معركة

ذات مساء باكر من شهر أغسطس، وبعد أن كان معظم الناس قد غادروا الحديقة؛ جلس رجلان متواجهَين أمام رقعة شطرنج، حدث ذلك في المقصورة الموجودة في الركن الشمالي الغربي من حديقة «اللوكسمبورج»، عدد كبير من المشاهدين يراقب المباراة باهتمامٍ وشغف، وبالرغم من حلول موعد الانصراف لتناول الشراب إلا أنَّ أحدًا منهم لم يفكر في أن يترك مكانه قبل أن تُحسم المعركة على أيِّ نحو. اهتمام الجمهور الصغير مُركَّز بكامله على المتحدي. وهو شاب أسود الشعر، شاحب الوجه، له عينان سوداوان، كلهما لامبالاة. جلس يُدير بين أصابعه سيجارة غير مشتعلة، كان بالفعل تمثالًا صارخًا لعدم الاكتراث. لا أحد يعرفه من المتحلِّقين حولهما، ولم يشاهده أحد يلعب من قبل؛ إلا أنه منذ أول لحظة لجلوسه صامتًا شاحبًا أمام رقعة الشطرنج، ومنذ أن رصَّ قطعه عليها؛ كان هناك انطباع قوي يتصاعد منه، يجعل الجميعَ يشعرون بأنهم أمام شخص غير عادي، موهبة كبرى، أستاذ عظيم. ربما كان مظهره الوسيم، وملبسه الأنيق وراء ذلك الانطباع، أو لعلها الثقة البادية على ملامحه، أو هالة الغرابة والتفرُّد المحيطة به.

على أيَّة حال، فإن المشاهدين — وقبل تحريك أول «عسكري» — كانوا على قناعة تامة بأنَّ الرجل لاعب شطرنج من الطراز الأول، وبأنه سوف يحقق المعجزة التي يتمنَّون بينهم وبين أنفسهم أن تحدث، وهي هزيمة «ماتادور» الشطرنج المحلي.

أمَّا البطل المحلي فكان رجلًا ضئيل الحجم، قبيح الشكل نوعًا ما، في السبعين من العمر تقريبًا، وكان نقيض منافسه الشاب في كل شيء.

كان يرتدي تلك الثياب التي لا تخطئها عين؛ الثياب المعتادة لرجل فرنسي على المعاش: البنطلون الأزرق، والسترة الصوفية الرثة. يداه مرتعشتان تغطيهما بقع ونقط بُنية اللون بسبب تقدم العمر، شعره خفيف، وأنفه أحمر بلون الياقوت، ووجهه مرصَّع بالشرايين الأرجوانية، لا توجد حوله هالة من أيِّ نوع، إلى جانب أنه لم يكن حليق الذقن. جلس ينفث دخانه بعصبية بادية، وعلى نحو متقطع، من عقب سيجارته، ويتحرَّك في مقعده قلقًا، ولا يكف عن هزِّ رأسه.

المتفرجون يعرفونه جيدًا، كلهم لعبوا معه وخسروا أمامه، وبالرغم من أنه لم يكن لاعبًا ماهرًا بأيِّ مقياس؛ إلا أنه كان يتمتَّع بموهبة غريبة، وهي القدرة على إرهاق خصمه وإصابته بالضجر؛ لأنه لا يرتكب أي خطأ. لا يمكنك أبدًا أن تُشتت انتباهه للحظة واحدة. أمَّا إذا كنت تريد أن تهزمه؛ فلا مناص من أن تلعب أفضل منه. وكان هناك شعور بأنَّ ذلك سيحدث اليوم؛ لقد وصل معلِّم، أستاذ ماهر، لكي يسحقه ويمزِّقه إربًا ويُمرِّغ رأسه في التراب ويُذيقه مرارة الهزيمة بعد طول انتظار.

عند أول نقلة قال الجميع في صوت واحد: «حذارِ يا «جان»! لن تفوز اليوم يا «جان»! لن تستطيع أن تهزم هذا الرجل؛ فلست ندًّا له .. اليوم معركتك الخاسرة .. «ووترلو» التي ستقضي عليك!»

