيره يكون وجوده كعدم وجوده في حياتنا الراهنة؛ إذ هي حقًّا القضية التي يصح أن نقول حيالها قولة هاملت في أزمته النفسية: أن أكون أو ألا أكون، ذلك هو السؤال.

والحق أنني لم أبدأ حياتي الفكرية بالرأي الذي تحولت إليه منذ أواسط الستينيات، بل لبثت أعوامًا وأعوامًا لا أرى للحياة القومية المزدهرة إلا صورة واحدة، هي صورة الحياة كما يحياها من أبدعوا حضارة هذا العصر، ولقد شاءت تطورات التاريخ أن يكون هؤلاء المبدعون هم من أبناء أوروبا وأمريكا، فهناك وُلِدَ العصر بعلومه وفنونه ونظمه؛ ولهذا فقد أصبحتْ درجات التحضر لسائر شعوب الأرض إنما تقاس بمقدار قربها أو بعدها من الطراز الغربي القائم. هكذا كان الرأي عندي حتى لقد بلغت فيه حدودًا من التطرف الذي لم يعرف لنفسه حَيْطة وحذرًا، وكان الأمر في ذلك يبدو أمام ذهني وكأنه من البديهيات التي لا حاجة بها إلى مزيد من تأمل وبحث؛ فقد كان يكفيني حينئذٍ أن أرى في الغرب علمًا لا وجود له عندنا إلا نقلًا عنهم ومحاكاة، وأن أرى في الغرب قوة يسيطر بها علينا ويحتل منا مراكز القيادة والسيادة، وأن أرانا في كل مناحي الحياة أتباعًا، هم هناك يبدعون ونحن هنا ننقل عنهم ما يبدعونه، ونحفظ عن ظهر قلب ما يصلون إليه من معرفة، وذلك على أحسن الفروض.

حدث أثناء دراستي في إنجلترا في أواسط الأربعينيات أن التقيت هناك بطبيب مصري، أصبح فيما بعدُ مرموقًا في بلادنا بعلمه في ميدانه، التقيت به وقد جاء إلى انجلترا في بعثة قصيرة، وكان بيني وبينه صداقة قديمة، فما كاد الجلوس يستقر بنا على مائدة حتى انطلق يبدي عجبه وتعجبه من تلك السمعة الكاذبة التي شاعت عندنا في مصر عن إنجلترا وعلمها، لماذا يا صديقي؟ سألته فأجاب: لأنه ما من كتاب طلبوا منا دراسته هنا إلا وهو معروف لنا ومدروس في مصر قبل حضورنا … إذن فقد نسي صديقي ذاك — وهو من أنبه شبابنا حين كان شابًّا، ومن ألمع رجالنا حين أصبح رجلًا في أربعينياته وما بعدها — نسي صديقي ذاك أن الكتب التي عرفها في مصر ودرسها، ثم وجد أنها هي الكتب التي يوصى بها في جامعات إنجلترا كذلك، هي من صُنعهم في الحالتين؟ وإلى هذا الحد تَحُول غشاوة على أعيننا دون الرؤية الواضحة لحقيقة موقف الغرب وموقفنا من العلوم إبداعًا وكشفًا.

هكذا كان الأمر يبدو لي مدى أعوام طويلة؛ فهم الذين يخلقون الجديد دائمًا، ونحن في كل ما نحياه من عصرنا في موقف المستعير.

وفاتني طوال تلك السنين أن السؤال الحقيقي هو: ماذا وراء قوتهم وضعفنا؟ ما السر الكامن في تقدمهم وتخلفنا؟ فليست المشكلة في صميمها هي أن عندهم كذا وكذا من نتائج العلم والفن، وليس عندنا مثل ما عندهم؛ لأنه لو كانت هذه هي المشكلة في جوهرها؛ إذن لكان حلها هو أن ننقل مما عندهم ليصبح عندنا وكان الله يحب المحسنين، لا، ليست هذه هي المسألة المؤرِّقة، بل إنها هي «ما وراء» إبداعهم وقوتهم، فلمَّا اختفى هذا «الماوراء» من حياتنا نحن، ذهب عنا الإبداع والقوة.

وذلك «الماوراء» هو «منهج» النظر إلى العالم بصفة عامة، وفي دنيا العلم والفن وغيرهما من مناشط الحياة بصفة خاصة، كنا نحن وهم جميعًا على نهج واحد إبَّان العصور الوسطى، فكلنا معًا في مركب واحد — كما يقولون — نطفو معًا أو نغرق معًا، وكان الفرق بيننا وبينهم إبَّان تلك العصور، ليس هو أن لنا نهجًا للنظر وأن لهم نهجًا آخر، بل كان الفرق عندئذٍ هو أننا نحن الذين أمسكوا بزمام القيادة وهم التابعون، وأما النهج الواحد المشترك الذي أشرت إليه فهو أن كلينا كان يقرأ «الكتب» ويستخرج منها طرق الحياة بجميع مشكلاتها، ثم نهضت أوروبا بأبنائها، أو نهض بها أبناؤها منذ القرن الخامس عشر وما بعده، ولم ننهض نحن مثل نهضتهم، وكان معنى النهوض هو: هناك غيروا المنهج واستبدلوا به منهجًا جديدًا، فبدل أن تكون الكتب القديمة هي المرجع المقروء الذي لا مرجع سواه؛ فالحق هو ما قالته تلك الكتب والباطل هو ما لم تقله أو ما أشارت هي إلى بطلانه. أقول: إنهم — بدل ذلك — جعلوا مرجعهم المقروء هو الطبيعة ذاتها، ومعها باطن النفس الإنسانية لمن يستطيع استبطان نفسه في دقة العلماء، فعلوا ذلك هم ولم نفعل نظيره (إلى يومنا هذا)، فكانت لهم نهضة ولم يكن لنا مثلها، وتغير عندهم معنى «العلم» ولم يتغير عندنا، إذًا أصبح العلم عندهم كشفًا عن أسرار الطبيعة وصياغة قوانينها، وأما العلم عندنا فقد ظل كما كان، وهو أن «نحفظ» ما في بطون الكتب، وليس ثمة فرق جوهري بين كتب وكتب ما دام المحور هو «حفظ» ما فيها واسترجاعه كلما دعت الضرورة؛ وأقول ذلك لأن الكتاب المحفوظ قد يكون طبًّا أو كيمياء أو ما شئت من مواد، ثم يحدث في أذهاننا خلط كالذي حدث لصديقي الطبيب النابه الذي أشرت إليه، عندما لم يفرق بين نفسه وقد «حفظ» كتابًا وبين مؤلف الكتاب الأصيل الذي بحث في ميدانه واستخرج الحقائق العلمية وأثبتها في كتاب هو الذي «حفظه» صاحبنا فيما بعدُ، فكان بيننا من النابهين، وإذا كان هذا هكذا، فلم يكن عجيبًا مني ومن أمثالي الذين دعَوْا إلى اصطناع حضارة الغرب وثقافته بحذافيرها، لعلنا نبلغ بها ما بلغوه من علم وسلطان.

٢

لكن الجديد الذي استُحْدِثَ في موقفي منذ أواسط الستينيات هو أن ذلك وحده — على ضرورته وحتميته — لا يكفي؛ لأنه قد يتحقق لنا يومًا ما، فيكون الثمن الذي دفعناه في مقابل ذلك هو أنفسنا، فمن الضروري الحتمي كذلك أن أحافظ على هُويتي العربية (وهُويتي المصرية قبلها لتكون أساسًا لها) فينشأ على الفور سؤال محوري هو: كيف يمكن الجمع بين منهج النظر الذي أتناول به شئون الحياة بما فيها من علوم وصناعات ونظم للحكم والاقتصاد والتعليم … إلخ، وبين أن أظل مصريًّا عربيًّا بما يستلزمه هذا الانتماء من نواحٍ في العقيدة وأسلوب العيش، مما قد يبدو من الظاهر أنه يتناقض مع ما يقتضيه المنهج الجديد؟

هنالك من صفوة مثقفينا مَنْ رأيته يستخفُّ بالمشكلة حتى ليزعم أنه لا إشكال، فمن طبائع الأمور — هكذا رأيتهم يقولون — أن يكون المصري مصريًّا ويحيا عصره معًا، كأنما المسألة في رأيهم تشبه حياة الكائنات الحية جميعًا — من نبات وحيوان — حين يحافظ الكائن على طبيعة نوعه، ثم يتكيف لظروف بيئته في وقت واحد؛ فشجرة القطن — مثلًا — لا تستطيع إلا أن تنتج قطنًا ما دامت البذرة التي انبثقت منها هي بذرة تنبت مثل هذه الشجرة، ولكنها بالإضافة إلى ذلك قد تحاط بأحوال من المناخ والتربة تختلف قليلًا أو كثيرًا عما تحاط به زميلتها التي تنبت في أمريكا أو في الهند؛ وعندئذٍ لا بد لها من التكيف لظروفها؛ ومن ثم فهي تنتج قطنًا «مصريًّا» له خصائصه المميزة.

