خاتمة الكتاب

الكونفوشيوسية في القرنين العشرين والحادي والعشرين

سيواجه التأثير العميق للتعاليم الكونفوشيوسية على السياسة والمجتمع والفكر في الصين، في فترة ما قبل الحداثة؛ نقدًا قاسيًا من قيادات حركة «الرابع من مايو» القومية في العقود الأولى من القرن العشرين. فقد نظَّم الطلاب والعمال في الصين احتجاجات واسعة، بداية من الرابع من مايو عام ١٩١٩، لاستيائهم من الاعتداءات على السيادة الصينية من القوى الإمبريالية الغربية واليابان من ناحية، وضعف الحكومة الصينية الجمهورية التي أُسست حديثًا (١٩١٢–١٩٤٩) من ناحية أخرى. وكرَّس إصلاحيو هذه الحركة أنفسهم لبناء دولة قوية، «حديثة» قبل كل شيء، تقدر على أن تُبوِّئ نفسها مكانًا يليق بها في العالم. ومن أجل بناء الصين الحديثة هذه، بحث الإصلاحيون أولًا عن مصدر ضعفها. ووجدوا أن مصدر الضعف يكمن في الكونفوشيوسية.

في أواخر العقد الأول من القرن العشرين والعقد الثاني منه، شنَّ الإصلاحيون هجومًا مباشرًا على التقليد الكونفوشيوسي، مُصرِّين على التخلص من «السيد كونفوشيوس» وأعرافه ومعتقداته البالية، إذا أرادت الصين حقًّا أن يصبح لها مجتمع قوي وفعَّال. وهتفوا: «فليسقط كونفوشيوس»، و«لنكسر أفكار كونفوشيوس القديمة». كانت هناك حاجة إلى نظام جديد تمامًا، هذا وإن اختلف الليبراليون من أمثال هو شي (١٨٩١–١٩٦٢)، والماركسيون من أمثال تشن دو شيو (١٨٧٩–١٩٤٢) حول الشكل المحدد لهذا النظام الجديد، فإنهم اتفقوا على أنه حان الوقت لهجر تعاليم كونفوشيوس لصالح الديمقراطية والعلم.

في عام ١٩١٨، نشر لو شون (١٨٨١–١٩٣٦)، الذي يُعَد أعظم كاتب صيني في القرن العشرين على الأرجح، قصة قصيرة تُسمَّى «مذكرات رجل مجنون»، لدعوة بني وطنه للتحرر من قيود الثقافة الكونفوشيوسية. يحكي لو شون في عمله عن رجل مجنون قضى ليلةً كاملة في قراءة التاريخ، حيث ظهرت له الكلمات «الفضيلة الحقَّة، والاستقامة، والأخلاق الحميدة» في كل صفحة قرأها. لكن كلما انقضت ساعات الليل، واستمرت عملية القراءة، «بدأ يرى ما بين السطور، وامتلأ الكتاب بكلمتين اثنتين «الْتهم البشر».» وهكذا كانت «مذكرات رجل مجنون» نقدًا عنيفًا للتقليد الكونفوشيوسي. فالكونفوشيوسية، وهي تلتحف بعباءتَي الصلاح والاستقامة، التهمت لحوم أتباعها ودمرتهم في حقيقة الأمر، ونظامها الهرمي، الذي أصرَّ على برِّ الأبناء بآبائهم، وخضوع النساء، وطاعة الأدنى للأعلى مقامًا، سرق من أتباعه استقلالهم وحيويتهم، وسحق الروح البشرية داخلهم.

لعبت أحداث القرن التاسع عشر دورًا كبيرًا في تشكيل مواقف المفكرين، مثل تشن دو شو ولو شون. أُجبرت الصين، بعد أن سحقتها القوى الإمبريالية بداية من ١٨٣٩، على فتح ما يُسمَّى بمَواني المعاهدات للأجانب على مدار هذا القرن، والاعتراف بحق هؤلاء الأجانب في محاكمتهم في الصين وفقًا لقوانينهم (فيما عُرف بالحصانة من الاختصاص المحلي)، ودفع تعويضات كبيرة لمجموعة من القوى الإمبريالية، والتنازل عن مناطق للبريطانيين واليابانيين. وأصبح واضحًا للصينيين وضوحًا لا لبس فيه أن حقوقهم السيادية، شعبًا وأمةً، قد تعرضت للانتهاك الصارخ من قِبل المعتدين الأجانب.