وكان الرجل العجوز يرد عليهم: حسنًا! حسنًا!

ثم هزَّ رأسه، وبيدٍ مترددة دفع أول «عسكري أبيض» من قِطَعه إلى الأمام.

وبمجرد أن بدأ الغريب الذي كان يلعب بالقطع السوداء نقلاته، أطبق الصمت على المشاهدين وعلى المكان، لم يجرؤ أحد على توجيه كلمة واحدة له، كانوا يَرقبونه باهتمام حذِر وهو جالس في صمت أمام رقعة الشطرنج، لا يرفع نظرته المتكبرة عن قِطَعه المرصوصة أمامه. يَرقُبونه وهو يدير سيجارته غير المشتعلة بين أصابعه، وينقل قطعه بسرعة وثقة كلَّما جاء دوره للعب.

كانت النقلات الأولى في المباراة عاديَّة لا جديد فيها، ثم كان تبادل نقلات في «العساكر». أمَّا الحركة الثانية فانتهت بالأسود عائدًا في نقلة مزدوجة على الخط، وهي نقلة لا يُعوَّل عليها كثيرًا، لكن الذي لا شكَّ فيه أنَّ الغريب تقبَّل النقلة المزدوجة برويَّة، حتى يجعل الطريق سالكة أمام «وزيره»، ومن الواضح أنه كان يهدف إلى ذلك عندما ضحَّى بعسكري آخر كمناورة، تلقَّاها الأبيض مترددًا، بل بعصبية في الواقع. كان المشاهدون يتبادلون نظرات ذات مغزًى، ويهزُّون رءوسهم في تفكير عميق وهم ينظرون إلى الغريب بترقُّب.

وها هو يتوقَّف لحظة عن تدوير السيجارة بين أصابعه، ويرفع يده، ويمدها إلى الأمام و… يحرك «الوزير»! نعم! حرَّك «الوزير»، حرَّكه بعيدًا، دفع به في صفوف خصمه مباشرة، وبتلك النقلة قسَم ميدان المعركة نصفين.

«يا لها من نقلة!» همسات الاستحسان تسري بين صفوف المشاهدين: «يا لها من ضربة!» كانوا فعلًا يتوقعون أنه سيحرك «الوزير»، ولكن .. هل إلى ذلك المدى؟! لم يكن أحد منهم — وكلهم من الخبراء في اللعبة — ليجرؤ على مثل تلك النقلة.

على أيَّة حال، ذلك هو معنى أن تكون أستاذًا .. معلِّمًا! فالمعلِّم الحقُّ يلعب بإبداع وجسارة وتصميم، المعلِّم الحقُّ — باختصار — يلعب بشكل مختلف عن اللاعب العادي، ولهذا السبب تحديدًا؛ فإنَّ اللاعب العادي ليس في حاجة لأن يفهم كل نقلة على حِدة، من تلك النقلات التي يقوم بها المعلِّم.

والحقيقة أنهم في تلك اللحظة لم يفهموا جيدًا ما كان يهدف إليه عندما دفع بالوزير إلى ذلك الموضع، فهو لا يُهدِّد شيئًا مهمًّا، كما أنَّ القطع التي يهاجمها مُغطَّاة جيدًا، لكن الهدف الأبعد، المعنى الأعمق لهذه النقلة سوف يتضح بعد قليل؛ فالمعلِّم لديه خطته، هذا أمر مؤكَّد! كان ذلك واضحًا في سكون ملامحه وثبات يده، وبعد تلك النقلة غير التقليدية ﻟ «الوزير»، كان قد استقر في ضمير الجميع أنَّ الجالس أمام رقعة الشطرنج هذه؛ عبقرية نادرة لن يروا مثلها مرة أخرى، أمَّا بالنسبة للماتادور العجوز «جان»؛ فالشعور نحوه هو الرثاء الحقود .. ماذا لديه ليواجه به تلك الحيوية الرائعة الماثلة أمامه؟

إنهم يعرفونه جيدًا، قد يحاول أن يخلع نفسه من الموقف باعتراضاتٍ تافهة، أو بنقلاتٍ قصيرة، أو بوضع خطط محددة.

