الفصل الثالث

الحُكم في التعاليم الكونفوشيوسية

سأل جي كانج تسي [الحاكم الفعلي لكن غير الشرعي لدولة لو] كونفوشيوس عن أصول الحكم الصحيح. وأجاب كونفوشيوس: «سياسة الرعية تعني سياسة النفس. فإذا صلح الحاكم، فكيف تجرؤ رعيته على الفساد؟» (١٢: ١٧)

(١) الحاكم القدوة

الهدف من تهذيب النفس هو استقامة الفرد. لكن هذه الاستقامة، كما يوضح التعليق السابق، ليست غاية في حد ذاتها على الإطلاق. يعتقد كونفوشيوس أن استقامة الفرد تَنتج عنها استقامة الآخرين، ما يمكن أن يؤدي إلى تغيُّر المجتمع قاطبةً من الناحية الأخلاقية للأفضل، مثلما تنتشر الأمواج عند إلقاء حجر في الماء. لهذا كان لوجود القدوة الأخلاقية أهمية بالغة في التعاليم الكونفوشيوسية، ولهذا كرَّس كونفوشيوس وقتًا طويلًا لبيان كيف يكون الشخص مستقيمًا صالحًا، كامل الفضيلة. فالتناغم الاجتماعي يتحقق بصورة أقل من خلال أجهزة الحكم، مقارنةً بما تحققه القدوات الأخلاقية. وعلى رأس القدوات الأخلاقية، من الناحية المثالية على الأقل، يجلس الحاكم الذي يصبح مثالًا للجميع بالتزامه الشديد بالاستقامة.

لدى الحاكم الكونفوشيوسي فضيلة داخلية (دي). وتترك هذه الفضيلة الداخلية تأثيرًا أخلاقيًّا وروحيًّا على الرعية. فتنجذب الرعية لها وللحاكم. يعقد كونفوشيوس مقارنة مع الطبيعة ليزيد الأمر إيضاحًا، فيقول: «الحاكم الذي يحكم بموجب الفضيلة يشبه النجم القطبي؛ إذ يظل في مكانه، في حين تحوم حوله كل النجوم الأخرى» (٢: ١). إذن من الواضح أن الرعية تذعن للحاكم الكونفوشيوسي الصالح، لا لقوته القهرية، وإنما لسلطته الأخلاقية الموثوقة الثابتة التي تسطع على أرجاء المملكة. وتَقدر هذه السلطة الأخلاقية على توجيه حركات الآخرين وإرشادهم إلى سبيل الحق. هذه الفكرة المتعلقة بتعليم الرعية وإرشادها عَبر القدوة الحسنة تتخلل فقرات كتاب «المختارات»، بالإضافة إلى النصوص الكونفوشيوسية الكلاسيكية الأخرى، إنها في الحقيقة إحدى السمات المميزة للفلسفة السياسية الكونفوشيوسية.

يتعرض جي كانج تسي، المذكور سابقًا، لمسألة الحكم في عدد من المناسبات، منها: «سأل جي كانج تسي كونفوشيوس عن الحكم الصحيح، فقال: «لو أنني قتلت الضالين عن طريق الحق، وتقربت من المعتصمين به. فما رأيك في ذلك؟»» أجاب كونفوشيوس دون أن يظهر بادرة ضجر أو حتى ازدراء من الغاصب للسلطة جي كانج تسي، وقال: «ما حاجتك للقتل عند ممارسة السياسة؟ إذا أردت الخير، فستريد الرعية الخير. إن طبيعة الرجل الكامل الفضيلة تشبه الريح، في حين تشبه طبيعةُ الرجل الوضيع العشب. والعشب ينحني عندما تهب الريح عليه» (١٢: ١٩). لم يفهم جي كانج تسي التشبيه. إن الحكم الظالم الذي يستخدم العقاب والقوة الجسدية عاجزٌ، وهو مثال ﻟ «الحكم الغاشم» في فكر كونفوشيوس. القيادة الأخلاقية هي أساس الحكم الرشيد. والصلاح يولِّد الصلاح. إن تشبيه الريح والعشب الذي أنهى حوار جي كانج تسي مع كونفوشيوس من أشهر التشبيهات في التقليد الصيني. فالرعية سريعة التأثر بالنموذج الصالح الذي يطرحه حاكمها. وتأثُّر الرعية بمثال حاكمها مشار إليه بأنه أمرٌ «طبيعي» تمامًا، كما ينحني العشب بقوة الريح. ولا بد من الانتباه إلى حقيقة أنه إذا كان الحاكم الصالح سيرشد الرعية إلى الصلاح، فإن الحاكم الطالح سيقودهم إلى الضلال. وعلى هذا، يشكِّل الحاكم الطالح، في التقليد الكونفوشيوسي، خطرًا جسيمًا على النظام الاجتماعي الأخلاقي بأكمله.

