الحمامة

في ذلك الوقت الذي كانت فيه حكاية الحمامة قد استولت عليه تمامًا لتنغِّص حياته يومًا بعد يوم؛ كان «جوناثان نويل» الذي تخطَّى الخمسين من العمر يستطيع أن يُلقي نظرة على العشرين سنة الأخيرة من حياته، فيجدها خالية من الأحداث، ولم يكن يتوقع حدوث أيِّ شيء مهم .. باستثناء الموت ذات يوم.

معظم تلك الأحداث — والحمد لله — كان كامنًا هناك في سنوات طفولته وصباه البعيدة .. المبهَمة .. تلك السنوات التي لم يعُد لديه رغبة في تذكُّرها. وعندما كان يفعل؛ كان ذلك يحدث على مضضٍ شديد وكره منه.

بعد ظهيرة أحد أيام صيف عام ١٩٤٢، في «شارنتون» أو بالقرب منها، وهو عائد من صيد السمك — كانت هناك عاصفة رعدية مصحوبة بأمطار غزيرة بعد موجةِ حرٍّ شديدة — في طريقه إلى المنزل؛ خلع حذاءه ليسير على أسفلْت الشارع الدافئ المُبتَلِّ حافي القدمين يبطش في الماء باستمتاع لا حدود له، كان عائدًا من الصيد حينذاك، واندفع إلى المطبخ متوقعًا أن يجِدَ أمَّه هناك تقوم بإعداد الطعام، ولكنها لم تكن موجودة في أيِّ مكان، كل ما رآه هو مريلة المطبخ معلَّقة على ظهر الكرسي.

قال له والده: إنَّ أمه ذهبت، كان لا بدَّ من أن تذهب في رحلة تستغرق زمنًا طويلًا. وقال الجيران إنهم أخذوها. أخذوها أولًا إلى «فيلا دروم دي هايفر»، ثم إلى أحد المعسكرات، ومن هناك إلى الشرق .. من حيث لا يعود أحد. لم يفهم «جوناثان» شيئًا من ذلك الحدث الذي أربكه تمامًا .. وبعد أيام قليلة اختفى والده أيضًا. وفجأة وجدَ «جوناثان» وأخته نفسيهما في قطار يتجه ناحية الجنوب، وبعد ذلك اقتادهما غرباء عبر مروج وغابات ليضعوهما مرة أخرى في قطار آخر يتجه ناحية الجنوب .. بعيدًا .. بعيدًا .. أبعد مما يفهمان. وهناك تسلَّمهما عمٌّ لهما لم يرياه من قبل في «كافليون»، وأخذهما إلى مزرعته بالقرب من قرية «بوجيت» في وادي «دورانسى»، وخبَّأهما هناك حتى انتهت الحرب. بعد ذلك جعلهما يعملان في حقول الخضراوات لديه.

في أوائل الخمسينيات — وكان «جوناثان» قد بدأ الاعتياد على حياة العامل الزراعي — طلب منه عمُّه أن يذهب لأداء الخدمة العسكرية؛ فسمعَ كلامه بكلِّ طواعية، وذهب «جوناثان» ليقضي هناك ثلاث سنوات. في السنة الأولى كان مشغولًا بالاعتياد على منغِّصات العيش في ثكنة عسكرية وسط الآخرين، وفي السنة الثانية حملته سفينة إلى الهند الصينية، أمَّا معظم السنة الثالثة فأمضاه في المستشفى يُعالَج من طلقة في قَدمه وأخرى في ساقه، ومن حالة دوسنتاريا أميبية.

وعندما عاد إلى «بوجيت» في ربيع عام ١٩٥٤ كانت أخته قد اختفت؛ هاجرت إلى «كندا» كما عرَفَ من الناس. طلبَ العمُّ من «جوناثان» أن يتزوج على وجه السرعة من فتاة اسمها «ماري باكوشي» من قرية «لوريس» المجاورة. أمَّا «جوناثان» الذي لم يكن قد سبق له رؤية الفتاة؛ ففعل كما أمره عمُّه. والحقيقة أنه فعله بفرح؛ إذ رغم عدم وجود مفهوم كامل لديه عن الحياة الزوجية، إلا أنه كان يتمنَّى أن يجدَ نفسه أخيرًا في حالة سكون رتيبة خالية من الأحداث، وهي الحالة الوحيدة التي كان يتُوق لها في الواقع. ولكن .. بعد أربعة شهور وَلدتْ «ماري» طفلًا، وفي الخريف نفسه هربت مع تاجر فاكهة تونسي من مرسيليا.

بسبب كل تلك الأحداث؛ وصل «جوناثان» إلى قناعة بأنه لا يمكن الاعتماد على الناس، وأنك لا تستطيع أن تعيش في سلام إلا بالابتعاد عنهم، ولأنه كان قد أصبح أضحوكة القرية — لم يكن الضحك عليه هو الذي يُزعجه، وإنَّما التفات الأنظار إليه — اتخذ لأول مرة في حياته قرارًا من تلقاء نفسه: ذهب إلى بنك التسليف الزراعي، سحَبَ مدخراته، حزم حقيبته، وشدَّ الرحال إلى باريس. ثم حدثت له ضربة حظ مزدوَجة؛ إذ وجد وظيفةً كحارس لأحد البنوك في شارع «سيفرس»، ووجد مسكَنًا في مكان يطلَق عليه «شامبر دي بون» في الدور السابع من بناية في شارع «لابلانش»: غرفة تصل إليها عن طريق الفناء الخلفي، وسُلَّم الخدم الضيِّق، ومدخل ضيِّق أيضًا لا ينيره سوى شبَّاك صغير وحيد بضوء قليل لا يكشف شيئًا.

مجموعة من الغرف الصغيرة فوق كل منها رقم مكتوب بطِلاء رمادي اللون؛ متجاورة على جانبي الممر، وفي نهايته كانت توجد الغرفة رقم ٢٤ .. غرفة «جوناثان»، طولها سبعة أقدام وبوصتان، وعرضها سبعة أقدام وثلاث بوصات، وارتفاعها ثمانية أقدام وبوصتان، وكل محتوياتها: سرير، وطاولة، وكرسي، ولمبة، ومِشجب للملابس .. ولا أكثر .. حتى الستينيات لم يكن ممكِنًا عمل توصيلات كهربائية لتركيب سخان للطهي مثلًا أو مدفأة، كما أنَّ التوصيلات الصحية كان قد أُعيد تركيبها؛ لتزويد الغرفة بحوض غسيل، وسخان للماء. وحتى ذلك الحين؛ كان سكان تلك الأسطح يتناولون وجباتهم باردةً — هذا إن لم يستخدم أحدهم موقد كحول بالمخالفة للقانون — وينامون في غرف باردة، ويغتسلون ويغسلون جواربهم وصحونهم القليلة بماءٍ بارد في حوضٍ واحد، يوجد في الصالة بجوار باب الحمَّام المشترَك، دائمًا.

ولم يُضايق «جوناثان» أيُّ شيء من ذلك بالمرة؛ فهو لم يكن يبحث عن الراحة، وإنَّما عن مسكَنٍ آمِن يخصُّه؛ مسكَن له وحده، يحميه من مفاجآت الحياة غير السارة، مسكَن لا يمكن لأحد أن يطرده منه مرة أخرى. وعندما دخل الغرفة رقم ٢٤ لأول مرة؛ عرَفَ في الحال: هذه هي .. هذا ما كنت تريده .. هذه هي الغرفة التي ستعيش فيها (بنفس الطريقة التي تحدُث للآخرين، أو هكذا يقولون؛ ما يطلَق عليه الحبُّ من أول نظرة، عندما يدرك المرء في لمحة أنَّ امرأة لم يسبق له رؤيتها من قبل هي امرأة حياته .. وأنه سوف يتملَّكها حتى آخر العمر).

استأجر «جوناثان» تلك الغرفة بخمسة آلاف فرنك (بالعملة القديمة) في الشهر، في كل صباح يغادرها إلى عمله في شارع «سيفرس» القريب، ويعود في المساء بالخبز ولحم الخنزير والتفاح والجبن، يأكل وينام .. وكان سعيدًا.

يوم الأحد لا يغادر الغرفة بالمرة، يقوم بتنظيفها ويفرِد مُلاءات نظيفة على السرير، وهكذا كان يعيش في سلام وراحة بال عامًا بعد عام، عقدًا بعد عقد.

خلال تلك الفترة؛ تغيرت أشياء معينة ولكنها ليست مهمة: قيمة الإيجار مثلًا، نوع المستأجرين … في الخمسينيات كان معظم سكان الغرف الأخرى من الخادمات، والمتزوجين حديثًا، وقلة من أرباب المعاشات. فيما بعد؛ كان يمكن أن ترى إسبانيين وبرتغاليين وعددًا من أبناء الشمال الأفريقي؛ يدخلون ويخرجون. ومنذ نهاية الستينيات وما بعدها؛ أصبح معظم السكان من الطَّلَبة. وفي الفترة الأخيرة؛ لم تكن كل الغرف الأربعة والعشرين مشغولة، بقي معظمها خاليًا، أو كان يُستخدم للتخزين وأحيانًا لإقامة ضيوف أصحاب الشقق الفاخرة في نفس البناية.

بمرور السنوات كانت غرفة «جوناثان» رقم ٢٤ قد أصبحت مسكَنًا مُريحًا نسبيًّا؛ اشترى لنفسه سريرًا جديدًا، وقام بتركيب خزانة، وفرشَ سجادة رمادية على أرضية الغرفة التي تبلغ مساحتها ٨١ قدمًا مربعًا، ولصق ورَقَ حائط في الفجوة الموجودة بالمدخل، والتي يستخدمها للطهي والغسيل.

امتلك راديو وتلفزيونًا ومكواة. لم يعُدْ يعلِّق مئونته خارج النافذة في أكياس، بل أصبح يحتفظ بها في ثلاجة صغيرة تحت حوض الغسيل، الآن لم تعُد «الزبدة» تذوب، ولا لحم الخنزير يجفُّ .. حتى في شهور الصيف شديدة الحرارة.

عند رأس السرير وضعَ خزانة كتب صغيرة، يقف فيها ما لا يقلُّ عن ١٧ كتابًا هي بالتحديد: قاموس جيب طبي من ثلاثة أجزاء، كتب كثيرة مصوَّرة عن إنسان ما قبل التاريخ، فنون العصر البرونزي، صب المعادن، إتروريا١ الثورة الفرنسية، كتاب عن السفن الشراعية، وآخر عن الأعلام، وواحد عن حيوانات المناطق الاستوائية، وروايتان ﻟ «ألكسندر دوماس» الأب، ومذكرات «سان سيمون»، وكتاب عن الطهي، وقاموس لاروس الصغير، وكتاب عن أفراد الأمن والحراسة مع «المرجع الخاص بتعليمات وإرشادات استخدام مسدس الخدمة». وتحت السرير قام بتخزين ١٢ زجاجة نبيذ أحمر، بينها زجاجة «شاتوشيفال» من النبيذ الأبيض الفاخر، كان يحتفظ بها ليوم تقاعده في عام ١٩٩٨.