وبعد تفكير وطول انتظار، وبدلًا من القيام بحركة تدل على بُعد النظر، دفع «جان» بعسكري إلى المربع H-4، وكان ذلك العسكري قد انكشف بتحريك الوزير الأسود.

خسارة «عسكري» واحد لا تعني شيئًا بالنسبة للشاب، وهو لا يفكر لحظة واحدة قبل أن يحرك وزيره إلى اليمين؛ ليضرب في تشكيل خصمه ويستقر في مربع يُهاجم منه — على الفور — قطعتين: «حصانًا»، و«طابية». وها هو يتقدم إلى الأمام، ويقترب من خط «الملك» على نحو يُشكِّل خطورة.

الإعجاب يشع من عيون المشاهدين: «يا له من شيطان! يا لشجاعة الأسود!» ويتهامسون: «محترف! معلِّم كبير! حُجَّة في الشطرنج!» والجميع ينتظر نقلة «جان» المضادة بفارغ الصبر، صبر موجَّه على نحو خاص إلى حيلة الأسود القادمة.

«جان» متردد، يفكر، يرهق نفسه، يدور في مقعده، رأسه يهتز بعنف. «هيَّا يا «جان»؛ حرِّك قطعك، ولا تُعطِّل تقدم الأحداث.» «العنيد!» وبيَدٍ مرتعشة ينقل «الحصان» إلى مربع يجعله بمأمن من «الوزير»، ولكنه يُهدِّده ويُغطي «الطابية» في الوقت نفسه.

«حسنًا! حسنًا! نقلة ليست سيئة.» ولكن ماذا بوسعه أن يفعل غير ذلك في موقف كهذا؟ ماذا يفعل وسط هذا الحصار؟ «كلنا — نحن الواقفين هنا — كان يمكن أن نفعل الشيء نفسه!» «لكن ذلك لن ينقذه.» .. يتهامسون: «الأسود كان يتوقَّع تلك النقلة.» لأنَّ يده تحوم بالفعل مثل الصقر فوق أرض المعركة.

يضع يده على «الملك» ويحركه، لكن لا! لا يحركه إلى الخلف كما كان يمكن أن يفعل أيٌّ منَّا نحن الجبناء! نقله مربعًا واحدًا فقط ناحية اليمين، شيء لا يُصدَّق! أصابهم الخرس من ذهول الإعجاب، لا أحد في الواقع يفهم الهدف من وراء تلك النقلة؛ حيث يقف «الملك» على حافة الرقعة.

«الملك» لا يُهدِّد شيئًا ولا يحمي شيئًا، موضع لا معنى له على الإطلاق، إلا أنه يبدو جيدًا .. وبشكل مخيف، لم يبدُ أيُّ «ملك» أفضل من ذلك أبدًا، يقف وحيدًا متشامخًا بين صفوف الخصم!

حتى «جان» لا يفهم هدف خصمه الشرير من تلك النقلة الغريبة، لا يستطيع أن يرى الفخ الذي يستدرجه إليه، وبعد تفكير طويل وبضمير غير مستريح؛ يقرِّر أن يأكل «عسكريًّا» آخر كان مكشوفًا. هناك الآن — كما يرى المشاهدون — ثلاثة «عساكر» سُود، لكن ما أهمية ذلك؟ ما الفائدة من التفوق العددي عندما تكون في مواجهة خصم يفكر تفكيرًا استراتيجيًّا .. لا يهمُّه الكم بقدر ما يهمُّه الموقع، والتقدم بضربات مدمِّرة مفاجِئة مثل البرق؟

حذارِ يا «جان»! ربما تستمر في مطاردتك «العساكر» .. لكن «ملكك» سوف يسقط في النهاية!

الدور الآن على الأسود، والرجل الغريب جالس يُدير سيجارته بين أصابعه بهدوء، ولكنه هذه المرة يفكر أطول من العادة .. دقيقةً، وربما دقيقتين .. صمت مطبِق، لا أحد من النَّظَّارة يجرؤ على الهمس، ولا أحد تقريبًا ينظر إلى رقعة الشطرنج! كل العيون معلَّقة على الشاب الغريب: على يديه، على وجهه الخشبي الشاحب!

