الفصل الثاني

الفرد وتهذيب النفس في تعاليم كونفوشيوس

اشتهرت مقولةٌ بين الناس تقول: «الإمبراطورية والدولة والأسرة»؛ أي إن أساس الإمبراطورية هو الدولة، وأساس الدولة هو الأسرة، وأساس الأسرة هو الفرد.

(منشيوس، ٤أ: ٥)

حضَّ كونفوشيوس وأتباعه الأفراد أن يكونوا أُسوة حسنة. فهم يدفعون الآخرين لاتباع السلوك القويم احتذاءً بهم. فعندما يمارسون الطقوس ويحترمون الحقوق المتبادلة لتوطيد ما يُسمَّى بالعلاقات الخمسة، وهي علاقة الوالد بالابن، والحاكم بالمحكوم، والزوج بالزوجة، والأخ الكبير بالأخ الصغير، والصديق بالصديق، فإنهم يُقدمون نموذجًا مثاليًّا لكل من حولهم للاقتداء به، وبناءً على هذا، يسود الوئام في العائلة وفي المجتمع والإمبراطورية.

يفسر الدورُ البارز الذي يلعبه الفرد في بناء النظام الاجتماعي السياسي الصالح الاهتمامَ الشديد الذي أولته تعاليمُ كونفوشيوس، على مر العصور، لعملية تهذيب النفس. فنرى كونفوشيوس يحثُّ الجميع على الانشغال بعملية التربية الأخلاقية؛ لأن كل فرد منهم قادرٌ على التأثير الأخلاقي الإيجابي في الآخرين. وقد نصَّ كتاب «التعليم الكبير»، وهو أحد الكتب الكونفوشيوسية الكلاسيكية، على هذا الأمر بوضوح: «مِن ابن السماء إلى عامة الناس، أي الكل بلا استثناء، يجب أن تنظروا إلى عملية تهذيب النفس على أنها الأصل.» هذا يعني أن التعاليم الكونفوشيوسية تحض أتباعها جميعًا، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، على اعتبار عملية تهذيب النفس أنها نقطة الانطلاق في سعيهم إلى الطريق الحق. فهي أساس أو «أصل» سعي أتباع الكونفوشيوسية المخلصين لإحياء الآداب، والتناغم والرقي الطقسي في المجتمع الصيني.

fig2
شكل ٢-١: الفقرة الافتتاحية من كتاب «المختارات» لكونفوشيوس، حيث مُزج كلام المتن بتعليقات (مكتوبة بحروف صغيرة) لباحث الكونفوشيوسية الجديدة تشو شي (١١٣٠–١٢٠٠).

إن هدف الفرد من تهذيب النفس هو أن يصبح «جون تسي». وهو مصطلح صيني امتاز بتاريخه الطويل بحلول عصر كونفوشيوس. والمعنى الحرفي لهذا المصطلح المكوَّن من مقطعين هو «ابن الحاكم»، والمعنى الاصطلاحي هو النبيل أو الشريف من أسرة تشو. وكي يكون المرء «جون تسي»، لا بد أن يكون منحدرًا من النخبة الاجتماعية السياسية؛ فالفرد يحصل على هذه المرتبة بطريق التوارث أو النسب. أخذ كونفوشيوس هذا المصطلح ومنحه تعريفًا جديدًا محدَّدًا. فأصبح يشير، بحسب الاستخدام الجديد، إلى الشخص النبيل لا بسبب أصله الاجتماعي السياسي، بل بسبب معاييره الأخلاقية. وعرَّف كونفوشيوس «جون تسي» بالشخص الكامل الفضيلة الذي يدفعه التزامه بقواعد التقليد الطقسية إلى معاملة الآخرين باحترام وتوقير، والسعي من أجل اكتساب الفضائل الرفيعة مثل التواضع، والإخلاص، والوفاء، والاستقامة، والشفقة.

نجد كونفوشيوس، عبر كتاب «المختارات»، يقارن بين الشخص الكامل الفضيلة هذا و«شاو رن»؛ أي «الشخص الوضيع». إن الأخير هو الشخص الذي لا يلتزم بقواعد السلوك، ولا يختار اتباع طريق الفضيلة. فهو وضيعٌ من الناحية الأخلاقية. في إحدى المرات، ميَّز كونفوشيوس بين الاثنين بوضوح على النحو الآتي: «قال المُعلم: «الحق هو دافع الرجل الكامل الفضيلة [«جون تسي»]، والمنفعة هي دافع الرجل الوضيع [«شاو رن»]»» (٤: ١٦). وقد أحدث التعريف الجديد الذي وضعه كونفوشيوس لمصطلح «جون تسي» تحولًا مهمًّا في كتاب «المختارات». ففي السابق كان الشخص لا يستطيع السعي لينال مرتبة «جون تسي» — سواء انحدر من طبقة «جون تسي» أم لا — والآن صار بإمكان كل شخص، ولو نظريًّا، الوصول إلى هذه المرتبة إذا نجح في تهذيب نفسه. بهذه الطريقة يطرح كونفوشيوس تحديًا جديدًا أمام معاصريه؛ إذ يستطيع كل فرد أن يصير شخصًا نبيلًا من خلال السعي.