ربما اتفق رجال السياسة والمفكرون، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حول ضرورة الإصلاح من حيث المبدأ، في حال رغبة الصين في مجابهة تحدي القوى الغربية واليابان. لكنهم أدركوا أن العثور على برنامج إصلاحي متماسك يمكنهم جميعًا الاتفاق عليه أمرٌ أكثر صعوبة مما تخيَّلوا. تمحور أكثر الخلاف حول تلك الموازنة التي يجب تحقيقها بين تبنِّي الطرائق والعلوم الغربية، وبين الحفاظ على القيم الكونفوشيوسية التقليدية. وفشلت مساعي الإصلاح بسبب تعطيلها بمثل هذه الصراعات، بالإضافة إلى المواجهات داخل البلاط، والضغوط الإمبريالية المتزايدة. وفي عام ١٩١٢، سقطت أسرة تشينج، نتيجةً لفشل هذه المساعي إلى حد كبير، وأنهت بذلك تاريخ الحكم الإمبراطوري في الصين الذي استمر لألفَي سنة.

لم يُظهِر قادة حركة «الرابع من مايو» أيَّ تردد بشأن المسار الذي يجب أن تتخذه الدولة بعد ذلك. إذ لا بد أن تنفصل الصين عن تراثها الكونفوشيوسي انفصالًا تامًّا إذا ما أرادت إرساء نظام قوي جديد. كان التخلي عن الكونفوشيوسية، بالنسبة لبعض أعضاء الحركة، يعني البحث في مكان آخر عن تقاليد فكرية وأيديولوجيات سياسية يمكنها تلبية احتياجات الصين في القرن العشرين. وجَّه تشن دو شيو، ولي دا تشاو (١٨٨٨–١٩٢٧)، قائدا حركة «الرابع من مايو»، أنظارهما إلى الثورة الروسية التي قامت عام ١٩١٧، وإلى كتابات ماركس. ونظَّما، نظرًا لكونهما أعضاء هيئة تدريس بجامعة بكين، مجموعات دراسية ماركسية غير رسمية في حرم الجامعة، تولدت منها مجموعة من المفكرين العالمين بالتعاليم الماركسية والمخلصين لها. وفي عام ١٩٢١، أسَّس تشن ولي الحزب الشيوعي الصيني في شانغهاي. وهكذا، وفَّرت دعوة حركة «الرابع من مايو» للانفصال عن التقليد الثقافي الأصلي، الأساس المطلوب لإنشاء الحزب الشيوعي في الصين.

بالطبع، لم يكن جميع الصينيين متحمسين لنبذ الكونفوشيوسية بالكلية. فقد واصل بعض المفكرين البحث عن المعنى في التقليد الكونفوشيوسي. على سبيل المثال، عارض ليانج شومنج (١٨٩٣–١٩٨٨)، في كتابه «ثقافات الشرق والغرب وفلسفاتها»، أعضاء حركة «الرابع من مايو»، مؤكدًا أن الثقافة التقليدية الصينية، والكونفوشيوسية بشكل خاص، يمكنهما — ولا بد لهما في واقع الأمر من — المساعدة في إعادة بناء الصين في القرن العشرين. كما أنه في المناطق النائية، البعيدة عن المراكز الحضرية التي تُقام فيها الإصلاحات والثورات، كان لا يزال الكثيرون يعتنقون ويمارسون طقوس الكونفوشيوسية وقيمها، وواصل الكثير من الأطفال هناك قراءة الكتب الأربعة، بالإضافة إلى الكتب «الحديثة» للمنهج المدرسي الجديد.

كما ظلَّ الحزب الوطني، بقيادة شيانج كاي-شيك (أو جيانج جي شي، ١٨٨٨–١٩٧٥)، يجد فائدة في الكونفوشيوسية، لا سيما أنها أيديولوجية يمكنها مكافحة الشيوعية والحزب الشيوعي الصيني. وفي عام ١٩٣٤، أطلق شيانج حركة «الحياة الجديدة»، داعيًا للإحياء الأخلاقي للدولة وشعبها. وأصرَّ، مرددًا إحدى أفكار كونفوشيوس الأساسية، على أن الأقوياء أخلاقيًّا هم القادرون على بناء أمة قوية عسكريًّا واقتصاديًّا ومعنويًّا. وحضَّت الحركة بشكل خاص على الفضائل الأربعة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتقليد الكونفوشيوسي؛ الآداب الطقسية، والاستقامة، والأمانة، والحياء. وفي خطابه الافتتاحي للحركة، في سنة ١٩٣٤، قال شيانج:

تُعَد الفضائل الأربعة المبدأَ الأساسي لتعزيز الأخلاق الحميدة. فهي تشكِّل القواعد الكبرى للتعامل مع الآخرين والشئون البشرية، وتزكية النفس، وتكيُّف المرء مع الأجواء المحيطة به. ومَن ينتهك هذه القواعد من الأفراد فسيفشل، ومن يتجاهلها من الأمم فسيهلك.