وبفضل نظام إضاءة ساذج؛ كان يستطيع أن يجلس لقراءة جريدته في ثلاثة أماكن في الغرفة — عند رأس ونهاية السرير، وعند الطاولة — بوضوح، ودون أن يسقط ظلُّه على الصحيفة، ونتيجةً لكل تلك المقتنيات أصبحت الغرفة أصغر حجمًا، كانت تنمو للداخل مثل محارةٍ تَضيق باللؤلؤة. وبكل تلك التركيبات والتجهيزات المعقدة؛ أصبحت تبدو مثل قمرة السفينة، أو كابينة عربة بولمان فاخرة، أكثر منها غرفة بسيطة في «شامبر دي بون»، إلا أنها كانت محتفظة بشخصيتها الفريدة على مدى تلك السنوات؛ كانت وستظل جزيرة الأمان بالنسبة لجوناثان .. واحة سلام في عالمٍ غير آمن .. هي الملجأ والملاذ .. وهي الحبيبة .. نعم! لأنها كانت تستقبله بحضن دافئ عندما يعود كلَّ مساء، توفِّر له الحماية وتمنحه الأمان، وتنعش جسده وروحه .. وهي دائمًا هناك عندما يريدها .. لم تتخلَّ عنه أبدًا. كانت هي الشيء الوحيد الذي يمكن فعلًا الاعتماد عليه في حياته؛ ولذلك لم يفكر لحظةً في أن يتركها .. حتى الآن؛ رغم أنه قد تجاوز الخمسين .. ويجِدُ صعوبةً أحيانًا في صعود ذلك العدد الكبير من دَرَج السُّلَّم، ورغم أنَّ راتبه كان يمكِّنه الآن من استئجار شقة مستقلة بملحقاتها .. مطبخ .. حمَّام .. تواليت …

ظلَّ مخلِصًا لمحبوبته، يُقوِّي من روابطه بها وروابطها به، كان يريد أن يجعلها علاقة غير قابلة للقطع طول العمر؛ بأن يشتريها .. وكان قد وقَّع عقدًا بالفعل مع مالكة العقار مدام «لاسال»، وذلك يكلِّفه ٥٥ ألف فرنك (بالعملة الجديدة). دفع منها حتى الآن ٤٧ ألفًا، أمَّا المبلغ المتبقِّي فيُستحق في نهاية العام، وأخيرًا تصبح مِلكًا له، ولن يستطيع أيُّ شيء في العالم أن يفرِّق بينهما — «جوناثان» وغرفته المحبوبة — حتى يفعلها الموت! كانت تلك هي الحال في أغسطس من عام ١٩٨٤ عندما حدثت حكاية الحمامة صباح يوم جمعة.

•••

كان «جوناثان» قد استيقظ لتوِّه، وكما يفعل كل صباح وضعَ قَدمه في الشبشب، والروب على كتفيه؛ لكي يذهب إلى الحمَّام المشترَك قبل أن يحلق ذقنه. وقبل أن يفتح الباب وضعَ أذنه على الشراعة، وراح يتنصَّت ليعرف إن كان أحد في الصالة؛ لم يكن يستريح لمقابلة أيِّ ساكن آخر وهو بالبيجامة أو الروب، وبخاصة عندما يكون في طريقه إلى الحمام، ولم يكن لطيفًا أن يجدَ الحمَّام مشغولًا .. أمَّا فكرة مقابلة أيِّ ساكن آخر عند باب الحمام؛ فليست أقلَّ من كابوس أو إزعاجٍ شديد، وقد حدث ذلك الموقف له مرة واحدة في صيف ١٩٥٩، قبل خمس وعشرين سنة. وعندما تذكَّر ذلك أصابته رِعدة شديدة؛ صدمة كل منهما في نفس الوقت عند رؤية الآخر .. الانكشاف المتزامن للستر أثناء مهمة تحتاج إلى خصوصية تامة .. الإقدام والإحجام في نفس اللحظة .. تبادل عبارات المجاملة: تفضَّل .. بعد سيادتك .. لا لا .. بَعدك .. أرجوك .. لستُ في عَجَلة .. أنت أولًا … كلُّ ذلك وأنتَ بالبيجامة!

«جوناثان» لا يريد أن يمرَّ بنفس التجربة مرة أخرى؛ ولم يحدث أن مرَّ بها مرة أخرى، وذلك بفضل الوقاية التي تحقِّقها له أذنه عندما يضعها على الباب ويَسترِق السمع.

بذلك التنصُّت يمكنه أن يرى من خلال الباب ما يدور في الصالة، كان يعرف كل صوت على الأرض، يستطيع أن يُميِّز الطقطقة من القرقعة من الرقرقة من الخرير من الحفيف .. يعرف الصمت ذاته، والآن عرف وأذنه على الباب للحظتين فقط؛ عرف وتأكَّد له أن لا أحد في الصالة، وأنَّ الحمَّام خالٍ وأنَّ الجميع نيام.

أدار قفل الباب بيده اليسرى، وباليُمنى أدار الأُكرة فانزلق اللسان، وجذب الباب بهدوء فانفتح. بمجرد أن وضعَ قَدمه على العتبة رفعَ قدمه، القدم اليسرى. كانت القدم في حالة الخطو .. عندما رآها!

قابعة أمام الباب، على مسافة لا تزيد عن ثماني بوصات من العتبة، قابعة في ضوء الفجر الشاحب القادم منعكسًا من النافذة الوحيدة، منكمشة هناك، قَدَماها بمخالبها الحمراء على بلاط الصالة الأحمر، قابعة بريشها الصقيل الأزرق الرمادي: الحمامة!

مُميلة رأسها على جانب، وتُحدِّق في «جوناثان» بعينها اليسرى، هذه العين قرصٌ صغير مستدير، بنِّي اللون، مركزه أسود، وكانت نظراتها مرعبة، زِرٌّ صغيرٌ مثبَّتٌ في ريشِ الرأس، لا رموش ولا حواجب .. عينٌ عارية تمامًا .. تنظر إلى العالم بجرأة عارية .. مفتوحة على نحو مخيف .. فيها حذرٌ ومراوغة، وفي نفس الوقت تبدو كأنها ليست مفتوحة ولا حَذِرة ولا مراوِغة .. كأنها بلا حياة .. كأنها عدسة كاميرا تبتلع كل الضوء الخارجي، ولا تسمح لأي شيء بأن يلمع خارج أجزائها الداخلية .. لا رونق ولا وميض ولا لمعان .. عين بلا بصر .. وكانت تحدِّق في «جوناثان».

خاف لدرجة الموت — كان يمكن أن يصِفَ اللحظة هكذا فيما بعد — ولكن ذلك لن يكون صحيحًا؛ لأن الخوف لم يأتِ إلا بعد ذلك، كان بالأحرى مذهولًا حتى الموت. توقَّف عند عتبة الباب، ربما لمدة خمس أو ست لحظات — بدت له دهرًا — وكأنه قد تجمَّدت يده على الأُكرة، قدم مرفوعة لكي يخطو خارجًا، ولكنه لا يستطيع الحركة إلى الأمام أو إلى الخلف .. ثم حدثت حركة صغيرة .. ربما تكون الحمامة قد نقلت ثِقْلها من على قدم إلى الأخرى؛ فقد نفشت ريشها قليلًا، وعبَرَتْ جسدَها رعشةٌ سريعة قصيرة على أيَّة حال، وفي نفس اللحظة انطبق الجفنان .. أحدهما من أسفل والآخر من أعلى، لا يُشبهان الأجفان الحقيقية .. إنهما جناحان من المطاط ابتلعا العين، شفتان ظهرتا من اللامكان للحظة .. واختفت العين.

الآن فقط شقَّ الخوف طريقه داخل «جوناثان»، وقَفَ شَعره من الرعب، وبِوَثبةٍ واحدة إلى الخلف عاد إلى غرفته، وصفقَ الباب قبل أن تفتح الحمامة عينها. أحكم القفل، ترنَّح الخطوات الثلاث إلى السرير، جلس يرتعد وقلبه يدقُّ بعنف، كان جبينه في برودة الثلج، ومن خلف رقبته وبامتداد عموده الفقري كان يشعر بتدفق العَرَق غزيرًا.

كانت أول فكرة تضرب رأسه؛ هي أنه سيصاب بأزمة قلبية .. أو سكتة .. أو على الأقل سيفقد الوعي .. وكان في سِنٍّ ملائمة لذلك كله. راح يفكر؛ بعد الخمسين من الممكن أن يحدث أيُّ شيء من ذلك ببساطة. ترك نفْسَه يسقط على جنبه فوق السرير، وجذب البطانية على كتفيه الباردتين، وراح ينتظر تقلُّصات الألم والطعنة القادمة في منطقة الصدر والكتفين (كان قد قرأ مرة في قاموس الجيب الطبي أنَّ تلك هي الأعراض الأكيدة للأزمة القلبية) أو الغياب التدريجي للوعي.

ولكنَّ شيئًا من ذلك لم يحدث. هدأت دقات القلب، وعاد الدم يتدفق منتظمًا في دماغه وأطرافه، ولم تظهر أيَّة علامات أو بوادر للشلل كَتِلك التي تصاحب الأزمة. «جوناثان» يستطيع أن يحرك أصابع يديه وقدميه وأجزاء وجهه، وهذا دليل على أنَّ كل شيء في موضعه من الناحيتين العضوية والعصبية.

وبدلًا من ذلك كان رأسه يصطخب بزحام من المخاوف العشوائية، مخاوف أشبه بسِربِ غربانٍ سوداء، صُراخ ورفرفة .. الغربان تنعب: «لقد أُصِبْتَ بها، أنت كبير السِّن وقد أُصِبْتَ بها، تركت نفسك تخاف حتى الموت من الحمامة، هكذا تجعل الحمامة تُعِيدك مندفِعًا إلى غرفتك، تهزمك، تأسرك. ستموت يا «جوناثان»، إن لم يكن الآن فبَعد قليل .. حياتك كلها كانت أكذوبة، خربتها لأنها انتهت على يد حمامة .. لا بدَّ من أن تقتلها، ولكنك لا تستطيع، لا يمكنك قتل ذبابة أو … انتظر! .. نَعَم .. ذبابة ممكن .. وممكن بعوضة .. بَقَّة صغيرة … ولكنك لا تستطيع أبدًا أن تقتل شيئًا له دم دافئ .. كائنًا ذا دم دافئ مثل حمامة لا يزيد وزنها عن رطل .. يمكنك أن تقتل إنسانًا بمسدس .. طاخ .. طاخ … هكذا بسرعة .. مجرد ثقب صغير بحجم ربع بوصة .. هذا مقبول ومسموح به في حال الدفاع عن النفس .. ممكن .. المادة الأولى من التعليمات الخاصة بأفراد الحراسة والأمن المسلَّحين، هذا مطلوب ولا أحد يلومك حقيقةً إذا رميتَ شخصًا، وربما العكس .. لكن حمامة؟! كيف يمكن أن ترمي حمامة؛ إنها تُرفرِف .. الحمامة تفعل ذلك، ولذلك من السهل أن تخطئها، عملٌ شرير أن تقتل حمامة .. ممنوع .. ذلك معناه مصادرة سلاحك .. سلاح الخدمة .. معناه أن تفقد وظيفتك، وينتهي بك المطاف إلى السجن إن أنت قتلت حمامة .. لا .. لا يمكن أن تقتلها! ولكنك لا يمكن أن تعيش معها .. أبدًا .. مستحيل .. لا يمكن لأي إنسان أن يعيش مع حمامة في نفس المنزل؛ الحمامة مثال على الفوضى، فجأةً تَهدِل حولك، حمامة تُنشِب مخالبها فيك، تنقر عينيك. حمامة لا تكفُّ عن إسقاط فضلاتها، ونشرِ رَوْثها، وتوزيع خراب البكتريا والتهاب السَّحايا. حمامة لا تبقى وحيدة؛ لأنها سرعان ما تُغوي غيرها، وهذا بدوره سوف يُؤدي إلى ممارسة جنسية ويتكاثر الحمام .. بسرعة مخيفة .. حمام كثير سيحاصرك، ولن يكون باستطاعتك أن تخرج من غرفتك مرة أخرى .. ستموت جوعًا، وتختنق بِبِرازِك؛ ويكون عليك أن تلقي بنفسك من النافذة، وتسقط محطَّمًا على الرصيف .. لا! أنت جبان .. ستظل حبيس غرفتك وتصرخ طلبًا للنجدة، ستصرخ وتطلب الإطفائية؛ لكي يُحضروا سُلَّمًا لإنقاذك .. من حمامة؟! ستصبح أضحوكة البناية .. أضحوكة الحيِّ كله .. سوف يهتفون وهم يشيرون إليك بالأصابع: «انظروا كيف يبدو مسيو «نويل»! .. انظروا، لقد أنقذوا مسيو «نويل» من حمامة!» وسوف يُدخِلونك مصحةً نفسية: آه يا «جوناثان»! .. «جوناثان»! .. حالتك ميئوس منها .. وأنت إنسان ضائع يا «جوناثان».» .. كانت تلك هي الصرخات والتشوُّش والنعيب الذي يصطخب في رأسه، وكان «جوناثان» في حيرة ويأس وبؤس لدرجةٍ جعلتْه يأتي شيئًا لم يأتِه منذ الطفولة: وهو في تلك الحال من الكرب العظيم؛ شبَّك ذراعيه وراح يُصلِّي .. صلَّى: «يا إلهي .. لماذا تخلَّيت عني؟ لماذا تُعاقِبني هكذا يا رب؟ أبانا الذي في السماء .. أنقذني من هذه الحمامة .. آمين.»