(١) دور التعلم

أساس عملية تهذيب النفس، كي يصبح المرء كامل الفضيلة، هو التعلم. وهذا قد يفسر سبب افتتاح كتاب «المختارات» بالآتي: «قال المُعلم: «أليس تعلُّم شيء جديد وممارسته بصفة مستمرة أمرًا ممتعًا؟»» (١: ١). وكونفوشيوس في التعليقات المنثورة في بقية هذا الكتاب يعلن أنه لو كان ثَمة ما يميزه عن الآخرين فهو ببساطة ولَعُه بالتعلم: «قال المُعلم: «في مزرعة من عشرة بيوت، لا بد أن هناك مَن يشبهني في الوفاء والإخلاص، لكن ليس هناك مَن يشبهني في ولعي بالتعلم»» (٥: ٢٨). فهذه المحبة الشديدة للعلم هي ما يميزه عن الآخرين، ويجعله أسوة حسنة لهم.

وبالتوازي مع رأيه الذي يرى أن كل فرد يُمكن أن يصير «كامل الفضيلة»، يدافع كونفوشيوس عن أحقيَّة الجميع في التعلم. ويطالب بعدم وجود حواجز اجتماعية أو اقتصادية أمام تحقيق ذلك قائلًا: «لا يجب أن يكون هناك تمييز طبقي في تعليمك للناس» (١٥: ٣٩). وبالنسبة إلى تصدُّره للتدريس، يعلِّق قائلًا: «لم أرفض تعليم أي شخص جاء إليَّ بإرادته الحرة، ولو في مقابل ثمن زهيد، مثل القليل من اللحم المجفف.» كان المعلم يعتقد أن أي شخص لديه شغف صادق بالعلم، بصرف النظر عن طبقته الاجتماعية، لديه فرصة في الترقي أخلاقيًّا، بل حتى في بلوغ مرتبة الرجل الكامل الفضيلة.

لقد كان الباحثون متعجلين — ومحقين — عندما أشاروا إلى أن كونفوشيوس رغم دعمه لإتاحة التعليم للجميع، فإن قليلًا من الأشخاص في عصره، من الناحية العملية، توفرت لهم فرصة تلقي هذا النوع من التعليم. هذا لأنه كان ببساطة باهظ التكلفة بالنسبة لغالبية السكان الصينيين الذين كان معظمهم يعملون في حرفة الزراعة، ويعيشون على حد الكفاف. كان هناك عدد قليل من العائلات التي تقدر على التخلي عن مساعدة أبنائها في زراعة أرضها، ولو حدث ذلك، فإنها كانت تُلزَم بعد ذلك بتوفير الأدوات الدراسية من الفُرَش والحبر والورق والكتب الباهظة التكلفة التي بذل الكتَّاب جهدًا بالغًا في كتابتها بخط اليد، وأخيرًا، لم تكن الدولة تدعم عملية التعليم، واستلزمت إجادةُ القراءة والكتابة فقط، عادةً، الاستعانةَ بمُدرس خاص، كان يطلب «هدايا» أو أجرة من كل تلميذ من أجل إعالة نفسه.

ويرتبط استعداد المعلِّم للتدريس لأي شخص يأتي إليه بتوفر شرط مهم؛ أن يكون الطالب صادق العزم على التعلم. يخبر كونفوشيوس أتباعه — وهو يتأمل مساره الأخلاقي — أن رحلته لبلوغ المثالية الأخلاقية بدأت في سن الخامسة عشرة: «وجهت عقلي وقلبي نحو التعلم.» وكي يضم كونفوشيوس تلميذًا إليه، لا بد أن يرى فيه نفسَ شغفه وعزمه على التعلم: «لا أدرِّس لغير المتلهف للمعرفة، ولا أفصح له إذا لم يكن راغبًا في التعبير عن أفكاره. إذا أخبرت التلميذ بزاوية من زوايا المربع وعجز عن استنتاج البقية فلا أستكمل الدرس» (٧: ٨). فكونفوشيوس، على ما يبدو، يعتمد على تجربته الشخصية. هذا لأنه يعرف أن عملية التعلم يمكن أن تكون شاقة، طويلة الطريق. والنجاح يتطلب الرغبة والمثابرة. كما يتطلب أن ينشغل المرء به انشغالًا حقيقيًّا، ويمتلك الحافز الفكري.

والتعلم، بالنسبة لكونفوشيوس، يقتضي النظر إلى الماضي، إلى القدماء وممارساتهم الطقسية، وموسيقاهم، ومؤسساتهم السياسية والاجتماعية، وعلاقاتهم المعيارية. فالماضي مستودَع الخبرات التاريخية حيث يمكن أن تتوفر «البيانات التجريبية» المتعلقة بمقومات النظام الجيد وغير الجيد. ولأن كونفوشيوس استلهم معظم أفكاره من «كتاب التاريخ» و«كتاب القصائد»، وتأثَّر بهما تأثرًا بالغًا؛ فقد جعلهما أساس تعليمه، وحضَّ تلاميذه على قراءتهما بعناية شديدة (على سبيل المثال، ١: ١٥، ٢: ٢، ٢: ٢١، ١٤: ٤٠، ١٦: ١٣، ١٧: ٩، ١٧: ١٠).

