الفصل السادس

الكونفوشيوسية في الممارسة العملية

رأينا حتى الآن كيف «نقل» كونفوشيوس رؤية سياسية اجتماعية مثالية من بداية حكم الأسرة تشو، وشاهدنا كيف وسَّع أتباعه الأوفياء هذه الرؤية، وخلال هذه العملية أضفَوا عليها معاني وتأكيدات جديدة، كما لاحظنا نهوض المفكرين بعد مرور ما يزيد عن ألف عام على موته لإعادة توجيه مسار رؤيته، موضحين أهميتها في سياق كون قائم على الجوهر والتشي، وهما مصطلحان لم يكن ليكترث بهما كونفوشيوس نفسه لو أنه شهد ظهورهما. لقد ركَّزنا حتى الآن على عالم الأفكار بشكل رئيسي، وتأملنا كيف صِيغت هذه الرؤية الأصلية للمعلِّم بطرق تأويلية مختلفة على مدار القرون الماضية.

لكن لم تبقَ هذه التعاليم قيد عالم الأفكار فحسب. فقد تجسَّدت في ممارسات الأفراد الطقسية، وفي حياة العائلة اليومية، وفي التربية الأخلاقية للعوام والمثقفين على حد سواء، وفي إدارة الدولة. ولو أننا وصفنا المجتمع والسياسية في الصين في فترة ما قبل الحداثة ﺑ «الكونفوشيوسية»، مما يوحي بانحصارهما فيها، وهو أمر غير مضمون؛ لكان في ذلك تبسيط مُخِل، والأحرى القول إنهما اعتمدا على مبادئ الفكر الكونفوشيوسي، وتأثرا بها على نحو كبير.

(١) إضفاء الطابع المؤسسي على الكونفوشيوسية

أصبحت الكونفوشيوسية عمادًا أيديولوجيًّا مهمًّا للدولة الصينية منذ حكم الأسرة هان. وكما رأينا في الفصل الأول، أصدر الإمبراطور وُو، فور صعوده إلى العرش في ١٤١ قبل الميلاد، قرارًا إمبراطوريًّا يقتضي طرد كل غير المنتمين إلى الكونفوشيوسية من العمل الحكومي، وبعد ذلك بسنوات قليلة، في ١٢٤ قبل الميلاد، أنشأ الأكاديمية الإمبراطورية التي اتخذت الكلاسيكيات الخمسة منهجًا أساسيًّا لها. وسيصبح طلاب الأكاديمية، الذين يُظهِرون معرفتهم بواحد أو أكثر من الكلاسيكيات الخمسة في اختبارات آخر العام، مسئولين مستقبليين، وسيحتلون مناصب في الديوان الحكومي فور شغورها.

حتى ذلك الوقت، كانت الكونفوشيوسية من ضمن المدارس الفكرية الكثيرة الموجودة على الساحة. لكنها احتلت الصدارة في الأيديولوجية الرسمية للصين بعد الإجراءات التي اتُّخذت في عهد الإمبراطور وُو. وأصبحت بحلول القرن العاشر أو نحو ذلك، مع زيادة استخدام اختبارات الخدمة المدنية، العقيدةَ المهيمنة؛ أي ما يشبه مذهب الدولة. وهكذا، مع بداية القرن الثاني قبل الميلاد، ازداد تحول الدولة الصينية إلى «الكونفوشيوسية»؛ أي إنها صارت دولة ذات إدارة نخبوية كونفوشيوسية، ترتكز سياستها ومبادئ حكمها، نظريًّا على الأقل، على التعاليم الكونفوشيوسية. (بالتأكيد، مثلما حدث مع المسيحية الغربية، كان هناك حالات انفصال متكررة بين قيم الدولة الصينية وممارساتها الفعلية.)

كان العمل في الديوان الحكومي، في نظر أتباع الكونفوشيوسية، أعلى مهنة في المجتمع وأهمها على الإطلاق. وانعكس هذا الاعتقاد في تصنيفهم الهرمي للوظائف الذي (وإن لم يُشرَّع بصورة رسمية) كان له تأثير كبير على مدار التاريخ الصيني. في هذا التصنيف، احتلَّ العالِم-الموظف (الكونفوشيوسي) قمة الهرم؛ وأتى بعده المزارع الذي كانت تثمر جهودُه تزويدَ العامة بالطعام؛ ثم الحِرفيُّ الذي وفَّر المنتجات والأدوات للأنشطة اليومية؛ وقبع في القاعدة التاجر. وُضع التاجر في أسفل الهرم، في إشارة إلى نظر الكونفوشيوسية للتجار على أنهم متطفلون، لا يصنعون ولا يفعلون شيئًا إلا المتاجرة في سلع «الطبقتين» الأكثر إنتاجيةً، وهما المزارعون والحِرفيون. واستمر هذا الانتقاص من شأن التجار عَبر معظم التاريخ الصيني الإمبراطوري، مع ازدياد هيمنة القيم الكونفوشيوسية على المجتمع. (لاحظ أيضًا عدم وجود العسكريين في التصنيف الهرمي، ما يشير إلى التمييز المستقبلي للثقافة للخدمة المدنية على الخدمة العسكرية، ويُلمح إلى النظرة الدونية بشكل عام إلى العسكريين وأنشطتهم التي ستسود في أواخر الحقبة الإمبراطورية.)

ربما كان يجني التجَّار، الأقل شأنًا في المجتمع، ثروة كبيرة، ويعيشون في رفاهية وراحة، في حين يكافح القرويون أغلب الوقت للبقاء على قيد الحياة. في الحقيقة كان من الممكن أن تتخطى بسهولة ثرواتُ التجار ثرواتِ أبرز المسئولين. ولكن ما كانت لتمنح هذه الثروةُ التجارَ تلك المكانة الاجتماعية والوجاهة المرتبطة بموظفي الدولة، ولعل هذا يفسِّر إصرار التجار الناجحين في الغالب على دراسة أبنائهم لاجتياز اختبارات الخدمة المدنية بدلًا من العمل معهم في التجارة. فقد كان يُعتقد أن موظفي الدولة ينالون التعيين في الخدمة المدنية بمهارتهم الاستثنائية وأخلاقهم الحميدة، بل بلغت مهارتهم وأخلاقهم الغاية التي لا غاية وراءها، حتى إنها جذبت انتباه الإمبراطور نفسه. وبعد شَغلهم لوظائفهم، كانوا يقفون إلى جانب الإمبراطور، يقدمون له الدعم والنصح حول كيفية تحقيق السلام والانسجام في الإمبراطورية. فقد كانوا بمنزلة نخبة المجتمع، أو «نجوم السماء» كما يقول القول الدارج.

وقد استخدمت الحكومات الصينية أساليب متنوعة لتوظيف المسئولين المدنيين. أشهرها كانت التوصية، وفيها تنقل السلطات المحلية أسماء الأفراد المميزين إلى العاصمة من أجل التعيين في الخدمة المدنية؛ و«التعيين بالوساطة»، وهو امتياز يقتصر على مسئولين من رتب محددة، ويسمح لهم بترشيح واحد أو أكثر من أبنائهم أو أفراد عائلتهم للخدمة المدنية؛ والاختبارات التي تُعقد تحت إشراف الدولة، ويؤدي النجاح فيها إلى حيازة مكانة رسمية في الخدمة المدنية، إن لم يكن منصبًا رسميًّا دائمًا. وستصبح اختبارات الخدمة المدنية، من بين هذه الأساليب، أكبر وسيلة للتوظيف، وأعلاها شأنًا إلى حد بعيد.