لكن الأمر في حياة الإنسان وثقافته مختلف؛ لأن وجوده غير مقتصر على الوجود البيولوجي الصِّرف، بل يضاف إليه عنده «وجهة نظر» يقيمها على مجموعة من «القيم»؛ ومن هنا ينشأ إشكالنا: ففي رءوسنا مجموعة معينة من القيم كونت لنا وجهة نظر معينة، ليست هي وجهة النظر التي من شأنها أن تنتج مثل ما أنتجه الغرب من علوم وما يترقب عليها، فهل من سبيل إلى جمع هذين الطرفين في كيان واحد؟ بمعنى أن يظل جانب من قيمنا ووجهة نظرنا كافٍ للحفاظ على هُوية متميزة، وفي الوقت نفسه نلبس لدنيانا مِنظارًا كالذي لبسه الغربيون منذ نهضتهم؛ فيكون لنا بذلك شيء مما كسبوه دون أن يضيع من شخصيتنا المتميزة شيء يمس صميمها وجوهرها.

المشكلة حقيقية وعويصة، يشاركنا فيها كل أصحاب الحضارات القديمة، ولا يشاركنا فيها أبناء الحضارة الغربية الراهنة، فهؤلاء الغربيون لا يجدون أمامهم إلا حضارة واحدة وثقافة واحدة، تطورت من أصولها اليونانية والرومانية حتى باتت على ما هي عليه، فليس بين أيديهم قديم يصدم جديدًا، ولا جديد يصدم قديمًا. وأما نحن من أبناء الحضارات القديمة فأمامنا حضارتان نريد الحفاظ عليهما معًا، فبالنسبة للأمة العربية — والمصريون جزء منها — هنالك موروث في أيديها ورثته من السلف، وهنالك في الوقت نفسه حضارة أخرى وثقافة أخرى تنبني عليها، هي حضارة هذا العصر وثقافته، ولا مَندوحة لها — إذا أرادت لنفسها عيشًا سَرِيًّا في زمانها — عن أن تتشرب عصرها بحضارته وثقافته، فماذا هي صانعة؟ إنه لو كان الأساس مشتركًا بين تراثها من جهة وما تراه في عصرها من جهة أخرى لما كان إشكال؛ لأن أمرها عندئذٍ كان ليجيء شبيهًا بموقف الغربي في أوروبا وأمريكا؛ إذ يرى بين يديه حضارة وثقافة هي نفسها الامتداد الطبيعي لما كان في تاريخه الماضي يونانًا ورومانًا، فلا تناقض عنده بين ماضٍ وحاضر.

لكن التباين قائم على أشُدِّه بين تراثنا من ناحية، وما يحيط بنا من ثقافة عصرنا من ناحية أخرى؛ فالاختلاف بينهما ضارب إلى الأساس، فثقافة أسلافنا المبثوثة في تراثهم ثقافة قوامها «مبادئ» تُكتب لفظًا على ورق الكتب ليلتقطها الأبناء والأحفاد، فتكون هي «القيم» التي ينظمون سلوكهم على منوالها، ويصوغون أذواقهم الجمالية على هداها، وأما ثقافة العصر فقوامها «أجهزة» علمية تتخذ أدوات للبحث عن أسرار الطبيعة، وتنتهي بالباحثين إلى إنتاج «آلات» تقام الحياة العملية على استخدامها. وإذا أردت عبارة واحدة موجزة تحدد الفرق بين الثقافتين، فقل إن ثقافة تراثنا هي ثقافة «أخلاق» وثقافة العصر ثقافة «علوم». وكلمة «الأخلاق» هنا مقصود بها معناها الواسع الذي هو الجانب السلوكي في تعامل الإنسان مع الإنسان، وكذلك كلمة «العلوم» هنا مقصود بها أن تشمل ما يترتب على العلوم من أجهزة يستخدمها الإنسان في النقل والتبريد والقتال والتثقيف وشتى مناحي الحياة. ثقافتنا الموروثة ثقافة مدارها «الكلمة»، وثقافة عصرنا مدارها «الجهاز» بكل ما تستتبعه هاتان السمتان من نتائج بعيدة الآماد.

وما أكثر ما يقع فيه المثقف العربي من حَرج يشده هنا ويجذبه هناك، حتى لتأخذه من ذلك حَيرة تشل قواه الخلاقة، فبينما «الكلمة» الموروثة توحي إليه بشيء، تجيء «الأجهزة» فتوحي إليه بنقيضه، وبين النقيضين يقع فريسة سهلة، أهي قليلة تلك الحالات التي نرى فيها رجال العلوم — وأرجو التنبه هنا إلى كلمة «علوم» كالطبيعة والكيمياء وما إليهما، أقول: إنها ليست قليلة تلك الحالات التي نرى فيها رجال «العلوم» هؤلاء علماء بمنهج العلم وهم في معاملهم ومراكز أبحاثهم وقاعات محاضراتهم، حتى إذا ما أووا إلى منازلهم ليباشروا حياتهم الخاصة؛ فتحوا صدورهم لأبشع ضروب الخرافة، فاستقبلوها فرحين بها كما يفرح عابرو السبيل الذين لم يظفروا من العلم كثيرًا أو قليلًا، لا بل إن رجال العلم هؤلاء ليصبحون أشد خطورة من عابري السبيل؛ لأن الناس يستشهدون بهم وهم مطمئنون، فإذا كان فلان حامل الدكتوراه في الكيمياء يقبل كذا وكذا، أيكون هناك ما تطمئن النفس إلى صوابه أكثر منه؟

التضاد جاد بين بعض الجوانب في ثقافتنا الموروثة، وبعض الجوانب في ثقافة عصرنا بعلومه وصناعته وفنونه ونظمه، والمشكلة تحتاج منا إلى إمعان نظر لا يستخف بحجم الإشكال وخطورته. وأزعم أني منذ أواسط الستينيات وإلى يومي هذا لم أدخر جهدًا إلا بذلته في أن أُدليَ بدَلْوي بين الدِّلاء — كما يقولون — ابتغاءَ الاقتراب من حل مقبول.

٣

كنت في معالجتي للمشكلة — التماسًا لحلها — كمن يتحسس طريقه في مدينة مجهولة؛ فيحاول السير من هذا الشارع مرة ومن ذلك مرة، لعله آخر الأمر يقع على سبيل تؤدي به إلى الغاية المنشودة، التي هي أن نعثر على صيغة ثقافية نعيش بمقتضاها فلا تُعقَّد هُويتنا ولا يفلت منا زماننا.

فكانت بين المحاولات محاولةٌ بدأتُها بوضع أصابعي على سمة بارزة تفصل بين وجهتي النظر: وجهة النظر المستخلَصة من تراثنا، والأخرى المستخلَصة من ثقافة الغرب في مرحلته الراهنة. وتلك السمة هي موقف الإنسان من «الواقع»، فهنالك من الناس من يغلب عليهم الوقوف من الواقع عند ظواهره المدرَكة بالحواس، وهي نظرة تؤدي بصاحبها إذا ما وصل فيها إلى ذروتها تؤدي به إلى الموقف «العلمي» بما يميز المنهج العلمي من التزام الدقة في المشاهدة والتجارِب التي تجري على الظاهرة المبحوثة. وهنالك من الناس من يقلقه أن يقف من الواقع عند ظواهره وكفى، بل يريد أن يجاوز تلك الظواهر إلى جوهر خبيء كامن وراءها، فكأنما تلك الظواهر لا تزيد في حقيقتها إلا أن تكون «رموزًا» تشير إلى أن وراءها سرًّا، وعلى الراغب في بلوغ الحق أن يجاوزها ليكشف عن السر غطاءه. وصاحب هذه النظرة إذا هو سار بها إلى ذروتها كان «المتصوف» في مجاهدته لرؤية الحق رؤية مباشرة بعد أن يزيح عنه القناع. لكن هاتين النظرتين: العلمية والصوفية، قد تلتقيان في فرد واحد إذا استطاع أن يقسم حياته قسمين؛ أحدهما ينصرف به إلى دنياه، والآخر يلتمس به الآخرة. ولقد أسهبت القول في فصل سابق خصصته للحديث عن اجتماع العقل والوجدان معًا في الثقافة العربية، فبينت كيف أن تاريخ الثقافات يدلنا بما تركه لنا الأقدمون، كيف غلبت النظرة العلمية على اليونان — والغرب كله بعدهم — وغلبت النزعة الصوفية على الشرق الأقصى، وأما الثقافة العربية فقد كان لها القدرة على أن تضم أولئك وهؤلاء في بناء متكامل، ففيها النظر العلمي إلى أعلى ذُراه، وفيها الوجدان الصوفي إلى أعمق أغواره، فكانت هذه الثقافة العربية بجناحيها وقفة ثالثة جمعت في بنيانها بين الحسنيين.