وحذَّر كونفوشيوس من تحوُّل عملية التعلم لمجرد تكديس للمعارف لا أكثر: «قال المعلم: أتظن، يا تسي [التلميذ تسي قونج] أنني أكتسب كثيرًا من المعارف وأحفظها؟» أجاب: «نعم. أليس هذا هو الواقع؟» أجاب المعلم: «نعم. إنه ليس كذلك. أنا أنظمها في عقلي برباط واحد كما ينظم الخيطُ حبات العِقد» (١٥: ٣). فمعرفة الطقوس والموسيقى والمؤسسات والعلاقات الصحيحة والتاريخ يمكن بسهولة أن تزوِّدك بقائمة كبيرة من التفاصيل والحقائق. ولا بد أن يجد المرء إطارًا شاملًا يتَّسق فيه جميع ما اكتسبه من معلومات. فالتفاصيل الدقيقة التي يحصِّلها المرء من خلال التعلم لا أهمية لها إذا لم تجمعها رؤية كلِّية أو «رباط واحد».

وعلى هذا، يُنتظر من التلميذ الجيد أن يطور من معارفه بطريقة الاستنباط، أن ينتقل من أجزاء المعرفة الصغيرة إلى فهم أكثر شمولًا. لنضربْ مثالًا بتلميذ كونفوشيوس المُفضَّل يان هوي. فمهارته الاستنباطية الاستثنائية، جزئيًّا، هي السبب وراء تفضيل كونفوشيوس له كثيرًا: «سأل المُعلم تسي قونج: إذا عقدنا مقارنة بينك وبين هوي، فمن الأفضل؟» أجاب: «أنا؟ كيف أجرؤ على وضع نفسي في مقارنة مع يان هوي؟ فهو يسمع النقطة الأولى من مسألة ما ويعرف المسألة برُمَّتها، وأنا أسمع النقطة الأولى وأنتقل فقط إلى النقطة الثانية.» قال المعلم: «لا، أنت لست نظيره. لا أحد منَّا نظيره في الحقيقة» (٥: ٩). ولا بد أن يعرف التلميذ الجيد، أيضًا، كيفية وضع هذه المعرفة المستنبطة حيز التطبيق. قال المعلم: «لو أن هناك رجلًا يستطيع سرد الثلاثمائة قصيدة من ذاكرته، لكنك عندما تعهد إليه بشأن من شئون الحكم يعجز عن مباشرته، أو إذا أرسلته في مهمة في إحدى الجهات الأربعة عجز عن معالجة الأمور بنفسه. فما نفعُه بهذه القصائد المحفوظة مهما كثر عددها؟» (١٣: ٥). العبرة من المثال هو أنَّ تَدنِّي عملية التعلم إلى مجرد الحفظ يجعلها غير مثمرة، لا فائدة فيها، بعيدةً عن التعلم الحقيقي الذي يهذِّب من نفس المرء، ويرفع من شأن المجتمع.

يقصد كونفوشيوس ﺑ «التعلم» إذن التعلمَ الأخلاقي؛ أي دراسة وتجسيد القيم الأخلاقية التي تجعل الفرد رجلًا كامل الفضيلة. ونراه يتحسَّر على النظر إلى التعلم في زمانه باعتباره وسيلة لتحقيق النجاح الدنيوي، أو استجلاب المدح، فيقول: «في الأزمنة القديمة كان الناس يتعلمون من أجل تهذيب أنفسهم، وفي الأزمنة الحاضرة يتعلمون من أجل إثارة إعجاب الآخرين» (١٤: ٢٤). فهدف كونفوشيوس أن يعيد الآخرين إلى المسار الصحيح، أن يجعل الغاية من التعلم هي التربية الأخلاقية مرة أخرى.

ويعود إصرار المعلم على ضرورة الارتباط الشديد بين سعي الكونفوشيوسي من أجل المثالية الأخلاقية أو الحكمة، وعملية التعلم؛ إلى تجربته الحياتية إلى حد بعيد. فنجده في الفقرة الشهيرة، «المُقتبَسة من سيرة حياته»، المذكورة في كتاب «المختارات» يقول:

في سن الخامسة عشرة وجَّهتُ عقلي وقلبي نحو التعلم. وفي الثلاثين وقفت بقدمين ثابتتين. وفي الأربعين لم تعد لديَّ حيرة. وفي الخمسين فهمت إرادة السماء. وفي الستين صارت الإرادة أذنَيَّ اللتين أسمع بهما. وفي السبعين صار بمقدوري اتباع رغبات عقلي وقلبي دون أن أتخطى حدود الصواب. (٢: ٤)

هذا التعليق وإن كان مقتبسًا من سيرة كونفوشيوس الذاتية، فإنه يهدف بوضوح إلى أن يكون نموذجًا لكل تلامذة المدرسة الكونفوشيوسية. فالسبيل إلى المثالية الأخلاقية، وفقًا لهذا الإرشاد، لا بد أن يبدأ بالالتزام الراسخ تجاه عملية التعلم. فمن خلال التعلم، يمكن أن يصير التلميذ حكيمًا أيضًا؛ أي تتماشى جميع أفعاله مع مبادئ الطريق القويم بصورة عفوية غير متكلَّفة.