لكن لم تدم حركة «الحياة الجديدة» طويلًا؛ لأنها فشلت في جذب اهتمام أو دعم سكان الحضر بالمقام الأول، وهم الجمهور الذي كانت تستهدفه. وفي بضعة أعوام، ذهبت هذه الحركة طي النسيان بشكل كبير، باستثناء اعتبارها مؤشرًا على فشل حكومة الحزب الوطني في توحيد الشعب الصيني خلف أيديولوجية وهدف قومي مشتركَين.

انتهت الحرب الأهلية، التي دامت لعقدين، بين الوطنيين بقيادة شيانج كاي-شيك والحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي دونج (١٨٩٣–١٩٧٦)، في عام ١٩٤٩، عندما أُجبرَ شيانج على الهرب مع حكومته إلى تايوان. وفي الأول من أكتوبر، وقف ماو المنتصر فوق بوابة السلام السماوي (تيانانمن)، وأعلن تأسيس جمهورية الصين الشعبية. أصرَّ ماو على أنه كي تتولى البروليتارية السلطة في الصين الشيوعية في نهاية المطاف، فلا بد من استمرار الصراع الطبقي؛ فالمجتمع المتناغم، القائم على العلاقات الهرمية التي يؤيدها أتباع الكونفوشيوسية، كان هو عدو البروليتارية والدولة الشيوعية.

fig10
شكل ١: أمر ماو تسي دونج، في بداية الثورة الثقافية في ١٩٦٦، الحرس الحمر بتحطيم كل آثار الكونفوشيوسية. في هذه الصورة يدمِّر الحرس الحمر التماثيل في معبد كونفوشيوس في تشيوفو (بمقاطعة شاندونج).

لكن كونفوشيوس لم يتعرض للهجوم في أول خمسة عشر عامًا من حكم جمهورية الصين الشعبية. وسيتغير ذلك في أغسطس ١٩٦٦ عندما أقام ماو الثورة الثقافية بهدف الإطاحة بأعضاء الحزب الذين لا يشاركونه رؤيته في كيفية تحويل الصين إلى مجتمع بروليتاري. ودُعي شباب المراكز الحضرية، الذين نظمهم في مجموعات عُرفت بعد ذلك بالحرس الحمر، للثورة بصفة مستمرة، وتحطيم العناصر البرجوازية في المجتمع، ومساعدة ماو في تطهير قيادة الحزب من أعدائه. وفي غضون أسابيع قليلة فقط من اندلاع الثورة الثقافية، أمر ماو الحرس الحمر بهدم «الأربعة القدامى»؛ الأعراف القديمة، والثقافة القديمة، والعادات القديمة، والأفكار القديمة. وترَكَ لهم اختيار الطريقة الأنسب لتنفيذ تعليماته.

ومن الواضح أن الكثيرين ساوَوا بين «الأربعة القدامى» والكونفوشيوسية. وفي أوائل نوفمبر ١٩٦٦ وضعت كتائب الحرس الحمر في جامعة بكين للمعلمين أعينها على منزل أسلاف كونفوشيوس في مدينة تشيوفو التابعة لمقاطعة شاندونج. وتقدم الحرس الحمر إلى تشيوفو، مستحضرين لغة حركة «الرابع من مايو»، حيث نصَّبوا أنفسهم «دولة الوصل المتمردة الثورية لكسر أفكار كونفوشيوس القديمة». وفي غضون شهر كانوا قد دمروا بالكلية معبد كونفوشيوس، وقصر عائلة كونج، ومقبرة كونفوشيوس (بما فيها قبر المعلِّم)، وجميع التماثيل، والشواهد الحجرية، والبقايا الأثرية الموجودة في المنطقة. وفي ٢٩ نوفمبر من العام نفسه أرسلوا برقية إلى بكين يحتفلون فيها بإنجازاتهم، وقالوا:

رئيسنا الغالي ماو

يود مائة ألف ثائر أن ينقلوا إليكَ تطورًا مثيرًا؛ لقد تمرَّدنا! تمرَّدنا! فككنا تمثال الابن الثاني لعائلة كونج (كونفوشيوس)؛ وحطَّمنا اللوحة التذكارية التي تشيد ﺑ «معلِّم العشرة آلاف جيل»؛ وسوَّينا قبر كونفوشيوس بالأرض؛ وهشَّمنا الشواهد الحجرية التي تتغنى بفضائل الملوك والإمبراطوريين الإقطاعيين؛ وسحقنا كل التماثيل في معبد كونفوشيوس!