آمن كونفوشيوس إيمانًا بالغًا بتأثير الفضيلة الإيجابي، وفي قدرتها على جذب الآخرين لها، لدرجة أنه عندما عبَّر عن رغبته في الإقامة بين القبائل الهمجية التسعة في الشرق، وسئل: «لكن كيف ستطيق جلافتهم؟» أجاب بلا اكتراث: «لو أقام بينهم رجل كامل الفضيلة فستلين طباعهم» (٩: ١٤). فمع القيادة الصالحة الرشيدة يصير حتى «الهمج» صالحين.

الحاكم الصالح، كما أخبر كونفوشيوس جي كانج تسي، ببساطة يحب الخير. ولا بد أن يتحلى بالاستقامة التي يريد رؤيتها في رعاياه. وعلى العكس من ذلك، إذا عمَّ الاضطرابُ البلادَ، فالأحرى بالحاكم أن ينظر إلى نفسه أولًا، ويرى أن اللوم يقع عليه: كان جي كانج تسي يواجه مشكلة مع اللصوص. فسأل كونفوشيوس عما يفعل بشأنهم. فأجاب: «إذا تحررت من الطمع، فلن يُقدِم اللصوص على السرقة، ولو كوفئوا على ذلك» (١٢: ١٨). إذا انتشرت السرقة في دولة لو، فإن المسئولية تقع على جي كانج تسي، كما زعم كونفوشيوس. فالرعية، في النهاية، تتعلم الأخلاق من حاكمها. فإذا كان الحاكم صالحًا غير جشِع، فستكون الرعية صالحة غير جشعة. وما دام الأمر على ذلك الحال فلن يكون لدى الرعية باعث يدفعها إلى السرقة. لذا، سيجلب الحاكم التناغم الكونفوشيوسي إلى دولته ورعيته إن كان هو نفسه خاليًا من الطمع.

إذا كان الحُكم الرشيد يعتمد على القدوة الحسنة، فالحاكم ملزَم بتعيين الأفراد الذين لديهم من الأخلاق الحميدة ما يؤهلهم للعمل في الخدمة العامة. إن اختيار الرجال الصالحين أمر جوهري: «سأل الحاكم آي كونفوشيوس: «ما الذي يجب أن أفعله لأكسب ولاء العامة؟» أجاب المُعلم: «أعلِ من شأن المخلص، وحقِّر المخادع، وستمنحك الرعية ولاءها؛ وأعلِ من شأن المخادع، وحقِّر المخلص، وستعصيك الرعية»» (٢: ١٩). تُناقش هذه الفقرة فكرة مألوفة، وهي قوة القدوة الجيدة، تلك القوة التي تمارسها الريح العاتية على شفرات العُشب، فتجبرها على الخضوع لها. وبالمثل، الرجلُ الأمين في منصبه سيشجِّع مَن تحت إمرته على التحلي بالاستقامة. لكن الفقرة تتحدث عن نقطة أخرى ذات صلة بالموضوع. إن اختار الحاكم موظفيه بعدل، إن تجنب غير المؤهلين والفاسدين، ودعم الصالحين فحسب، فسيكون التزامه بما فيه مصلحة رعيته واضحًا. وعندما ترى الرعيةُ حرصه على رفاهيتها ستستمرُّ في منحه ثقتها ودعمها بدورها.

هذه الثقة، كما يُسهِب كونفوشيوس، هي أساس شرعية الحاكم والدولة:

سأل تسي قونج عن أساس الحكم. فأجاب المُعلم: «طعام وافر للأفواه، وسلاح كافٍ للمقاتلين، وستمنحك الرعية ثقتها.» قال تسي قونج: «لو أُجبرتَ على الاختيار بين هذه الثلاثة، فما الذي تتخلى عنه أولًا؟» قال: «أتخلى عن توفير السلاح.» أعاد تسي قونج سؤاله: «لو أُجبرتَ على الاختيار بين الأمرين المتبقيَين، فما الذي تتخلى عنه أولًا؟» أجاب: «أتخلى عن توفير الطعام. فمنذ الأزل لم يهرب أحد من الموت، لكن إذا فقدت الرعية ثقتها في الحاكم، فسيخسر كل شيء.» (١٢: ٧)

المراد هو أن الرعية التي تثق في حاكمها، بعد أن رأت أنه يجعل مصلحتها فوق كل شيء آخر، ستكون على استعداد لتحمل كل أنواع الصعاب. وسيفوز الحاكم بولاء رعيته ودعمها لقاء اهتمامه الصادق برفاهيتها، وإن كانت حياتها نفسها في خطر.