(٢) السبيل إلى أن يكون الرجل كامل الفضيلة: اكتساب الفضيلة الحقَّة من خلال ممارسة الطقوس

لم يضع كتاب «المختارات» تعريفًا محددًا للرجل الكامل الفضيلة، إلا أنه تعرَّض لذكر أوصافه المتعددة في فقراته المتتابعة. ولعلَّ أهم هذه الأوصاف هو أنه رجل لديه «رِن». و«رِن» هي أهم الفضائل في الرؤية الكونفوشيوسية؛ إذ تندرج تحتها جميع الفضائل الأخرى، مثل الأمانة والاستقامة والشفقة والآداب الطقسية والحكمة وبر الوالدين. ولا توجَد ترجمة تعبِّر على نحو كامل عن المعنى الشامل لهذا المصطلح. فهناك طائفة تترجمه إلى «الإحسان»، وطائفة ثانية إلى «التراحم»، وطائفة ثالثة إلى «الإنسانية» وما شابه، وأفضِّل ترجمته ﺑ «الفضيلة الحقَّة»، على أمل أن تنقل هذه الترجمة بعضًا من مكانته السامية الشاملة في التعاليم الكونفوشيوسية.

والفضيلة الحقَّة لا يمكن اكتسابها بسبيل الخلوة أو بمعزل عن الآخرين. فهي لا تتجلى إلا في علاقة الفرد بالآخرين، وفي طريقة تعامله معهم. هذا يعني أنه من خلال السلوكيات الملموسة يتحقَّق تحلي المرء بالفضيلة الحقَّة. فعلى سبيل المثال «يجسِّد» الابن البارُّ برَّه بأبيه من خلال انحنائه له. بهذه الطريقة ترتبط الفضيلة الحقَّة ارتباطًا وثيقًا بالطقوس؛ لأنه من خلال ممارستها يعبِّر الفرد عن الفضيلة الحقَّة، كما يعتقد المُعلم. لهذا السبب نجد المعلم يكرس أكثر تعاليمه في كتاب «المختارات» لمناقشة كيفية أداء الطقوس بطريقة صحيحة. فلكَي يصبح المرء كاملَ الفضيلة، بحسب ما يزعم كونفوشيوس، لا بد أن يتمسَّك بالآداب الطقسية.

(٣) الفضيلة الحقَّة

رغم أن مفهوم الفضيلة الحقَّة ذو أهمية كبيرة عند كونفوشيوس، فإنه لم يقدم له تفسيرًا أو تعريفًا كليًّا. ويصيب هذا الأمر تلاميذه بالإحباط، فنجدهم يلاحقونه عَبر فقرات «المختارات» بأسئلة مثل: «ما الفضيلة الحقَّة؟» «هل مَن يتصف بهذا وذاك كامل الفضيلة؟» «هل السلوك الذي يتصف بهذا وذاك يتوافق مع الفضيلة الحقة؟» وتتنوع إجابات المُعلِّم، ويبدو أنها تختلف باختلاف السائل والحال. فالفضيلة الحقة قد تكون محبة الآخرين (١٢: ٢٢)، أو ترويض النفس والعودة إلى الآداب الطقسية (١٢: ١)، أو التحلي بالاحترام والصفح والأمانة والمثابرة والعطف (١٧: ٥)، أو الاتصاف بالشجاعة (١٤: ٤)، أو التحرُّر من القلق (٩: ٢٩)، أو التحلي بالصلابة والحزم (١٣: ٢٧). هذه الإجابات التوضيحية التي أعطاها كونفوشيوس لتلاميذه ليست سوى بعضِ لمحات أو مظاهر من الفضيلة الحقَّة. ويدرك كونفوشيوس استياء تلاميذه وتلهفهم لكشفه عن معناها الشامل، فيعلِّق قائلًا: «أعلم يا أصدقائي أنكم تظنون أنني أخفي عنكم شيئًا. ما من شيء أخفيه عنكم» (٧: ٢٣). الفضيلة الحقَّة، كما يبدو، غير قابلة للتعبير عنها أو التعريف بصورة شاملة. إن العبارات تعجز عن الإحاطة بها.

ويُترك لنا، مِثل أتباع كونفوشيوس، التوصل إلى فهم أعمق لهذه الفضيلة الأخلاقية المهمة من خلال تأمل كتاب «المختارات». فهناك بضع فقرات منه تساعد كثيرًا في هذا الشأن، مثل: «سأل تسي قونج: «هل هناك فضيلة واحدة يمكن أن يُسترشد بها طَوال الحياة؟» قال المُعلم: «قد تكون تلك الفضيلة «التعاطف»؛ ألَّا ترضى لأخيك ما لا ترضاه لنفسك»» (١٥: ٢٤). فالفضيلة الحقَّة تكمن في ممارسة التعاطف. فنحن ملزَمون، عند التعامل مع الآخرين، أن نعاملهم بنفس ما نحب أن نُعامَل به. لا بد أن نضع أنفسنا مكانهم، لنسبر غور مشاعرنا؛ ومن ثَم نقدر على الحكم على مشاعر الآخرين، هذا هو التعريف الكونفوشيوسي للتعاطف. فالفضيلة الحقَّة تحصل عندما تمتد مشاعر التعاطف للآخرين بنجاح، أو تنعكس على علاقتنا مع الآخرين: «طريق مُعلمنا هو الصدق مع النفس، وإظهار التعاطف تجاه الآخرين، لا أكثر» (٤: ١٥).