ألا تبدو على زوايا فمه ابتسامة انتصار خفيفة؟ ألا تلاحظ انتفاخًا ما على فتحتي أنفه، كذلك الذي يسبق اتخاذ قرار حاسم؟ كيف ستكون نقلته القادمة؟ أيَّة ضربة قاصمة سيوجِّهها ذلك المعلِّم؟ يتوقف تدوير السيجارة، الغريب ينحني أمامًا وعشرات العيون تُتابع يده، تُرى كيف ستكون النقلة القادمة؟ يأخذ «العسكري» من المربع G-7، مَن كان يتصوَّر ذلك؟! يأخذه من G-7 ويضعه في G-6 .. يا إلهي! يتبع ذلك لحظة صمت عميق .. حتى «جان» يتوقف عن الرعشة والدوران في مقعده، الابتهاج يسري بين المشاهدين، مرة أخرى يعودون للتنفس، ويَلكُز بعضهم ضلوع البعض. «هل رأيت ذلك؟» «يا له من شيطان!» «هكذا يكون اللعب!» «يترك مَلِكه لكي يظل مَلِكًا، ويحرك «عسكريًّا» إلى المربع G-6 ليترك G-7 خاليًا ﻟ «الفيل»!» هذا واضح! وفي النقلة بعد التالية سيقول: «كِش .. ثم … ثم ماذا؟»

ماذا بعد ذلك؟ سيكون «جان» قد انتهى على أيَّة حال .. وهذا واضح جدًّا. انظر كيف يفكر! .. نعم! «جان» مستغرق في التفكير! لعنة الله عليه، يده تمتدُّ إلى الأمام عدة مرات ثم يسحبها. هيَّا! حرِّك يا «جان» .. حرِّك بحق السماء! نريد أن نرى المعلِّم!

وأخيرًا، وبعد خمس دقائق طوال وكل واحد من الواقفين ينقل ثِقَل جسمه من قَدمٍ إلى أخرى .. يتجاسر «جان» ويحرك قطعةً يهاجم «الوزير». يهاجم الوزير الأسود بعسكري، يحاول أن يهرب من مصيره بهذه الحيلة التكتيكية بغرض التأخير، يا لها من صبيانية! الأسود لا يحتاج إلا لسحب «وزيره» مسافة مربعين؛ لكي يعود كل شيء إلى ما كان عليه. قُضيَ الأمر يا «جان»، أفلست أفكارك! انتهيت! الأسود يتقدم، أرأيت يا «جان»؟ لم يكن في حاجة لأن يفكر طويلًا. والمعركة ستُصبح الآن ضربةً مقابل ضربة، الأسود يتحرَّك في اتجاه «الو …» القلوب في الحناجر .. لأنَّ الأسود — على عكس كل ما هو معقول — لا يحرك «وزيره» لكي ينقذه من ذلك الهجوم العبثي للعسكري .. لا! الأسود يُنفِّذ فكرته الباكرة وينقل «فيله» إلى المربع G-7.
الجميع يُحدِّقون مرتبكين، يتراجعون خوفًا، ينظرون إليه وهم لا يستوعبون شيئًا مما يرونه؛ سيُضحِّي بوزير ويضع «فيلًا» في المربع G-7، والغريب أنه يفعل ذلك بوعيٍ كامل، ووجه صارم لا تتحرَّك فيه عضلة واحدة. كل ذلك وهو جالس في هدوء وتشامخ وشحوب ولامبالاة .. وأناقة. العيون تدمع قليلًا، والقلوب تُصبح أكثر حرارة، يلعب كما كانوا يتمنَّون أن يلعبوا .. لكنهم لا يجرءون على ذلك، لا يفهمون لماذا يلعب هكذا؟ .. ولا يهمُّهم ذلك، ربما تصوَّروا أنه يلعب بجسارة، بطيش انتحاري! لكنهم حقًّا يتمنَّون لو كان بمقدورهم اللعب مثله؛ يلعب بشكل رائع وواثق من الفوز، شجاعة نابليونية نادرة، ليس مثل «جان» الذي لا يفهمون لَعِبَه الخجول المتردِّد، فهم يلعبون بالطريقة نفسها، وإن كانوا أقل منه كفاءة؛ «جان» لَعِبُه معقول، هادئ، ملتزم بالقواعد .. وفاترٌ لدرجة مُضجِرة، بينما الآخر يصنع معجزة في كل نقلة من نقلاته. ها هو يُضحِّي بالوزير لمجرد أن يضع الفيل في المربع G-7. هل سبق أن رأيت شيئًا كذلك؟ تصرُّف يهزُّهم من الأعماق. من الآن يستطيع الأسود أن يلعب كما يريد، وسوف يتابعونه نقلةً بنقلة إلى النهاية .. مهما تكن تلك النهاية. إنه بطَلُهم، وهم يحبُّونه!