لم تكن تلك صلاةً بالمعنى المعروف، ما قاله كان أشبه بلَعثمةٍ وخليط وبقايا عِباراتٍ استدعاها من تعليمه الديني الباكر، ورغم ذلك فَقَدْ ساعدته؛ لأنها كانت تتطلَّب قَدرًا من التركيز الذهني، وهكذا طردَ تشوُّشَ أفكاره. شيء آخر ساعده بدرجةٍ أكبر؛ لم يَكَدْ يُكمل صلاتَه حتى شعر بحاجة ملِحَّة للتبول، عندما اكتشف أنه سيُوسِّخ السرير الذي يرقد عليه والمرتبة الجميلة أو السجادة الرمادية إذا لم ينجح في أن يجِدَ وسيلة أخرى في خلال لحظات .. أعاده ذلك لنفسه تمامًا، فقامَ وهو يئِنُّ .. نظرَ ناحية الباب نظرةً يائسة؛ فهو لا يستطيع أن يمرَّ منه، حتى ولو كان ذلك الطائر الملعون قد مضى؛ لن يستطيع أن يذهب إلى الحمام .. خطا في اتجاه الحوض، فتحَ الروب، أنزل الجزء الأسفل من البيجامة، فتح الحنفية وتبوَّل في الحوض. لم يكن قد فعل شيئًا كهذا من قبل، الفكرة في حد ذاتها كانت مرعبة .. أن يتبوَّل في حوض الغسيل الأبيض الجميل الذي يُستخدم للنظافة الشخصية وغسيل الصحون! لم يَدُر بفكره ولا بخياله أبدًا قبل ذلك أنه سيهبط إلى هذا الدَّرْك، لم يفكر أبدًا أنه سيجد نفسه يومًا ما مُجبَرًا على إتيان مثل ذلك الفعل الدنِس!

ولكنه .. وهو يراقب بَوْلَه ينساب الآن، ويتدفَّق بسلاسة، ودون أيَّة صعوبة، مختلطًا بماء الصنبور، ويُقرقِر في ماسورة الصرف؛ كان يشعر بالتخفُّف اللذيذ من ضغط مثانته، وفي نفس الوقت كانت الدموع تَطفِر من عينيه خجلًا مما يحدث .. وبعد أن قضى حاجته؛ ترك الماء ينساب لبعض الوقت، ثم غسل الحوض جيدًا بسائل مُطهِّر قادر حتى على إزالة كل ذَرَّة من الحماقة التي ارتكبها .. وتمتمَ لنفسه: «مرةً واحدة لا تُعتبر شيئًا.» وكأنه يعتذر لحوض الغسيل وللغرفة، أو لنفسه: «مرة واحدة .. بسيطة! لا يهمُّ .. فقد كان ظرفًا طارئًا .. ولن يحدث مرة أخرى .. بالتأكيد.» هو الآن أكثر هدوءًا، الجهد الذي بذَلَه في التنظيف وفي إعادة زجاجة المُطهِّر إلى مكانها وعَصْر السجادة — وجميعها مهارات مُدرَّب عليها — أعاد إليه الروح العملية. نظر إلى ساعته؛ كانت قد تجاوزت السابعة والربع بقليل. في السابعة والربع عادةً يكون قد انتهى من حلاقة ذقنه وترتيب السرير. ولكن التأخير؛ في الحدود المسموح بها. كما أنه يمكنه تعويض ذلك بالاستغناء عن الإفطار، ولو أنه استغنى عن الإفطار — هكذا حسب الوقت — يمكن أن يكون هناك قبل موعده المعتاد بسبع دقائق. أهم شيء هو أن يغادر الغرفة في الثامنة وخمس دقائق على الأكثر؛ ليكون في البنك في الثامنة والربع .. ولكن كيف يفعل ذلك؟ لا يعرف بَعدُ. ولكنَّه على أيَّة حال؛ أمامه خمس وأربعون دقيقة .. وهذا وقتٌ كافٍ.

خمس وأربعون دقيقة .. وقتٌ طويل؛ عندما تكون قد قابلتَ الموت عينًا لِعَينٍ لِتَوِّك، ونجوتَ من أزمة قلبية بصعوبة، الوقت يصبح طويلًا عندما لا تكون تحت ضغطِ مثانةٍ على وشْك الانفجار! القرار الأول إذن هو أن يتصرَّف كأنَّ شيئًا لم يكن، أن يستمرَّ في أداء طقوسه الصباحية المعتادة .. ملأ حوض الغسيل بالماء الساخن، وحلقَ ذقنه، وبينما هو يحلق كان مشغولًا بأفكار مرهِقة؛ قال لنفسه: «جوناثان نويل! .. لقد حاربتَ في الهند الصينية لمدة عامين، وواجهتَ مواقف خَطِرةً كثيرة هناك، لو أنك استجمعتَ كل شجاعتك وذكاءك الفطري، لو سلَّحتَ نفسك كما ينبغي، ولو حالفك الحظ؛ سوف تنجح في الخروج من الغرفة، ولكن ماذا لو نجحتَ؟! ماذا حتى لو انتصرتَ على ذلك الطائر المرعِب الرابض عند بابك، ومضيت إلى السُّلَّم دون أن يُصيبك أذًى، ووجدت نفسك بعيدًا عن طريق الضرر؟ ستذهب إلى عملك، ستُمضي اليوم دون متاعب، ثم ماذا بعدُ؟ أين ستذهب في المساء؟ وأين ستقضي ليلتك؟»

ولأنه نجا مرة؛ لا يريد أن يواجه الحمامة مرة أخرى، لن يعيش مع تلك الحمامة تحت سقفٍ واحد أبدًا، ولا يومًا واحدًا، ولا ليلةً واحدة .. ولا ساعةً واحدة .. كان ذلك قد تقرَّر وبشكل نهائي، عليه إذن أن يكون مستعدًّا لقضاء الليلة وربما الليالي التالية في مكان آخر .. مكان يؤويه .. في بيت يقدِّم الطعام والمَنامة بمقابل، معنى ذلك أنه لا بدَّ من أن يحمل معه ماكينة الحلاقة وفرشاة الأسنان وغيارًا داخليًّا … إلى جانب أنه قد يحتاج إلى دفتر الشيكات ودفتر التوفير أيضًا من باب الاحتياط، كان يوجد في حسابه الجاري مبلغ ١٢٠٠ فرنك، وهو مبلغ يكفي أسبوعين .. هذا إذا وجد فندقًا رخيصًا. وإذا كانت الحمامة ما زالت تعترض طريقه إلى غرفته؛ فسيكون عليه أن يلجأ إلى مدخراته. في دفتر التوفير ستة آلاف فرنك، مبلغ كبير، يمكن أن يقيم في فندق عدة شهور بالاعتماد على ذلك. إلى جانب أنه سيظل يتسلَّم راتبه الشهري، وقدره ثلاثة آلاف وسبعمائة فرنك في الشهر؛ ويحصل على بيت. من ناحية أخرى عليه أن يدفع لمدام «لاسال» ثمانية آلاف فرنك في نهاية العام، وهو القسط الأخير من ثَمَن هذه الغرفة، هذه الغرفة التي لن يعيش فيها بعد ذلك؛ كيف يمكن أن يشرح لمدام «لاسال» رجاءه بتأجيل هذا القسط الأخير؟

لا يمكن أن يقول لها: «مدام .. لا أستطيع أن أسدِّد القسط الأخير، وقدره ثمانية آلاف فرنك؛ حيث إنني أُقيم في أحد الفنادق منذ عدة شهور؛ لأن الغرفة التي أنوي أن أشتريها منكِ تُحاصِرها حمامة!» .. صعب جدًّا أن يقول ذلك. هل يستطيع أن يقول ذلك؟

ثم تذكَّر أنه ما زال لديه خمس قطع ذهبية .. نابليون، قيمة كلٍّ منها ستمائة فرنك تقريبًا، كان قد اشتراها خوفًا من التضخم أثناء الحرب الجزائرية في سنة ١٩٨٥؛ يجب ألَّا ينسى بأيَّة حال من الأحوال أن يأخذها معه. ولديه سوار كان لأمِّه، وكذلك الراديو الترانزستور، وقلم حبرٍ جاف مطلي بالفضة كان قد حصل عليه هدية مثل كل عملاء البنك بمناسبة عيد الميلاد. لو باع كل تلك الكنوز الثمينة؛ يمكنه — إذا اقتصد في إنفاقه جيدًا — أن يُقيم في فندق حتى نهاية العام، ويدفع لمدام «لاسال» الثمانية آلاف فرنك. بعد الأول من يناير سيكون أفق التوقعات أفضل؛ فالغرفة ستكون قد أصبحت مِلكًا له، ولن يكون مطالَبًا بدفع إيجار، وربما تموت الحمامة قبل حلول الشتاء. تُرى كم عمر الحمامة؟ سنتان؟ ثلاث؟ عشر سنوات؟ وماذا لو كانت حمامة عجوزًا؟ ربما ماتت هذا الأسبوع! ربما اليوم! ربما لم تأتِ إلى هنا إلا لكي تموت!

بمجرد الانتهاء من حلاقة ذقنه صرفَ ماء الحوض، ثم نظَّفه، ثم ملأه مرة أخرى وغسلَ جذعه وقدميه ونظَّف أسنانه بالفرشاة، ثم صرفَ ماء الحوض ومسحَه بقطعة قماش، بعد ذلك رتَّب السرير.

كانت تحت الخزانة حقيبة من الكرتون، يضع فيها ملابسه المستعملة التي يحملها إلى المغسلة مرة كل شهر، جذبها، أفرغ محتوياتها على السرير، نفْس الحقيبة التي كان قد سافر بها من «شارنتون» إلى «باريس» في سنة ١٩٤٥. والآن عندما رأى تلك الحقيبة نائمة على سريره، وعندما بدأ يحشوها بثيابه النظيفة وليس المستعملة .. حذاء، ملابس داخلية، المكواة، دفتر الشيكات، وكل كنوزه الثمينة، كأنه ذاهب في رحلة؛ طفرت الدموع من عينيه، لم تكن هذه المرة دموع الخجل .. كانت دموع اليأس التام.