قد يكون من السهل إظهار التعاطف تجاه الآخرين في لحظة بعينها أو في مواجهة محددة. وتكمن الصعوبة، في رأي كونفوشيوس، في مكابدة التعاطف وإظهاره طوال اليوم في أثناء التعامل مع صنوف البشر المختلفة، من تلميذٍ قلقٍ إلى صديق حزين، أو طفلٍ كثير الطلبات، أو جارٍ متوعك، أو شحاذ عدواني، أو زميل مضطرب، أو زوج مُنهَك. ولو كانت مكابدة هذا الخُلق لمدة يومٍ كامل ثقيلة على النفس، فما بالك بأسبوع كامل أو شهر؟ ولعلَّ ذلك يفسِّر سبب امتناع كونفوشيوس عن وصف الآخرين، بمن فيهم نفسه، بالفضيلة الحقَّة (٧: ٤٣). هذا لأنه في اللحظة التي تزول فيها مشاعر التعاطف وتتوقف ممارستها؛ لا يُعَد الشخص متصفًا بالفضيلة الحقَّة. ورغم نجاح يان هوي في هذا الشأن مقارنة بالآخرين، فإن نجاحه محدود: «قال المعلم: «هوي! لمدة ثلاثة أشهر ثبت عقله وقلبه على الفضيلة الحقَّة. أما الآخرون، فقد يتحلَّون بالفضيلة الحقَّة لمدة يوم أو شهر، لكن لا أكثر»» (٦: ٧). لهذا من الضروري إدراك أن الفضيلة الحقَّة ليست بحالة يكتسبها المرء مرة واحدة وإلى الأبد؛ فهي «سلوك» يحتاج إلى عقل وجسد متجددَين، ويتطلب يقظة دائمة. لهذا يعلِّق تلميذ آخر من تلامذة كونفوشيوس البارزين، وهو تسنج تسي قائلًا: «لا بد أن يكون المثقف واسع الأفق، قوي العزيمة، كي يقدر على مشقة التكليف وطول السَّير. فهو يعتبر الفضيلة الحقة تكليفًا: أليس هذا التكليف شاقًّا؟ ولا ينتهي هذا التكليف إلا بالموت، أليست الرحلة طويلة؟» (٨: ٧). وكي يكون الرجل كامل الفضيلة ويتصف بالفضيلة الحقَّة، في التقليد الكونفوشيوسي، لا بد أن يلتزم بها التزامًا أبديًّا ينتهي بالموت فحسب.

إن اشتقاق المصطلح الصيني، المُترجَم ﺑ «الفضيلة الحقَّة»، يكشف عن معناه المراد بنفسه. فكلمة «رن» تتألف في الصينية من جزئين، هما «إنسان» و«اثنان»؛ ما يعني أن الإنسان لا يكون متمتعًا بالفضيلة الحقة إلا بالتعامل مع الآخرين. لا يمكن التخلق بالفضيلة الحقَّة، أو ترجمتها إلى أفعال، في التقليد الكونفوشيوسي، بمعزل عن الآخرين. فلا مكان في الكونفوشيوسية للتقليد السامي، المتمثل في «رياضي الرب»، ويُقصد به العابد الذي يجلس فوق عمود ارتفاعه أربعون قدمًا، في الصحراء السورية، منشغلًا بالتطهُّر من الرذائل، والتحلِّي بالفضائل في عينَي الرب. فالفضيلة الحقَّة، بالنسبة لكونفوشيوس، مرتبطة بالعلاقات مع الآخرين؛ فهي لا تتحقق إلا بتفاعل الفرد معهم.

(٤) الطقوس

يُصرُّ كونفوشيوس في كتابه «المختارات» أن التعاطف عند الشخص الكامل الفضيلة يسترشد بالضرورة بمجموعة من «لِي» (وهو مصطلح صيني اتُّفق على ترجمته بالطقوس أو الآداب الطقسية، لكنه تُرجم أيضًا إلى الشعائر والمراسم وقواعد السلوك القويم، وأصول الآداب الاجتماعية والأعراف) التي توارثها الأفراد جيلًا بعد جيل، وخضعت للتنقيح على مدار القرون المتعاقبة، ويتحقق بها. لكن، وكما في حالة الفضيلة الحقَّة، لا يحاول كونفوشيوس تعريف مفهوم الطقس لتلاميذه، كما لا يقدِّم شرحًا عامًّا لأهميته ووظيفته. لكن عندما نلجأ إلى الكتاب اللاحق، «كتاب الطقوس»، نجد بعض الفقرات النافعة. على سبيل المثال:

توفِّر الطقوس الإطار الذي يحدد مسئوليات المرء تجاه أقاربه القريبين والبعيدين على حد سواء، ويعالج النقاط التي قد تثير الريبة أو الشك، ويحدِّد مواطن الاتفاق والاختلاف، ويميز الصواب من الخطأ. والمرء عند ممارسته الطقوس لا يسعى لنيل رضا الآخرين بطريقة غير ملائمة، أو الخروج عن حد الاعتدال في كلامه. وهو لا يتجاوز، في أثناء ممارسته للطقوس، الحدود الصحيحة، أو يتعامل بحرية، أو يفترض وجود علاقة حميمية مع الآخرين. إن أساس السلوك القويم هو تهذيب النفس، وترجمة الأقوال إلى أفعال. والسلوك الذي يخضع للتهذيب، والكلام الذي يتوافق مع مبادئ الطريق القويم، هما جوهر الطقوس.