حتى «جان» الخصم، اللاعب اليقِظ .. يستعدُّ بيَدٍ مرتعشة لتحريك «عسكري» يهاجم به الوزير، ولكنه مُتردِّد، وكأنه خجل أمام وجه البطل المُشِعِّ، ويقول برِقَّة مستأذنًا .. وكأنه يتوسَّل ألَّا يكون مضطرًّا لذلك العمل: «لو سمحت لي به يا سيدي! لا بدَّ .. نعم! لا بد.» وينظر إلى خصمه في استجداء. أمَّا الثاني الجالس بوجهٍ حَجَري فلا يردُّ عليه. الرجل العجوز مجروح الشعور، مرهقًا يضرب ضربته. بعد لحظة يحرك «الفيل» الأسود ويقول: «كِش»، يقولها للمَلِك الأبيض. شعور المشاهدين يتحوَّل الآن إلى حماس مُتَّقِد، لقد نسوا خسارة «الوزير» تمامًا.

الجميع يقفون وراء الشاب المتحدي وفِيلِه. «كش ملك!» هكذا كانوا يتمنَّون أن يلعبوا! هكذا بالضبط! وليس غير ذلك أبدًا، «كِش!» تحليل هادئ للموقف سوف يُثبِت لهم أنَّ الأبيض ما يزال لديه ثروة كبيرة من النقلات الممكنة للدفاع عن نفسه، ولكن هذه الفكرة لا تحظى باهتمام أحد، لا أحد يريد أن يُحلل شيئًا برزانة أو واقعية، يريدون فقط أن يشاهدوا نقلات ذكية، هجمات عبقرية، وضربات قوية تضعف المقاومة. المباراة — وهذه المباراة على وجه الخصوص — ليس لها الآن سوى معنًى واحد بالنسبة لهم: إنهم يريدون أن يروا الشاب الغريب فائزًا، والمعلِّم العجوز وهو يعَضُّ التراب! «جان» متردِّد .. يفكر! يعرف أن لا أحد سيُراهن عليه ببنسٍ واحد بعد ذلك، ولكنه لا يعرف السبب؛ لا يُدرك أنَّ الآخرين — وكلهم لاعبو شطرنج مجربون — لا يرَون قوة وحصانة موقفه. هو الأقوى بمَلِكٍ وثلاثة عساكر، كيف يتصوَّرون أنه سيخسر؟ لن يخسر! أم تراه سيخسر؟ هل يخدع نفسه؟ هل تركيزه يضمحل؟ هل يرى الآخرون أكثرَ مما يرى؟ لا يعرف على وجه اليقين، ربما يكون الفخ القاتل قد نُصب له ليقع فيه في النقلة التالية. أين الفخ؟ لا بدَّ من أن يتجنَّبه، لا بدَّ من أن يجعل خصمه يدفع ثمنًا باهظًا.

متمسكًا بقواعد اللعبة، وبمزيد من الحذر، وبحرص وتردُّد متزايدين؛ يَزِن «جان» الموقف ويفكر. يقرِّر أن يحرك «حصانه»، ويزرعه بين الملك والفيل؛ بحيث يصبح الحصان الأسود في مجال «الوزير» الأبيض الآن، ولكنَّ ردَّ الأسود على ذلك يأتي دون إبطاء؛ لا يُدمِّر الهجوم الذي يعترضه، ولكنه يستدعي تحصينات قوية: «حصانه» يُغطِّي الفيل المُعرَّض للخطر. والجمهور في حالة إثارة؛ المعركة تتطوَّر الآن، خبطةً بخبطة.

