مقدمة الطبعة الثانية

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، قبل بضعة أشهر، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ونفِدت كل النسخ في أيام قليلة، ربما لأنه حاول التعرف إلى المكان المصري من خلال أكثر من مائتي رواية، وأكثر من ألف قصة قصيرة. وقد أشرت في الطبعة الأولى — وهو ما يهمني تأكيده — إلى أن الدراسة التي تضمنها هذا الكتاب إنما هي إفادة من مئات العدسات، تمثلها مئات الأعمال الروائية والقصصية. إن الجهد الذي بذله مؤلف هذا الكتاب لا يعدو الإفادة من قدرة الإبداع على الالتقاط والتسجيل؛ بحيث تُبين بانورامية الصورة عن المكان المصري في أبعاده المختلفة.

صارحتك — في كتابات سابقة — أن تسجيل الملاحظات من كل كتاب أقرؤه يساعدني على تفهُّم مادة الكتاب، ومناقشتها، والتوصل إلى نتائجَ تتفق أو تختلف معها. لا فارق بين عمل إبداعي ودراسة. أثمر ذلك نوعًا من القراءة الإيجابية — على حد تعبير يوسف الشاروني — متمثلةً في العديد من الكتب التي تجاوز عالمي الإبداعي — الرواية والقصة — إلى دراسة هذا العالم في الأعمال الروائية والقصصية المصرية.

كان كتابي «مصر في قصص كتَّابها المعاصرين» محاولة للتعرف إلى مصر من خلال أعمال مبدعيها في القصة والرواية، وتراكمَ — في توالي الأعوام — ما يمكن تسميته باستطرادات، أو إضافات، لهذا الكتاب. ثم اتضح لي — من مجموع ما اعتزمت أن أكتبه — أنه، على حد تعبير الطبري، «مما تفنى الأعمار قبل تمامه.» فاضطررت إلى الاختيار، وإلى الاختيار مما اخترت، ووضعت أولوياتٍ بقدرِ ما تسمح الظروف والصحة، وبقدر ما يأذن العمر. من هنا كانت كتب «نجيب محفوظ … صداقة جيلين» «آباء الستينيات …» «قراءة في شخصيات مصرية» «مصر المكان»، بالإضافة إلى الكتابَين اللذين لم يُتح لهما النشر بعد — وربما كتب أخرى تالية — «مصر الأسماء والأمثال والتعبيرات»، «البطل في الوجدان المصري».

لقد عدت إلى بعض الكتب في علم الاجتماع والتاريخ والسياسة وغيرها؛ لأصل المعلومات التي يتضمنها الكتاب، وأفدت من هذه الكتب أيضًا في التعرف إلى صورة الواقع في الأعمال الإبداعية. وإذا لم أكن فطِنت إلى أخيلة المبدعين في تصوير بعض «الأمكنة»، فهو خطأ أعِدُ بالتخلص منه، إن أسعفتْني ملاحظات قارئ الكتاب.

•••

حرَصت في هذه الطبعة أن أفيد من بعض الملاحظات التي ناقشت الطبعة الأولى، وعلى سبيل المثال، فقد أفردت «المفردات» بالتسلسل الأبجدي، ليصبح العمل أقرب إلى الموسوعية، فيسهُل على القارئ التعرفُ إلى موضع «المكان» وعلاقات الأمكنة بعضها ببعض.

وأذكر أني قابلت — بدهشة صامتة — ملاحظات تعيب إغفالي لهذا الأديب أو ذاك. وهذا الإغفال — مع تجاوزي عن التسمية — لم يستهدف شخص المبدع ولا قيمته، وإنما شغله العمل الإبداعي، ومدى إجادته في تصوير المكان. ولعلي أزيد أن اختياري للأعمال التي تضمنها هذا الكتاب لا يعني أنها الأصدق في تعبيرها عن مفردات المكان المصري؛ إنها مجرد أمثلة.

ثمة رموز مهمة للقصة أو الرواية المعاصرة، لكن الإحصاء مما يضيق به مثلُ هذا العمل. الكتاب يُعنى بدراسة المكان المصري في الأعمال الأدبية المصرية، والمكان يبدو شاحبًا في أعمال هؤلاء الأدباء، أو مفتقَدًا، فلا سبيل إلى تضمين هذا الكتاب أعمالَهم.

وعلى الرغم من أني حاولت أن أسُدَّ بعض الفجوات في هذه الطبعة، فإني أعِدُ أن أضيف — في طبعة تالية — ما يسد بقية الفجوات؛ بحيث يصبح هذا الكتاب، كما تمنيت، بانوراما متسعة الأبعاد للمكان المصري، زاخرة بالقَسِمات والملامح والتكوينات والألوان والظلال.

مصر الجديدة، محمد جبريل، ٢٦ / ١٠ / ١٩٩٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