إن أداء الطقوس هو الذي يضفي على الفرد صفة «الإنسانية» أو «التمدن»، ويميزه عن الحيوان:

يستطيع الببغاء الكلام، لكنه طائر لا أكثر، ويستطيع القرد الكلام، لكنه حيوان لا أكثر. إذا لم يلتزم الإنسان بقواعد الآداب الطقسية، فما الذي يفرق بينه وبين الحيوان؟ ولكن إن كان البشر مثل الحيوانات، وفي حالة غياب الآداب الطقسية، فقد يحظى الأب والابن بنفس الرفيقة. لذا، عندما ظهر الحكماء، وضعوا قواعدَ الآداب الطقسية من أجل توجيه الأفراد وجعلهم، من خلال الالتزام بها، قادرين على تمييز أنفسهم عن الحيوانات.

تقدم الطقوس توجيهًا للفرد في علاقاته المتشعبة مع الآخرين، ما يجعل انسجام المجتمع أمرًا ممكنًا. فالأب، عند ممارسته للطقوس الصحيحة، يتصرف كما ينبغي؛ والابن، عند ممارسته للطقوس الصحيحة، يتصرف كما يملي عليه دوره باعتباره ابنًا صالحًا. بهذه الطريقة تساعد الطقوس في توطيد العلاقات الخمسة القياسية على أرض الواقع. يعتقد كونفوشيوس أن النظام الجيد، في بداية أسرة جو، كان قائمًا على هذه العلاقات الخمسة التي هي أساس أي نظام سياسي اجتماعي رشيد. وإلى ذلك يشير «كتاب الطقوس»، فيقول: «الحاكم والمحكوم، والأب والابن، والزوج والزوجة، والأخ الأكبر والأخ الأصغر، والصديق وصديقه؛ تلك العلاقات الخمسة هي جوهر نظام العالم.»

يبدأ الفرد منذ صغره، من خلال المراسم العائلية، تعلُّم كيفية توقير الأجداد، والحداد على الموتى، والاحتفال بالتحولات المهمة الحياتية، مثل ارتداء القبعات — وهو احتفال يُعقد عند الوصول إلى مرحلة البلوغ — والزواج. كما يتعرف على عدد وأنواع الأوعية الطقسية التي يستخدمها في تقديم القرابين لجدِّه، وأصناف الملابس التي يرتديها، والصلوات التي يتلوها، والأطعمة التي يتناولها في أثناء فترات الحداد. ويُحذَّر من ارتداء أدوات الزينة الأرجوانية أو البنفسجية، أو استخدام اللون الأحمر أو البرتقالي المائل للأحمر في الثياب غير الرسمية، أو الغفلة عن ارتداء قبعة سوداء في زيارات التعزية. لكن لا تقتصر الممارسات الطقسية، بالنسبة لكونفوشيوس، على ما نعرِّفه بالمناسبات الدينية أو الاحتفالية؛ فهو يرى أن جميع مظاهر الحياة، حتى العادية منها، يحكمها نظام من الطقوس. فالتقاليد والتوقعات الطقسية تحدِّد كيفية تناول الطعام، والحديث مع الآخرين، وتحية الزائرين، وارتداء الملابس، والتصرف في السياق العام والخاص. لذا نجد «كتاب الطقوس» ينص على منهيات الطعام:

لا تكوِّر الأرز، ولا تلتهم صنوف الطعام بسرعة، ولا تتناول الحساء بجرعات كبيرة. ولا تُحدِث صخبًا وأنتَ تتناول الطعام، ولا تمضغ العظام بأسنانك، ولا تُعِد قطعة السمك التي كنت تتناولها إلى الصحن، ولا تُلقِ بالعظام إلى الكلاب، ولا تخطف ما ترغب في تناوله من طعام. ولا تُباعِد بين حبات الأرز لتبرد، ولا تستخدم عيدان الأكل في تناول الدُّخن. ولا تلتهم حساء الخضراوات بجرعات كبيرة، ولا تُضِف إليه التوابل، ولا تُخلِّل أسنانك، ولا تتناول الصلصات بجرعات كبيرة.

قد تبدو هذه المنهيات عديمة الأهمية بالنسبة لكثير من الغربيين، أو قد تبدو مجرد سلوكيات أو آداب لا علاقة لها بالتربية الأخلاقية. لكن لا شك في أن كونفوشيوس اعتبرها طقوسًا لو أدَّاها المرء بالشكل الصحيح فسيقوِّي من وازع الفضيلة الحقَّة داخله، ويساهم في ترجمته إلى أفعال ملموسة، فقال: «إن القوة التحويلية والتوجيهية للطقوس لا تكاد تُلحظ؛ فهي تَئِد الانحراف في مهده، وتدفع الفرد يوميًّا إلى الاقتراب من كل ما هو خير، والابتعاد عن كل ما هو شر، دون أن يكون مدركًا لذلك.»

بالتأكيد، لا يكون للطقوس هذا الأثر «التوجيهي التحويلي» إلا إذا أداها المرء بإخلاص تام. كان المُعلم يخشى أن ينظر تلاميذه إلى الممارسات الطقسية على أنها مجرد سلوكيات أو حركات خالية من المعنى. ومن أجل أن يتحقق المغزى الحقيقي للطقوس، لا بد أن يمتزج أداؤها بالمشاعر الملائمة: «عندما تؤدَّى الطقوس دون تعظيم، وتُقام مراسم الحداد دون حزن، فهذا ما لا أطيق رؤيته!» (٣: ٢٦). فيجب أن يقترن تقديم قرابين الخمر والطعام للأجداد بمشاعر التبجيل والمودة، وأن يقترن الانحناء للأكبر سنًّا بمشاعر الاحترام، وأن يقترن الكلام المهذب وآداب الأكل والملبس بمشاعر اللطف والكياسة تجاه الآخرين. على هذا المنوال تصير الممارساتُ الطقسية الأدواتِ التي يعبِّر بها المرء عن أكثر صفاته إنسانيةً. كما تتوحد من خلالها مشاعره الداخلية وسلوكياته الظاهرة.

