مقدمة الطبعة الأولى

حين تتصل إقامتي في مكانٍ ما، أو أتردد عليه بضع مرات، فإني آلَفُه، يصعُب أن أفارقه أو أبتعد عنه، إن لم أكن أقطن أو أعمل فيه. تنتفي الملامح العامة للمكان وسط الأماكن الأخرى التي تؤدي دوره، تصبح له خصوصية، تتشكل فيه صداقات وذكريات، أحرص على زيارته في كل مناسبة وبلا مناسبة.

على سبيل المثال، فإني أحب جوامع أبي العباس والبوصيري وعلي تمراز وعبد الرحمن وياقوت العرش، والساحة المقابلة لسراي رأس التين، وميدان المنشية، وشارع الميدان، وأسواق الترك والخيط والمغاربة، وميدان الخمس فوانيس، وشارع السيالة، وحلقة السمك، وشاطئ الأنفوشي، والميناء الغربية، والميناء الشرقية؛ إلخ. أحب تلك الأماكن، وأحب، بالتالي، أن أتردد عليها، لا لمجرد أنها أماكنُ ترددت عليها من قبلُ فأحببت معاودة زيارتها، وإنما لأنها أضافت إلى مسار حياتي بصورة وبأخرى. ذاكرت في صحن أبي العباس مع أصدقاء الطفولة والصبا، وتسكعت بعد العصر في شارع الميدان وسوق الخيط. أديت صلاة الجمعة والعيدين في علي تمراز. سهرت الليالي الرمضانية في ساحة رأس التين. شاهدت حلقات الذكر في أبي العباس والبوصيري والشوارع المتصلة بهما. جزئيات من تلاقي الثبات والحركة، بما يشكِّل حدثًا في حياة الفرد أو الجماعة.

انشغالي بمنطقة بحري لا يقتصر على البعد العاطفي وحده. نعم، هي المنطقة التي عشت فيها طفولتي وصباي، أَدين لها بذكريات كانت نبضًا للعديد مما كتبت. بحري منطقة حياة متكاملة، لها خصائصها التي تختلف عن سواها من المناطق، داخل الإسكندرية وخارجها. وإذا كان جو القاهرة المملوكية هو الذي دفع أستاذنا نجيب محفوظ لاختيار منطقة الجمالية نبضًا للعديد من أعماله، فإن الحياة المعاشة الخصبة والثرية هي الدافع، في الأغلب، لاعتباري منطقة بحري موضعًا لكتاباتي.

لاحظ الجميع، وعاب البعض، أن غالبية أعمالي في تلك المنطقة، المحدودة مكانيًّا، تبدأ بما بعد ميدان المنشية، وتنتهي في الساحة المقابلة لسراي رأس التين. هذه المنطقة مصدر حياة العديد من رواياتي، والكثير من قصصي القِصار. لا أتنبه إلى أنها شكَّلت الأرضية التي تحركت فوقها الأحداث إلا بعد أن أُنهي الكتابة وأضع القلم. البيت رقم ٥٤ شارع إسماعيل صبري، البيت الذي نشأت فيه، شقة الدور الثالث على وجه التحديد، فوجئت بأنها «المكان» في أكثر من عمل لي.

الشقة تطل من ناحية على الميناء الشرقية، وتطل من ناحية ثانية على شارع إسماعيل صبري، وعلى شارع رأس التين من ناحية ثالثة، وعلى جامع سيدي علي تمراز من الناحية الخلفية. موقع البيت الفريد أتاح له أن يطل على تلك الأماكن التي أحببتها؛ لأنها رافقت أعوامًا من حياتي؛ سواء بالنظر إليها من نوافذ الشقة وشرفاتها، أو بالسير أو اللعب فيها. أحببتها، فكتبت فيها وعنها. وأذكر أن بلزاك اعتذر لقارئ قصته «على من يقع اللوم» عن إسهابه في وصف الشارع الذي جرت فيه أحداث القصة. وبرَّر بلزاك إسهابه بأن ذلك الشارع هو الذي أمضى فيه سِني حياته الباكرة.

أصارحك أنه لو لم تصبح رباعيتي «بحري» بأجزائها: أبو العباس، ياقوت العرش، البوصيري، علي تمراز، أفضلَ أعمالي، فسأحزن لذلك كثيرًا. أنفقت جهدًا في استعادة الذكريات، والمشاهدة، والمتابعة، والتعرف إلى خبرات الآخرين. كان هدفي أن أقدم لوحة بانورامية لحي بحري، في عمل روائي، ولم أُشفق من الوقت الذي أنفقته في ذلك. وكان، في الحقيقة، وقتًا يكفي لقراءة وكتابة الكثير من الأعمال، فضلًا عن انشغالي حتى عما تحتاجه حياتي، كإنسان، من ملذات صغيرة.

المكان عندي لا يوصَف لذاته، لا يوصَف لمجرد تأكيد القدرة على ذلك. المكان جزء عضوي في الرواية، خيوط في نسيجها، يضيف إلى دلالاتها وإيحاءاتها وصورتها الكلية. أنا أكتب عن شارع السيالة، مثلًا، لا باعتباره شارعًا، على جانبيه بيوت ودكاكين، يسكنه الناس أو يسيرون فيه؛ إنما هو بيئة اجتماعية وثقافية، تهَبُ العمل الفني خصوصيته، عكس الحال لو أنى كتبت، مثلًا، عن شارع صفية زغلول، أو سعد زغلول، أو سيزوستريس، وغيرها. وكما يقول باشلار، فإن العمل الأدبي حين يفتقد المكانية، فهو يفتقد خصوصيته؛ ومن ثمَّ أصالتَه.