وفي يناير ١٩٧٦ كتبت وحدةٌ أخرى من الحرس الحمر مقالةً في صحيفة «بيبولز ديلي» تقول:

إن النضال ضد كونفوشيوس، والإقطاعية، والاستئصال التام … للكونفوشيوسية الرجعية، هو إحدى مهامنا المهمة في الثورة الثقافية العظيمة.

بعد ذلك، كي يثبت الحرس الحمر موقفهم، شنوا حملات مستعرة في جميع أرجاء البلاد، وراحوا يدمرون المعابد والتماثيل والمعالم التاريخية والكتب وكل ما له صلة بالحكيم القديم.

انتهت الثورة الثقافية بموت ماو في ١٩٧٦. وفي سنة ١٩٧٨، علا نجم القائد دينج شياو بينج (١٩٠٤–١٩٩٧) في الصين، حيث بدأ سلسلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية، فقضى تمامًا على هدف الماوية السامي المتعلق بالصراع الطبقي والثورة المستمرة. ومنذ عام ٢٠٠٠، لم تتحدث القيادة في بكين، التي كانت متحمسة لتعزيز الرخاء الاقتصادي ودعم الاستقرار الاجتماعي، عن الحاجة إلى الصراع الطبقي، بل تحدثت عن التطلع إلى تحقيق «مجتمع متناغم»، واستشهدت بجزء من كتاب «المختارات» في استحسان، والذي يقول: «التناغم أمرٌ لا بد من الحفاظ عليه» (١: ١٢). وجُدد مجمع كونفوشيوس في تشيوفو، حيث يُحتفل الآن بيوم مولده سنويًّا في أواخر شهر سبتمبر. وفي السنوات الأخيرة، أنشأت الكليات والجامعات في أنحاء الدولة — مثل جامعة بكين، وجامعة تشيوفو للمعلمين، وجامعة رنمين، وجامعة شان سي للمعلمين، وجامعة شاندونج، على سبيل المثال لا الحصر — مراكز للبحوث والدراسات الكونفوشيوسية. وفي الاحتفالات الافتتاحية لأولمبياد ٢٠٠٨، رحَّبَت لجنة بكين المنظِّمة للألعاب الأولمبية بالضيوف القادمين من جميع أنحاء العالم بتحيات من «المختارات»: «أليس من السعادة أن يفد عليك الأصدقاء من شتى بقاع الأرض؟» و«كل البشر في إطار البحور الأربعة إخوة»، وليس بأقوال من كتاب ماو «الكتاب الأحمر الصغير». ومن اللافت للنظر أنه عندما بدأت الحكومة الصينية بتمويل المراكز لدعم دراسة اللغة والثقافة الصينية في المدارس والجامعات الأجنبية حول العالم في ٢٠٠٤ — وهي خطوة اعتُبرت محاولةً لتوسيع «القوة الناعمة» للصين — اختارت تسمية هذه المراكز بمعاهد كونفوشيوس.