إن الحاكم الصالح الورع رجلٌ كامل الفضيلة مثالي يتصرف دائمًا كما يليق به. وهو نموذج مثالي ينسجم مع قواعد السلوك السليم طوعًا لا كرهًا. ومن خلال تلك القدوة الحسنة الساحرة التي يبديها، يعلِّم رعيته ويرشدها، ويضعها على السبيل القويم. يزعم كونفوشيوس أن الحكم بهذا الشكل لا يحتاج للقوانين والأوامر الملكية والعقوبات؛ أي أدوات الحكم الروتينية. ولا يعني هذا أنها ليست ضرورية بالكلية، لكن يرى المعلم أنه كلما قلَّ الاعتماد عليها — وزاد الاتكال على شخصية الحاكم ووازعه الأخلاقي والتزامه بالطقوس — كان ذلك أفضل. قد تحقق القوانين والعقوبات المفروضة من السلطة العليا نظامًا اجتماعيًّا في الظاهر، لكنها عديمة النفع فيما يتعلق بغرس الحس الأخلاقي في نفوس الرعية، وإرشادهم إلى ما فيه تزكية نفوسهم. كما أنها لا تشجع على روح المجتمعية الحقَّة التي هي التزام متبادل من الرعية لإنشاء مجتمع متناغم. ولعل أفضل تعليقات المعلِّم التي توجز رأيه في أساس الحكم الرشيد هي الآتية:

إذا حكمتَ العامة بالأوامر الملكية، وضبطتَهم بالعقوبات، فستمنعهم من إثارة المتاعب، لكنك لن تجعلهم يشعرون بالعار مما اقترفَته أيديهم. وإذا حكمتَهم بالفضيلة، وجعلت الطقوس وازعًا ورقيبًا، فستجعلهم يُصلحون من أنفسهم، بالإضافة إلى شعورهم بالعار مما ارتكبوه من متاعب. (٢: ٣)

لا يتحقق إصلاح الفرد ولا التناغم الاجتماعي من التهديد الخارجي، والقهر بواسطة القوانين والعقوبات. إنهما ينبعان من داخل الأفراد، بإلهام من القدوة الحسنة التي يبديها الحاكم، لإعادة إنشاء العلاقات القياسية المرنة التي شكَّلت حياتهم العائلية منذ طفولتهم، في المجتمع والدولة، من خلال ممارسة الطقوس.

فالثقافة والتقليد، بحسب زعم كونفوشيوس هنا، أداتان أكثر فاعلية وتأثيرًا في تشكيل سلوك الأفراد ومُثلهم العُليا، من السياسات القانونية والعقابية. فمن خلال القدوة الحسنة والنموذج الأخلاقي يشجع الحاكم الصالح على إنشاء نظام من الممارسات والقيم المتبادلة، الذي من شأنه تنظيم سلوك الأفراد على نحو فعَّال، والأهم من ذلك ربط كل فرد بالمجتمع ومعاييره. وانتهاك هذه المعايير، وفقًا لكونفوشيوس، له عواقب وخيمة، وطويلة الأمد في بعض الأحيان. فالشخص الذي يستخدم أصابعه بدلًا من عيدان الأكل في تناول السمك الأصفر، أو يسب أباه العجوز على الملأ، أو يرتدي ثيابًا فاخرة في فترة الحداد على أحد أبويه، سيَنعته الآخرون في الغالب بعديم الحياء والفظ. فقد أخفق، على أي حال، في تعلم ما يجب أن يكون عليه الصيني الحق، وعرَّض نفسه لخطر التهميش من جانب رفاقه القرويين. وحتى لو كانت القوانين الرسمية لا تصدر غرامات أو عقوبات أخرى على ذلك النوع من «سوء التصرف»، فإن العاقبة ستكون وخيمة. لهذا يثق كونفوشيوس في أن المجتمع الذي تحكمه الثقافة المشتركة لن يسارع أفراده في تجاوز حدود السلوك المتعارف عليه، وسيكون لديهم شعور قوي بالإحراج.

عندما يقود الحاكم رعيَّته بالطقوس، فإنه يتبنى دور حامل لواء الثقافة، ما يساهم في تعزيز شرعيته، كما أنه يؤدي دور المعلم في الوقت نفسه، ويضرب المثل بنفسه فيما يتعلق بالمعتقدات والممارسات التي يريد لرعيته أن يتبنَّوها. وفي نقاشات كونفوشيوس مع تلاميذه أدلة متكررة على اعتقاده بفاعلية الحكم بالطقوس: «قال المعلم: «إذا كان الأمير قادرًا على حكم الدولة من خلال الالتزام بالطقوس والتواضع، فلن يجد مشقة في الحكم. وإذا كان غير قادر على حكم الدولة بالطقوس والتواضع، فما نفع الطقوس؟»» (٤: ١٣). تصبح الطقوس ذات فاعلية إذا مارسها الحاكم بدافع التواضع أو التعظيم فحسب. هذا الشعور هو ما يضفي على أدائها المصداقية، ويمنحه تلك القوة لإرشاد الرعية و«إصلاحهم» (٢: ٣).