بدا له الأمر وكأنه قد ارتدَّ — بقوة — ثلاثين عامًا إلى الخلف، كأنه فقدَ ثلاثين عامًا من عمره. عندما انتهى من تعبئة الحقيبة؛ كانت الساعة قد أصبحت الثامنة إلا ربعًا.

ارتدى أولًا زِيَّه الرسمي: البنطلون الرمادي، القميص الأزرق، والجاكت الجِلد، وحزام جلد به قِراب مسدس، وقبعته الرسمية الرمادية؛ بعد ذلك تسلَّح لمواجهة الحمامة. أكثر ما كان يُقزِّزه فكرة أيِّ احتكاك جسدي، أيِّ تلامس بينهما .. كأنْ تنقر رجله، أو تُرفرِف بالقرب منه وتضرب يديه أو رقبته بجناحيها، أو ربما حطَّت فوقه بقدميها المُفلطَحتين اللَّتَينِ تشبهان المخالب؛ لذلك لم يلبس حذاءه الخفيف، بل ذلك الحذاء الثقيل المبطَّن بالصوف، والذي كان يلبسه عادةً في شهري يناير وفبراير، ثم دثَّر نفسه بجاكت شتوي، وأحكم أزراره من أعلى إلى أسفل، ولفَّ حول رقبته كُوفيَّة تُغطِّي ذقنه، وحمى كفَّيه بقفازٍ جلدي مبطَّن، وحملَ في يده اليُمنى مظلَّة. وفي الساعة الثامنة إلا سبع دقائق — وهكذا بدا مُجهَّزًا — كان يقف مستعِدًّا لمحاولة التجرُّؤ والخروج من غرفته. خلعَ القبعة الرسمية، ووضعَ أذنه على الباب؛ لا يسمع شيئًا. وضعَ القبعة على رأسه ثانيةً، ثبَّتها جيدًا فوق جبينه، حملَ حقيبته ووضَعَها بالقرب من الباب؛ لكي تكون جاهزة. ولكي تبقى يده اليُمنى حرَّة؛ علَّق المظلة على معصمه. أمسك الأُكرة بيده اليُمنى، والقفل بيُسراه، وأزاح المزلاج، ووارب الباب، ثم نظر بحذر؛ لم تكن الحمامة جاثمة أمام الباب على البلاط. وفي نفس المكان الذي كانت رابضة فيه؛ لا يرى سوى بقعة خضراء في لون الزُّمُرُّد لها حجم قطعة الخمس فرنكات، وريشة بيضاء من الزغب الدقيق اهتزَّت قليلًا بفعل التيار الذي أحدثته فُرْجَة الباب. ارتجف «جوناثان» متقزِّزًا، كان بِوُدِّه أن يُغلق الباب .. يصفقه .. كانت غرائزه تنسحب عائدةً إلى أحضان الأمان .. إلى غرفته بعيدًا عن الرعب الموجود خارجها، ولكنه لاحظ أنها لم تكن بقعة واحدة .. هناك غيرها كثير .. في كل القطاع الذي يمكن أن يُغطِّيه بصره من الصالة .. كانت تلك البقع اللامعة .. الخضراء كالزُّمُرُّد؛ متناثرةً في كل الأنحاء. لكن ما حدث على وجه الدِّقة؛ هو أنَّ اشمئزاز «جوناثان» لم يتزايد. على العكس؛ شعر بالاضطرار إلى المقاومة. ربما كان قد فكَّر في الانسحاب قبل رؤية البقعة الأولى وتلك الريشة الوحيدة، وكان يمكن أن يُغلق الباب وينتهي الأمر، إلا أنَّ تلويث الحمامة لكل الصالة — انتشار هذه الظاهرة الملوثة — حشَدَ شجاعته، ففتح الباب على مصراعيه.

والآن رأى الحمامة، كانت جاثمة ناحية اليمين على بُعد خمسة أقدام تقريبًا .. عند نهاية الممر .. مُنكمِشةً على نفسها في ركن، كان ضوء خفيف يسقط على البقعة. وألقى «جوناثان» نظرة سريعة إلى تلك الناحية، ولكنه لم يتأكد إن كانت الحمامة نائمة أم مستيقظة، وإن كانت عينها مفتوحة أو مُغمَضة .. ولم يكن يريد أن يعرف. كان قد قرأ ذات مرة في كتابه عن الحيوانات الاستوائية أنَّ هناك حيوانات معيَّنة غير أنواع القردة العليا؛ يمكن أن تُهاجمك لمجرد أنك نظرت إليها، أمَّا إذا تجاهلتها فإنَّها تتركك في حالك، وربما كان ذلك ينطبق على الحمام أيضًا.

على أيَّة حال؛ قرَّر «جوناثان» أن يتصرَّف وكأنَّ الحمامة ليست موجودة .. أو على الأقل لا ينظر إليها أكثر من ذلك. زحزح الحقيبة ببطء إلى الممر، كان يحركها بين البقع بحذر وانتباه، ثم فتح المظلة، وأمسك بها بيده اليسرى أمام صدره ووجهه مثل الدرع الواقية. تقدَّم في الممر وهو يُناور ويُحاذر من البقع الخضراء المتناثرة أمامه على الأرض .. ثم جذب الباب خلفه وأغلقه.

ورغم كل نواياه بأن يتصرَّف وكأن شيئًا لم يكن، إلا أنَّ الخوف عاد إليه وراح قلبه يدقُّ بشدَّة في حلقه. وعندما عجز عن أن يُخرج المفتاح بسرعة من جيبه بإصبعه المغطَّاة بالقفاز؛ بدأ يرتعد من التوتر، لدرجة أنَّ المظلَّة سقطت من يده، وعندما حاول أن يمدَّ يده اليُمنى لكي يلتقطها ويُعلِّقها على كتفه وخدِّه؛ وقع المفتاح على الأرض بجوار بقعة خضراء، لا يفصله عنها بالكاد إلا شعرة، وكان عليه أن ينحني ليأخذه. وبمجرد أن قبض عليه بشدة؛ كان مرتبِكًا لدرجة أنه حاول ثلاث مرات أن يضعه في ثُقب الباب، وأخطأ في المرات الثلاث .. حتى نجح أخيرًا في أن يضع المفتاح في الثقب وأداره دورتين.

في تلك اللحظة، خُيِّل إليه أنه قد سمع رفرفةً خلفه .. أم تراها كانت المظلة وهي تحفُّ بالحائط؟ ولكنه عندما سمعها مرة أخرى؛ بكل تأكيد .. رفرفة أجنحة .. أصابه الفزع، انتزع المفتاح من الثقب، وانتزع الحقيبة، وعدا مُسرِعًا.

كانت المظلة المرفوعة تحكُّ بالحائط، والحقيبة ترتطم بأبواب الغرف الأخرى. وفي وسط الصالة كان غطاء النافذة مفتوحًا؛ فاصطدم به في طريقه، ومرَّ من المكان الضيق جاذبًا المظلة بعنف، لدرجة أنَّ القماش المفتوح تمزَّق، ولكنه لم يعبأ بذلك — لا شيء يهمُّ — كان يريد أن يخرج من هنا .. يخرج فقط .. ولا أكثر!

عندما وصل إلى بسطة السُّلَّم توقَّف لحظةً ليقفل تلك المظلة المعوِّقة، ويُلقي نظرةً خلفه: أشعة شمس الصباح اللامعة تأتي من النافذة حافرة، كتلة من الضوء حادة الحواف في الظلال المُعتِمة للممر؛ كان من الصعب أن يرى من خلالها. وعندما حدَّق فقط وأجهد عينيه لكي يرى .. اكتشف أنَّ الحمامة — وكانت على يمينه مباشرة — قد انتقلت من الركن المظلم، وتقدَّمت بخطوات قليلة سريعة إلى الأمام، ثم استقرت ثانية .. أمام باب غرفته مباشرة. استدار، جسمه كله تلتهمه قشعريرة، نزل على السُّلَّم، في تلك اللحظة كان متأكدًا أنه لن يستطيع العودة.

•••

مع كل درجة من درجات السُّلَّم كان يزداد هدوءًا، على بسطة الدور الثالث أطلقت موجةٌ حارَّة مفاجِئة عِنان وَعْيه بأنه كان يرتدي جاكت شتويًّا وكُوفِيَّة وحذاء مُبطَّنًا بالفراء. وفي أيَّة لحظة قد تخرج خادمة؛ تكون في طريقها للتسوُّق من أيِّ باب خلفي من الأبواب المُوصِلة بين مطابخ الشقق الأنيقة والسُّلَّم، أو أن يكون المسيو «ريجو» يضع زجاجات النبيذ الفارغة، أو — وهذا هو الأسوأ — أن تكون مدام «لاسال» نفسها قد استيقظت لسبب ما، وهي عادةً تستيقظ مبكرًا، وها هي رائحة القهوة على السُّلَّم، وقد يكون الباب الخلفي لمطبخها مفتوحًا، وقد يجِدُ «جوناثان» نفسه واقفًا أمامها على السُّلَّم، في تلك الحالة الشتوية الغريبة .. في ضوء شمس أغسطس القوية. وهو لن يستطيع أن يخرج من الموقف المُحرِج الذي يسبِّبه هذا المنظر الغريب .. لا بدَّ أن يجِدَ تفسيرًا لذلك .. ولكن كيف؟ لا بدَّ من أن يخترع كذبة .. لكن أيَّة كذبة؟ لن يكون هناك أيُّ تفسير لظهوره في تلك الهيئة .. سوف يعتقد الناس أنه مخبول، ربما كان مخبولًا بالفعل!

وضع حقيبة ملابسه على الأرض، أخرج منها الحذاء الخفيف، وبمنتهى السرعة .. القفاز والجاكت والكُوفِيَّة، لبس الحذاء الخفيف، وضع الحذاء الثقيل والقفاز والكُوفِيَّة في الحقيبة، وألقى الجاكت على ذراعه. والآن؛ فإنَّ وجوده — كما يعتقد — يمكن أن يكون مبرَّرًا أمام أيِّ إنسان، وعند الضرورة يمكن أن يزعم أنه كان يحمل ثيابه المستعمَلة إلى المغسلة، والجاكت للتنظيف الجاف، ومع شعور شديد بالارتياح .. واصل نزول السُّلَّم.

في الفناء الخلفي قابل حارسة البناية المسئولة عن نظافتها وهي تدفع صناديق القمامة الفارغة على عربتها الصغيرة، فجأةً شعر بأنه قد اكتُشف متلبِّسًا. ترنَّحتْ خطواته، لم يستطع أن يختبئ في بئر السُّلَّم؛ فقد رأته بالفعل .. ولذا لا بدَّ أن يستمر. قالت وهو يمرُّ من أمامها بخطوات سريعة متعمَّدة: «نهارك سعيد يا مسيو نويل.» ردَّ: «نهارك سعيد يا مدام «روكار».» لم يُخاطِبَا بعضهما بأكثر من ذلك أبدًا على مدى عشر سنوات — طوال حياته في هذا المبنى — لم يقل لها أكثر من «نهارك سعيد يا مدام.» أو «شكرًا يا مدام.» عندما كانت تُسلِّمه بريده. لم يكن لديه أيُّ شيء ضدها، وهي لم تكن شخصًا سيئًا، لم تكن تختلف عن سابقتها في شيء .. ولا عن السابقة على سابقتها. ومثل جميع البوابين؛ لم يكن من السهل تحديد عمرها: كانت بين أواخر الأربعينيات وأواخر الستينيات. ومثل جميع البوابين؛ كانت مِشيتها متثاقلة، هيئتها بدينة، ملامح وجهها دوديَّة، ورائحتها عفنة.