الأبيض يستدعي «فيلًا» للنجدة، الأسود يدفع «طابية» إلى الجبهة، الأبيض يستدعي «حصانه» الثاني، والأسود «طابيتَه» الثانية. كلاهما يحشد قواته حول المربع الذي يربض فيه الفيل الأسود، المربع الذي يقف فيه الفيل الآن ولا يفعل شيئًا؛ يصبح هو قلب المعركة. لا يعرف أحد لماذا ذلك كذلك؟ كل ما يعرفونه هو أنَّ الأسود يريده هكذا! مع كل نقلة من الأسود وهو يصعِّد المباراة وينقل قطعة جديدة؛ هناك استحسان وتصفيق طويل. وفي الجانب الآخر، فإنَّ كل نقلة من الأبيض في دفاعه الاضطراري عن نفسه؛ يصحبها استهجان واضح. وهذا هو الأسود يقوم بسلسلة من النقلات القاتلة في تحدٍّ واضح لكل قواعد اللعبة.

كتاب القواعد يزعم أنَّ مثل تلك المذبحة الخرقاء نادرًا ما تكون لصالح لاعب في وضعٍ أقل، لكن الأسود يبدأ، برغم كل شيء، والجمهور سعيد مبتهج، لم يسبق أن شاهدوا في حياتهم مذبحةً كتلك: الأسود يحرك كل شيء في مجاله دون مبالاة، «العساكر» تتساقط صفوفًا كاملة، تتساقط وسط تهليل الجمهور الخبير، وكذلك «الأحصنة»، و«الطوابي». بعد سبع أو ثماني نقلات، ونقلات مضادة؛ أقفرت رقعة الشطرنج. نتيجةُ المعركة كئيبة بالنسبة للأسود، لم يتبقَّ له سوى ثلاث قطع: «الملك»، و«طابية»، و«عسكري» وحيد.

من الناحية الأخرى؛ فإنَّ الأبيض قد استنقذ «الملك» والطابية من السقوط، ليس ذلك فقط .. بل إنه استنقذ «الوزير» وأربعة عساكر كذلك. أي عاقل ينظر إلى المشهد الآن لن يشكَّ في النتيجة ومعرفة مَن سيفوز، والحقيقة أنه لا يوجد لديهم أدنى شك؛ فَهُم الآن وبوجوههم التي يُضيئها نور المعركة؛ متمسكون بقَناعاتهم .. بأنَّ رجلهم لا بدَّ من أن ينتصر .. حتى عندما يواجَهون بمثل تلك الكارثة؛ ما زالوا مستعدِّين للرهان عليه بأيِّ مبلغ، ويرفضون أيَّ إيحاء بالهزيمة. والشاب أيضًا يبدو غير مكترث بالموقف المُنذِر بكارثة، وهذا دوره الآن لكي يحرك قطعة؛ يضع يده على الطابية، ويحركها بهدوء مربَّعًا واحدًا ناحية اليمين.

الصمت يسود مرة أخرى، الدموع تملأ عيون كبار السِّن المخلصين لعبقرية لاعب؛ مثل معركة «ووترلو» عندما دفع الإمبراطور بحرسه الشخصي في صراعٍ خسرَه منذ وقت بعيد. الأسود يشنُّ هجومه بآخر قطعة، الأبيض يحتفظ بمَلِكه الآن في آخر صف على G-1، وفي الصف الثاني يوجد ثلاثة عساكر أمامه، بشكل يجعل المَلِك مُطوَّقًا ويعرِّضه لخطر قاتل؛ لو أنَّ الأسود نجح في خطته الواضحة للتحرُّك مع طابيته في الصف الأول.