(٢) نظام اختبار الخدمة المدنية

وسَّع حكام أسرة سوي (٥٨٩–٦١٨) استخدام الاختبارات، وأَجرَوها في أرجاء الإمبراطورية. جاءت بعد ذلك أسرة تانج (٦١٨–٩٠٧)، وسارت على نهج سوي في مسألة الاختبارات، ووسعت مجال تطبيقها، فأقامتها بشكل منتظم أكثر، وجلبت أعدادًا أكبر من المسئولين — الذين لم يكونوا الغالبية بأي شكل من الأشكال — من خلالها. لكن كانت مكافأة الناجحين في الاختبارات بأعلى المناصب في الديوان الحكومي، في أواخر عهد أسرة تانج، ما أعطى نظام الاختبارات دفعة كبيرة. وبحلول القرن التاسع عشر، حتى أولئك الذين ربما كان بإمكانهم نَيل منصب في الخدمة المدنية بطريق صلة القرابة، رأَوا أنه من الضروري الخضوعُ للاختبارات، إذا ما أرادوا الحصول على منصب ذي أهمية. ومنذ ذلك الوقت، ولمدة ألف عام تامَّة، وحتى السنوات الأولى من القرن العشرين، كان الطريق إلى طبقة النخبة في الصين يمرُّ من خلال نظام الاختبارات.

اعتمد نظام الاختبارات، من وقت اكتماله في أواخر حقبة أسرة تانج وحتى أوائل القرن العشرين تقريبًا، بشكل شبه كامل على التعاليم الكونفوشيوسية؛ فقد كانت غايته، على أي حال، توظيف المسئولين الذين من شأنهم المساعدة في حكم الدولة التي تعرِّف نفسها بأنها كونفوشيوسية. أما شكل الاختبارات والأهمية المعطاة لأجزائها المختلفة (مثل تفسير الكلاسيكيات، والكتابة الشعرية، وأسئلة السياسات، والأسلوب النثري، وفن الخط)، فقد يتغيران بتغير العصور، لكن تظل المعرفة الكونفوشيوسية محور الاختبارات بلا مجال للشك. وقبل القرن الثالث عشر، كان يُنتظر من المرشحين إثبات إتقانهم للكلاسيكيات الخمسة على وجه الخصوص؛ إذ كانت محور الاختبارات. وفي عام ١٣١٣، ومع ازدياد هيمنة مدرسة تشو شي، أصدرت الحكومة مرسومًا يقضي بتغيير محور الاختبارات، ليكون الكتب الأربعة، ولا سيما تفسير تشو شي لها.

كان تأثير نظام الاختبارات في المجتمع الصيني واضحًا وضوح الشمس. وجرت العادة أن يبدأ الأطفال دراسة الكتب التمهيدية الكونفوشيوسية، مثل «الثلاثيات الكلاسيكية»، في منازلهم وتحت إشراف أمهاتهم. وفي حال استكمالهم التعليم — حيث إن نسبة ضئيلة من الأطفال الصينيين كانت تستكمل تعليمها بسبب محدودية الموارد العائلية — ينتقلون إلى دراسة كتب «التعليم الكبير»، و«المختارات»، و«منشيوس»، و«الحفاظ على التوازن المثالي» عند بلوغ سن السابعة أو نحو ذلك، وتحت إشراف معلم خاص أو معلم القرية. وقد كانت عملية التعلم شاقة، ولا تتحدى بالضرورة العقل أو تستثيره. وفي معظم الأوقات كان يقضي الأطفال أوقاتهم في استظهار ما جاء بالكتب أو «تسميعها بظهرهم». وفي طقوس «التسميع بالظهر»، يدنو التلميذ من مكتب أستاذه، ويولِّيه ظهره، في حين يلقي على أسماعه السطر أو السطور التي أمره بحفظها، فيتلوها من ذاكرته وبصوت عالٍ. وإذا نجح في التسميع دون ارتكاب أي خطأ، عاد إلى طاولته، ويبدأ في حفظ السطور التي تليها. لكن إذا نسي كلمة أو استبدل كلمة بأخرى، فسيأمره أستاذه بالعودة إلى مقعده، بضربة من عصاه الخيزرانية، كي يواصل الحفظ. وقد كفل هذا النظام التعليمي أن «يعرف» الطفل الكتب الأربعة عند بلوغه سن الخامسة عشرة، أي يكون قادرًا على تسميعها من بدايتها إلى نهايتها، سطرًا سطرًا، دون خطأ.

fig5
شكل ٦-١: شكل الفصول الدراسية في الصين في القرن التاسع عشر. والتلاميذ الواقفون أمام مكتب المدرس «يسمِّعون بالظهر» كتابًا ما؛ أي يتلون ما جاء به بصوت عالٍ من ذاكرتهم.

عند سنِّ الخامسة عشرة، إذا شُهد للطفل بالبراعة، وبلغت موارده العائلية حد الكفاية، فسيستكمل تعليمه غالبًا، وسيضع نُصب عينيه اختبارات الخدمة المدنية. ولم تكن فرص الحصول على «جِن شي»، أو درجة «العالِم المميز»، وهي أعلى درجة في الاختبارات، كبيرةً في الواقع. وكان على المرشَّح خوض اختبار المقاطعة أولًا، فإذا اجتازه كان له الحق في خوض الاختبار الإقليمي الذي يُعقَد كل ثلاث سنوات، فإذا اجتازه سُمح له بالانتقال إلى العاصمة الإمبراطورية والمشاركة في الاختبار الذي يُعقَد في العاصمة، كل ثلاث سنوات أيضًا.

وتشير الدراسات إلى أن أقل من واحد بالمائة مِن المتقدمين لاختبارات المقاطعة ينجحون في اختبارات العاصمة في نهاية المطاف. لكن حتى كل هذه التحديات الطويلة لم تَثنِ تقريبًا كل الصينيين الذين يجيدون القراءة والكتابة عن السير في مسار الاختبارات. وكان أعلاهم همةً يتوق إلى نَيل درجة «العالِم المميز»، التي تكفل له منصبًا حكوميًّا وثروة ومكانة مرموقة في المجتمع في أواخر الحقبة الإمبراطورية. والأكثرية، التي أدركت أن فرصها في «إصابة الهدف المنشود» (أي حيازة لقب العالم المميز) ضئيلة للغاية، انخرطت في الإعداد للاختبارات للانتفاع بالميزات التي يقدمها النظام. فقد كان الحائزون على درجة «شينج يوان»، وهم الناجحون في المجموعة الرئيسية الأولى من اختبارات المقاطعة، يُكافَئون ببعض الميزات، رغم عدم ترشحهم للعمل في الحكومة، مثل الإعفاء من العمل بالسُّخرة والعقاب الجسدي. كما يمكِّنهم من المفاخرة (ومعهم الحائزون على درجة «جو رِين»، الذين يعلونهم مباشرة في المرتبة) بوصولهم إلى مستوًى معين من العلم والمعرفة في الكتب الكبرى للتقليد الصيني، ما سيساعدهم في العمل في وظائف متنوعة، من بينها التدريس والتجارة وإدارة العقارات، وفي تشكيل شبكات اجتماعية نافعة.