لكن ذلك الجمع لم يتحقق لها إلا في عصور قوتها، وأما إذا دب في أوصالها ضعف؛ جنحت إلى جانب الوجدان على حساب الموقف العلمي.

ففي الفصل الذي عنوانه «الواقع وما وراء الواقع» (راجع كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر») جاء ما يأتي:

«… إن أغلب الظن عندي هو أن أوضح سمة تميز العربي في ثقافته — وذلك حين يكون هذا العربي في عصور قوته — هو أنه يوازن في دقة وبراعة بين وجهي الحياة: فللواقع المحدود المحسوس مجال، ولِما وراءه مجال آخر، بحيث لا يطغى أحد المجالين على الآخر، بل يتكامل المجالان في حياة سوية متزنة، وربما كان المعنى المقصود من الحديث الشريف بأن يعمل الإنسان لدنياه كأنه يعيش أبدًا ولآخرته كأنه يموت غدًا، هو وجوب مراعاته لهذا التوازن بين النظر إلى الواقع حين ينبغي أن يحصر رؤيته فيه، ثم النظر إلى ما وراءه، باعتبار الواقع في هذه الحالة رمزًا يشير إلى ما هو أرفع وأسمى؛ فالواقع مهما كانت قيمته إنما هو جزئية عابرة تجيء وتمضي، وأما ما يمكن أن يشير إليه، فمطلق أزلي لا يتعاوره الحدوث والفناء.»

لكن هذا التوازن في الثقافة العربية الأصيلة، بين الوقوف عند حقائق الواقع حينًا، ومجاوزته إلى ما وراءه حينًا آخر، بحسب طبيعة اللحظة التي يحياها العربي وما يكتنفها من ظروف لا تتحقق على وجهها الأكمل إلا حين تكون تلك الثقافة في مرحلة من القوة والعافية، أما في مراحل الضعف — وأحسب أننا اليوم نجتاز إحداها أو قُل على أحسن الفروض: إننا نجتاز منها مرحلة مزيجًا من قوة وضعف — فعندئذٍ ترى العربي أمْيَل إلى التركيز على الجانب الوجداني من ثقافته.

الرأي الشائع فينا اليوم هو أن العقل بعلومه (وهو لب العصر الذي نعيش فيه) عدو للوجدان ومشاعره، ولما كانت الكثرة الكاثرة منا نصيرة للوجدان، فسحقًا للعقل ومناهجه:

«… إنه كانت المفاضلة بين رأس وقلب، فلا تردد في اختيار القلب، وهل هي مصادفة أن تجد منا ألف شاعر كلما وجدت عالمًا واحدًا؟ إنه لما كثرت علوم الغرب، وامتلأت الدنيا بأجهزته ومكناته قلنا عنه: إنه «مادِّي» لعين، وأما نحن — بما نسبح فيه من ملكوت الوجدان — «مروحانيون» أنقياء وأصفياء، كأنما العلم هو من وحي الشياطين، وكأنما أجهزته ومكناته قد ركبها الأبالسة، وحذارِ أن تذكر أمامهم أن العلم الذي يتجلى في هذه الآلات هو «عقل» تجسد، أو هو «روح» ظهرت فيما أبدعته، ليصبح ذلك العقل — أو الروح — مشهودًا بعد أن كان كامنًا وخافيًا شأن كل خالق وخلقه، حذارِ أن تقول شيئًا كهذا؛ لأن الروحانية في حياتهم يستحيل أن تتدلى إلى دنس الصفائح المعدِنية تنشرها المصانع وتطويها طيارة أو سيارة أو ما شاءت … إن أغلب الناس حولنا هم أقرب إلى الظن بأن الحقيقة إنما ينطق بها البلهاء قبل أن ينطق بها العلماء.» (راجع «أزمة العقل في حياتنا» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).

ذكاء العقل إذا توقَّد، خشي الناس لعنته؛ لأنه نافذ إلى الأعماق، وهم يريدون أخذ الأمور «بالبركة» من أسطحها لا من أعماقها، ولأن ذكاء العقل يتشكك قبل أن يستقر على عقيدة، وهم يريدونها عقيدة خلصت من شوائب الشك والبحث، وكثيرًا ما تسمعهم ينعتون مثل هذا الشك المتسائل المتقصي «خوضًا» فيما ينبغي ألا يُخاض فيه. إن إعمال العقل — عند معظم الناس في بلادنا اليوم — مجلبة للشقاء؛ لأن الحياة — عندهم — تسلِّم زمامها إلى الذين يقبلونها كما ترد إليهم، عن عمًى وصَمَم … (الموضع المذكور من كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).

في مثل هذه الحالة الرافضة للعقل وعلومه ومنطقه وحسابه، يدهمنا عصرنا بثقافة تدور رحاها حول محور العلوم ودقة الحساب، فلا خيار لنا إلا واحدًا من بديلين: فإما عناد وإصرار على رفض العقل وعلومه فنذبل ونفنَى ونصبح نهبًا مباحًا لكل مَنْ أراد أن يغزوَ ويستعمر، وإما يقظة نسترد بها ما هو في مقومات العربي إبَّان قوته، وأعني توازنًا بين عقل ووجدان في بنيانه الثقافي؛ وبذلك يسهل عليه أن يساير العصر بكل علومه وصناعته وتقنياته، ثم يضيف بُعْدًا وجدانيًّا قد يتميز به دون أن يلحق به ضرر التخلف الحضاري.

«… فتستطيع أن تقول عن عصرنا هذا أي شيء تريد، لكنك لا بد ناعته بأنه عصر علمي من الرأس إلى أخمص القدم، ولا ينبغي عن العصر علميته هذه أن تراه يلجأ في دنيا الأدب والفن إلى ضروب يتحلل فيها من روابط المنطق، مستهدفًا بذلك أن يزيح عن ظهره صرامة العلم ومنطقه ولو لبضع ساعات ليستريح. وإذا قلنا عن العصر: إنه ذو طابع علمي ظاهر في أدواته وآلاته وتقنياته؛ فقد قلنا بالتالي إنه عصر يرتكز على «الواقع» وحده وإلا فهل يترك عالم الضوء — مثلًا — ظاهرة الضوء لننظر إلى ما وراءها؟ هل نريد لعالم الطبيعة الذرية أن يغض النظر عن الذرَّة التي هي موضوع بحثه ليبحث عن خفاءٍ كامن خلفها؟ لا؛ فالعلم مربوط بالواقع بأوثق الروابط، والعالم مشدود العنق إلى موضوع بحثه، يصب عليه المشاهدة ويُجْرِي عليه التجارب؛ ليستخرج خصائصه وتفاعلاته مع غيره، ثم ليصوغ له القوانين آخر الأمر في صورة رياضية؛ ليتمكن الإنسان بعد ذلك من إلجام الظواهر الطبيعية بكل ما استطاع من شكائم، فيركِّبها ويوجهها كما يفعل مهرة الفرسان في جيادهم.

فإذا شاء العربي أن يعاصر زمانه، فلا مندوحة له عن العلم ثم العلم، ثُم لا ثَمَّ بعد العلم. وإنما عَنَيْتُ العلم بمعناه الطبيعي، لا بالمعنى الذي يتصوره بعضنا «حفاظًا» لما ورد في صحائف الأقدمين، فلن تزداد عصريةً لو رَوَيْت عن ظهر قَلْب ألف ألف بيت من الشعر، لكنك تزداد عصرية لو شاركت في العلم بالإلكترون وفي تسييره لخدمة الإنسان، وكما أن الحياة يقظة للنشاط المنتج ونُعاس للراحة والأحلام، فكذلك حياة الإنسان الثقافية؛ يقظتها في دراسة العلم الطبيعي وتطبيقاته، ونُعاسها الحالم في رحاب الأدب والفن» (راجع فصل «الواقع وما وراء الواقع» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).