عندما لا تكون مشغولة بنقل صناديق القمامة لتفريغها أو إعادتها، أو بتنظيف السُّلَّم، أو تشتري شيئًا بسرعة؛ كانت تجلس في ضوء لمبة فلورسنت في غرفتها في الممر بين الشارع والساحة تاركةً جهاز التلفزيون مفتوحًا، تَخيط شيئًا، أو تكوي، أو تطبخ. وتسكر بنبيذٍ أحمر رخيص، كما يفعل كل البوابين.

لم يكن لديه أيُّ شيء ضدها، كان في نفسه شيء من كل البوابين بشكلٍ عام؛ وذلك لأنهم يقومون بمراقبة الآخرين لأسبابٍ مهنية. ومدام «روكار» — على نحوٍ خاص — كانت شخصًا يقوم بمراقبته بصفة دائمة .. تراقب «جوناثان» بالتحديد .. كان من المستحيل أن تمرَّ أمامها دون أن تلحظ ذلك .. ولو كان ذلك لِلَمحةٍ خاطفة .. حتى عندما كانت تجلس في غرفتها وهي نائمة على الكرسي — كما كان يحدث في الساعات الأولى بعد الظهيرة وبعد وجبة العشاء — كان أقلُّ صريرٍ يَصدر عن باب المدخل يكفي لإيقاظها؛ لكي تلحظ الشخص الذي يمر.

لم يراقب أحد في العالم مسيو «جوناثان» غالبًا، وبدِقَّةٍ مثل مدام «روكار»، لم يكن لديه أصدقاء، يمكن أن نقول: إنه كان في البنك جزءًا من الموجودات .. من العُهْدة .. كان العملاء يعتبرونه ديكورًا .. وليس شخصًا.

في السوبر ماركت، في الشارع، في الباص (ولكن متى كان في الباص؟) يبقى مجهولًا بسبب الزحام من حوله. الاستثناء الوحيد هو مدام «روكار» التي كانت تعرفه، وتتفحَّصه، وتوليه اهتمامًا جادًّا مرتين على الأقل في اليوم الواحد؛ وهكذا كانت قادرة على الحصول على معلومات شخصية ومهمَّة عن أسلوب معيشته: الملابس التي يرتديها، كم مرةً يُغيِّر قميصه في الأسبوع؟ إن كان قد غسل شعره، ماذا أحضر معه للعشاء؟ .. هل وصلته خطابات؟ .. ومِمَّن؟ ورغم أنَّ «جوناثان» — كما قلنا — لم يكن يحمل أيَّ شيء ضد مدام «روكار»، ورغم أنه كان يعرف جيدًا أنَّ نظراتها الحمقاء لم تكن نابعة من أيِّ فضول، وإنَّما من شعور بواجب مهني؛ إلا أنه كان يشعر بتلك النظرات تنزل عليه مثل تقريعٍ أو تأنيبٍ أخرس. وفي كل مرة يمرُّ أمامها — حتى بعد كل تلك السنوات — كان يشعر بالضيق والضجر. لماذا، بحقِّ الجحيم، تراقبني هكذا؟ لماذا تتفحَّصني هكذا ثانيةً؟ لماذا لا تتركني مرةً واحدةً لشأني ولا تتأمَّلني؟ لماذا فضول البشر؟

ولأنه كان في هذا اليوم شديد الحساسية وضَجِرًا — مع أخذ كل ما حدث في الاعتبار — فإنه كان يعتقد أيضًا أنَّ قمة البؤس هو أن يراه أحدٌ وهو يحمل تلك الحقيبة، وذلك الجاكت الشتوي .. أمَّا نظرات مدام «روكار» فكانت موجِعة على نحو خاص.

وفوق كل شيء فإنَّ تحيَّتها له «نهارك سعيد يا مسيو نويل.» كانت تبدو له قمةَ السخرية. انفجرت ثورة الغضب التي كانت حتى الآن مكبوحة بداخله؛ فأتى شيئًا غير مسبوق: توقَّف بمجرد أن مرَّ من أمام مدام «روكار»، وقَفَ، وضَعَ الحقيبة، وضَعَ الجاكت عليها واستدار .. استدار بحِدَّة وهو يحاول أن يواجه صفاقة نظرتها وتحيَّتها بشكلٍ نهائي. لكنه لا يعرف ماذا يمكن أن يفعل أو يقول وهو متَّجِهٌ نحوها؟ كل ما يعرفه هو أنه لا بدَّ أن يفعل شيئًا .. أن يقول شيئًا.

تكسَّرت موجة شجاعته وحَمْلته نحوها .. كانت شجاعة بلا حدود، أمَّا هي فكانت قد انتهت من إعادة صناديق القمامة إلى أماكنها، وعلى وشك التوجُّه نحو غرفتها عندما وجدها أمامه في وسط الفناء، توقَّفا .. وبينهما مسافة قدمين تقريبًا، لم يكن قد سبق له أن رأى وجهها بملامحه الدودية من على هذا القرب: جلد خدَّيها المنتفخين يبدو ناعمًا ورقيقًا مثل الحرير القديم الرقيق، والعينان بنِّيتان، تنظر إليهما عن قرب فلا تجِدُ فيهما أيَّ أثرٍ للفضول .. وبدلًا من ذلك؛ تكشفان عن إحساسٍ ناعم، فيه خَفَرُ العذارى. ولكن «جوناثان» لم يسمح لتلك التفاصيل — التي كانت تتعارض مع صورة مدام «روكار» بداخله — أن تزعجه، ثم وهو يُضيف لمسةً رسمية إلى مسلكه؛ نقَرَ على قبعته الرسمية بطريقة لا تخلو من استهانة، وقال: مدام .. أريد أن أتكلم معكِ (لم يكن يعرف حينذاك ما يريد أن يقول)؛ ردَّت مدام «روكار» بلفتة أعادت رأسها إلى الخلف: «نعم يا مسيو نويل.» كان «جوناثان» يفكر: إنها تشبه الطائر. ثم كرر خطابه الساخر: «مدام .. أريد أن أقول لكِ …» كان يريد فقط أن يجعلها تستمع إليه. ولدهشته؛ فإنَّ قوة الغضب الدافعة اتخذت شكلًا عفويًّا: «مدام .. يوجد طائر على باب غرفتي.» ثم بعد ذلك حدَّد كلامه: «حمامة يا مدام .. على البلاط أمام بابي.» عند هذه النقطة فقط استطاع أن ينجح في ترويض دفعة الكلمات القادمة من لاوعيه ويُوجِّهها وجهة خاصة مع إضافة: «الحمامة يا مدام قد لوَّثت الممر في الدور السابع ببقاياها.»

نقلت مدام «روكار» ثِقْلها عدة مرات من ساق إلى أخرى، وألقت برأسها إلى الخلف أكثر مما سبق، وقالت: «ومن أين جاءت الحمامة يا مسيو؟»

– لا أعرف، ربما قد دخلت من شبَّاك الصالة، الشبَّاك مفتوح، مع أنه لا بدَّ أن يكون مغلقًا باستمرار .. وهذا جزء من تعليمات المنزل.

قالت: ربما يكون أحد الطلبة قد فتحه بسبب الحر الشديد.

– ربما! .. ولكنه يجب أن يظل مغلقًا، وبخاصة في الصيف. لو هبَّت عاصفةٌ فقَد تُغلقه بشِدَّة ويتحطَّم، لقد حدث ذلك مرة في صيف ١٩٦٢، وتكلَّف حينذاك مائة وخمسين فرنكًا لاستبدال لوح الزجاج، ومنذ ذلك وتعليمات المنزل …

كان يُدرك بالتأكيد أنَّ هناك شيئًا غريبًا في إشارته المستمرة لتعليمات المنزل، ولم يكن مهتمًّا على الإطلاق بكيفية دخول الحمامة، والحقيقة أنه لم يكن يريد أن يدخل في تفاصيل عن الحمامة، فتلك مشكلة لا تُهِمُّ أحدًا سواه.

كان يريد فقط أن يجدَ متنفَّسًا لغضبه من نظرات مدام «روكار» ولا أكثر، وقد تحقَّق ذلك بالعبارات الأولى التي نطق بها، الآن هدأ غضبه. ولم يعرف كيف يستمرُّ أو يُواصل؟ .. قالت مدام «روكار»: لا بدَّ أن يقوم أحد بمطاردة الحمامة وإغلاق الشبَّاك. قالت ذلك وكأنَّ ذلك أبسط أمر في الحياة، وكأنَّ كل شيء سوف يعود إلى طبيعته. ظلَّ «جوناثان» صامتًا، وبنظرة سريعة واحدة وجَدَ نفسه واقعًا في فخ الشرج البنِّي لعينيها، كأنه يواجه خطر الغرق في مستنقعٍ بنِّي لين، وكان لا بدَّ من أن يُغمض عينيه لحظة لكي يخرج منه .. وأن يتنحنح ويُسلِّك زَوْره ويجِدَ صوته مرة أخرى.

بدأ: «في الحقيقة.» وراح يتنحنح مرة أخرى: «لا شيء هناك سوى بعض البقع، وهذا أسوأ ما في الأمر .. وبعض الريش … لقد لوَّثت الممر .. هذه هي المشكلة الرئيسة.» قالت مدام «روكار»: الممر سوف يُنظَّف بالتأكيد يا مسيو «نويل»، ولكن لا بدَّ أن يقوم أحد بمطاردة الحمامة أولًا؛ «نعم .. نعم! ..» وراح يفكر: «ماذا تريد؟ لماذا تقول أنَّ أحدًا لا بدَّ أن يقوم بمطاردة الحمامة؟ ربما تقصد أنني الذي يجب أن يفعل ذلك؟» وكان يتمنى لو أنه لم يقترب من مدام «روكار»، ولم يُحادثها في الأمر! «نعم .. نعم .. لا بدَّ من مطاردتها، كان يمكن أن أقوم بذلك ولكنِّي لم ألحق بها، وأنا في عَجَلة كما ترين .. أحمل ملابسي اليوم للمغسلة، وكذلك الجاكت الشتوي للتنظيف الجاف، والملابس للغسيل، ثم أذهب إلى عملي. أنا في عَجَلة يا مدام؛ لذا لم يكن هناك وقت لمطاردة الحمامة، كل ما أردته هو أن أُخبرك بذلك، وخاصة بسبب البقع، المشكلة الرئيسة هي أنَّ الحمامة قد لوَّثت الممر، وهذا ضد تعليمات المنزل: تعليمات المنزل تقضي بأنَّ المدخل والممر والسُّلَّم؛ لا بدَّ أن تكون كلها نظيفة في كل وقت.»

«جوناثان» لا يتذكَّر أنه قد واصل مثل هذا الحوار الأخرق مع أحد قبل ذلك. وبدَت له كذباته واضحة جدًّا، والحقيقة الوحيدة التي يبدو أنَّ كذبه كان يُخفيها — أنه لن يكون قادرًا أبدًا على طرد الحمامة، وأنَّ الحمامة هي التي تطارده منذ فترة طويلة — كانت واضحة جدًّا وبشكل مزعج. وحتى إذا لم تكن مدام «روكار» قد اكتشفت هذه الحقيقة بين كلماته، فلا بدَّ أنها تستطيع أن تقرأ ذلك على وجهه؛ فقد احمرَّ وتدفَّق الدم إلى دماغه، واشتعلت وجنتاه خجلًا.