وقد شكَّلت هذه الاختبارات ضغطًا على المتقدمين إليها يوازي حجم جاذبيتها. وكان المتقدمون للاختبارات يقضون سنوات، تمتد إلى عقود أحيانًا، للإعداد لها. كما كان الكثيرون يخفقون في اختبارات الإقليم أو العاصمة بشكل متكرر ثم يعودون للخضوع لها من جديد. في الحقيقة، كان متوسط سن الحائزين على درجة «العالم المميز» في امتحان العاصمة منتصف الثلاثينيات. وهذه السنوات الشاقة التي كرَّسها المرشحون المثابرون للاختبارات صارت مادة خصبة للروائيين وكُتاب الأدب الساخر في الصين. ومهما تجهَّز المتقدمون بشكل جيد، ومهما اتسعت معارفهم وترسخت بالتعاليم الكونفوشيوسية، كانوا يعلمون جيدًا أن فرصهم في النجاح ضئيلة إحصائيًّا. وليس من المستغرب أن يبحث الكثيرون عن مِيزة تنافسية لا تكون بالضرورة دائمًا أخلاقية أو قانونية.

fig6
شكل ٦-٢: مُجمَّع الاختبارات في كانتون في عام ١٨٧٣ تقريبًا. عند دخول المرشَّح إلى المُجمَّع سيُخصَّص له رقم «حُجيرة» في أحد الصفوف المُعلَّمة. ويحتوي هذا المجمَّع على ٧٥٠٠ حجيرة.

قد يلجأ الممتحنون إلى إحدى وسائل الغش الشائعة، والتي من بينها ارتداء لباس تحتي مع كتابة نصوص الكلاسيكيات أو مقالات الاختبارات النموذجية عليه؛ ولفُّ أوراق الغش في الأطعمة أو دسُّها بين أغطية السرير؛ وتأجير «محتالٍ»، وهو كاتب مقالات بارع خبير لانتحال شخصية الممتحن والجلوس مكانه في الحجيرة المخصصة له؛ وشراء سؤال الاختبار مقدمًا من الموظف المسئول عن الاختبار؛ ورشوة المراقب؛ وجعل شخص داخل أو خارج المجمع يكتب إجابة السؤال فور الإعلان عنه، ثم تمريرها له في حجيرته. ظلت الدولة تتخذ إجراءات للحدِّ من هذه الانتهاكات وغيرها الكثير مما ابتكره الممتحنون للتحايل على النظام. لكن لم تنتهِ حيل الممتحنين، وبالنظر إلى المكافآت التي تأتي مع النجاح بصفة أكيدة، كان إغراء الغش لزيادة فرص النجاح أقوى وأشد. واستمر هذا الفساد في تاريخ النظام. والمفارقة الكبيرة هنا أن نظام الاختبارات الذي يتمحور هدفه الصريح حول البحث عن أفضل العارفين بالتعاليم الروحية والأخلاقية للكونفوشيوسية؛ كان الغش يتفشى فيه.

fig7
شكل ٦-٣: لباس تحتي مكتوب عليه مئات المقالات النموذجية بحروف صغيرة جدًّا. وقد تُخيَّط «قمصان الغش» مثل القميص البادي في الصورة، والتي كُتب عليها نصوص الكلاسيكيات الكونفوشيوسية أو المقالات النموذجية في بطانة رداء الممتحن، ويستعين بها أثناء الاختبارات.

ومع ذلك، فقد كفل هذا النظام نشر الممارسات والقيم الأخلاقية الكونفوشيوسية بين أفراد المجتمع الصيني. فكما أشرت سابقًا، غالبية التعليم الصيني تركَّز على التعلم من أجل الاختبارات، ما عزَّز، بناءً على هذا، القيم التي تحض عليها تلك الاختبارات. وكان الأطفال، سواء أكانوا يعيشون في بكين أم شيان أم قوانجتشو، يقرءون الكتب التمهيدية نفسها، والكتب الأربعة والكلاسيكيات الخمسة نفسها، وفي أثناء قراءتهم للكتب الأربعة والكلاسيكيات الخمسة كانوا يقرءون جميعًا الشروح التي أقرَّتها الدولة. وبالمِثل، أتقنت النخبة المثقفة، سواء تقدمت للاختبارات في مقاطعة تشيجيانج أو شاندونج أو سشوان، الكتب التراثية نفسها، وكانوا جميعًا، كما يؤمَل، يُجسدون تلك الفضائل والقيم في أثناء عملية الاختبارات. فكان يُتوقع منهم التحلي بهذه الفضائل والقيم إذا ما حالفهم الحظ بالقدر الكافي ونالوا مناصب رسمية. ويوحي ذلك بأن نظام الاختبارات شكَّل قوة تكاملية فعَّالة في التاريخ الصيني. فقد ضمن، مهما ترامت أطراف الدولة الصينية، ومهما كثر شعبها وتنوَّعت مشاربهم، وجود ثقافة مشتركة واسعة الانتشار، أي نظام من القيم والمعتقدات والأعراف يخلق ما يشبه الوحدة بين أفراد المجتمع، ويجعل من السهل أكثر إدارتهم من مركز إمبراطوري واحد.

ومن اللافت للنظر أنه على الرغم من أن هذه الاختبارات دعت إلى قيم واهتمامات المدرسة الكونفوشيوسية، فقد خضع نظامها، بداية من حكم الأسرة تانج، إلى سلسلة من الانتقادات من جانب الطبقة المثقفة الكونفوشيوسية نفسها. وتضمَّنت الاعتراضات الشائعة على النظام ما يأتي:
  • المكافأة على استظهار الكلمات دون فهم، والتمسك بالقواعد الأدبية الصارمة لا التفكير النقدي أو الإبداع.

  • الحض على اكتساب المعرفة التراثية النظرية، لا المعرفة العملية المستخدمة في إدارة الدولة.

  • عدم فاعليته في تقييم أخلاق الممتحنين، والأفضل منه في العثور على رجال صالحين هو نظام قائم على التوصيات؛ لذا ينبغي أن يحل محله أو يكون إضافة تكميلية له.

  • صرف انتباه التلاميذ عن التعلم الحقيقي، أي التعلم بهدف التربية الأخلاقية؛ إذ صار التعلم، بدلًا من ذلك، وسيلة لنيل شهرة فارغة وتحقيق نجاحات دنيوية.

  • بث روح المنافسة المبتذلة والحامية بين الممتحنين، والكونفوشيوسي الصالح ليس من المفترض أن يتنافس مع أقرانه وفقًا للمُعلم كونفوشيوس.

لم تُرفض هذه الاعتراضات دون تدقيق، وفي بعض الأحيان أثارت جدلًا قويًّا. وقد خضع نظام الاختبارات، في الحقيقة، لكثير من التغييرات والإصلاحات على مدار العصور. ومع ذلك، ظلَّ كما هو لِما يقرب من ألف وخمسمائة عام، وكان ذا قوة مؤثرة في صياغة معايير الصين الاجتماعية والثقافية، والمحافظة عليها. وقد شكَّل أساسَ النظام الإمبراطوري الصيني.

(٣) الكونفوشيوسية والعامة

إذا كانت طبقة العلماء-الموظفين يمكن وصفها بالكونفوشيوسية، فماذا عن طبقة العامة التي لا سبيل لها إلى التعليم؟ إلى أيِّ مدًى يمكن وصفها بالكونفوشيوسية؟ مما لا شك فيه أن طبقة العامة قد تبنَّت الكثير من عقائد وقيم كونفوشيوس وتقليده. ومعظمها أدرك يقينًا (وإن لم يستوفِ بالضرورة) التزاماته تجاه والديه وأجداده، ومَن قدر على الاحتفاء بأسلافه من خلال تقديم القرابين الطقسية لم يتوانَ عن ذلك على الأرجح. فقد حضَّ المجتمع الصيني النخبة وعامة الناس، بوسائل رسمية وغير رسمية، على تَبنِّي الاعتقادات والممارسات الاجتماعية التي أقرَّتها الدولة، وذلك كما يأتي: درَّست المدارس في القرى للأطفال، حتى أولئك الذين ما كانوا سيواصلون الدراسة الجادَّة للاختبارات، المبادئَ والتعاليم الكونفوشيوسية الأساسية، وتلا المسئولون المحليون وكبار القرى على الناس البيانات، وما يُسمَّى بالمواثيق المجتمعية التي تدعم السلوكيات الاجتماعية القويمة، ونشر الأباطرة الإرشادات الأخلاقية، الكونفوشيوسية في نبرتها وعاطفتها، عَبر أنحاء الإمبراطورية، كما التزمت العائلات بطقوس الأسلاف والعائلة التي أقرَّتها المدرسة الكونفوشيوسية، وتوارثتها الأجيال جيلًا بعد جيل.