«… ولو أمعنتَ النظر حولك في أحاديث الناس ومسالكهم؛ لرأيت هذه الحقيقة ماثلة أمام عينيك، لا، بل إنك لتراها ملقاة أمامَك على قارعة الطريق، لا تطلب منك إمعانًا للنظر، وهي أننا لا نكاد نغفل عما وراء الواقع في حياتنا لحظة، فذلك هو طابعنا الثقافي الأصيل المميز، ولا عجب أن كنا نحن الأمة التي عن طريقها عَرفت الدنيا رسالات السماء. ومعنى ذلك أننا — بحكم الوراثة الثقافية نفسها — مُعَدُّون أتم إعداد لإضافة الباطن الخفي إلى الظاهر البادي، فإذا استطعنا — بالمشاركة في الحركة العلمية — أن نشارك عصرنا في هذا الظاهر البادي للبصر والسمع، فما أيسر علينا بعدئذٍ أن نميز أنفسنا بنظرتنا الخاصة إلى ذلك الخفي الباطن» (الفصل المذكور).

٤

ولو كانت النظرة العقلية التي جعلنا إضافتها إلى الحياة الوجدانية شرطًا ليكون العربي أصيلًا ومعاصرًا معًا، أقول: لو أن تلك النظرة العقلية في كل مجال يتطلب رؤية موضوعية، شيئًا غريبًا على الفكر العربي، لكان مطلب الأصالة والمعاصرة عسير التحقيق؛ لأنه مطلب مضاد للعربي وطريقة تكوينه الثقافي، لكن ماذا نقول والنظرة العقلية هذه هي في صميم الرؤية العربية بصفة عامة والعربية الإسلامية بصفة خاصة؟

لقد كانت للشاعر الفيلسوف محمد إقبال ملاحظة جديرة بالنظر، أوردها في كتابه «التجديد في الفكر الإسلامي»، مؤداها أن محمدًا عليه الصلاة والسلام كان لا بد أن يكون خاتم الأنبياء، وأن تكون رسالته آخر الرسالات؛ لأنه جاء ليدعوَ إلى تحكيم «العقل» فيما يعرض للناس من مشكلات، وما دمت قد ركنت إلى العقل، فلم تعد بحاجة إلى هداية سوى ما يمليه عليك من أحكام، أليس العقل — كما يقول الجاحظ — هو وكيل الله عند الإنسان؟ (راجع للجاحظ رسالة «المعاش والمعاد»)، وإنما سُمِّيَ العقل «عقلًا» — كما يقول الجاحظ أيضًا — (في رسالة «كتمان السر وحفظ اللسان»)؛ «لأنه يزم اللسان ويحظر … عن أن يمضي فرطًا في سبيل الجهل والخطأ والمضرة كما يعقل البعير …»

إنه إذا كان من أهم السمات التي تميز الوقفة العقلية من سواها، تلك الحركة الاستدلالية التي ينتقل بها الإنسان من المعلوم إلى معرفة ما كان مجهولًا، وذلك التعميم الذي يجمع الجزئيات المتناثرة والمتشابهة في الوقت نفسه، يجمعها معًا في حكم واحد يوحد بينها، فذلك هو ما تميز به العربي القديم كلما تأمل أو نظر، وكان من شأن تلك الوقفة أن استطاع ذلك العربي رد الأشتات المتفرقة في جنبات الكون الفسيح إلى وحدة تضمها ضمة الفكر الواحد لفروعها، أو ضمة العلة الواحدة لمعلولاتها، إنه وقد رأى العالم من حوله كثرة كثيرة من كائنات، لم يهدأ حتى التمس لها الرباط الذي يوحد بينها، وحين رأى اللغة تجري على قواعد أقلقه ألا يجد لهذه القواعد نفسها ما يعللها (واقرأ في هذا لابن جنِّي كتاب «الخصائص»). ولما رأى أحكام الشرع قد تشعبت، اجتهد في أن يقع لها على أسس عامة تجمعها في أصول قليلة مشتركة. وهكذا طفِق العربي يرد الكثرة إلى وحدة تبرز ما فيها من تجانس، وتميز المؤتلف بين وحداتها من المختلف؛ وبذلك استطاع أن يهيئ لنفسه سبيل «الفهم» — وما «فُهم» شيء إلا رده إلى أصله ومبدئه الذي يفسره — فوقف من العالم ومن حياته وقفة بصيرة واعية. وهكذا أيضًا ينبغي للعربي المعاصر أن يقف من عالمه ومن حياته إذا شاء أن يصل حاضره بماضيه وصلًا حيًّا نابضًا (راجع فصل «قيم باقية من تراثنا» في كتاب «تجديد الفكر العربي»).

لقد عرضت في كتاب «تجديد الفكر العربي» تحت عنوان: «ياقوتة العِقد للعلم والعلماء» بعض ما أورده صاحب العِقد الفريد — ابن عبد ربه — عن تصوره للعلم ومكانة العالم؛ لأنه يقدم لنا — في أجلى بيان — برهانًا على أن العربي المعاصر إذا ما أراد أن يضيف إلى حياته الوجدانية علوم العقل كذلك لكي يستطيع بهذه الإضافة أن يندمج مع عصره في أهم اهتماماته، فلن يجد نفسه غريبًا على الروح العلمية، وكل ما يُطْلَب منه هو أن يستفيد في نفسه روح آياته، وهاك بعض ما ورد في الفصل المذكور من كتاب «تجديد الفكر العربي»:

«… قضيت ساعة مع كتاب الياقوتة (وهو أحد فصول «العِقد الفريد») الذي خُصِّصَ للمختارات التي قيلت في العلم والأدب، وقد قصدتُ إلى هذا الاختيار عامدًا في أيامٍ نروِّج فيها للعلم وللنظرة العلمية، وللحياة العلمية، وللتخطيط العلمي، وللإشادة بالقائمين على الحياة العلمية. أقول: إني قد قصدتُ إلى هذا الاختيار عامدًا؛ لأعيش مع السلف ساعة، أستمع إليهم في موضوع هو مشغلة اليوم، لا من حيث مادة الموضوع نفسها، ولكن من حيث القيم التي كانت تضبط عمل العاملين به؛ فنحن إذ نقول ونُعيد — في إصرار وإلحاح، وفي إيمان وعقيدة: إن جهودنا الثقافية اليوم ينبغي أن تسير بنا نحو ثقافة «عربية معاصرة» تحمل موضوعات العصر واهتماماته، مصوغة في قيمٍ موروثة عن السلف؛ لنحقق بها معاصرة وطابعًا قوميًّا في آنٍ معًا، ونجمع خصوصية تاريخنا إلى عمومية الحياة العصرية المشتركة بين سائر الأقوام في نتاجٍ واحد. نحن إذ نقول هذا ونعيده، لا يجدر بنا أن نترك القول عند هذا الحد من التجريد والشيوع، بل لا بد أن نضيف إليه محاولات في التطبيق، وها هنا يتبين متى تكون تلك المبادئ معقولة ومقبولة، ومتى لا تكون …»

… أما بعدُ، فإلى القارئ صورة عشتُها مع كتاب الياقوتة من العِقد الفريد، وهو الكتاب (أي الياقوتة) الذي خُصِّص — كما قلنا — للحديث في العلم والأدب. على أنني قصرت اهتمامي هذه المرة على العلم وحده، ومع ذلك لم أتجاوز بضع صفحات، تفاعلت بها مع المادة المقروءة أخذًا وردًّا وقبولًا ورفضًا.

يبدأ المؤلف — ابن عبد ربه — كتاب الياقوتة هذا، يبدأ كما يبدأ سائر الكتب بما يسمه «فرشًا» أي مقدمة يمهد بها لموضوعه، وفي «الفرش» للياقوتة — وهو لا يزيد على صفحة ونصف صفحة — لمحات هي أنفذ اللمحات، وقفت إزاءها متسائلًا في عجبٍ وإعجاب: أتكون هذه هي الأصول والمبادئ عند أسلافنا، ثم تجد بيننا اليوم مَنْ يعد مثل هذا الحديث خروجًا يكاد يبلغ عندهم حدَّ الإلحاد والكفر؟ وأعني هنا بصفة خاصة ذلك المبدأ الذي يوجزه ابن عبد ربه ليكون أساسًا لكل معرفة علمية، ألا وهو أن تبدأ المعرفة بالحواس، ثم تتدرج من هذه البداية الضرورية بحيث تنتقل من المحسوس إلى التصور الذهني، ومن التصورات الذهنية وما يربط بينها يكون ما نسميه فكرًا، فإذا ما ترويت في مضمون هذا الفكر وجدته مثيرًا للإرادة، وما دامت الإرادة استثيرت فلا بد عندئذٍ من الأخذ بأسباب العمل.