إمكانية إعلان «كش ملك» على الخصم؛ هي النقلة المعروفة والأكثر شيوعًا في مباريات الشطرنج، بل يمكن القول إنها أكثر النقلات صبيانية؛ إذا كان نجاحها يعتمد فقط على فشل الخصم في إدراك الخطر الواضح، وعدم اتخاذ أيَّة خطوة لمواجهته. وأكثر تلك الخطوات فعالية هو فتح خط العساكر، وبتلك الطريقة تُشقُّ طريق هروب الملك. عندما تُحاول وتعلن «كش ملك» على لاعب مجرِّب أو حتى مبتدئ، بواسطة خفة اليد هذه؛ تكون على شفيرِ عملٍ طائش! وبالرغم من ذلك كله؛ فإنَّ الجمهور السعيد مدهوش للنقلة التي قام بها البطل، وكأنهم يشاهدونها لأول مرة.

يهزُّون رءوسهم في إعجاب لا حدود له، صحيح أنهم يعرفون أنَّ الأبيض سيقع في خطأ أساسي يجعل الأسود يفوز، ما زالوا على اعتقادهم بأنَّ «جان»، الماتادور المحلي الذي هزمهم جميعًا على التوالي، والذي لا يترك نفسه يخطئ ولو مرة واحدة؛ سوف يخطئ الآن، يتطلَّعون إلى ذلك! يُصلُّون بقلوبهم لكي يخطئ «جان»! و«جان» يفكر، يهز رأسه وهو مستغرق في التفكير، وكعادته يَزِن الاحتمالات واحدًا بعد الآخر، ويتردَّد ثم يمدُّ يده؛ يده المرتعشة المرقَّشة ببقع الزمن، يده تتحرَّك إلى الأمام، وتنقل «العسكري» من G-2 إلى G-3.

الساعة في «سان سوبليس» تعلن الثامنة، كل لاعبي الشطرنج الآخرين في حديقة «اللوكسمبورج» انصرفوا منذ وقت طويل، والرجل الذي يؤجِّر رُقَع الشطرنج أغلق محلَّه منذ زمن، وفي وسط المقصورة لا يُوجَد غير اللاعبَينِ وجمهورهما. وها هم، بعيون واسعة بليدة مثل عيون البقر، يُحدِّقون في رقعة الشطرنج، حيث يوجد «عسكري» أبيض صغير يقرِّر مصير الملك الأسود. ها هم يُحوِّلون أعينهم البليدة عن مشهد المعركة الكئيب، بينما هو جالس هناك .. شاحبًا لا مباليًا، أنيقًا، ثابتًا في مقعده لا يتحرَّك، كل العيون الجاحظة البليدة تقول له: «لم تخسر! .. الآن ستحقِّق معجزة! كنت تتوقع هذا الموقف منذ البداية، بل إنك أنت الذي صنعته، ستصرع خصمك، لا نعرف كيف ستفعل ذلك؛ لأننا لاعبون بسطاء. أمَّا أنت، صانع المعجزات؛ فسوف تفعلها، لا تخذلنا! ثقتنا بك كبيرة .. اصنع المعجزة يا صانع المعجزات .. اصنعها وانتصر!»

والشاب جالس في صمت، ثم أدار سيجارته بين الإبهام والسبابة والإصبع الوسطى، ووضعها في فمه، أشعلها، مجَّ نفَسًا عميقًا ونفث الدخان على الرقعة، مدَّ يده متهاديةً وسط الدخان، وتركها تحوم لحظة فوق المَلِك الأسود، ثم ضربه بقوة. أن يضرب ملكًا بيده ويوقعه كعلامة على الهزيمة ليس سوى إشارة فظَّة! .. نكرة! وكأنَّ المرء يحطِّم اللعبة كلها بأثر رجعي، ويُحدث صوتًا بشِعًا نتيجةَ ارتطام الملك المقلوب بالرقعة.

وبعد أن دفع الشابُّ «الملكَ» الأسود هكذا بازدراء، لم يحاول أن ينظر إلى خصمه أو جمهوره .. ودون كلمة واحدة، نهض من مكانه وانصرف. المشاهدون يقفون هناك مُحبَطين وخجلانين، ينظرون إلى الرقعة عاجزين، بعد لحظةٍ سَعَلَ أحدُهم وغيَّر وضع قدميه، وأخرج سيجارة من جيبه: كم الساعة الآن؟ الثامنة والربع! يا إلهي! هل تأخر الوقت هكذا؟! إلى اللقاء! مع السلامة يا «جان»!