ثَمَّة شك في أن طبقة العامة، التي تشرَّبت قيم الثقافة المهيمنة وممارساتها، كانت سترى أن تلك القيم والممارسات «كونفوشيوسية». ويغلب على الظن أنها ببساطة كانت ستعتبرها أعرافًا تستحسنها الثقافة الصينية. لكنها في إحسانها للوالدين، واحترامها للأكبر سنًّا، وتوقيرها للأسلاف، كانت تتبنَّى ممارسات وقيمًا قد أصبحت بحلول القرن الثاني قبل الميلاد وثيقة الصلة بالتعاليم الكونفوشيوسية. وأرى أنه، في وصف طبقة العامة الصينية ﺑ «الكونفوشيوسية»، ينبغي توخِّي جانب الحذر، للأسباب الآتية: لا يمكن وصف معظم هذه الطبقة ﺑ «الكونفوشيوسية»؛ لأنهم لم يكرِّسوا أنفسهم لدراسة التعاليم الكونفوشيوسية، أو يعرِّفوا أنفسهم بأي شكل ظاهري أنهم من أتباع المدرسة الكونفوشيوسية، ومع ذلك، تأثرت حياتهم بممارسات الكونفوشيوسية وتعاليمها على نحو كبير.

في الحقيقة، قد يشكِّل الفصل بين ما هو «كونفوشيوسي» وبين ما هو «صيني» تحديًا تاريخيًّا لطلاب الثقافة الصينية. لنضرب مثلًا ببرِّ الوالدين. كانت هذه الفضيلة مُرتكَز تعاليم كونفوشيوس. ولا يجرؤ فرد في الصين الإمبراطورية على ادعاء اتباعه للمدرسة «الكونفوشيوسية» وهو لفضيلة برِّ الوالدين تارك. لكنها لفترة طويلة كانت لها مكانتها المهمة حتى من قبل مجيء كونفوشيوس واحتفائه بها. وربما كان كونفوشيوس وهو يقول لتلاميذه: «أنا ناقلٌ أكثر من كوني مُنشئًا» (٧: ١)، قد خطرت بباله فضيلة برِّ الوالدين وغيرها الكثير من ممارسات التقليد وتعاليمه. هل فضيلة بر الوالدين، إذن، «صينية» لتجذُّرها في ماضي الثقافة الصينية، وسبقِها ظهورَ كونفوشيوس ومدرسته؟ أم إنها «كونفوشيوسية» لأن كونفوشيوس، وهو ينتقي من الماضي، يعطي حياة وأهمية جديدة لقيمة معرضة لخطر الاندثار، ويضمن انتشارها الدائم بين الأفراد، من خلال ارتباطها التكاملي بمذهب الدولة الكونفوشيوسي؟ أرى أن الإجابة كلتاهما.

على أي حال، عندما أشير في هذا الكتاب إلى الفضائل التي استخلصها كونفوشيوس من التقليد الصيني القديم، وأصفها بأنها «كونفوشيوسية»، فأنا أثق أن القارئ يفهم من كلامي أنني لا أنسب منشأها إلى المعلم، ولا أَقصُر ممارستها على أتباعه المخلصين. فقد ضمنت تعاليم كونفوشيوس، عندما صارت مذهبَ الدولة، لنفسها انتشارًا عامًّا واسعًا في المجتمع الصيني.

(٤) الكونفوشيوسية والحاكم

يعود تقليد حكم الرجل الأوحد في الصين إلى ما قبل إضفاء الطابع المؤسسي على الكونفوشيوسية في القرن الثاني قبل الميلاد بفترة طويلة، أي ليس بعد ١٤٠٠ قبل الميلاد، حيث تشهد الكتابات الموجودة على العظام المستخدمة في العرافة على سلطة ملوك شانج وقوتهم. لكن مدح التعاليم الكونفوشيوسية الكبير لفضائل حكم الرجل الأوحد لا شك أضفى المزيد من الشرعية على النظام التقليدي للحكم الفردي المطلق في الصين.

ولا شك أن كونفوشيوس افترض فاعلية حكم الرجل الأوحد لأن الحاكم سيتصرف مثل «رب الأسرة»؛ أي سلطة حانية حالمة ترشد الرعية إلى ما فيه صلاحها، كما يرشد الوالد ولده بإشفاق وقلق. فحكمه الفردي له ما يبرره من كمال الفضيلة والقدوة الحسنة، اللتين تستجلبان طاعة وولاء «أبنائه»؛ أي عامة الناس الذين ليس لديهم من التعليم والفضيلة ما يمكِّنهم من حكم أنفسهم. ومن خلال فضيلته وممارسته المثالية للطقوس سيُعلِّم رعيته السلوك القويم، واحترام النظام الهرمي، مما سيحقق التناغم في أرجاء مملكته. وكما يُتوقع من الوالد أن يتخذ القرارات بالنيابة عن ولده، يُتوقع أن يتخذ الحاكم القرارات بالنيابة عن رعيته. والحكومة المثالية، بالنسبة لكونفوشيوس، هي التي تنوب عن الرعية وترعى مصالحها، لا التي تتشكل من الرعية أو تقودها الرعية.

لو كان الحاكم صالحًا حقًّا فسيسير هذا النظام جيدًا. لكن، في الحقيقة، الحاكم الذي يمجِّده كونفوشيوس يندر وجوده. وهنا يطرأ السؤال: كيف سيعمل النظام السياسي على نحو فعَّال، وفقًا للنظام الكونفوشيوسي، في ظل غياب الحاكم الكونفوشيوسي الكامل الفضيلة؟ لا شك أن كونفوشيوس كان يعتقد ويرجو أن مسئولي الدولة الذين تربَّوا على مبادئ الكونفوشيوسية سيكونون بمنزلة الرقيب على سلطة الحاكم، والمرشد الذي يقدم له التوجيه عند الحاجة. لكن تظل الحقيقة أن الديوان الحكومي يعمل فيه «رجاله». فقد وصلوا إلى هذه المناصب عَبر تفضله، واجتياز الاختبارات التي قد أشرفت عليها حكومته، واختبار القصر الإضافي الذي أشرف عليه بنفسه. فالإمبراطور هو المسئول عن تعيينهم وفصلهم، وإليه وحده يرجع قرار نفيهم أو قتلهم. وهذا لا يعني أنني أقول إن العلماء-الموظفين لم ينتقدوا قرارات الأباطرة، بل فعلوا ذلك معرِّضين أنفسهم لخطر عظيم. فلا أعتقد أن تحدي سلطة الأباطرة كان أمرًا عرَضيًّا أو روتينيًّا.

المشكلة الجوهرية في التاريخ الصيني الإمبراطوري كانت ما يأتي: عند عجز الأيديولوجية الكونفوشيوسية عن التأثير في إرادة الإمبراطور وتقييدها فلا سبيل إلى إصلاح ذلك. هذا لأنه ليست هناك أي قيود قانونية أو دستورية على سلطة الإمبراطور أو تصرفاته، ولا مؤسسات أو مناصب ذات سلطة شرعية لمراقبة سلوكه عند انحرافه عن المُثل الكونفوشيوسية. وعلى هذا، قد يسيء الحكام استخدام سلطاتهم، أو يهملون واجباتهم ويفلتون من العقاب، وقد حدث ذلك بالفعل في أحيان كثيرة.