إنني أوجه الدعوة إلى قارئي ألا يتعجل وأن يقف هنا لحظة؛ ليشبع وليرتوي بهذا المبدأ المنهجي، وها أنا ذا أُعيد أمامه أركانه الأساسية: لا معرفة مما يصح أن يسمى علمًا إلا إذا بدأت بتجرِبة الحواس؛ أي بضرورة أن ترى بالعين شيئًا، وأن تسمع بالأذن شيئًا، وبعبارة أخرى: فإن العلم لا ينبثق من باطن الإنسان كما تندفع حمم البركان من جوف الأرض، بل هو يجيء إلى الإنسان من خارجه من الدنيا التي حوله عن طريق الحواس، وإذا أنت قد شبِعت من هذا المبدأ وارتويت، رفضت بعد ذلك القبوع في عُقر الدار تستنزل رحمة العلم من السماء، وأخذت تسعى في دنيا الشهادة وفي معامل التجربة والاختبار.

هذه واحدة، والأخرى أنك بعد أن تبنيَ لنفسك بناءً فكريًّا من حصيلة المحسوسات هذه، كان المقياس الذي تقاس به سلامة البناء هو مدى استطاعتك تحويله إلى إرادة تريد وإلى عمل يُعْمَل. وأكررها مرة أخرى: «المعرفة العلمية هي في صميمها مخططات لأعمال، وليست هي بناءات تُبنى في الذهن ليتأملها الإنسان، ثم يأوي إلى مخدعه ليستريح …» (راجع الفصل كاملًا في كتاب «تجديد الفكر العربي»).

٥

لست أشك لحظة في أن أولى المشكلات في حياتنا الثقافية، والتي من تلك الحياة بمثابة قُطْب الرَّحَى، هي محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية، تجمع لنا في طيها طرفين؛ إذ تحافظ لنا على خصائصنا العربية الأصيلة، وفي الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها؛ لتستقبل — في رحابة صدر — أسس الحضارة العصرية، كما يحياها اليوم روادها.

وفي فصل عنوانه «التوفيق بين ثقافتين» (في كتاب ثقافتنا في مواجهة العصر) عرضت محاولة على شيء من التفصيل للطريقة التي يمكن أن نُخْرِجَ بها صيغة تؤدي لنا ما يوجد حلًّا للمشكلة كما عرضناها لتوِّنا. ولقد أسلفت القول في الفقرة السالفة بأنني خلال الأعوام التي شُغِلت فيها بتلك المشكلة — مشكلة الأصالة والمعاصرة — قد تناولت الموضوع من زوايا مختلفة لعلني أقع على الاتجاه الصحيح، كمن ضل طريقه في مدينة مجهولة؛ فأخذ يجرِّب أحد الطرق مرة، وسواه من الطرق مرة ثانية فمرة ثالثة. وفي الفقرة السابقة عرضت إحدى تلك المحاولات، وهي محاولة المعالجة من زاوية العلاقة في الرؤية الثقافية بين الارتكاز على ما هو «واقع» والارتكاز على «ما وراء الواقع» وإمكان الجمع بين الركيزتين في نظرتنا الجديدة؛ فنجمع بذلك في لوحة واحدة نشاط العقل في ميدان العلوم، وفاعلية الوجدان في ميادين الدين والفن والأدب؛ وبهذا يمكن الجمع بين ما هو أصيل في تراثنا وما هو معاصر.

وها أنا ذا في هذه الفقرة من الحديث أعرض محاولة أخرى أجريتُها من زاوية أخرى هي التي عنونتها «التوفيق بين ثقافتين»، جاء فيها:

… إن الموقف الحضاري للأمة العربية اليوم يتركز في سؤالين، لو أحسنَّا الإجابة عنهما تبدَّت لنا حقيقة ذلك الموقف جلية لا يشوبها غموض، السؤال الأول هو: ما هي أهم العناصر التي نعنيها حين نتحدث عن «الشخصية العربية الأصلية»؟ وأما السؤال الثاني فهو: ما هي أهم العناصر التي تتألف منها بنية الثقافة العصرية؟ فبعد الإجابة عن هذين السؤالين تكون أمامنا صورتان، وقد يسهل علينا بعد ذلك أن نلتمس السبيل إلى خلق المركب الواحد الذي يضم ما يمكن ضمه من أجزاء الصورتين، دون أن تضيع من أيهما صفة جوهرية فينتفي بذلك وجودها.

ولنبدأ لسؤالنا الأول: مَنْ نحن على الأصالة؟ ما هي مقوماتنا التي إذا تحققت في فرد أو في مجموع قلنا عنه إنه عربي أصيل من الناحية الثقافية؟ … وأول ما يرد إلى خاطري من الخصائص المميزة للوقفة العربية، عقيدة راسخة عند العربي بمستويين من الوجود، بحيث يستحيل عليه أن يخلط بينهما في التصور: فهنالك الذات الإلهية الخالقة، ثم هنالك عالم الكائنات المخلوقة لتلك الذات، وبين هذه الكائنات المخلوقة كائن أراد خالقه أن يتميز ليحمل إلى الدنيا أمانة اؤتمن على حملها ونشرها، وذلك هو الإنسان، وفي هذا الإطار العام تتحدد وجهة النظر العربية الأصيلة، ومن هذا الأصل الأول تتفرع فروع.

منها أن الإنسان كائن خلقي، بمعنى أنه مكلف بأن يحقق في سلوكه قيمة أخلاقية محددة معينة، أُمْلِيَت عليه ولم تكن من اختياره، فليس من حقه أن ينسخ بعضها، وأن يضيف إليها ما يناقضها، ولما كان هذا التكليف الأخلاقي لا يكتمل معناه إلا إذا كان الفرد الإنساني مسئولًا عما يفعل، فإن هذه المسئولية الأخلاقية بالنسبة إلى كل فرد على حِدَة تصبح أمرًا لا مفر منه، فلا يجوز أن يحملها فرد عن فرد آخر. قد تجد من الثقافات الأخرى أنماطًا أخرى، بل إن في عصرنا هذا نمطين آخرين لا يلتئمان مع الوقفة العربية التي ذكرناها، أحدهما يقول: إن القوانين الأخلاقية كغيرها من القوانين، هي وليدة الحياة الواقعة؛ فما قد ثبت على التاريخ أنه نافع جعلناه قانونًا خلقيًّا ننظم به سلوكنا، وما قد تبين على التاريخ أنه ضارٌّ حذفناه من قائمة الأعمال المقبولة، ولما كان النفع والضرر يتغيران بتغير الظروف؛ وجب علينا أن ننظر إلى مبادئ الأخلاق على أنها نسبية لا مطلقة، بحيث نكون على استعداد لأن نغير منها ما لا بد من تغييره؛ لئلا يقف عقبة في سبيل التقدم مع ما يقتضيه الزمن وحضارته.

ذلك أحد النمطين الآخرين، وأما النمط الآخر فيقول أصحابه: إن المسألة هنا ليست مرهونة بتقدم أو تأخر في طريق الحضارة، لكنها مسألة الإنسان وحريته المطلقة في أن يتخذ لنفسه ما شاء من قرار، بشرط أن يكون مسئولًا عن قراره ذاك، فليس هنالك أحد فوقه أو إلى جانبه يملي عليه ما يجب وما يجوز، بل هو البادئ بقراره بدءًا غير مسبوق بمبدأ صاغه سواه.

وواضح أن الوقفة العربية الأصيلة مختلفة عن كلا النمطين من حيث المبدأ والأساس، حتى وإن اتفقت معهما في النتيجة؛ فهي مختلفة عن النمط الأول الذي يجعل المعوَّل في السلوك الإنساني الصحيح على التجارِب، على حين أن الوقفة العربية تفرض أسبقية المبدأ الخلقي على التجارِب؛ فالصواب صواب والخطأ خطأ، بغضِّ النظر عن النجاح أو الفشل في تجارِب الحياة العملية، وليست حدود الصواب والخطأ من صنع الإنسان، ولكنها حدود شاءها الله للإنسان.