سيكون من الخطأ الاعتقادُ أن كونفوشيوس لا يرى مكانًا للقانون والعقاب في الحكم. فرغم أنه يدعو إلى الحكم بالفضيلة والطقوس، فإنه يعتبر قانون العقوبات جزءًا روتينيًّا من أدوات الحكم. فنراه يصف الشخص الكامل الفضيلة، على سبيل المثال، بأنه «يقدِّر القانون»، بخلاف الرجل الوضيع الذي «يقدِّر التساهل» (٤: ١١). وفي إحدى حواراته مع تسي لو، يقول: «إن لم تزدهر الطقوس والموسيقى، فلن تتناسب العقوبات والجزاءات القانونية مع الجرائم، وإن لم تتناسبا مع الجرائم، فلن يعرف الناس كيف يتصرفون» (١٣: ٣). في الحقيقة، يتحدث «كتاب التاريخ» و«كتاب القصائد»، اللذان يعتز بهما كونفوشيوس غاية الاعتزاز، عن التطبيق الصحيح لحكام الأسرة تشو الأوائل للقوانين والعقوبات (على سبيل المثال، «توجيهات مرسلة إلى الأمير كانج»). ويغلب على الظن أن كونفوشيوس يُدرك أنه لا مفر من الاستعانة من وقت لآخر بالقوانين والعقوبات من أجل المحافظة على النظام الاجتماعي. ومع ذلك من الواضح أنه يفضِّل تقليل استخدامهما قدر الإمكان. وعندما أشار المعلِّم: «عند الاستماع للقضايا القانونية، فأنا مِثل غيري» (١٢: ١٣)؛ كان ينص على مبدأ رئيسي في التعاليم الكونفوشيوسية، وهو أنه كلما قلَّ اعتماد الحكم على القوانين كان أفضل.

إن صورة الحاكم المثالي المتجلية في كتاب «المختارات» هي لرجل يفيض ورعُه إلى الخارج، فيصبح قوة أخلاقية جذابة ومؤثرة، تدفع الآخرين إلى التحلي بالفضيلة الحقَّة وممارسة الآداب الطقسية، مما يُحدِث التناغم الاجتماعي. ومن سمات هذه القوة أنها غير قهرية، وأن تأثيراتها تبدو طبيعية، كما ينحني العشب في اتجاه الريح العاتية. وعلى هذا، فالحاكم المثالي ليس بحاجة إلى بذل جهد: «قال المعلم: «ألم يحكم شون بلا جهد؟! ما الذي فعله؟ جلس على عرشه بوقار، وولَّى وجهه شطر الجنوب، لا أكثر ولا أقل»» (١٥: ٥). يفهم الشارحون من هذه الفقرة أن ورع شون الملك الحكيم كان عظيمًا فيَّاضًا، فتمكَّن من إصلاح رعيته بلا أي جهد يُذكَر، وبلا أي إجراءات، وفي هذا تكرار لفحوى الفقرة (٢: ١)، حيث شبَّه كونفوشيوس الحاكم بالنجم القطبي الذي «يظل في مكانه، في حين تحوم حوله كل النجوم الأخرى». ويستخدم التاويون وصف «بلا جهد» للإفادة أن «الجهد» أو «الكد» لا بد أن يحدث عفويًّا؛ أي عن غير عمد، وعلى نحو لا يتعارض مع السير الطبيعي للأمور. ويميز الشارحون استخدام كونفوشيوس لتعبير «بلا جهد» هنا بإعطائه أهمية أخلاقية، موضحين أنه لم يكن من الممكن تحقُّق الأمر في حالة شون لولا ورعه الداخلي الذي كان شديدًا على نحو استثنائي. بعبارة أخرى، إن تعبير «بلا جهد» هو نتيجة مباشرة لحالته الأخلاقية. لكن يجب أن نتذكر أيضًا أن وصف «بلا جهد» في شئون الحكم اليومية الملموسة لم يكن ممكنًا في حالة شون لولا صلاحه وشفقته على رعيته، اللذان دفعاه إلى اختيار الموظفين الصالحين والمستقيمين، من أمثال قاو ياو، لمباشرة إدارة الحكم (١٢: ٢٢).

هذا يعني أن الحاكم الجيد لا بد أن لديه قدرة كبيرة في الحكم على الأشخاص، ويختار موظفيه الذين يشاركونه اعتصامه بالمبادئ الكونفوشيوسية، وحرصه على رفاهية رعيته. ومن هنا نفطن إلى السبب الذي جعل اختبار الخدمة المدنية الصينية يكتسب الأهمية التي حازها لأكثر من ألفَي عام، بدايةً من القرن الثاني قبل الميلاد.