لننظر إلى تاي تسو، أول إمبراطور لأسرة مينج (الذي حكم من ١٣٦٨ إلى ١٣٩٨) وهو رجل عامي أتى إلى العرش قائدًا لحركة ثورية. قيل إنه كان يُضمِر سوء الظن والحسد الشديدَين لطبقة العلماء-الموظفين المثقفين؛ إذ كانت لديه معرفة بسيطة بالقراءة والكتابة. وفي عام ١٣٨٠، شك في أن رئيس الوزراء كان يخطط للإطاحة به، فألغى أمانة السر، وهي الكيان الإداري المركزي للحكومة، وأمسك بنفسه بكل مقاليد الحكم تقريبًا. ولم تحمل آراء هؤلاء العلماء أي وزن بالنسبة إليه. ومَن كان يغضبه منهم يأمر بجَلده وضربه بالعصا (حتى الموت في كثير من الأحيان)، على مرأًى ومسمع من البلاط. وهكذا، في عهد تاي تسو حلَّ الحكم المطلق القاسي، والوحشي في بعض الأحيان، محل الحكم الأبوي الحاني.

وكان الإمبراطور تيان تشي (الذي حكم من ١٦٢٠ إلى ١٦٢٧) حاكمًا مهملًا، يحب قضاء يومه في النجارة وصناعة الأثاث الفاخر، بدلًا من الإشراف على إدارة المملكة. وبسبب إهماله — بل كراهيته في الحقيقة — لشئون الدولة، انتهز خصيُّ البلاط وِي تشونج شيان الفرصة للسيطرة على الديوان الحكومي. فأسرع في إعطاء مناصب السلطة لأعوانه الانتهازيين، وفرْض ضرائب ظالمة على الرعية، والتخلص بصورة وحشية من مئات العلماء-الموظفين الذين تجرءوا على معارضته. باختصار، أدى إهمال تيان تشي لأمور الحكم إلى عصر من الطغيان الفاضح لم تستطع الأسرة الحاكمة التخلص منه أبدًا. وفي غضون عقدين من تقلد وِي مقاليد السلطة، انهارت أسرة مينج.

هذان المثالان متطرفان بعض الشيء، لكني ذكرتهما بغرض الإشارة إلى احتمالية وقوع أمور سيئة عندما لا يعتنق أصحاب المناصب العليا في الحكومة المُثل الكونفوشيوسية (وذلك بسبب عدم وجود قيود دستورية). لكن، في معظم الوقت، كان المسئولون والحكام، وإن لم يجسدوا بشكل كامل مُثلَ الكونفوشيوسية، أقوياء وأكْفاء بالقدر الكافي، بحيث أمكنهم الإشراف على شئون الدولة، والدفاع عن مصالح أسرتهم الحاكمة.

(٥) الكونفوشيوسية والعائلة

أشار كونفوشيوس في «المختارات»، كما رأينا في الفصل الثاني، إلى الأهمية الجوهرية للعائلة في المجتمع الصيني، زاعمًا أنها محور الاندماج السلوكي والأخلاقي. فالفرد يتعلم في العائلة كيف يكون «صينيًّا»، كما يتعرَّف على القيم والأعراف والممارسات التي تميز الصينيين عن بقية العالم «الهمجي». وبالإضافة إلى ذلك يطَّلع من خلالها على النظام الهرمي القياسي للمجتمع، حيث تكون الأجيال الأكبر سنًّا أعلى شأنًا من الأصغر سنًّا؛ والكبار أعلى مقامًا من الصغار؛ والرجال أعلى منزلة من النساء.

كانت العائلة أبوية النسب، ما يعني ببساطةٍ أنه كان يُستدل على سلسلة النسب من خلال الذكور، بدايةً من الجدِّ المؤسس. كان الأطفال يرثون لقب عائلة الأب رغم انحدارهم من أم وأب. ولهذا، تستمر سلسلة نسب العائلة في حال إنجاب ذرية من الذكور فحسب. لهذا السبب كانت تُعتبر ولادة الابن، في الأزمنة الأولى من التاريخ الصيني، بمنزلة «سعادة كبيرة»، في حين كانت ولادة البنت تُعَد «سعادة صغيرة». هذا لأن الولد كان يحمل اسم العائلة، أما البنت فإنها تتزوج و«تدخل» عائلة الزوج، حيث تصير مسئوليتها الأساسية ضمان استمرارية سلسلة نسبه إلى جيل آخر. وفي تعليق لمنشيوس تردَّدت أصداؤه عبر مختلف الأزمنة، قال: «هناك ثلاث وسائل للعقوق، أسوَءُها ألا يكون لك وريث على الإطلاق» («منشيوس»، ٤أ: ٢٦).

ما نتائج توقف سلسلة النسب؟ أكثر هذه النتائج ألمًا هي عدم وجود مَن يعتني بالأسلاف. ولا يوجَد ما هو أكثر أهمية من الأسلاف في الثقافة الصينية. فهم المسئولون عن وجود الفرد بالكلية. فما كان للفرد أن يوجَد دون والده وجدِّه، فما فوق. لذا كان يعرب عن امتنانه لأجداده بتوقير أرواحهم من خلال أداء ما يُسمَّى بالطقوس السَّلفية. وهذه الطقوس التي انتقلت عَبر الكتب التقليدية، مثل «كتاب الطقوس»، و«الطقوس العائلية» (الذي جمعه مفكِّر الكونفوشيوسية الجديدة تشو شي)، حافظت على بقاء ذكرى الأسلاف حيَّة، وأدامت وجودهم في العالم الروحي. وبتوقف هذه الطقوس كانت تنتهي ذكرى الأسلاف وأرواحهم.

بالطبع، في المجتمعات الغربية المتأثرة بالإسلام والمسيحية واليهودية، كان الأسلاف يستوجبون البرَّ والعطف والاحترام أيضًا. لكنْ هناك اختلاف جوهري بين هذه التقاليد الإبراهيمية الغربية، والتقليد الكونفوشيوسي الصيني. في الغرب، كان الرب الواحد هو المسئول عن خلق كل ما كان، وكل ما هو كائن. وهو مَن أوجد البشرية في صورة آدم وحواء؛ لذا فهو المسئول في النهاية عن وجود جميع البشر. ولا شك في أن الملتزمين بهذه التقاليد كانوا يعظِّمون أنسابهم، لكنهم كانوا يُظهِرون غاية التبجيل والاحترام للرب المسئول الأول عن إيجاد أنسابهم. أما في الثقافة التي لم يوجَد فيها إيمان أصيل بوجود إله خالق — ولم ينتشر فيها ذلك المعتقد الغريب عنها — فكان النسب البيولوجي وحده المسئول عن وجود الفرد، وهو المستحق للشكر والمدح.