والوقفة العربية مختلفة عن النمط الثاني كذلك، الذي يجعل القرار الإنساني غير مسبوق بمعيار؛ وذلك لأن وجهة النظر العربية — كما ذكرنا — تفترض أسبقية المعيار الذي يُقاس به القرار في صوابه أو خطئه. وسؤالنا، في حدود هذه النقطة الأولى الخاصة بفلسفة الأخلاق من وجهة النظر العربية في مقابل وجهات النظر الأخرى القائمة في عصرنا، سؤالنا هو: هل يمكن التوفيق بين أن يكون الإنسان عربيًّا يحمل وجهة النظر العربية، وأن يكون في الوقت نفسه معاصرًا يحمل إحدى وجهات النظر عند المعاصرين؟ لست أدَّعي بأن مسافة الاختلاف بين الجانبين هنة هينة بحيث يمكن رأبها في سهولة، ولكنها على كل حال مشكلة تستحق منا النظر الطويل والعميق؛ لأننا لو أمسكنا بالقيم الثابتة الموضوعة لنا؛ تعرضنا لخطر الجمود، ولو سبحنا أحرارًا مع تيار الزمن وتغيراته؛ تعرضنا لزوال الشخصية وانحلالها. وغاية ما أستطيع قوله في هذا الصدد، هو أن قيمنا الأخلاقية الموروثة فيها من السعة ما يمكِّننا من التصرف في إطارها بدرجة من الحرية تكفي للحركة مع سرعة الإيقاع في عصرنا …

ومن مميزات الثقافة العربية كذلك تلك الرغبة الشديدة عند الإنسان في أن يتسامى على دنيا الحوادث المتغيرة؛ لياذًا بما هو ثابت ودائم. إن كل ما في الأرض والسماء فانٍ وزائل، متغير أبدًا متجول أبدًا، ففيمَ التمسك به وهو عاجز عن التماسك بذاته؟ أليس ثمة مرفأ بمأمن من أعاصير الفناء والصيرورة والتغير الدائب من حال إلى حال؛ لنحتمي بمثل هذا المرفأ فنسلم؟ نعم، هنالك مثل هذا المرفأ الآمن فنستطيع أن نلتمسه حتى ونحن لم نزَل أحياء في هذه الحياة الدنيا، ألا وهو الذات الباطنية التي بها تكون هُويتنا، هو «الأنا» التي تظل قائمة صامدة مهما حدث من التحول لما حولها، وهنالك مثل هذا المرفأ بمعنًى آخر، وهو مرفأ الحياة الآخرة التي هي غاية منشودة خلال كل نشاط ننشط به في هذه الحياة الدنيا.

هذا هو العربي نظرته، ينشد الخلود برغم الظواهر الزائلة، يريد أن يقهر الزمن وأن يقهر الموت، أما الزمن المتقلب بأحداثه فهو يقهره بالخروج منه إلى ما ليس زمنيًّا بطبيعته، فيلجأ إلى ذاته التي هي كائن لا زمني، كما يأمل في حياة آخرة لا تخضع هي الأخرى لعوامل الزمن، ولو كانت الحقيقة كل الحقيقة هي هذه المتغيرات المتبدلات الفانيات الزائلات التي نراها في الأشياء المحيطة بنا؛ لكان الكون — من وجهة نظر العربي — عبثًا في عبث.

وليست هذه النظرة هي ما يأخذ به عصرنا الحاضر، فتكاد المذاهب الفلسفية المعاصرة كلها تُجْمِع على تحليل كل شيء إلى ظواهره المتغيرة، دون أن تزعم وجودًا لأي كائن ثابت وراء تلك الظواهر … بما في ذلك الإنسان نفسه؛ فالكائن البشري بدوره ليس إلا مجموعة ظواهر يراها فيه الآخرون، أو يحسها هو في باطنه دون أن يكون وراء هذه الظواهر المتدفقة «ذات» ثابتة تدوم على الزمن، بل قل هذا نفسه في الوجود كله جملة واحدة، فما هذا الكون إلا خِضَمٌّ من ظواهر، ما تنفكُّ متصلة بعضها ببعض أو منفصلة دون أن يكون وراءها شيء.

مثل هذه النظرة إلى العالم إنما تجيء ملحقة بالنظرة العلمية الصارمة التي هي من خصائص عصرنا، فسؤالنا هذه المرة هو هذا: كيف ألتزم النظرة العلمية الصارمة لأُساير عصري، وأن أظل مع ذلك توَّاقًا إلى غيب وراء الشهادة، يتحقق لي فيه الخلود والدوام؛ لأظل محتفظًا بهذه السمة العربية في نظرتي؟ ومرة أخرى أقول: إنني لا أدَّعي أن مشكلة التوفيق هنا هي من الهنات الهينات، بل هي — كزميلتها السابقة — مشكلة تتطلب منا التفكير الطويل والعميق، وإني لأرجِّح أن يكون الحل في أن نعيش في عالمين يتكاملان ولا يتعارضان، بشرط ألا نسمح لأحدهما أن يتدخل في مجال الآخر: في أحدهما نعيش حياتنا العلمية بكل ما تقتضيه، ولكننا بدل أن نقول إن هذه الحياة العلمية حسبنا في دنيانا، يجب أن نقول إن إلى جانب هذه الحياة العلمية حياة أخرى فيها الأماني وفيها المثل العليا وفيها المرفأ والملاذ، فإذا كنت في الساعات العلمية من حياتي أحصر النظر في الظواهر وحدها؛ لأستخرج قوانينها برغم تغير تلك الظواهر، أما في الساعات الوجدانية من حياتي فإني أخلع عن نفسي عباءة العلم، وأسلم نفسي للتمني والرجاء، وبغير هذا الفصل الحاد بين العالمين يستحيل علينا التوفيق بين علمية العصر وصوفية الأصل الموروث.

لقد ذكرنا فيما أسلفناه جانبين من طبيعة العربية الأصيل في وقفته الثقافية، مقرونتين بما نراه منهما في الغرب المعاصر، هما: جانب الفلسفة الأخلاقية، وجانب النظرة إلى طبيعة الكون والإنسان، وليس هذان الجانبان هما كل ما هنالك من جوانب، نريد أن نحللها في حياة العربي في أصالته كما نحللها في حياة الغرب المعاصر؛ لنرى كيف يمكن — أو لا يمكن — اللقاء (راجع فصل «التوفيق بين ثقافتين» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).

٦

منذ شُغِلْتُ بالتفكير في صيغة تجمع في كيانها الواحد قيم تراثنا الأساسية وقيم العصر الراهن بعلومه وتقنياته وصناعته ونظمه، وجهت قراءتي وجهة تمكنني من الرؤية الجديدة التي نشدتها، فأقرأ ما أقرؤه من تراثنا، وما أقرؤه من فكر الغرب وأدبه، قراءةً أبحث فيها عن نقط اللقاء ما كان لهذا اللقاء من سبيل، وماذا أعني بلقاء الرافدين في نهر واحد؟ أعني أن أقرأ موروثنا من زاوية عصرنا فأجد له معنًى ذا دلالة حيوية، ثم أقرأ عصرنا فأجده مطابقًا لما كان يمكن لأسلافنا أن يقولوه، وليس التقاءً كهذا ممكنًا في كل الحالات بالطبع؛ وإذن فقد كان هدفي في الاختيار وطريقة الفهم هو البحث عن المواضع التي يمكن استثمارها.

فهنالك فيما خلَّفه لنا السلف كتابات لا نكاد نحصيها عما وراء الواقع، لكن شطرًا كبيرًا من تلك الكتابات تقرؤه فلا تدري ماذا عسى المعاصرين أن يصنعوا به، لكنك إلى جانب هذا قد تقع هنا وهناك على درر فكرية مما يمكن نقلها بحذافيرها إلى حياتنا اليوم، فإذا هي دستور صالح للعمل به مع كل ما في عصرنا من سمات، وفي مثل هذه إذا ما امتلأت شرايين حياتنا بجوانب كهذه من تراثنا، فسواء قلت عن حياتنا عندئذٍ إنها أمينة على تاريخها وهويتها الأصلية، أو قلت إنها سايرت عصرها؛ فالمعنيان هنا مترادفان؛ لأنهما متلاقيان متطابقان.

من هذا القَبيل ما وجدته عند الإمام الغزالي في كتاب صغير له عن أسماء الله الحسنى من أنها في حقيقتها «صفات» تكون مطلقة بلا حدود بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى، وتكون هي نفسها منقوصة محدودة بالنسبة إلى الإنسان، ولكنها صفات إذا اتخذ منها الإنسان هاديًا يهديه سواء السبيل في مسالك حياته تدرجت به نحو الكمال.

بعبارة أخرى: أسماء الله الحسنى تمثل منظومة من «القيم» لعلها لو وجدت المفكر القادر على ترتيبها في بناء نسقي واحد — وليس في علمي أن أحدًا من فقهاء المسلمين حاول هذه المحاولة — بمعنى أن يقام منها بناء هرمي يوضع فيه ما هو أعم في معناه فوق ما هو أخص، إلى أن نصل بهذا التدرج الصاعد إلى الصفة التي هي أكثرها تعميمًا، فيمكن القول عندئذٍ عن ذلك البناء النسقي إنه خريطة للأخلاق الإسلامية، تنبع كلها من الذروة، فليس كل ما نريده هو شرح تلك الأسماء شرحًا يبني لكل اسم معناه، ثم يتركها مفرقة، ذلك بالطبع تنوير مطلوب، لكن الهدف الأخلاقي يتحقق بطريقة أفضل لو أننا أدركنا ما بين المعاني من علاقات تتداخل بها بعض في بعض من حيث درجات التعميم والتخصيص؛ لأن مثل هذا البنيان المترابط يؤدي بمن يتشربه في سلوكه العملي إلى أن يكون هو بدوره موحَّدًا في رؤيته ووجهة نظره توحدًا ينقذه من التمزق الذي يعاني منه إنسان عصرنا، وإني لأخشى — في هذه المناسبة — أن يذهب الظن بقارئ إلى أن ما ندعو إليه من ترتيب نسقي لأسماء الله الحسنى هو بدعة، وإلا لحاولها فقهاء السلف، فأقول: إنهم حاولوا ولكنهم اكتفَوْا بخطوة واحدة على الطريق، وهي أنهم استخرجوا من تلك الأسماء عددًا قليلًا — أظنه بلغ سبعة عند بعضهم وتسعة عند آخرين — قالوا عنها إنها هي الأساس الذي تنبثق منه بقية الأسماء.