فسَّر العديد من المراقبين تلك المباركة من جانب الحكومة الصينية للكونفوشيوسية بأنها جزء من محاولتها الكبرى، في مواجهة الاحتجاجات المتصاعدة بشأن عدد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، لتعزيز الاستقرار والنظام والتناغم. لكن لا يبدو أن هذه النظرة الإيجابية تجاه كونفوشيوس وتعاليمه اقتصرت على جمهورية الصين الشعبية وحكومتها فحسب في السنوات الأخيرة. فقد امتدت إلى الشعب الصيني أيضًا. في ثلاثينيات القرن العشرين تلقَّى العامة محاولات الوطنيين لإحياء مُثل كونفوشيوس، من خلال حركة «الحياة الجديدة»، بعدم اكتراث (وفي بعض الأحيان، باحتقار). لكن في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين يبدو أن هناك اهتمامًا حقيقيًّا بين الصينيين، خاصةً الطبقة المتوسطة من سكان الحضر، باعتناق تعاليم الحكيم القديم. وفي عام ٢٠٠٦، دُعيَت أستاذة دراسات إعلامية في جامعة بكين للمعلمين، وهي غير ذائعة الصيت، واسمها يو دان، لإلقاء سبع محاضرات عن الكونفوشيوسية، في برنامج يُبَث على التليفزيون المحلي بعنوان «غرفة المحاضرات». صارت يو دان أشهر من النار على العَلم، بعد أن شرحت أهمية كتاب «المختارات» في الحياة اليومية المعاصرة، بأسلوب يناسب الشخص العامي غير المتخصص. فقد لمست محاضراتها قلوب الصينيين. وعندما ظهر كتابها، الذي ألَّفته استنادًا إلى هذه المحاضرات، «تذوق يو دان للمختارات» في ديسمبر من العام نفسه، بيعَ منه ما يزيد عن عشرة آلاف نسخة في يوم الإصدار نفسه؛ وبيع ١٫٥ مليون نسخة في غضون أربعين يومًا، وطُبع ما يُقدَّر بستة ملايين نسخة غير شرعية بحلول سبتمبر ٢٠٠٧.

إن نجاح كتاب يو دان ما هو إلا انعكاس لاهتمام الصينيين المُجدَّد بالتقليد الكونفوشيوسي الأصلي. فقد بدأت تظهر المدارس الكونفوشيوسية الخاصة، حيث يقضي الأطفال من سن الثالثة إلى الثانية عشرة عطلة الأسبوع في تعلُّم وحفظ الكتب الأربعة، في أنحاء الدولة، وكذا الأكاديميات المستوحاة من وحي التقليد والمجموعات الدراسية، حيث يجتمع طلاب الجامعات والبالغون لمناقشة الكتب التراثية وأهميتها. والبعض، مثل مجموعة ييدان التي مقرها بكين، طلب من أعضائه الانخراط في المجتمعات التي يعيشون فيها، والتشجيع على الفهم العميق للقيم الكونفوشيوسية التقليدية، من خلال إلقاء المحاضرات في المدارس الثانوية والكليات، وتلاوة الكتب الكونفوشيوسية بصورة جماعية في الحدائق العامة وما شابه. في الحقيقة، بلغ الاهتمام الشعبي بالتقليد الكونفوشيوسي مداه الآن، فقدَّمت جامعة بكين وجامعة تسينج-هوا، وهما من أعرق الجامعات في الصين، «حصص دراسة وطنية» مكثفة لرجال الأعمال بشكل خاص (بتكلفة تصل إلى ما يقرب من ٨ آلاف دولار ﻟ ٣٦ ساعة دراسة)، بهدف تعريف المنشغلين بالتجارة بالكلاسيكيات، ولا سيما الكتب الأربعة.

يوضح المراقبون أن «إحياء» الاهتمام الشعبي بالتقليد الكونفوشيوسي في القرن الحادي والعشرين كان نتيجة لمجموعة من العوامل. فقد خلق الإخفاق الماركسي اللينيني فجوة أيديولوجية، دفعت الناس إلى البحث عن وسائل جديدة لفهم المجتمع، ومصادر جديدة للحصول على الإلهام الروحي. كما دفعت ثقافة الطمع والفساد السائدة — التي أنشأتها الإصلاحات الاقتصادية وما صاحبها من الاحتفاء بالثروة — إلى البحث عن مجموعة من القيم من شأنها معالجة هذه الأمراض الاجتماعية. والأهم من ذلك، أشعلت المشاعرُ القومية المتصاعدة الرغبةَ في العثور على معنًى «داخل التقليد الأصلي»، وموازنة الآثار الخبيثة للمادية والانحطاط الأخلاقي الغربيَّين.

مما سبق، يتضح لنا أن كونفوشيوس قد أدى أدوارًا متنوعة في الصين في القرنين العشرين والحادي والعشرين. لقد تلقى المدحَ حينًا، وحُط من قدره حينًا آخر، لذا، ظهر في دور البطل والشرير في الوقت نفسه. لكن بغضِّ النظر عن كونه صالحًا أو طالحًا، فقد كان حضوره دائمًا. ويبدو أن كونفوشيوس بدأ ينال استحسان الشعب من جديد في الدوائر الرسمية وبين العامة. لكن ليس من السهل تخمين ماذا يحمل المستقبل له ولتعاليمه. كل ما يمكننا أن نجزم به هو أن كونفوشيوس وتعاليمه ستظل لها أهمية كبيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