(٢) الحكومة ورفاهية الشعب

إن رفاهية الشعب، في نظر الفلسفة الكونفوشيوسية، إذَن تعتمد بشكل كبير على أخلاق الحاكم الحميدة. فهو يتقاسم وموظفوه المُعيَّنون من قِبَله مسئوليةَ ترجمة إحسانه إلى أفعال في إدارة شئون المملكة. ومِثل الحاكم المثالي، يُتوقع من الموظف المثالي أن يكون صالحًا بدوره؛ فهو واسع المعرفة، ويتوق لأن يصبح كامل الفضيلة نظرًا لخضوعه لعملية تهذيب النفس. في الحقيقة، لقد رأينا أن كتاب «المختارات»، ولو بصورة جزئية، عبارة عن محاولة من المعلم لتعليم تلاميذه كيفية التحلي بالأخلاق، على أمل أن ينجحوا حيث فشل هو؛ أي الحصول على منصب حكومي. وحدهم الصالحون، بحسب اعتقاد كونفوشيوس، سيصبحون موظفين صالحين، والموظفون الصالحون سيجعلون الحكومة صالحة.

الموظف الصالح ليس فقط شخصًا يمتلك مهارة ما أو يؤدي وظيفة محددة. في الواقع، إن تعليق كونفوشيوس الموجز، «الرجل الكامل الفضيلة ليس مثل الأداة» (٢: ١٢)، يدعم هذا المفهوم. إن التعليق التقليدي على هذه الفقرة من قِبَل هي يان (الذي نشط في القرن الثالث قبل الميلاد) يقول: «بالنسبة للأدوات، فإن كلًّا منها ذو فائدة محدودة. أما الرجل الكامل الفضيلة، فلا يوجد شيء لا يستطيع فعله.» إن السبب وراء كونه كذلك هو أنه يجسد الفضيلة. وفي تجسيده الفضيلة، يبدي شفقة وإحسانًا لا حدود لهما، ويوجه جهوده على نحو دائم لمساعدة الآخرين. وهو — من خلال مهاراته الكبيرة في التعاطف — مؤهل للتعامل مع نطاق كبير من الأمور التي تواجه الدولة والمجتمع. وهذا لا يعني أنه قد لا يكون خبيرًا على نحو خاص في مجالات معينة، مثل إدارة الري أو الضرائب أو أساليب الإدارة، بل يعني أن تلك المهارات المتخصصة ليست هي التي تجعله موظفًا صالحًا. إن الذي يجعله موظفًا صالحًا هو استعداده لتحسين أحوال الناس، وتلبيته احتياجاتهم كلما ظهرت.

fig4
شكل ٣-١: صورة مطبوعة على الخشب لمسئول يسعى من أجل رفاهية رعاياه، مستجيبًا لحسه الداخلي بالواجب وفقًا للتعاليم الكونفوشيوسية. يقول التعليق على الصورة: «افتح المخازن، وفرِّج كُرَب المكروبين.» مأخوذة من «مختارات من الصور المطبوعة على الخشب، المأخوذة من الأدب الكلاسيكي الصيني»، تحرير فو شيهوا (١٩٨١).

تُلزِم التعاليمُ الكونفوشيوسية الرجلَ الكامل الفضيلة بخدمة الحكومة، ومساعدة الحاكم في نشر طريق الحق في أرجاء الدولة. فالفضيلة الحقَّة، على أي حال، تتمثل في خدمة الآخرين وإصلاحهم. لكن هناك أوقاتًا، وفقًا لكونفوشيوس، يحق فيها للرجل الكامل الفضيلة أن يرفض العمل في الحكومة. فقد علَّق كونفوشيوس على استقالة وزير في دولة وي، يُسمَّى تشيو بو يو، من منصبه في ٥٥٩ قبل الميلاد قائلًا: «كان تشيو بو يو رجلًا كامل الفضيلة حقًّا! عندما عمَّت مبادئ الطريق الحق الدولةَ، عَمِل في الحكومة، وعندما لم تَسُد، طوى مبادئه وحفظها في قلبه» (١٥: ٧). وإلى ذلك يشير المعلم، لكن بطريقة أكثر تجريدًا، فيقول: «عندما يسود الطريق الحق العالمَ، أَظهِر نفسك، وعندما لا يسود، اختفِ» (٨: ١٣).