قارن بين حالتنا القائمة حين نحفظ — حتى ونحن صغار في المدارس — هذه الأسماء عن ظَهْر قَلْب، ونرددها في حياتنا اليومية بغير انقطاع، دون أن ننتبه إلى كونها صفات أخلاقية تصف الله تعالى بمعانيها المطلقة، ثم تطالب الإنسان بأن يتصف بها بما استطاع من درجة؛ فعندئذٍ نعلم أن كل صفة منها هي بمثابة إيمان ديني وتوجيه إلهي لطريقة الحياة كيف تكون؛ وإذن فالعلم والإرادة والإبداع والرحمة وغيرها أهداف للحياة كما يأمر بها الإسلام، وإني لعلى يقين من أن دستورنا الأخلاقي كما يتمثل في الأسماء الحسنى، يستغرق كل صفة يتطلبها عصرنا وغير عصرنا من سائر العصور.

ولنأخذ اسم «الحي» مثلًا نسوقه لنبين به كيف يمكن أن يتسع له الفهم ليصبح نورًا يهدينا هداية عملية، وبعد أن نفرغ مما نريد قوله في صفة «الحياة» على خريطة الأخلاق الإسلامية كما كان ينبغي لها أن تكون، سأعقب بعرض صفة رئيسية من الصفات المميزة لعصرنا وهي صفة «التقدم» ليرى القارئ مثلًا مجسدًا لما أعنيه. عندما أقول إنني ألتمس بين تراثنا ومقتضيات عصرنا نقاطًا للالتقاء.

فصفة «الحياة» — المتمثلة في اسم الله تعالى «الحي» — لها صدارة بين مجموعة الصفات المتمثلة في الأسماء الحسنى، وليست هي الصدارة التي تشير إلى مجرد الأولوية في الترتيب العددي، بل صدارة تتضمن كذلك أسبقية منطقية؛ إذ منها تتفرع سائر الصفات (وأشار إلى ذلك الفقهاء ومنهم الغزالي في كتابه الذي أشرت إليه «المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى»، راجع شرح الزبيدي لكتاب «إحياء علوم الدين»).

فماذا نعني «بالحياة» حين ندعو الإنسان إلى أخذ نصيبه منها فيكون «حيًّا»؟ المقصود بالحياة هنا جانبان أساسيان، هما: «الإدراك» و«الفعل»، فللإنسان حياة بقدر ما لديه من إدراك ومن فعل، إنه قد يتنفس ويتغذى ويتناسل، ومع ذلك كله لا يعد «حيًّا» بهذا المعنى المقصود، فشرط المعنى المقصود أن يكون على «وعي» كامل بما يدور حوله وبما تَعتلج به نفسه، ثم لا يقف أمام إدراكه هذا ووعيه موقفًا سلبيًّا؛ لأنه لو أدرك كل ما حوله ووعاه ثم لبث ساكنًا إزاءه لما تغيرت الدنيا على يديه، بل لا بد أن يكون «فاعلًا» نشيطًا منتجًا مشاركًا في دفع تيار الحياة بحياته وإلى أين يدفعه؟ يدفعه إلى حيث تسمو وترتقي؛ فالواقف على جانب الطريق ينظر إلى ركب الحياة ولا يسهم في دفعه ليس حيًّا، والذي يحاول الرجوع بتيار الحياة إلى وراء ليعود به إلى حيث بدأ ليس حيًّا، بمعنى الحياة الإيجابي الذي أسلفناه، الحي يقود ولا يقاد، ويكون متبوعًا لا تابعًا، ما دامت «الحياة» بحكم تعريفها السابق خَلقًا وإبداعًا وابتكارًا وإضافة للجديد.

كان العربي من الأولين «حيًّا»؛ لأنه ما انفك بانيًا في كل مجال: بانيًا في مجال الفكر وفي مجال الحرب وفي مجال السياسة؛ ولأنه كان تام الإدراك لدنياه، وشديد الفاعلية فيما حوله، والإدراك والفعل كما أسلفنا هما عصب الحياة بالمعنى المقصود، فإذا رأيت العربي من المتأخرين — وأعني العرب في حالتهم الراهنة — إذا رأيته سطحيًّا تحت وطأة المستعمرين، ينقاد لإمامتهم ولا يقود، ويأخذ من حضارتهم ولا يعطي، فاعلم أنه قد فقد من نفسه قيمة عليا من قيمه، ولو استردها لاسترد عروبته بها. إن العربي لا يكون عربيًّا لمجرد تكراره لهذه اللفظة ملايين المرات، إنما يكون العربي عربيًّا حين يتشرب القيم العربية الأصيلة، وأولها صفة «الحياة» بالمعنى الذي قدمناه (راجع فصل «الواقع وما وراء الواقع» في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر»).

والآن فلننتقل إلى فكرة «التقدم» التي تُعَدُّ من أهم المعاني المعاصرة تحريكًا لعجلات السير، ففي فصل بعنوان «لمسات من روح العصر» (في كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر») عرضت لأربعة مفاهيم لها تأثير عميق في حياة المعاصرين في الغرب هي «التقدم» و«المبادئ» و«التغير» و«الفردية»، وقد اخترت هذه الأفكار الأربعة لأوضح أبعادها في الفكر المعاصر، زاعمًا أن معظم القراء عندنا يمرون على هذه الأسماء وكأنهم يمرون على مفردات لغوية وقفت بمعانيها عند ما تحدده القواميس لها، مع أنها قد اكتسبت بالاستعمال — على أقلام أعلام المفكرين في عصرنا — أعماقًا لها دلالات قوية على روح العصر، فأردت أن أُطلع القارئ العربي على تلك الأبعاد ليرى روح عصره خلالها. وسأكتفي هنا بذكر ما أوردته عن فكرة «التقدم» لما بينها وبين صفة «الحياة» التي ألقيت عليها بعض الضوء منذ قليل؛ وذلك لورود اسم «الحي» اسمًا لله تعالى، وما ينبني على ذلك من وجوب أن يصبح المعنى إحدى القيم الأخلاقية عند المسلم، فمن يتشرب معنى «الحياة» كما أريد بها في ذلك السياق، ثم وجد نفسه يواجه العصر في أحد مفاهيمه الرئيسية — وهو مفهوم «التقدم» — وجد نفسه وكأنه يعيش في داره وبين ذويه. وهاك ما أوردته في الفصل المذكور: «… أحسب ألا خلاف على أن فكرة «التقدم» هي من أبرز ما يميز العصر الحديث كله لثلاثة قرون مَضَيْن إلى يومنا، فلا أظنك مصادفًا في جموع الناس أحدًا يرضى لنفسه أن يكون عدوًّا «للتقدم» في شتى جوانب الحياة العقلية والمادية، فمهما يكن مذهبه الذي يدعو إليه فهو يزعم لنفسه وللناس أنه مذهب يعمل على تقدم الحضارة بكل فروعها، وإلا لما دعا إليه.»

إلى هنا والناس على إجماع، فلنأخذ في تحليل الفكرة لنرى كم منهم يظل صامدًا في دعوته إلى «التقدم»: إنك لكي تتقدم من حالة إلى حالة لا بد أن تعد الحالة الأولى متخلفة بالنسبة للحالة الثانية؛ فالنقلة لا تكون تقدمًا إلا إذا كان وراء ذلك فرض هو أنها نقلة مما هو أسوأ إلى ما هو أفضل، لا مما هو حسن إلى ما هو حسن آخر، فضلًا عن أن تكون نقلة من الأفضل إلى الأسوأ، ومعنى ذلك في عبارة صريحة هو أن «الماضي» دائمًا وفي كل الظروف أقل صلاحية من «الحاضر»، ذلك إن زعمنا أن الحضارة «تقدم» وإلا فقدت هذه الكلمة معناها.