تقوم العلاقة بين السلف والخلف على مبدأ المعاملة بالمثل، كما في كل العلاقات القياسية الأخرى في الصين. فكما يتعهد الآباء والأجداد الصغارَ بالإرشاد والحماية، يواصل الأسلاف أيضًا مدَّ العائلة بالإرشاد والحماية. وهم يفعلون ما يستطيعون لضمان التوفيق، والحصاد الوفير، وسلامة الإنجاب لأحفادهم الذين، بدورهم، يوقِّرون أرواحهم ويقدمون القرابين، من المأكولات (كالبرتقال ولحم الخنزير والمشروبات الكحولية والحلوى)، والمؤن (كأوراق اللعب، ولفائف الكتابة، والتبغ، والنموذج الورقي لعربة فاخرة)، التي عُرف عنهم محبتهم لها، في مذبح العائلة في المنزل، وذلك في يوم ميلادهم وغيره من المناسبات المهمة. ولو كانت العائلة غنية من ناحية سلسلة النسب (تتكون سلسلة النسب، عند الصينيين، من كل الفروع التي تنحدر من جد ذكر واحد) تُوضع القرابين في قاعة القرابين في معبد العائلة. وقد يؤدي نسيان أحد الأسلاف، حسبما يُعتقد، إلى سوء الحظ، مثل مرض العائلة أو فساد المحاصيل أو فشل الأعمال. كما قد تؤدي العناية به بعد إهماله، وتذكره بوفاء بما يتوافق مع الطقوس، إلى بعض الفرج أو التحسن في علاج المشكلات التي تمرُّ بها العائلة.

fig8
شكل ٦-٤: يوقِّر أفراد العائلة أسلافهم عند مذبح العائلة. (تقف العائلة على هذا النحو لالتقاط الصورة، ولولا ذلك لكانت تستقبل المذبح).

يثير ذلك فارقًا كبيرًا آخر بين التقليد الصيني والتقليد الغربي السائد. في الغرب تتسع الفجوة التي تفصل بين العالم الدنيوي و«العالم الآخر». وهذا «العالم الآخر» يترأسه ربٌّ غير مادي وغير مألوف. ويتصف ذلك الرب بتمام القدرة، فلا تحدُّه قيود التبادلية. كما لا تحيط به عقول البشر على الإطلاق، ما يعني أن خططه فيما يتعلق بالبشر غير معلومة بالمرَّة. وعلى هذا، يُطلب من البشر الإيمانُ بالرب في تضرعهم له، وبحثهم فيما وراء العالم المادي عن الهداية والأمل. وفي التقليد الصيني نجد العم الثاني فينج والجد فينج يستقران في العالم الآخر. وهما لا يتصفان بالغموض ولا عدم المادية بالنسبة للأجيال الأصغر من الفينج. ويتلقى صغار الفينج التوجيه والإرشاد منهما منذ البداية. ويتشاركون معهما الوجبات، ويعلمون أطعمتهما المفضلة. وينضمون إليهما في كل المناسبات العائلية المهمة، مثل ارتداء القبعة في البلوغ والأعراس والجنائز والمراسم الخاصة بالأسلاف. كما يساعدون في العناية بهما عندما يكبران في السن. وصغار الفينج، وهم يَئوبون إلى العالم البعيد عن عالمهم، يمكن أن يكونوا على ثقة أن روحَي العم الثاني والجد لا تزالان منشغلتين برفاهية العائلة، وستفعلان ما تستطيعان لنفع أفرادها وحمايتهم من الأذى. هذا يعني أن «العالم الآخر» في الصين ليس منفصلًا أو بعيدًا تمامًا. لذا، ربما من الأفضل فهمه لا باعتباره عالمًا «آخر»، ولكن باعتباره جزءًا من عالم العائلة.

وللطقوس السلفية وظائف متعددة، سواء أُقيمت في مذبح بيت العائلة المتواضع، أم في قاعة القرابين الكبيرة في معبد الأسرة. فهي تعرب عن امتنان العائلة لكل ما قدَّمته الأجيال السالفة، بما في ذلك إمدادها بالحياة، وهو الشيء الأهم على الإطلاق؛ وتحافظ على ذكرى الأسلاف وبقائهم في عالم الأرواح؛ وتقلِّل حدَّة الخوف من الموت؛ إذ يرى الأحياء أنهم يواصلون دورهم في حياة العائلة حتى بعد رحيلهم عن عالم الدنيا؛ وتوطِّد أواصر العائلة، وتقوِّي طابعها المتحد؛ لأنها تجمع أفرادها معًا للاحتفال بذكرى أسلافهم.

ولا يُقصد من التركيز هنا على القرابين وتوقير الأسلاف الإشارةُ إلى أن الصينيين كانوا لا يؤمنون بالآلهة والأرواح. كانت هناك آلهة وأرواح في العالم الطبيعي تتحكم في الأنهار والجبال والرياح والفصول وما شابه. كما كانت هناك آلهة وأرواح تقدِّم الدعم والراحة لأتباع التاوية والبوذية وغير ذلك من الطوائف الدينية المشهورة. لكن الإيمان بأرواح الأسلاف وتقديم الاحترام لها عَبر الطقوس كانا شائعَين في المجتمع الصيني، وهو تقليد التزم به كل الصينيين تقريبًا (ومن بينهم أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أتباعًا للتاوية والبوذية)، بغضِّ النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.

(٦) الكونفوشيوسية والمرأة

قال كونفوشيوس: «يصعب التعامل بشكل خاص مع المرأة والرجل الوضيع» (١٧: ٢٣). وقد حاول الكثير من المفسرين، على مرِّ العصور، تخفيف حدَّة هذا التعليق، لكنهم عجزوا عن إخفاء استخفافه بالنساء بشكل عام. في الحقيقة، لا يوجَد في «المختارات» أو غيره من الكتب التراثية ما يوحي بأن البرنامج الكونفوشيوسي لتهذيب النفس، والوصول إلى الكمال الأخلاقي، كان قابلًا للتطبيق على النساء. وكانت تعاليم كونفوشيوس، وغالبية أتباعه اللاحقين، حسبما بدا، تخاطب الرجال فحسب.

أشارت الفرضية، التي تقول إن النساء لا يمتلكن إمكانات أخلاقية مماثلة للرجال، إلى أنه لا وجود للنساء في الحياة العامة، في الفلسفة الكونفوشيوسية، وهو تحيز سيستمر حتى القرن العشرين. ولم يُسمح للنساء على الإطلاق بالعمل في الخدمة المدنية، ولا أن تطأ أقدامهن مجمَّع الاختبارات. فقد اقتصرت مسئولياتهن على خدورهن؛ أي على الشئون المنزلية.

ولا يعني ذلك أن المرأة لم تتمتع بسلطة سياسية. لكن السلطة التي مارستها لم تنلها من السلطة المؤسسية الشرعية الخاصة بها، بل من اقترابها من ذكر قوي. ويمتلأ التاريخ الصيني بعشيقات القضاة والوزراء والأباطرة وزوجاتهم وأمهاتهم اللاتي تمتَّعن بسلطة سياسية قوية. ويجدر التعرُّض هنا للإمبراطورة الأرملة تسي شي (١٨٣٥–١٩٠٨)، التي حكمت بلاط تشينج في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بأكمله، أولًا كأم للإمبراطور تونج تشي (الذي حكم من ١٨٦٢ إلى ١٨٧٤)، وثانيًا كعمَّة للإمبراطور قوانج شو (١٨٧٥–١٩٠٨، والذي عيَّنته بنفسها)، وثالثًا كحاكمة بحكم الأمر الواقع بعد عام ١٨٩٨. في الحقيقة، كان هناك استثناء لهذه القاعدة لافت للنظر حقًّا، وهو الإمبراطورة وُو (التي حكمت من ٦٩٠ إلى ٧٠٥) من أسرة تانج. ففي عام ٦٩٠، نظرًا لكونها زوجةً للإمبراطور قاو تشونج (الذي حكم من ٦٤٩ إلى ٦٨٣)، اعتلت العرش وأعلنت نفسها «ابنًا للسماء». وهي الحادثة الأولى من نوعها — والأخيرة — أن يكون هناك ابن للسماء أنثى في تاريخ الصين الطويل.