ولكن مدام «روكار» تتصرَّف في الحقيقة وكأنها لم تلحظ شيئًا (وربما لا تكون قد لاحظت شيئًا)، وقالت: «شكرًا يا مسيو على هذه المعلومات، وسوف أهتم بالأمر عند أقرب فرصة.» ثم خفضت رأسها واستدارت بجواره مُتَّجِهة إلى المرحاض الخارجي الملاصق لغرفتها لكي تختفي هناك.

راقبها وهي تختفي. لو كان لديه أيُّ أمل في أن ينقذه شيء من الحمامة؛ فإنَّ هذا الأمل قد ضاع مع رؤية مدام «روكار» وهي تختفي في المرحاض، قال لنفسه: إنها لن تهتم بشيء بالمرة، ولماذا تشغل بالها؟ إنها مجرد بوَّاب، ووظيفتها هي كنس السُّلَّم والمدخل والممر وتنظيف الحمَّام المشترَك مرة في الأسبوع، وليس مطاردة الحمَام. ثم إنها بحلول المساء على الأكثر ستكون قد سكِرَت من أثر «الفيرموت»، ونسيت الموضوع كله .. هذا إن لم تكن قد نسيته فعلًا!

•••

في الثامنة والربع تمامًا كان «جوناثان» في البنك، قبل نائب الرئيس بخمس دقائق بالضبط، وصل مسيو «فيلمان» ومدام «روك» رئيسة الخزينة، فتحا معًا أبواب الدخول: «جوناثان» فتح البوابة الخارجية المتحركة، ومدام «روك» فتحت الباب الزجاجي الخارجي المضاد للرصاص، ومسيو «فيلمان» الباب الداخلي. بعد ذلك قام مسيو فيلمان وجوناثان بإبطال جهاز الإنذار بمفتاحين معهما، «جوناثان» ومدام «روك» فتحا باب الحريق المؤدِّي إلى الطابق السفلي، واختفت مدام «روك» ومسيو «فيلمان» في السرداب لفتح الخزانة بالمفاتيح الخاصة بها. وفي نفس التوقيت كان «جوناثان» يضع الحقيبة والمظلة والجاكت في خزانته الصغيرة بجوار التواليت، ثم أخذ مكانه عند الباب المضاد للرصاص، وسمح للموظفين بالدخول. وكانوا يدخلون واحدًا تلو الآخر بالضغط على زرين يفتحان البابين بالتناوب مثل الصمامات التي تحكم تدفق الماء.

بحلول التاسعة إلا ربعًا كان جميع الموظفين قد وصلوا واحتلَّ كل منهم موقعه خلف الكاونتر، وفي قسم المحاسبة، والمكاتب الأخرى. وترك «جوناثان» البنك ليأخذ موقعه على السُّلَّم الرخامي أمام الباب، الآن بدأت واجباته الحقيقية.

الآن .. ومنذ ثلاثين عامًا من التاسعة صباحًا إلى الواحدة بعد الظهر، ومن الثانية والنصف بعد الظهر إلى الخامسة والنصف مساءً؛ لم تكن واجباته تتضمَّن أشياء كثيرة. إمَّا أن يقف جوناثان ساكنًا أمام المدخل، أو يتحرَّك جيئةً وذهابًا في خطوات محسوبة على الدرجات الرخامية الثلاث في حَوالَي التاسعة والنصف. وبين الرابعة والنصف والخامسة؛ كانت هناك فترة راحة قصيرة تتزامن مع وصول وانصراف سيارة مسيو «رويدل» الليموزين السوداء. كان ذلك معناه أن يترك موقعه على السُّلَّم ويجري الاثنتي عشرة ياردة بامتداد مبنى البنك حتى بوابة الدخول الرئيسة في الفناء الخلفي؛ لكي يفتح الحاجز الحديدي، واضعًا يده على حافة قبعته تحيةً واحترامًا، لكي تمرَّ الليموزين. نفس الشيء تقريبًا قد يحدث باكرًا في الصباح أو متأخرًا في المساء، عندما تصل العربة الزرقاء المدرَّعة التابعة لشركة «برنك» للنقل؛ يرفع لها أيضًا الحاجز الحديدي، ويتلقَّى رُكَّابها تحيةً، ولكنها — بالتأكيد — ليست تلك التي تُصاحبها راحة اليد بجوار القبعة، وإنَّما هي تحية خاطفة لزملاءَ بإصبعه السبابة بالقرب من القبعة! ولا شيء يحدث غير ذلك. كان «جوناثان» يقف ويحدِّق وينتظر، أحيانًا يحدِّق في قدميه، أحيانًا في الرصيف، وأحيانًا ينظر إلى المقهى الموجود على الجانب الآخر من الطريق، وكان أحيانًا يجول على امتداد درجة السُّلَّم السفلي؛ سبع خطوات يسارًا ومثلها يمينًا، أو يترك الدرجة السفلى ويأخذ مكانه على الدرجة الثانية، وأحيانًا عندما تكون الشمس قوية ويضغط الحرُّ الماءَ على شريط العَرَق في قبعته، ينتقل إلى الدرجة الثالثة من السُّلَّم، والتي يُظلِّلها غطاء المدخل، فيقف هناك. وبمجرد أن يرفع قبعته، ويمسح جبينه المُبتَلَّ بساعده .. يُحدِّق وينتظر.

ومرةً حسَبَها .. عند تقاعده سيكون قد أمضى خمسة وسبعين ألف ساعة واقفًا على تلك السلالم الرخامية الثلاث، ومن المؤكَّد أنه سيكون الشخص الوحيد في باريس كلها — وربما في فرنسا — الذي وقف أطول وقت في مكان واحد، وربما يكون قد حقَّق ذلك، فهو قد قضى — حتى الآن — خمسةً وخمسين ألف ساعة على تلك الدرجات. كان هناك بالفعل عدد قليل من الحراس في المدينة، وكانت معظم البنوك تشترك فيما يُسمَّى بشركات حراسة المباني، ويتركونها تضع أمام أبوابهم بعض الأفراد صغار السن من ذوي السيقان المُعوجَّة المشغولين بأنفسهم، والذين يجري استبدالهم بسرعة في خلال شهور، وعادة في خلال أسابيع، بآخرين مثلهم تمامًا، بزعم أنَّ ذلك لأسباب نفسية تتعلَّق بالعمل. وكما قيل: فإنَّ فترة انتباه ويقظة الحارس تقلُّ إذا خدم طويلًا في نفس المكان؛ يصبح كسولًا مهمِلًا، وبالتالي يفقد كفاءته.

وهذا كله كلام فارغ، «جوناثان» يعرف أكثر من ذلك؛ إنَّ انتباه الحارس يتلاشى بعد ساعات محدودة، منذ اليوم الأول لم يعُدْ يعي ما يحيط به، ولا حتى يشعر بمئات البشر الذين يدخلون البنك، ولا كان ذلك ضروريًّا؛ فأنت لا تستطيع أن تُميِّز لصوص البنك من العملاء بأيَّة طريقة. وحتى لو أنَّ حارسًا استطاع أن يفعل ذلك، وألقى بنفسه في طريق اللص؛ فسوف تصيبه رصاصة تُرْديه قتيلًا قبل أن يتمكَّن من انتزاع مسدسه من قِرابه؛ فاللصوص لديهم ميزة المفاجأة التي تجعلهم يتفوقون على الحُرَّاس مثل أبي الهول. هكذا فكَّر جوناثان (لأنه كان قد قرأ مرةً عن أبي الهول في أحد كتبه). الحارس مثل أبي الهول، لا يؤدي عمله عن طريق فعل أيِّ شيء، وإنَّما بمجرد وجوده الجُسماني.

بذلك يواجه اللصوص المحتمَلين .. يواجههم بذلك فقط، قال أبو الهول لِلِصِّ المقبرة: لا بدَّ من أنك ستمُرُّ من أمامي، أنا لا أستطيع أن أعترضك أو أقاومك، لا بدَّ أنك ستمُرُّ، إذا أنت تجرَّأت على ذلك؛ فلسوف ينزل عليك انتقام الآلهة والفرعون.

ويقول الحارس: لا بدَّ من أنك ستمُرُّ من أمامي، أنا لا أستطيع أن أعترضك أو أقاومك، وإذا أنت تجرَّأت على ذلك فسيكون عليك أن تقتلني، وسيكون انتقام القضاء منك على شكل إدانة لك بجريمة القتل.

«جوناثان» يُدرك الآن بالطبع أنَّ في حوزة أبي الهول عقوبات مؤثرة أكثر مما لدى الحارس، حيث لا يستطيع أيٌّ من الحراس أن يهدِّد بانتقام الآلهة!

وحتى لو كان اللص لا يكترث على الإطلاق بالعقوبات، فإنَّ أبا الهول ليس مُعرَّضًا للخطر؛ فهو مصنوع من البازلت أو الصخر النقي، أو مصبوب من البرونز، وقد ظلَّ على حاله بعد سرقات المقابر بأكثر من خمسة آلاف سنة دون أيِّ جهد على الإطلاق .. بينما قد يفقد الحارس حياته في خمس ثوانٍ أثناء أيَّة محاولة لسرقة البنك، ولكنهما متشابهان، هكذا فكَّر! أبو الهول والحارس! فقوة كليهما ليست مستمدة من أداة، قوَّتهما رمزية، ومن خلال الوعي بتلك القوة الرمزية فقط — والتي كانت محل فخره وكبريائه، والتي تمنحه قوَّته وبأسه وتحميه، أكثر مما تحميه اليقظة والسلاح والزجاج المضاد للرصاص — كان «جوناثان» يقف على السلالم الرخامية أمام البنك ويقوم بالحراسة منذ ثلاثين عامًا حتى الآن دون خوف، دون شك في نفسه، وبلا أدنى شعور بعدم الرضا أو الاكتئاب .. حتى اليوم.

ولكن اليوم كل شيء مختلف، اليوم لا يستطيع «جوناثان» أن يُحقِّق أيَّ نجاح للوصول إلى هدوء شبيه بهدوء وطمأنينة أبي الهول، فبَعد دقائق قليلة بدأ يشعر بحِمل جسده؛ كضغطٍ مؤلم على باطن قدميه. نقلَ ثِقْله من قَدَم إلى أخرى، ثم بالعكس؛ مما جعله يترنَّح قليلًا، وينحرف في خطوات جانبية لكي يحفظ مركز جاذبيته — التي كان يُمسك بها حتى الآن على شكل عمودي تمامًا — لكيلا يختلَّ توازنه.