وها هنا نضع أصابعنا على ركيزة أولى لا محيص لنا عن قبولها إذا أردنا أن نشرب بروح عصرنا، وهي أن نزيل عن الماضي كل ما نتوهمه له من عصمة وكمال، فمهما تكن وسائل الماضي الثقافية والحضارية ملائمة لظروف عصرنا، فإذا وجدت مكابرًا يدَّعي بأنه عصري الوقفة والنظر، ثم وجدته في الوقت نفسه يتمنى لو كرَّت الأيام راجعة، بحيث يعود إلى الناس ما كان للأسلاف من رؤية وسلوك، فاعلم أن سطحه الفكري مناقض لأعماقه، وأنه بعيد عن عصره بُعْدَ ما بين السطح والأعماق، وليس يعني هذا بترًا للماضي، كلا، فبغير الماضي لا تكون للحاضر هويته، وإنما يعني تطويرًا له؛ فالشاب لا ينسخ الطفولة نسخًا، لكنه يطورها بحيث تظل هوية الشخص الواحد قائمة، والرجولة لا تنسخ الشباب، لكنها تطوره ليكون حاضر الإنسان امتدادًا لماضيه، امتدادًا لا يكرر ذلك الماضي، بل ينبثق منه كائنًا جديدًا، يحمل من ماضيه بعض ملامحه، ويضيف إليها حاضره ملامح أخرى.

إذا آمنا «بالتقدم» إيمانًا يجاوز نطقنا باللفظة صوتًا تَفُوه به الشفتان، كانت النقلة الفكرية بعيدة بعدًا فسيحًا؛ لأننا عندئذٍ سنقلب الميزان فنجعل معيارنا هو المستقبل المرجو بعد أن كان الماضي الذي خلفناه وراء ظهورنا؛ أي إن معيارنا بعدئذٍ لا يكون هو «المبدأ» بل «المنتهى»، لا ما قد كان، بل ما سوف يكون، فلو سئلنا عندئذٍ: ماذا ترى في هذا السلوك المعين يسلكه الأفراد، أو في هذا التشريع المعين تسنُّه الدولة أو في هذا الوضع أو ذاك من أوضاع الحضارة السائدة؟ لم يكن جوابنا: انتظر حتى أقيسَه إلى سلوك الآباء وتشريعهم وأوضاعهم الحضارية، بل يكون الجواب: انتظر حتى أحسب النتائج المترتبة على هذه الأشياء، فإذا وجدت النتائج مزيدًا من علم ومن صحة ومن حرية … إلخ قبلت السلوك ورضيت بالتشريع، وأقبلت على الأوضاع الحضارية الجديدة. إن المعوَّل عندئذٍ لا يكون: «ماذا كان بالأمس؟ بل يكون: ماذا سيكون غدًا؟»

٧

وقد يحسن أن أختم هذا الفصل بشيء مما ختمت به كتاب «تجديد الفكر العربي»، وهو تصوير للإنسان في درجة كماله؛ ليرى القارئ أنني إذ ألح على أن يكون «العقل وأحكامه» — لا الهوى ونزواته — هو أساس البناء، فإنني بتلك الدعوة لا أستهدف تيسير الالتقاء مع عصرنا الذي يسوده العلم فحسب، بل كذلك — وفي الوقت نفسه — أعمل على إحياء تقليد عربي قديم.

المدار في نموذج الإنسان الكامل عندهم (أعني أسلافنا من العرب) هو أن يكون «عاقلًا» بالتعريف الفلسفي الدقيق لكلمة «عقل»، فهي كلمة ما أيسر أن نقولها في سياق الحديث، ولكن ما أعسر أن نجد لها التحديد المحكم … وقد كان من الأفكار المألوفة عند المفكرين العرب فكرة جاءتهم من اليونان الأقدمين مع الترجمة التي نقلوا بها تراث أولئك اليونان، وهي أن يقاس كمال الشيء بأدائه للفعل الذي خُلِقَ من أجله، فشجرة البرتقال كمالها ليس هو نفسه الكمال بالنسبة إلى شجرة الورد، وكمال النمر أن يكون نمرًا، وكمال القط أن يكون قطًّا، ولا يجوز أن يحاسَبَ نوعٌ بكمال نوع آخر؛ وعلى هذا الأساس نفسه يكون كمال الإنسان مرهونًا بجوهره، وجوهره هو العقل، فأفضل الناس هو أقدرهم على التزام أحكام العقل فيما يفعل وما يجتنب …

وإن الناس ليتفاوتون في الطرق التي يسوسون بها حياتهم — وفق حكمة العقل — تفاوتًا ليس له نظير في أي نوع آخر؛ لأن سائر ضروب الكائنات الحية تسير على قوانين طبائعها، ليس لها في ذلك اختيار، فلا فرق يُذْكَر بين نمر ونمر ولا بين قط وقط إذا تُرِكَ وطبيعته، أما الإنسان ففي فطرته أن يختار؛ ولذلك فمن واجبه أن يكون مسئولًا عن اختياره، ومن هنا جاء التفاوت الفسيح بين إنسان وإنسان في مقدار احتكامه إلى العقل حين يختار. ويذكر لنا ابن مسكويه (في كتابه «تهذيب الأخلاق») في هذا السياق حديثًا شريفًا: «ليس شيء خيرًا من ألف مثله إلا الإنسان»، كما يذكر كذلك هذا البيت من الشعر:

ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتًا
إلى المجد حتى عُدَّ ألفٌ بواحد

على أنني أحب ألا أمضي بالحديث عند هذه النقطة، دون أن أنبه القارئ إلى فكرة هامة لو أفلتت من أيدينا فقد أفلت ركن ركين في بنية الفكر العربي، ألا وهو أنهم — أعني أسلافنا من مفكري العرب — لم يتصوروا قط أن يقتصر الإنسان على حكمة العقل، دون أن يمدها إلى فعل يؤديه بناءً عليها، فلا يكون العلم علمًا عندهم إلا إذا أعقبه العمل على أساسه … «فالقوة العالمة» — على تعبيرهم — التي تتمثل فيما نحصله من معارف وعلوم تكملها «القوة العاملة» التي تتمثل في تنظيم أمور الحياة وترتيبها.

وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفهم ابن مسكويه حين يقول: «إن ما يُخص به الإنسان من حيث هو إنسان وبه تتم إنسانيته وفضائله هو الأمور الإرادية.» كما نفهمه كذلك حين يحدد الخير أنه «فعل» ما قصد به وجود الإنسان، ويحدد الشر بأنه هو ما يعوق ذلك الفعل. وتطبيقًا لهذه القاعدة لا يكون الخير أبدًا فيمن «يتأمل» وهو ساكن، بل لا يكون الخير أبدًا فيمن يملأ رأسه بثقافات الأولين والآخرين، ثم لا «فعل» بعد ذلك يؤديه على ضوء ما قد عرف …

… وفي هذه العلاقة الوثيقة بين «العلم» و«العمل» عند المفكرين العرب، نذكر الإمام الغزالي وكتابين له، أراد بكل منهما أن يكون قسيمًا للآخر، كأنما أراد أن يعلن بألا حياة على أي درجة من الكمال إلا إذا اجتمع فيها قسط من ذينك القسيمين، وأما الكتابان اللذان أعنيهما فهما: «معيار العلم» و«ميزان العمل»، ففي الكتاب الأول يضع للعلم حدوده ويقيم له الأسس التي تضمن له الصواب، وفي الكتاب الثاني يبين كيف يجيء العمل وفق ذلك العلم.

ويرى الغزالي — كغيره من المفكرين العرب — أن صورة الإنسان الكامل لا تتحقق لنا إلا إذا حللنا النفس الإنسانية أولًا، فنراه يهيب بالباحث أن يعرِّف نفسه — كأنه في ذلك سقراط — فيقول: اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك. كما يروي في هذا السياق حديثًا شريفًا: «أَعْرَفُكُم بنفسه أَعْرَفُكم بربه.» ثم يقرر لنا في السياق نفسه أن معرفة النفس ومعرفة الله أمران متلازمان، «ومن رحمة الله على عباده أنْ جمع في شخص الإنسان — على صغر حجمه — من العجائب ما يكاد بوصفه يوازي عجائب كل العالم حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم؛ ليتوصل الإنسان بالتفكير فيها إلى العلم بالله» …

هكذا كان اتجاه أسلافنا في تصويرهم للإنسان الكامل أن يضعوا الزمام في منطق العقل لمعرفة ظاهر الكون وباطن الإنسان، فيكون ذلك مؤديًا إلى معرفة الله، فلو أننا اليوم أعدنا لأنفسنا الصورة نفسها؛ ألفينا أنفسنا في عصر العلم هذا وكأننا صانعوه لا غرباء بين أهله (اقرأ الفصل العاشر من كتاب «تحديد الفكر العربي»).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