تبدو تعليقات كهذه متعارضة مع الفكرة المتكررة في كتاب «المختارات»؛ أن مسئولية الرجل الكامل الفضيلة هي إصلاح المجتمع العاصي، وإعادة توجيهه إلى طريق الحق. فكيف يسمح كونفوشيوس للرجل الكامل الفضيلة أن «يختفي» حيث تكون الحاجة ماسَّة إلى ظهوره؟ تذكَّرْ أيضًا أن كونفوشيوس كان يعيش في وقت لا يسود فيه بالتأكيد الطريق الحق، ومع ذلك، كان ينتظر بتلهفٍ «العرض المناسب» (٩: ١٣)، كما رأينا في حديثه مع تسي قونج في السابق (ارجع للفصل الأول). فهو لم يشكَّ أبدًا في قدرته على وضع أي حاكم ومجتمع جاهل على الطريق الحق، لو مُنح الفرصة لذلك: «قال المعلم: «لو أن رجلًا يقبل استخدامي لمدة اثنَي عشر شهرًا، فسأضع الأمور في نصابها، وفي غضون ثلاث سنوات سأحقق نجاحًا كبيرًا»» (١٣: ١٠). مِن هذا يتضح أن خدمة الحاكم أمرٌ لا بد منه بالنسبة للرجل الكامل الفضيلة. لكن في الفقرات المماثلة لهذه يبدو أن المعلم يحذر أتباعه، مشيرًا إلى أن الدولة وحاكمها قد يكونان من حين لآخر فاسدَين، ولا أمل في صلاحهما، أي: لا يستجيبان ببساطة للقدوة الحسنة التي يقدمها الرجل الكامل الفضيلة. في تلك الدولة، لا يملك الرجل الكامل الفضيلة الفرصةَ أو الإذن بالتصرف وفقًا لمبادئه. وفي الحقيقة، الإصرار على ذلك سيجلب عليه غضب الحاكم، وسيُنزِل به أشد العذاب. فالأحرى بالرجل الكامل الفضيلة عندما يواجه حاكمًا معاديًا للإصلاح الأخلاقي أن «يطوي مبادئه ويحفظها في قلبه».

ورغم أن الحكم الرشيد في الفكر الكونفوشيوسي يعتمد بشكل كبير على فضيلة الحاكم، وأولئك الذين يعيِّنهم لمعاونته، فإن تعاليم المعلم لم تعطِ الكثير من المعلومات حول خطط تنظيم الحكومة، أو الفصل بين القُوى الحاكمة — كالذي يجده المرء، على سبيل المثال، في الدستور الأمريكي — أو تتحدث عن إجراءات أو سياسات معينة لا بد للحكومة من تبنِّيها. فالمعلم يفترض أن الحاكم الصالح سيتصرف بطريقة صحيحة، وسيتخذ الخطوات المناسبة للوفاء باحتياجات رعاياه بدافع الشفقة والإحسان.

ولا يزال بإمكان المرء، رغم ذلك، أن يستنتج بعض المقترحات العامة بشأن السياسات من بعض فقرات كتاب «المختارات». على سبيل المثال، يقول المعلِّم: «على مَن يحكم دولة ذات ألف عربة حربية أن يعالج شئونها بجدية، ويفعل ما يقول، وأن يقتصد في النفقات، ويبذل محبته لمواطنيه، وأن يستخدمهم في الفصول المناسبة فحسب» (١: ٥). فالحاكم، وفقًا لكونفوشيوس، مسئول عن رفاهية رعيته المادية. والحكومة التي لديها كثير من النفقات ستُضطر إلى فرض كثير من الضرائب على رعيتها؛ لذا لا بد أن تُرشِّد الحكومة من نفقاتها، وتدرك العبء الثقيل الذي تتركه الضرائب على العامة. ويجب ألا تستعين بالطبقة العاملة في مشاريع الأشغال العامة في أثناء المواسم الزراعية. فمقاطعة الأنشطة الزراعية لن ينتج عنها سوى تقليل إنتاجياتهم الزراعية، التي هي مصدر رزقهم.

وفي حوار لكونفوشيوس مع تلميذه ران تشيو، أوضح لمَ كانت رفاهية الشعب المادية مسألة في غاية الأهمية بالنسبة للحكومة، فقال:

سافر المعلِّم إلى وي، وتولى ران تشيو قيادة عربته. علَّق المعلم قائلًا: «إن عدد السكان هنا كبيرٌ جدًّا!» فسأل ران تشيو: «عندما يكون عدد السكان كبيرًا لهذه الدرجة، ما الذي يجب فعله من أجلهم؟» قال المعلم: «إغناؤهم.» قال ران تشيو: «عندما يصبحون أغنياء، ما الذي يجب فعله من أجلهم؟» قال المعلم: «تعليمهم.» (١٣: ٩)

تحمل هذه الفقرة إشارة ضمنية، وهي أن استجابة عامة الشعب للتعليم الأخلاقي تأتي بعد إشباع احتياجاتهم المادية، لا قبله. هذا يعني أن قابلية الشعب للاستجابة للقدوة الحسنة التي يقدِّمها الحاكم تعتمد على الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية التي هو مسئول عنها.