استوقفتني كلمات شتاينبك في كتابه الأشهر «حكايات مع شارلي»: «وهكذا اكتشفت أنني، باعتباري كاتبًا، إنما أعمل من الذاكرة، فأنا لم أعرف بلادي نفسها، وهكذا قررت أن أحاول إعادة اكتشاف هذه الأرض الغريبة.»

قررت أن اكتشف — لم يكن ثمة اكتشاف سابق — هذه المساحة من الأرض بين الإسكندرية ووادي حلفا. وكانت محصلة تلك المحاولة كتابي «مصر في قصص كتَّابها المعاصرين». وإذا كنت قد حاولت، في ذلك الكتاب (١٩٧٢م) تقديم أول دراسة تطبيقية متكاملة في علم الاجتماع الأدبي، فلعله أول محاولة لتناول دور «المكان» في الأعمال الأدبية. يشغلني المكان كبعد اجتماعي، كتأثر بالحياة من حوله، وتأثيره في الحياة من حوله، كتاريخ وعلاقات. اكتشاف المكان هو اكتشاف، على نحوٍ ما، للمنابع الأصلية للشخصية المصرية: الشقة، البيت، الزقاق، الحارة، الشارع، الحي، القرية، المدينة؛ إلخ.

المكان المصري — هذا هو التعبير الذي يحضرني — يعكس الحضارات التي توالت على الأرض المصرية، ما بين فرعونية وهيلينية وبطلَمية وقبطية وإسلامية عربية. إنه يعكس التواصل الثقافي منذ نشأة الحضارة إلى زماننا الحالي. ليس في مجرد المظاهر المادية، وإنما فيما يتصل بتلك المظاهر ويحيط بها؛ من سلوكيات وفنون ومعتقدات وتقاليد وأنماط حياة.

ثمة المكان الثابت؛ كالحارة والبيت والقهوة والمسجد والتكية والبار؛ إلخ. والمكان المتنقل كالكارو والحنطور والسيارة والترام وغيرها.

وهذا الكتاب، لاعتبارات منهجية وموضوعية، يقتصر على المكان الثابت؛ بأمل أن يسعفني العمر لدراسة الرواية والقصة القصيرة، في المكان المتنقل، أو يبادر بذلك أحدُ دارسينا المتخصصين، وهم كثر، والحمد لله.

مع ذلك، فإن المكان في العمل الأدبي يتحول من الثبات، السكون، الجمود، إلى ديناميكية متحركة، يتحول من مجرد إطار أو أرضية، إلى عنصر مشارك في العمل الأدبي، إلى واحد من أبطاله. بل إنه قد يصبح هو البطل الأول أو الأساس.

والأمثلة لا تعوزنا.

أما الملاحظة التي يجب التأكيد عليها، فهي أني إذا كنت قد احتفيت بمكانٍ ما، فلأن الأدباء قد احتفَوا به. وإذا شابَ التقصير تناولي لمكان، فلأن الأدباء قصَّروا في تناوله. إن مادتي هي إبداعات الأدباء في الرواية والقصة القصيرة. ووصف المكان لا يعني أن ذلك هو وصف كل الأماكن المشابهة، أو التي تؤدي نفس العمل، فقد قدمت الصور التي في حوزتي، وهي قد تكون مختلفة عن صور أخرى.

ومن المهم أن يلحظ القارئ اتساع المسافة الزمنية، فالمكان في أواخر القرن التاسع عشر يختلف عن المكان في أواخر القرن العشرين. ثمة تغيرات مؤكَّدة؛ معمارية واجتماعية وثقافية، فرضت نفسها على المكان، فبدَّلت الصورة التي كان فيها إلى الصورة التي هو عليها في الزمن القريب، أو الآني … ولعل القيمة الأهم لهذه اللوحة البانورامية للمكان المصري أنها قد التُقطت بآلاف العدسات، أجادت الالتقاط من كل الزوايا. أقصد الرواياتِ والقصصَ القصيرة التي يمكن القول إن كل واحدة منها شكلت لمسة أو أكثر، في تكوين اللوحة؛ بتعدد ملامحها وألوانها وظلالها. وبتعبير آخر، فإن هذا الكتاب صورة بحجم كتاب، التقطتها عدسات عشرات المبدعين، اختارت كل واحدة مقتطعًا وزاوية وتكوينًا. هذه العدسات هي الإبداعات الروائية والقصصية التي عبَّرت بنحو وآخر عن مفردات المكان المصري، وعلاقات الأمكنة بعضها ببعض. أما دوري، فقد اقتصر على الاختيار والتصنيف والترتيب. وهو دور — لا أدَّعي التواضع فأقلل منه — كان من الصعب أن يوفق في تقديم هذا الكتاب، لولا إفادتي المؤكَّدة من جهود الآخرين.

وأذكر أني وصلت بعضَ الفقرات — لكي يستقيم التواصل — بمعلومات جغرافية وتاريخية، وأفدت في أحيان قليلة من بعض أعمالي الإبداعية التي صورت جوانب في المكان المصري، غابت في تقديري عن إبداعات الآخرين.

وهذه الدراسة تقتصر على المكان في الأعمال الروائية والقصصية المصرية. وفيما عدا استثناءات فرضتها اعتبارات مهمة، فإن ١٩٩٠م هو آخر تاريخ إصدار للأعمال التي تناولها هذا الكتاب.

أرجو أن أكون قد وُفقت.

محمد جبريل، مصر الجديدة، ٢٣ / ٨ / ١٩٩٤م

***

(لكثرة الهوامش، فقد أحلنا كل قصة إلى المجموعة، وكل موقف روائي إلى رقم الصفحة، مع إشارة كاملة إلى المصدر في نهاية الكتاب.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