والفتيات، وإن لم تتقدم للاختبارات أو تصبح من طبقة العلماء-الموظفين على الإطلاق، فإنها عند نشأتها في بيوت النخبة تتعلم عادةً قراءة الكتب التمهيدية والنصوص الكونفوشيوسية، مثل «المختارات» و«منشيوس» و«كتاب القصائد» و«كتاب بر الوالدين»، و«دروس للنساء» الذي كتبته بان تشاو من أسرة هان الحاكمة. فقد ساد اعتقادٌ في ذلك الوقت أن التعرُّض لهذه الكتب وتعاليمها سيجعل منهن نساءً كونفوشيوسيات فُضليات، وقدوات للأخريات. وافتُرض أيضًا أن وجود الفتيات المتعلمات في الأسرة سيعزِّز من مكانتها الاجتماعية، في إشارة إلى امتلاكها للموارد والاستثمار الثقافي في تعليم بناتها، بالإضافة إلى أبنائها. لكن كانت هناك قوة دافعة إضافية لتعليم الفتيات، وهي زيادة فرصهن في الزواج، ما يعني أنهن يصبحن أكثر جاذبية للعائلات التي تبحث عن زوجات؛ يمكنهن القيام بدور المعلِّم لأبنائها الصغار عندما يصرن أمهات، فيدرِّسن لهم الكتب الكونفوشيوسية الأساسية. ولا تتلقى الفتيات في غير بيوت النخبة التعليم إلا عددًا قليلًا منهن؛ فهن سيتعلمن بدلًا من ذلك كيفية مباشرة الأعمال المنزلية التي ستصير مسئوليتهن لبقية حياتهن، والتي تتمثل في الخياطة والنسج والطهو والتنظيف وزراعة الحقول في بعض الأحيان.

كان الزواج، بالنسبة للفتاة، حدثًا غير عادي. ففي يوم عُرسها، تغادر الفتاة، التي تكون من منتصف مرحلة المراهقة إلى أواخرها عادةً، بيتَ أهلها، وتذهب إلى بيت عريسها، كي تعيش مع والديه، وشقيقاته اللائي لم يتزوجن بعد، وأشقائه وزوجاتهم وأطفالهم. وعندما تصل إلى بوابة منزل العريس أو ضيعته، تنحني للأجيال الأكبر سنًّا من عائلته وأسلافهم. وهكذا، تصير عائلته عائلتها، وأسلافه أسلافها. وستقدم القرابين لهؤلاء الأسلاف، لا إلى أسلافها من جهة الدم، وتعبِّر عن احترامها لهم. فقد أصبحت تنتمي الآن إلى سلسلة نسب عائلة العريس.

ولا بد أن فقدان الهوية المصاحب لعملية الانتقال إلى عائلة الزواج كان صادمًا لكثير من الفتيات. لنتخيل الأمر؛ قد يكون يوم العرس أولَ مرة تقع فيها عينا العروس لا على عائلة العريس الكبيرة، بل على العريس نفسه. فهي لم تعرفه من قبل، ولا لعبت أي دور في ترتيب هذه الزيجة معه. كان الزواج مجرد اتفاق بين والديه ووالديها، ربما بمساعدة خاطبة، وبالاعتماد على ما يخدم المصالح المتبادلة للعائلتين. وقطعًا لم يكن هذا عقدًا مبنيًّا على الحب يدخل الزوج والزوجة فيه بإرادتهما الحرة.

فلدينا هنا فتاة صغيرة جدًّا تنضم إلى عائلة غريبة عنها، وتواجه خليطًا من العلاقات الجديدة التي تحتاج إلى التعامل معها. فهناك والدا زوجها وأصهارها وسلائفها وبنات الإخوة وأبناء الإخوة، ناهيك عن الخدم والوصيفات والمَحظيَّات والطهاة، وما إلى ذلك. وكي تعيش مع هؤلاء تحت سقف واحد، لا بد أن تنسجم معهم، ولو لمجرد تسهيل حياتها الجديدة.

كانت العروس الشابة تتعلم من عائلتها الأصلية، وتعاليم بان تشاو في كتاب «دروس للنساء»، ما هو ضروري من أجل «النجاح» في عائلتها الجديدة؛ أن تخدم والدَي زوجها بتفانٍ، وتطيعهما في كل ما يأمرانها به. فقد صار والد الزوج ووالدته أبويها الآن. ومسئوليتها الرئيسية كانت إرضاءهما، ولا سيما والدة الزوج، بكل الوسائل الممكنة. فقد قرأت في كتاب «دروس للنساء» ما يأتي:

ليس هناك ما هو أفضل من الطاعة التي تجعل المرء يتخلى عن رأيه الشخصي. كلما قالت أم الزوج لزوجة ابنها: «لا تفعلي كذا»، وهي في ذلك النهي صائبة، أطاعتها زوجة الابن بلا جدال. وكلما أمرت أم الزوج زوجة ابنها قائلة: «افعلي كذا»، أذعنت زوجة الابن لها تمامًا، ولو كانت مخطئة في أمرها. يجب ألا تخالف المرأة رغبات والدَي زوجها وآراءهما عن الصواب والخطأ، وألا تجادلهما بشأن ما هو صالح وما هو فاسد. هذا «الخضوع» يمكن وصفه بالطاعة التي تجعل المرء يتخلى عن رأيه الشخصي.

كان من الضروري لزوجة الابن، التي هي غريبة عن العائلة، أن تجعل إرادتها تابعة لإرادة عائلة زوجها. وبهذه الطريقة وحدها، كانت ستنال رضا العائلة عن انضمامها إليها، بمرور الوقت.

ربما كانت بعض عائلات الأزواج ودودة لطيفة وأكثر ترحيبًا بالعروس الجديدة من بعضها الآخر. لكنها تشاركت جميعًا في توقعاتها من هذه الغريب؛ أنها ستحمل أطفال الزوج، وتواصل سلسلة نسب العائلة التي صارت سلسلتها هي أيضًا. ولا شك أن الفتاة قد تربَّت في منزل والديها البيولوجيَّين على أن هذه هي مسئوليتها في حال زواجها. لذا كانت على دراية بتوقعات هذه العائلة الجديدة منها عند انضمامها إليها، وتعلم أنها كلما سارعت في استيفاء هذه التوقعات، زادت احتمالية تحسين قدرها باعتبارها غريبة عن هذه العائلة. ولأنها كانت تعلم أنه لا وسيلة لتحسين وضعها أكثر من إنجابها لوريث، فقد كانت تأمل، مثل عائلة زوجها، أن تلد ولدًا. إذ إن «السعادة الكبيرة» لعائلتها الجديدة ستكون «سعادتها الكبيرة».

كان إنجاب الأطفال لا يُحسِّن وضع الفتاة في عائلتها الجديد فحسب. فهي ما إن «تتزوج»، كانت تترك خلفها كل الثراء العاطفي لعائلتها البيولوجية، وبدخولها لعائلة زوجها، كانت تصير، بشكل ما، غريبة تحت الاختبار. كان وجودها هناك، في معظم الأحيان، مجردًا من الإشباع العاطفي وروابط المودة الحقيقية إلى حد كبير. ومع إنجابها لطفل أو عدَّة أطفال، كانت تصير حياتها أكثر ثراءً من الناحية العاطفية وأقل وحدةً. فقد أوجدت لنفسها داخل عائلتها الجديدة الكبرى «عائلة رَحِمية» مترابطة، بحسب تسمية بعض علماء الأنثروبولوجيا، حيث يمكنها الرجاء أخيرًا في الحصول على قدرٍ من الحميمية العاطفية. (وقد تتخيل أيضًا ذلك اليوم الذي تصير فيه حماةً لزوجات أبنائها، وتحظى بالسلطة والاحترام والمعاملة المميزة مثل حماتها.)