يمدح كونفوشيوس الملك الحكيم الأسطوري، يو، لتكريس نفسه للمشاريع المفيدة للزراعة. فيَصفه قائلًا: «لقد عاش في كوخ متواضع صارفًا كل طاقاته لإنشاء قنوات الصرف والترع. ولا أجد فيه عيبًا» (٨: ٢١). وعندما حاولَت حكومة يو السيطرة على السيول الدائمة، وتحسين عملية ري الحقول، كانت تؤدي دورها المنوط بها بالضبط، وهو تعزيز ازدهار الشعب من الناحية الزراعية بحسب طاقتها (قارن مع ١٤: ٥). جدير بالذكر أن الازدهار الزراعي قد حاز اهتمام الحكام الصينيين منذ فترة طويلة. ففي النقوش الموجودة على العظام المستخدمة في العرافة في عهد أسرة شانج (١٦٠٠–١٠٤٥ قبل الميلاد تقريبًا)، التي تمثِّل أول تاريخ مُدوَّن في الصين، نادرًا ما كان يتوقف حكام الأسرة عن الرقص والصلاة وتقديم القرابين طلبًا لنزول المطر، والحصول على حصاد وفير.

(٣) تفويض السماء

لم يكن كونفوشيوس هو مبتكر فكرة الحكم بالفضيلة على أي حال. فهي موضوع أساسي تردَّدت أصداؤه في كثير من الوثائق المبكرة لأسرة تشو، التي حُفظت في «كتاب التاريخ».

تُخبر هذه الوثائق عن أسرة شانج التي افتتحت عهدها بنزاهة، من خلال حكام حكماء محسنين. لكن شخصية الحكام تغيَّرت بمرور الوقت، واعتلى العرشَ أناسٌ قد سلَّموا نفوسهم إلى الفُحش والعربدة والفسق. وقد بلغ آخر حكام أسرة شانج، الملك تشو، الغاية التي لا غاية وراءها في الانحراف الأخلاقي، وأسرفت النعوت التي نُعت بها، في الوثائق التاريخية، في ازدرائه. وعندما كان الملك وو، مؤسس مملكة تشو، يحشد قواته لشنِّ هجوم على قوات شانج، قال:

أصبح تشو، ملك أسرة شانج العظيم، لا يوقِّر السماء ولا أهل الأرض، فأنزل بشعبه الويلات. لقد اعتاد السكرَ والإسراف في الشهوات. وتجرَّأ على ممارسة الاضطهاد الوحشي. وعاقب على نحو ظالم جميعَ أقاربه مع المجرمين. ومنح مناصب الدولة على أساس التوارث. وسعى خلف بناء القصور والأبراج والسرادقات والحواجز والبِرك، وما شابه ذلك من مظاهر السَّرف، على حساب عامة الشعب. ولقد أحرق وقتل عمَّاله الصالحين والأوفياء. كما بقرَ بطون الحوامل. فاستشاطت السماء غضبًا، وكلَّفت أبي المرحوم وين بأن يُريه عظمة السماء، لكنه كان قد تُوفي قبل إكمال هذه المهمة.

لم يكن الملك تشو رجلًا «صالحًا»؛ لذا لم يكن حاكمًا «صالحًا». وعاش الشعب في ظل حكمه، وفقًا ﻟ «كتاب التاريخ»، في بؤس تام. ولذا، «هربوا إلى مكان لا يمكن لأحدٍ الوصول إليهم فيه، وبكَوا وتضرعوا للسماء.» رقَّت السماء لحالهم، من شفقتها، وسحبت التفويض الذي كانت قد أعطته للحكام الأوائل من أسرة شانج، ومنحته للأسرة تشو.

في هذا الموضع من «كتاب التاريخ»، ذُكر مفهوم تفويض السماء لأول مرة في التاريخ الصيني. وسيشكِّل تفويض السماء القاعدة الأساسية للأيديولوجية السياسية الصينية — بفضل الحاكم تشو، الورِع الوصي على الملك الصغير تشينج — وذلك من فترة حكم أسرة تشو إلى أوائل القرن العشرين. لكن من المثير للاستغراب أن كونفوشيوس خلال تعاليمه يصر على أن الفضيلة وحدها هي ما يشكِّل الحاكم الصالح، وأنه لم يستخدم مصطلح تفويض السماء في كتاب «المختارات». ربما لم يكن للمصطلح حينها ذلك الرواج الحالي، أو كان له رواج كبير في عصره فافترض ببساطة أن تلاميذه سيفهمون أن معظم نقاشاته معهم تُعد نوعًا من التعليق عليه. على أي حال، ليس ثَمة شك في أن تعاليمه أيَّدت المفاهيم المتضمَّنة في تفويض السماء، ودعمَتها.