وبعد أن تهامسوا باعتذارات متبادلة .. اختفى الجميع بسرعة، وبقي الماتادور المحلي وحده. أوقف الملك على الرقعة ثانية، ثم بدأ في جمع القطع ووضعها في الصندوق؛ بدأ بالقطع الراقدة، ثم تلك التي على الرقعة. وبينما كان يفعل ذلك؛ مرَّت في ذهنه كل النقلات والمواقف، لم يخطئ في نقلة واحدة .. لم يخطئ طبعًا! وبالرغم من ذلك كان يبدو أنه لم يلعب أسوأ من ذلك في حياته كلها، كان ينبغي أن «يُكشش» خصمه في المرحلة الأولى .. ومنذ البداية، أيُّ واحد يُقْدِم على نقلة «الوزير» البائسة تلك؛ يُبرهن على أنه جاهل في الشطرنج. كان «جان» عادة يصرف أمثال أولئك الهواة برفق، وأحيانًا بدون رفق، حسب حالته النفسية، ولكنه كان يفعل ذلك بسرعة وبلا تردد، لكن شعوره بضعف خصمه الواضح خذله، أم تُراه أصبح جبانًا؟!

كان الأمر أسوأ من ذلك بكثير؛ لم يكن يريد أن يُصدِّق أنَّ خصمه سيئ إلى تلك الدرجة البائسة. والأسوأ من ذلك أنه كان يريد أن يظل على اعتقاده حتى نهاية المباراة. إنه — جان — لم يكن نِدًّا لخصمه، الثقة بالنفس والذكاء والهالة الشبابية للرجل الغريب جعلته يشعر أنَّ خصمه لا يمكن أن يُهزم؛ لذلك كان يلعب هو نفسه بحذرٍ زائد، حذر مُبالَغ فيه، وكان لا بدَّ أن يتمادى في ذلك. ولو أنه كان أمينًا مع نفسه؛ لاعترف بأنه قد أُعجب بالغريب، تمامًا كما كان الآخرون معجبين به.

نعم! كان يريد أن يفوز الغريب عليه ويُلحق به الهزيمة على نحو مؤثِّر .. باهر، كان ينتظر بكل مَلل تلك النهاية .. تلك الهزيمة .. ينتظرها منذ سنوات؛ لأنها ستُحرِّره من عبءِ كونه الأعظم! من عبء أن يكون عليه دائمًا أن يقهر الآخرين. وبهذه الطريقة؛ فإنَّ جمهور المشاهدين الرديء .. الجمهور الحاقد .. كان سيرضى في النهاية، وينْعَم هو براحة البال.

ولكن .. ها نحن هنا! لقد فاز مرة أخرى وبشكل طبيعي! كان هذا الانتصار هو الأسوأ طَعمًا؛ لأنه وهو يحاول أن يتجنبه على امتداد المباراة كلها؛ كان مضطرًّا لأن يُخيِّب الأمل فيه، أن يحطَّ من شأن نفسه، أن يُلقي أسلحته أمام أكثر اللاعبين حماقة وتعاسة في العالم.

لم يكن «جان» — الماتادور المحلي — رجلًا منذورًا للبصيرة والمعنويات العالية، وكان ذلك أكثر وضوحًا له عندما قفل عائدًا إلى منزله يجرُّ قدميه، رقعة الشطرنج تحت إبطه، وصندوق القطع في يده.

لقد عانى بالفعل من هزيمته، وهي هزيمة مُدمِّرة ونهائية؛ لأنه لم تكن هناك وسيلة لكي يثأر لها، لم تكن هناك وسيلة للتحرُّر منها في المستقبل بانتصار باهر ومتميِّز، وهكذا قرَّر — بالرغم من أنه لم يكن أبدًا رجل قرارات كبرى — أن يُسمِّي ذلك: «يوم مع الشطرنج لن يتكرَّر» .. هي مرة وإلى الأبد!

وابتداءً من الآن سيلعب «البولينج» مثل كل أرباب المعاشات؛ فتلك لعبة اجتماعية لا ضرر منها ولا ضرار! ولا تتطلَّب من الشخص الذي يُمارسها سوى القليل من العبء المعنوي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