كان دورها الأمومي يحتِّم عليها توجيه أطفالها الصغار. فهي معلمتهم الأولى. فنجد كتاب «المختارات للنساء»، وهو نص يعود إلى القرن التاسع يوضح «الطريق الكونفوشيوسي للنساء»، يؤكد على ما يأتي: «لدى معظم العائلات أبناء وبنات. … وتقع مسئولية توجيههم على الأم وحدها.» كان توجيه الأم يأخذ شكل تجسيدها للأخلاق الحميدة، وسرد القصص والأحداث التاريخية والنوادر من التقليد الذي يعلِّم الأخلاق الكونفوشيوسية. والأمهات المتعلمة كانت تقرأ بصوت عالٍ لأطفالهن من كتب «دروس للنساء» و«المختارات» و«منشيوس» و«كتاب بر الوالدين»، وغيرها من الكتب الأساسية. وكانت هذه التلاوة تحقق غرضًا مزدوجًا؛ تعزيز السلوك الأخلاقي عند الأطفال، وتعريفهم بالكتب التراثية التي تأمل العائلات أن يتقنها أطفالهم في يوم من الأيام (خاصةً الذكور).

fig9
شكل ٦-٥: رسمة مطبوعة حجريًّا من مجلة وُو يُورو (١٩٠٨، وأُعيدَت طباعتها في ١٩٨٣) لأم تعلِّم ابنها كيفية الكتابة.
وهكذا، في السياق المنزلي، كانت المرأة تؤدي دور زوجة الابن البارَّة ومعلِّمة الأخلاق. وكان هناك دورٌ ثالثٌ مهم، لكن لا تتعرض له الأدبيات العلمية كثيرًا، وهو التدبير المنزلي. ينص كتاب «المختارات للنساء» على ما يأتي:

لا بد أن تكون المرأة المُشرفة على إدارة المنزل مُدخِرة ومُثابِرة. فإذا كانت مثابرة ازدهر المنزل، وإذا كانت كسولة تداعى المنزل. وإذا كانت مقتصدة اغتنى المنزل، وإذا كانت مُسرِفة افتقر المنزل.

يمكن أن تكون المسئوليات المرتبطة بتدبير المنزل، في العائلات الراقية، شاقة بشكل خاص، وقد تنطوي على متابعة شئون العائلة المالية؛ والحفاظ على النظام بين الأبناء وزوجاتهم؛ وتحديد مخصصاتهم الشهرية؛ والإشراف على خدم المنزل ودفع «الأجور» الشهرية لكل واحد منهم؛ ومراقبة شئون المطبخ، بما في ذلك الاهتمام بكل عمليات شراء المؤن الغذائية وإطعام كل أفراد الأسرة؛ وجمع الإيجارات من المستأجرين إن كانت العائلة تمتلك أراضي. في مثل هذه العائلات، ينسحب الزوج، الذي يترفع عن الانخراط في الشئون المالية والأعمال المنزلية الرتيبة، إلى غرفة مكتبه في معظم الأحيان، ويترك كل هذه الواجبات لزوجته. وقد يكون أيضًا بعيدًا عن المنزل، يعمل كمسئول، أو يشرف على تجارته، أو يقضي بعض الوقت ببساطة في المدينة.

كان من المتوقع أن يكون زواج المرأة عقدًا ملزِمًا، يستمر مدى الحياة حتى بعد وفاة الزوج، سواء وافته المنية في سن الشيخوخة أو المراهقة. فزواج المرأة مرة أخرى، بالنسبة للتعاليم الكونفوشيوسية، أمرٌ شائن، حيث تشبه الزوجة التي تزوجت مرتين بالوزير الخائن الذي يخدم سيدين في آن واحد. وعندما تتزوج المرأة فإنها لا تدخل في علاقة مع الزوج فحسب، بل مع عائلته بأكملها. ولهذا، فإن وفاته لا تضع حدًّا لمسئولياتها تجاه عائلته. فلو كان والدا زوجها لا يزالان على قيد الحياة، يتوجَّب عليها مواصلة خدمتهما؛ ولو كان أطفالها أو أحفادها يعيشون في المنزل، يتوجَّب عليها الاستمرار في تنشئتهم وتعليمهم. وهكذا، يطلب التقليد الكونفوشيوسي، والكتب ذات الصلة، مثل «المختارات للنساء»، من الزوجة الوفية التحلي بالعفَّة حتى مماتها. وقد تبنَّت الدولة هذا النموذج وشجعت النساء عليه، فشيَّدت أقواسًا تذكارية حجرية (لا يزال بعضها موجودًا حتى الآن) لتكريم الأرامل اللائي أكسبتهن أعمالهن شهرة خاصة في العفة.

لو قرأنا الكتابات المعيارية المخصصة للنساء فقط، مثل «دروس للنساء» لبان تشاو و«المختارات للنساء»، فمن السهل افتراضُ أن النساء مخلوقات سلبية خانعة، تخضع قهرًا لمطالب آبائها وأمهاتها أولًا، ولمطالب أزواجها وأهلهم ثانيًا. لكنها قد تكون قوة آمرةً داخل العائلة. تتحدث إحدى فقرات الدليل التوجيهي للنساء في القرن التاسع عشر لتسينج جي فِن (١٨٥٢–١٩٤٢)، ابنة السياسي الكونفوشيوسي اللامع تسينج قوا فان (١٨١١–١٨٧٢)، بفصاحة، وإن كانت مدفوعة بالمصلحة الشخصية، عن الدور المركزي للزوجة في قدر العائلة الكونفوشيوسية الصينية، فتقول:

مَن تقع عليه مسئولية حكم أفراد العائلة إذن؟ أرى أنها تقع على الزوجة. … وحدها الزوجة هي مَن تحكم داخل المنزل. فلا يوجَد حتى شأن واحد من شئون العائلة بأكملها لا يرتبط بها ارتباطًا وثيقًا. ولا يمكن توكيل هذه الشئون للزوج. لماذا لا يمكن أن يحكم الزوج داخل المنزل؟ في اعتقادي وقته لا يسمح بذلك. كما أن طموحاته متعلقة بكل ما هو خارج المنزل. فالرجل يسعى إلى تكريس كل مهاراته ليكسب عيشه خارج المنزل، عالمًا كان أم فلاحًا، حِرفيًّا أم تاجرًا. وهو يستنفد ذكاءه، ويجمع الثروة، ويعتمد على الزوجة في إدارة المنزل، ويسير على ذلك النهج من أجل تأسيس الأسرة. لذا، علوُّ شأن الأسرة أو انحداره مرتبط بشكل كامل بشخصية الزوجة.

هذا التعليق يحذرنا، رغم إثارته للجدل، من افتراض عدم تمتع النساء بالقوة أو السلطة في الصين في فترة ما قبل الحداثة بسبب الإرشادات المُسجَّلة التي تحكم سلوك النساء. فبعض النساء كانت لديها القدرة على التأثير، والسيطرة أحيانًا، في المجال السياسي؛ ما سبَّب الكثير من الإزعاج للمفسرين الكونفوشيوسيين. والأهم من ذلك أن النساء مُنحت داخل العائلة، التي تُعَد الوحدة الأساسية للمجتمع الصيني، وصولًا شرعيًّا للسلطة بصفتهن أمهات ومدرِّسات ومدبرات للمنزل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