إن نظرية تفويض السماء، ظاهريًّا، غاية في البساطة. فهي تعني أن سماءً قلقة، أي مهتمة برفاهية الشعب (ارجع إلى الفصل الأول)، تمنح تفويضًا للمحسنين الورعين الذين يتعهدون، مِثلها، برفاهية الشعب. كانت هذه هي حالة الحكام الأوائل لأسرة شانج وفقًا لوثائق «كتاب التاريخ». ولا بد ألا يهجر هؤلاء الرجال ووارثوهم الفضيلة إذا أرادوا الحفاظ على التفويض. ولو فعلوا ذلك، أي انحرفوا عن طريق الفضيلة، فقد تخلَّوا عن حقهم في الحكم، وبناءً على هذا، تسحبه منهم السماء.

وتجدر الإشارة إلى أن السماء لا تتصرف من تلقاء نفسها، بل تستجيب لرغبات الشعب ومشيئته. فمن خلال «البكاء والتضرع للسماء»، يعبر الأفراد عن عدم رضاهم واستيائهم من الحاكم، ومن الأوضاع السائدة في الدولة. هذا يؤكد على أن السماء قوة مهمة — وسلطة قوية — في الديناميكية السياسية، لكنها أشبه بوكيل ينوب عن مصالح الشعب. تشير عبارة مشهورة من «كتاب التاريخ» إلى تلك النقطة المهمة بدقة، فتقول: «ترى السماءُ بعينَي الشعب، وتسمع بأذنَي الشعب.» عندما تحقق مطلب الشعب، فإنها لا تفعل ذلك بدافع التعنت أو الدكتاتورية. فهي لا تمنح تفويضها ولا تسحبه بهواها وكما يحلو لها.

ولا بد من التوضيح أنه ليست ثَمة «حتمية» في أمر التفويض. فالحكام يفوزون به عَبر الحكم بالفضيلة والإحسان، ويخسرونه بالتخلي عن الحكم بالفضيلة والإحسان. فلا تتصرف السماء اعتباطًا. وفي «كتاب القصائد» تنبه قصيدة خلفاء الحاكم وين، مؤسس دولة تشو الشهير، أن المحافظة على التفويض أو ضياعه بأيديهم وحدهم، فتقول:

ليس من السهل المحافظة على التفويض،
وقد لا ينتهي به المآل في نسلكم.
أظهِروا سمعتكم الطيبة وأبرِزوها،
وتذكَّروا ما فعلَته السماء بيِن [أي: شانج].
وأفعال السماء العالية،
لا صوت لها ولا رائحة.
اتخِذوا قدوتكم الملك وين،
وستثق بكم كل الدول.

إن الرسالة التي حملتها القصيدة قاطعة؛ لا بد أن يكون الحاكم ورعًا حتى يحظى بالتفويض، فإن تخلى عن الورع فسيخسر التفويض. في النهاية، علاقة الحاكم بشعبه ومعاملته له هما ما يحدِّد مصير التفويض لا السماء. وعلى هذا المنوال يتعارض تفويض السماء على نحو واضح مع عقيدة «حق الملوك الإلهي» في أوروبا، حيث يكتسب الملوك شرعيَّتهم مباشرة من الرب الذي يحاسبهم على أفعالهم وحده. ولا يخضعون لإرادة الشعب، بل يتمتعون بسلطة مطلقة.

كانت حادثة غزو تشو لشانج، في منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد، هي المناسبة التي أفصح فيها حاكم تشو عن مبادئ تفويض السماء للمرة الأولى. لو كانت نظرية التفويض ترويجًا بارعًا لإضفاء الشرعية على غزو تشو لشانج، فإنها يمكن أن تمنح، أيضًا وعلى نفس النحو، الشرعية لغزو الآخرين لدولة تشو. لهذا السبب تُناشد القصائد في «كتاب القصائد»، والوثائق في «كتاب التاريخ»، حكامَ تشو ليكرِّسوا أنفسهم لاتخاذ الفضيلة أساسًا لشرعيتهم. فالتفويض أمر محفوف بالأخطار؛ إذ يمكن الفوز به، ويمكن خسارته.

سيصبح مفهوم تفويض السماء راسخًا، حتى إنه عند دخول شعب المانشو «الهمجيين» الأغراب مدينة بكين في ١٦٤٤، وإعلانهم عن إنشاء دولة تشينج (١٦٤٤–١٩٢٢)؛ كان أول مرسوم يُصدره القادة، في دعوة الشعب الصيني للترحيب بحكم تشينج، هو استحضار روح تفويض السماء ولغته:

الإمبراطورية ليست ملكًا خاصًّا لأحد. فمن يتصف بالفضيلة يحوزها. والجيش والشعب ليسا ملكية خاصة لأحد. فمن يتصف بالفضيلة يحوز قيادتهما. ونحن قد حزنا الإمبراطورية الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