تبدو الممارسات الطقسية، في تعاليم كتاب «المختارات»، وسيلة يُفصِح بها المرء عن إنسانيته، وفي الوقت نفسه يزرع بها في داخله تلك الصفات التي تفرق بينه وبين الحيوان. فعند تقديم القرابين يعزِّز المرء مشاعر توقير الأسلاف، وعند انحنائه للأكبر سنًّا يقوِّي مشاعر احترام الكبار، وعند التزامه بآداب الكلام والملبس والمأكل يزكِّي مشاعر اللطف والكياسة تجاه الآخرين. فالممارسة المادية للطقوس، بالنسبة لكونفوشيوس، تغرس في المُمارِس تلك الانفعالات والمشاعر المرتبطة بها. هذا الانغماس في الطقوس، الذي ينادي به كونفوشيوس عبر كتاب «المختارات»، يعوِّد ظاهر المرء على السلوك الاجتماعي القياسي القويم، الذي يتولى بدوره مسئولية توجيه بواعثه الأخلاقية وإعادة تشكيلها. سُئل المعلم، ذات مرة، عن كُنه الفضيلة الحقَّة، وأجاب ببساطة: «لا تنظر إلى ما تنهى عنه الطقوس، ولا تستمع إلى ما تنهى عنه الطقوس، ولا تتحدث بما تنهى عنه الطقوس، ولا تفعل ما تنهى عنه الطقوس» (١٢: ١).

ترتبط الطقوس، عند كونفوشيوس، ارتباطًا وثيقًا بالموسيقى. كان القدماء قد انتبهوا منذ قديم الأزل إلى قدرة الموسيقى على التشجيع على السلوك الأخلاقي. وإلى هذا المعنى يشير «كتاب الطقوس»، فيقول: «وجد الحكماء لذة في الموسيقى، ورأَوا أنه يمكن استخدامها في غرس الخير في قلوب العباد. ولما كان للموسيقى أثر بالغ على الفرد، وكانت تغيِّر من سلوكه وعاداته؛ أقرَّها الملوك القدماء كإحدى مواد التعليم.» لهذا السبب أكَّد كونفوشيوس على ضرورة دراسة أتباعه للموسيقى — أو على نحو أدق، أنواع معينة من الموسيقى التي يعتقد أنها تشجع على الترقي الأخلاقي — باعتبارها جزءًا أساسيًّا من مصفوفة طقوس الماضي. وهو يوصي بموسيقى شاو بشكل خاص (أي: موسيقى البلاط للملك الحكيم شون)، مشيرًا إلى أثرها البالغ حتى عليه شخصيًّا (٣: ٢٥، ٧: ١٤، ١٥: ١١). وفي العظة البسيطة الآتية لأتباعه، يوجز كونفوشيوس بصورة مناسبة أهميةَ الموسيقى، وارتباطها الوثيق بالطقوس في التعاليم الكونفوشيوسية، فيقول: «استمِدوا الإلهام من «كتاب القصائد»، وأدوا حقوق ما عليكم بالطقوس، وهذبوا أنفسكم بالموسيقى» (٨: ٨).

(٥) العائلة هي بوتقة الفضيلة

تزوِّد العائلة أفرادها بالملبس والمسكن، لكن وظيفتها الأهم، في تعاليم الكونفوشيوسية، هي وضعهم على طريق الفضيلة. فالعائلة هي الصورة المصغَّرة للمجتمع، ومكان تعلم العلاقات الإنسانية والمعايير الحاكمة لها. فمن خلال العائلة يتعلم الفرد على نحو مثالي قيمًا وممارسات من شأنها أن توجِد مجتمعًا كونفوشيوسيًّا متناغمًا، مثل الطاعة والاحترام لصاحب السلطة، والتبجيل للأكبر سنًّا، والعطف والرفق بالصغار والعَجَزة، وما إلى ذلك.

fig3
شكل ٢-٢: نسخة (تعود ربما للقرن الرابع عشر) من لوحةٍ رسمها لي قونج لين (١٠٤١–١١٠٦ تقريبًا)، لابنٍ بارٍّ ينحني أمام أبوَيه احترامًا لهما.
تتحدث الفقرة الثانية من كتاب «المختارات» عن الدور الجوهري للعائلة في تشكيل أخلاق الفرد، ودعم إنشاء نظام سياسي واجتماعي يحل فيه الاستقرار والسلام. يعلِّق يو تسي في مقام توضيح آراء معلِّمه:

يندر أن تجد شخصًا بارًّا بأبويه وإخوته يميل في الوقت نفسه إلى عصيان أوامر مَن هم أعلى منه مقامًا. ولا وجود على الإطلاق لشخص يكره معارضة الأعلى مقامًا وفي الوقت نفسه يحب إثارة الفتنة. فالإنسان الكامل الفضيلة يهتم بالأصول. وما إن ينجح في إرساء الأصول، حتى يتضح الطريق الحق أمامه. أليست طاعة الوالدين ومراعاة حقوق الإخوة أصل الفضيلة الحقَّة؟ (١: ٢)

هكذا تبدأ تربية الفرد الأخلاقية من العائلة. فهناك يتعرف على مفاهيم بر الوالدين، والاحترام الأخوي، وتبجيل الأكبر سنًّا، كما يلم باصطلاحات الآداب الطقسية. بعد ذلك يطبِّق الفرد الدروس التي تعلمها هنا في العالم الخارجي مباشرة. فيطيع الابن الصالح أميره، ويحترم الأخ الصغير الصالح الأكبر سنًّا منه، وتخضع الزوجة والبنت الصالحة للرجال بطبيعة الحال. والعبء، على هذا المنوال، الملقى على عاتق العائلة فيما يتعلق بتوفير بيئة أخلاقية سوية لأفرادها؛ كبير؛ لأن الابن الشقي — الذي يعصي أوامر كبار القرية أو الأمير — لا يجلب العار على نفسه فحسب، وإنما على أسرته بكاملها، ولا سيما أبوه وأمه. ففشل الابن من فشل أبويه؛ فهما لم يغرسا فيه الدافع الأخلاقي والوعي بالآداب، والمجتمع هو مَن يتحمل العواقب.

إن طاعة الوالدين من أهم الفضائل التي يجب أن يتعلمها الفرد في عائلته. وجوهر طاعة الوالدين هو طاعة السلطة الأبوية؛ فيحترم الفرد رغباتهما، ويسهر على راحتهما. يلخص «كتاب الطقوس» المسئوليات المرتبطة بهذه الفضيلة الجوهرية فيما يأتي:

يسعى الابن الصالح من مساعدته لأبويه الكهلين إلى أن يُدخِل السرور على قلبيهما، وألا يعصي لهما أمرًا، وأن يقرَّ آذانهما وأعينهما، ويجلب لهما الراحة في غرفة نومهما، وأن يزودهما عن طِيب خاطر بكل ما يحتاجان إليه من طعام وشراب، هذا هو الابن البار حتى نهاية الحياة. ولا أعني ﺑ «نهاية الحياة» موت أبويه، بل موته هو نفسه. وعلى هذا، فإنه سيُحب ما يحبه أبواه، وسيوقِّر ما يوقِّرانه. وسيقدِّم المعاملة نفسها لكل ما يملكانه حتى الكلاب والخيل، بل الأفضل منها لذوي الحظوة عندهما.

ولا تنتهي التزامات الابن تجاه أبويه، في التفكير الكونفوشيوسي، بموتهما. فالبرُّ الحقيقي هو أن يتصرف الابن طوال حياته مثلما أراد له أبواه، وألا يجلب العار على اسم عائلته الشريف:

إذا نوى الابن فعل الخير، ينبغي أن يفكر أنه يحافظ على سمعة أبويه الطيبة بهذه الطريقة، على الرغم من وفاتهما، ثم يضع نيته قيد التنفيذ. وإذا نوى فعل الشر، ينبغي أن يفكر أنه يلطخ سمعة أبويه الحسنة بهذه الطريقة، ويمتنع عما كان مُقدِمًا عليه.

ولا يتجلى احترام الابن لأبويه في شبكة العلاقات العائلية فحسب، بل يتحقق في الشبكة الكبرى من العلاقات الاجتماعية في صورة سلوك قويم نافع.

وما قيل في شأن الطقوس بشكل عام ينطبق بشكل مماثل على بر الوالدين على وجه الخصوص؛ إن المشاعر خلف هذا مناطُ الأمر وجوهره. وقد كررت التعاليم الكونفوشيوسية هذه الرسالة مرةً تلو الأخرى، كما فعل المُعلم في إجابته المقصودة عن سؤال تلميذه تسي يو بشأن بر الوالدين: «في هذه الأيام يَقصُر الناس مفهوم بر الوالدين على تزويدهما بالطعام والشراب. لكن ألَا يزود المرء كلابه وخيله بالطعام والشراب؟ إذا غاب التوقير، فما الفارق إذَن؟» (٢: ٧). وكما نبَّه كونفوشيوس في الممارسات الطقسية، ينبِّه هنا على ضرورة أن يكون بر الابن بوالديه تعبيرًا صادقًا عن مشاعره الداخلية الحقيقية.

هكذا تؤدي العائلة، في الفكر الكونفوشيوسي، دورًا مركزيًّا في المحافظة على النظام السياسي الاجتماعي الصيني؛ إذ يتعرَّف الطفل داخل العائلة على المسلمات والقيم السائدة في المجتمع الصيني. فمِن العائلة يتعلم الطفل أن للعالم تسلسلًا هرميًّا بطبيعة الحال، وأن التسلسل الهرمي يعمل بكفاءة عند وجود اختلافات محددة في المكانة وأدوار واضحة لكل فرد، وأن لكل مكانة مسئوليات قياسية معينة (مثل قواعد السلوك الخاصة بكون الفرد ابنًا صالحًا أو بنتًا صالحة)، وأن الشخص الصالح، العالق في هذه الشبكة الهرمية، هو الذي يؤدي المسئوليات المرتبطة بمكانته، وأن تناغم الكل ينجم عن وفاء كل شخص داخل هذه المنظومة الهرمية بما يُملي عليه دوره المحدد من واجبات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