وفجأةً شعَرَ أيضًا بأكَلان في فخذه، في جانب صدره، في قفاه .. بعد قليل شعرَ بأكَلان في جبهته، وكأنَّ الجفاف قد أصابها فجأةً؛ فتشقَّقت كما كان يحدث لها أحيانًا في فصل الشتاء. في نفس الوقت أصبح الجو حارًّا، ورغم أنَّ الساعة لم تتجاوز التاسعة والربع صباحًا؛ إلا أنَّ جبينه قد أصبح رَطْبًا كما كان يحدث له في الحادية عشرة تقريبًا. انتقل الأكَلان إلى ذراعيه، وصدره، وظهره، إلى أسفل رجليه .. وفي كل مكان عليه جِلد؛ كان يشعر بالأكَلان وبرغبة شديدة في حَكِّه .. يودُّ أن يَهرِش بكل حرية .. ونَهَم .. ولكن ذلك لم يحدث أن هرَشَ حارسٌ جسمَه، وراح يحكُّه عَلَنًا! وهكذا أخذَ شهيقًا عميقًا. نفخ صدره، شدَّ ظهره وأراحه، رفع وخفض كتفيه محاولًا أن يجعل جسمه يلمس ثيابه من الداخل؛ فتهرشه له ويستريح قليلًا. لكن تلك الالتواءات والارتعاشات غير العادية زادت من ترنُّحه، وسرعان ما أصبحت الخطوات الجانبية غير كافية لحفظ توازنه؛ فوجد «جوناثان» نفسه مُجبرًا — على غير عادته — أن يتخلَّى عن وِقفته مثل التمثال، حتى قبل وصول سيارة مسيو «رويدل» الليموزين في التاسعة والنصف، ويتحوَّل إلى الخَفارة، بالتحرك جَيْئَةً وذهابًا سبع خطوات يسارًا ومثلها يمينًا. وبينما هو يفعل ذلك؛ كان يحاول أن يثبِّت نظرته العميقة، ويجعلها تتشبث بالدرجة الثانية من السُّلَّم الرخامي، لكي تجعله يتحرَّك أمامًا وخلفًا وكأنه عربةٌ فوق قضبان ثابتة. لعل هذه الصورة قد تساعد على أن ينهض بداخله ذلك التكوين الشبيه بأبي الهول، والذي طالما تاق إليه؛ فيجعله ينسى ثِقَل جسمه، وجلده الذي يأكله، وكل ذلك الغليان الذي يفور في جسده وعقله. ولكن ذلك لم يُجدِ؛ كانت العربة تخرج عن القضبان باستمرار، في كل مرة يرمش فيها، كانت نظرته تخرج عن تلك الحافة اللعينة، وتقفز نحو شيء آخر: إلى قصاصة من جريدة ملقاة على الرصيف، إلى قدم عابرة في جورب أزرق، إلى ظَهْر سيدة، إلى كيس به أرغفة، إلى أُكرة الباب الزجاجي الخارجي، إلى شعار شركة التبغ الأحمر اللامع على شكل معيَّن فوق المقهى المجاور، إلى درَّاجة .. إلى قبعة من القشِّ .. إلى وجه عابر. وعبثًا كان يحاول أن ينجح في تثبيت نظره على أيِّ شيء، أو تحديد نقطة ثابتة قد تساعد على توجيهه؛ لم تكَدْ قبعة القشِّ على يمينه تقع في بؤرة الرؤية، حتى جذب باص في الناحية اليسرى من الشارع انتباهه، ليُسلمه بعد ياردات قليلة إلى سيارة «سبور»، أعادته ثانيةً إلى اليمين. في نفس الوقت الذي كانت فيه قبعة الشمس قد اختفت؛ كانت عينه تتنقَّل في اهتياجٍ بين حشد المَارَّة وحشد القبَّعات، تتعلَّق بوردةٍ تتمايل على قبعة أخرى، تنتزع نفسها بعيدًا ثم تسقط في النهاية على حافة الدرجة، ولكنها لا تستقرُّ هناك، تنحرف، تنتقل من بقعة إلى بقعة، من نقطة إلى نقطة .. من خيط إلى خيط. وكان الهواء يترنَّح في قيظ اليوم كما يفعل في ظهيرة أيام يوليو شديدة الحرارة، أقنعة شفافة تتأرجح أمام الأشياء، حوافِّ البنايات، الأسطح؛ كلها تلمع. كانت متوهجة .. بينما كانت تبدو باهتة، وبالية في نفس الوقت. انحدارات الأسقف، الشقوق بين مربعات الحجارة على الرصيف — والتي تبدو عادةً كأنها مرسومة بإتقان واستقامة — كانت الآن متعرجة. والنساء جميعًا كأنهن يرتدين ثيابًا مبهرَجة .. تمرقن أمامه مثل الشهب، تجذبن نظراته ولا تحتفظن بها طويلًا. لم يكن هناك شيء يحتفظ برسمه الدقيق أو الواضح، لم يكن هناك شيء ثابت أو مُحدَّد .. كل شيء يهتزُّ .. يرتجف.

فكَّر «جوناثان»: لا بدَّ أنها عيناي، لقد أُصبت بقِصَر النظر فجأة، وأحتاج إلى نظَّارة طبِّية. عندما كان طفلًا لبِسَ نظَّارةً طبِّية لبعض الوقت، لم تكن قوية، كانت قوة إبصاره في العينين −٠٫٧٥. والآن كان غريبًا أن يُزعجه قِصَر النظر ذلك في مثل تلك السِّن المتقدمة. مع تقدم العمر من المفترض أن يطول النظر كما قرأ، وأن يتناقص قِصَر النظر. ربما كان ما يعاني منه الآن ليس هو قِصَر النظر المعروف، ربما كان شيئًا قد لا تصلح معه نظَّارة طبِّية .. مثل إعتام عدسة العين، أو ماء أزرق، أو انفصال شبكي، أو سرطان في العين، أو ورم في المخ يضغط على العصب البصري! كان مشغولًا بتلك الفكرة المرعبة لدرجة أنَّ الصيحات القصيرة المتكررة فشلت في أن تشقَّ طريقها في عقله الواعي، في الرابعة أو الخامسة فقط — كان أحد الأشخاص يصيح بصوت مُجهَد — استطاع أن يسمع وأن ينتبه ويرفع رأسه. وهناك بالفعل عند بوابة المدخل؛ كانت السيارة الليموزين السوداء الخاصة بمسيو «رويدل» واقفة. كانوا يصيحون، بل ويلوِّحون؛ ويبدو أنهم كانوا يقفون منذ دقائق. عند الحاجز الحديدي .. سيارة مسيو «رويدل» الليموزين! متى أخطأ موعدها أو تخلَّف عن قدومها؟ عادةً .. لم يكن حتى في حاجة إلى أن ينظر .. كان يحسُّ أنها قادمة .. كان يسمعها في همهمة المحرك، كان يمكن أن يكون نائمًا ويستيقظ مثل الكلب .. عندما تقترب سيارة مسيو «رويدل» الليموزين.

لم يندفع — قفزَ مسرِعًا — كاد أن يقع من سرعة الحركة. فتح البوابة ودفعها للخلف، أدَّى التحية، مرُّوا .. كان يشعر بقلبه يدقُّ، وبِيَدِه ترتعش مرتطمةً بحافةِ قبعته. وبعد أن أغلق البوابة عاد إلى المدخل الرئيسي .. وكان يسبح في عَرَقه. تمتَمَ لنفسه: «لقد أخطأت سيارة مسيو «رويدل» الليموزين.» كان صوته يتهدج يأسًا وهو يُكرِّر العبارة لنفسه، وكأنه لم يفهمها: «لقد أخطأت سيارة مسيو «رويدل» الليموزين .. لم تنتبه .. لقد فشلتَ .. أهملتَ واجبك .. لستَ أعمى فقط .. أنت أطرش .. عجوز ومتهالك .. لم تعُد صالحًا لوظيفة الحارس.»

كان قد وصل إلى الدرجة السفلى من السُّلَّم الرخامي، سار عليها بضع خطوات، ثم حاول أن يقف في وضع الانتباه مرة أخرى. لاحظ على الفور أنه لا يستطيع؛ كتفاه لا تستقيمان، ذراعاه تتدليان على خطوط البنطلون. كان يُدرك أنَّ شكله غريب ومثير للسخرية في تلك اللحظة، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، في غمرة يأسه ينظر إلى الرصيف، إلى الشارع، إلى المقهى المواجِه. لمعان الهواء قد توقَّف، وعادت الأشياء مستقيمة، وبدا العالم واضحًا أمام عينيه. بدأ يسمع ضوضاء حركة السير، أصوات أبواب العربات، صيحات العمَّال في المقهى المواجه، ووقْع كعوب أحذية النساء العالية. لم يتأثَّر بصره ولا سمعه على أيِّ نحو، ولكن العَرَق كان يتدفق غزيرًا من جبينه. أحسَّ بالضعف، استدار، صعد إلى درجة السُّلَّم الثانية، والثالثة، ووقف في ظلِّ عمودٍ بجوار الباب الزجاجي الخارجي المضاد للرصاص. وضع يديه خلف ظهره ليلمس بهما العمود، ثم ترك نفسه يتكئ قليلًا إلى الخلف معتمِدًا على يديه والعمود .. يحدث ذلك لأول مرة في حياته على مدى خدمته الممتدة ثلاثين عامًا. أغمض عينيه لحظات، وكان خجِلًا من نفسه.

•••

أثناء فترة الاستراحة في منتصف النهار، أحضر حقيبته والجاكت والمظلة من الخزانة، وسار نحو شارع «سان بلاسيد» القريب؛ حيث وجد فندقًا صغيرًا، نُزلاؤه غالبًا من الطلبة والعمال الأجانب. سأل عن أرخص غرفة؛ أعطوه واحدة بخمسة وخمسين فرنكًا، وافق دون أن يراها. دفع مقدَّمًا، وترك أمتعته عند مكتب الاستقبال، ومن أحد الأكشاك القريبة اشترى شطيرتي زبيب وعلبة حليب، وسار إلى ساحة «بوسي كوت»؛ حيث حديقة صغيرة أمام أحد المحلات التجارية، وجلس على دكَّةٍ في الظلِّ لكي يأكل. بَعده بدكتين تقريبًا كان أحد المتشردين يجلس القرفصاء، بين فخذيه زجاجة نبيذ أبيض، وفي يده نصف رغيف، وبجواره على الدكة كيس سردين مدخن، يجذب السردينة من الكيس من ذيلها .. واحدة بعد الأخرى، يقضم الرأس ويلفظها من فمه، ويستبقي الباقي، ثم قضمة خبز، ورشفة طويلة من الزجاجة يُتبعها بتنهيدة ارتياح شديد .. كان «جوناثان» يعرف الرجل؛ في الشتاء يراه جالسًا عند الحاجز الحديدي بالقرب من مدخل تسليم بضائع المحل التجاري، فوق السرداب الذي يوجد فيه الفرن تمامًا؛ وفي الصيف أمام البوتيك في شارع «سيفرس»، أو عند باب خدمة المسافرين أو بجوار مكتب البريد. كان مثل «جوناثان» يعيش في هذه المنطقة منذ عقود تقريبًا، وتذكر «جوناثان» أنه عندما رآه لأول مرة وكان ذلك قبل ثلاثين سنة؛ تصاعدَ بداخله حسد غاضب، حسد على تلك الحياة اللامبالية البسيطة التي كان الرجل يعيشها. وبينما كان على «جوناثان» أن يكون موجودًا في مكان عمله في الساعة التاسعة كل صباح؛ كان ذلك المتشرد يجيء في العاشرة وربما في الحادية عشرة. وبينما كان على «جوناثان» أن يقف «انتباه»؛ كان هو يتمدد في استرخاء على صندوق من الكرتون وهو يدخِّن. وبينما كان «جوناثان» يحرس البنك ساعة بعد أخرى، يومًا بعد يوم، سنة بعد سنة، معرِّضًا حياته للخطر كوسيلة لكسب قُوته؛ لم يكن صاحبنا يفعل شيئًا، بل يثق في تعاطف ومساعدة الناس الذين كانوا يُلقون في قبعته بالنقود. ولم يظهر عليه أبدًا أنه كان في حالة سيئة، حتى عندما كانت تظل قبعته خاوية، لم يبدُ عليه أبدًا الضيق أو الخوف أو الضجر، كان دائمًا يشعُّ بالثقة بالنفس وبالرضا وينشر حوله — علنًا — جوًّا من الحرية الساخطة.

ولكن .. مرةً في الستينيات في منتصف الخريف، بينما كان «جوناثان» في طريقه إلى مكتب البريد في شارع «دوبن»؛ كاد أن يتعثر عند المدخل في زجاجة نبيذ موضوعة على صندوق كرتون بين كيس بلاستيك والقبعة إياها وبها بعض العملات، وعندما توقف بطريقة آلية .. للحظة .. يبحث عن المتشرد، لا لأنه كان يفتقده كشخص، وإنَّما لأنَّ بؤرة هذه الحياة الساكنة: الزجاجة والكيس والصندوق؛ كانت غائبة. لمَحَه في الناحية الأخرى من الشارع مقرفِصًا بين سيارتين مركونتين، وراح يراقبه بينما كان يقضي حاجته. رآه جاثمًا بجوار حاجز الطريق، بنطلونه نازل حتى ركبتيه، مؤخرته ناحية «جوناثان» .. وعارية تمامًا، كان الناس يمرُّون ويمكن لأيٍّ منهم أن يراها. مؤخرة بيضاء شاحبة مثل العجين، مُخضَّبة بلطخات زرقاء وبُقَع، تميل إلى الاحمرار من أثر الجَرَب، تبدو مثل مؤخرة رجل عجوز طريح الفراش. بينما لم يكن الرجل في الحقيقة أكبر من جوناثان نفسه في ذلك الوقت؛ ربما كان في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين على الأكثر. ومن نهاية هذه المؤخرة البائسة يندفع كالنافورة سائلٌ بُنِّي حسائي القِوام بكمية كبيرة وبقوة، ينتشر على الرصيف ليصنع بِركة صغيرة، بِركة كبيرة تنساب حول حذائه، وكان الرَّشَاش ينتشر مندفعًا على جوربه وفخذيه وبنطلونه وقميصه … وكل شيء .. كان المنظر قذرًا مثيرًا للاشمئزاز .. للغثيان .. مروِّعًا .. لدرجة أنَّ مجرد تذكره الآن يجعل «جوناثان» يرتعد. في ذلك الوقت، وبعد أن راح يُحدِّق مرعوبًا للحظات؛ أسرع إلى مكتب البريد، دفع فاتورة الكهرباء، اشترى بعض الطوابع — رغم أنه لم يكن يريدها — لكي يطيل مدة بقائه في المكتب، ولكي يتأكد أنه عندما يخرج لن يجِدَ المتشرد يواصل عمله. وعندما انصرف؛ كان ينظر بعينين نصف مغمضتين، أو كأنه أحْوَل. خفضَ بصره، وأجبر نفسه على ألَّا ينظر إلى الناحية الأخرى من الشارع، بل إلى اليسار على امتداد شارع «دوبن». وسار في ذلك الاتجاه أيضًا .. على يساره .. رغم عدم وجود ما يجعله يذهب إلى هناك .. وكان ذلك حتى لا يُضطر للمرور في منطقة زجاجة النبيذ والصندوق والقبعة؛ ولذلك قام متعمِّدًا بالتفافةٍ طويلة عبر شارع «شيرش ميدي» و«بوليفار راسبيل» قبل أن يصل إلى شارع «لابلانش» وإلى حِمى غرفته.

منذ تلك الساعة فقدت روح جوناثان كل إحساس بالحسد لذلك المتشرد، وحتى ذلك الحين؛ إن كان قد بقي هناك أيُّ قَدْر بسيط من الشَّك يتحرك بداخله من وقت لآخر، في وجود أيِّ معنًى لأنْ يقضي الإنسان ثلث حياته واقفًا أمام مدخل بنك، يقوم أحيانًا بفتح بوابة، ويحَيِّي سيارة الرئيس الليموزين، ودائمًا هي هي، مع الحد الأدنى من الإجازات، والحد الأدنى من الأجر الذي كان معظمه يضيع في الضرائب والإيجار وأقساط التأمينات الاجتماعية … إذا ما كان هناك أيُّ معنًى لذلك كله .. فإنَّ الإجابة تظهر الآن مع وضوح تلك الرؤية المرعبة في شارع «دوبن»: نَعَم .. هناك معنًى!

كانت ذات معنًى في الحقيقة؛ لأنها ضمنت له ألَّا يعرِّي مؤخرته علنًا .. ويتبرز في الشارع، ماذا يمكن أن يكون أكثر بؤسًا من أن تضطر لتعرية نهاية مؤخرتك للعلن، وأن تقضي حاجتك في الطريق العام؟ ما الذي يمكن أن يكون أكثر امتهانًا من ذلك البنطلون المشدود إلى أسفل، تلك القرفصة التي تُجبِر على ذلك التعري القبيح؟ لماذا يمكن أن تكون مجبَرًا على أن تفعلها أمام عيون العالم؟ هل هو نداء الطبيعة .. اضطرارها؟ إنَّ المصطلح نفسه يخذل ضحيته الممزَّقة. ومثل أيِّ شيء تضطر لفعله كرهًا .. فهو لكي يكون محتملًا؛ يتطلب غياب الآخرين .. أو على الأقل التظاهر بعدم وجودهم: غابة .. إن كنت في الريف، شجيرة إن اضطررت لذلك في مكان مكشوف .. أو على الأقل في حقل أحد المزارعين، أو بعيدًا عن الضوء إن لم يكن هناك أيُّ شيء آخر، أو مُنحدَر تكتشف منه أن لا أحد يراك من على البُعد من أيِّ اتجاه. وفي المدينة؟ بكل ما فيها من زحام، حيث لا وجود للظلام؛ حيث لا تضمن تجنُّب تحديق الآخرين حتى مع وجود ستائر؟ في المدينة، لا شيء سوى القفل والمفتاح يمكن أن يجعلاك تُبعد نفسك عن الآخرين، ومَن لا يملك ذلك، مَن ليس لديه ذلك الملجأ الأكيد من أجل نداء الطبيعة .. إلحاحها .. لا شك أنه أكثر البشر تعاسةً وأحقُّهم بالرثاء.

والحرية ليست كلامًا غبيًّا. «جوناثان» كان يمكن أن يعيش بقليل من النقود، يمكن أن يتصوَّر أن يلبس سُترة رثَّة وبنطلونًا ممزَّقًا، ويمكن أن يتخيل — إذا اضطر أو جمح به خياله الرومانسي — أن ينام على صندوق من الكرتون وأن يخفض حميمية منزله لتصبح زاوية صغيرة، هوَّاية تدفئة، بئر سُلَّمٍ في محطة مترو، ولكن إذا كنت لا تستطيع أن تغلق بابًا خلفك لكي تقضي حاجتك في المدينة — ولو كان باب حمَّام مشترَك — إذا كانت تلك الحرية الضرورية الوحيدة قد انتُزعت منك، حرية أن تنسحب بعيدًا عن الناس عندما تلحُّ عليك الضرورة .. فإنَّ كافة الحريات الأخرى تصبح لا قيمة لها، وتكون الحياة بلا معنًى، ويكون من الأفضل أن تموت.

وبمجرد أن وصل «جوناثان» إلى هذا الإدراك، وهو أنَّ جوهر الحرية الإنسانية يتلخَّص في امتلاك حمَّام مشترَك، وأنه يملك تلك الحرية، تملَّكَه في الحال شعور بالرضا، نَعَم .. كان من الصواب أن يرتب حياته كما فعل، عاش حياة ناجحة، لا يوجد شيء .. أيُّ شيء يندم عليه أو يحسد الآخرين عليه.

منذ تلك الساعة أصبح يقف على أرضية صلبة كما كان دائمًا أمام مدخل البنك، يقف كأنه تمثال من البرونز، مشاعر الرضا والثقة بالنفس التي كان حتى الآن يُرجعها إلى شخص المتشرد؛ كانت تتدفق بداخله مثل المعدن المصهور، وتصلَّبت داخله لتصبح حُلَّة يلبسها من الداخل .. أصبحت درعًا، وكان ذلك يمنحه جاذبية على نحوٍ ما، ولذا لا شيء يهزُّه، ولا أيَّ شك يجعله يرتعد؛ لقد وجد طريقه نحو هدوء ورباطة جأش أبي الهول.

أما بالنسبة للمتشرد — عندما يلقاه أو يراه جالسًا في أيِّ مكان — فكان يشعر بما يمكن أن يُطلق عليه التسامح: مزيج عاطفي فاتر من القرف والاحتقار والشفقة، لم يَعُد الرجل يزعجه، لم يكن له أيَّة أهمية، لم يكن له أهمية حتى ذلك اليوم المُحدَّد، عندما كان «جوناثان» يجلس في حديقة «بوسي كوت» يأكل شطائر الزبيب ويشرب الحليب من علبة كرتون؛ كان عادةً يذهب إلى المنزل في فترة الراحة عند الظهيرة، وبعد كل شيء كان يعيش خمس دقائق فقط، كان عادة يقوم بإعداد شيء ساخن على سخان المنزل؛ عُجَّة، بيضًا مخفوقًا ولحم الخنزير، مكرونة بالجبن المبشور، أو حساء يكون من بقايا اليوم السابق وسَلاطَة وكوبًا من الشاي. منذ زمن طويل لم يجلس على دَكَّة في حديقة يأكل الشطائر ويشرب الحليب من علبة كرتون، ولم يكن في الحقيقة يميل إلى تناول الحلوى، ولا الحليب، ولكنه كان قد دفعَ اليوم خمسة وخمسين فرنكًا للفندق ويصبح ضربًا من التبذير إن هو ذهبَ إلى مقهًى وطلبَ عُجَّة وسَلاطَة وبيرة.

المتشرد القابع على الدَّكَّة المقابلة انتهى من وجبته بعد السردين والخبز، والجبن والكُمَّثْرى والبسكوت كذلك .. جذبَ جرعة طويلة وعميقة من زجاجة النبيذ، تنهَّد بارتياحٍ عميق، وكوَّم سُترته ليجعلها وسادةً، وضعَ رأسه عليها، فرَدَ جسمه الكسول المُتخَم على الدَّكَّة ليَنعَم بقيلولة منتصف النهار، نام. كانت العصافير تحطُّ لتلتقط فتات الخبز، وبعدها انجذب الحمَام إلى الدَّكَّة، وراحت مناقيره السوداء تضرب رءوس السردين المبعثرة، لم يَدَع المتشرد الطيور تزعجه، كان نائمًا بعمق .. وهدوء.

«جوناثان» يراقبه، وبينما هو يراقبه انتابَه قلقٌ غريب، ليس قلقًا دافِعُه الحقد أو الغيرة كما كان في السابق، وإنَّما الدهشة؛ سأل نفسه: كيف يمكن لرجل مثل هذا تخطَّى الخمسين أن يظلَّ على قيد الحياة؟ لماذا لم يمُتْ جوعًا أو يتجمَّد حتى الموت مع هذه الحياة غير المسئولة؟ لماذا لم يمزِّقه تليُّف الكبد من زمن؟ لماذا لم يمُتْ لأيِّ سبب؟

والحقيقة أنه كان يأكل ويشرب بشهيةٍ تامة، ينام نوم العادل، ويرتدي سترةً قطنية وبنطلونًا مرقَّعًا — بالطبع غير ذلك الذي كان شلَحَه في شارع «دوبين» — شكله أفضل نسبيًّا، قطيفة، بصرف النظر عن الإصلاحات التي طرأت عليه في مواضع مختلفة؛ لكنه يعطي انطباعًا عن شخصية تقف على أرضية، في وِفاق مع العالم ومستمتعة بالحياة. بينما هو «جوناثان» — بعد أن وصلت دهشته إلى نوع من الحيرة العصبية — بينما هو الذي قضى حياته كلها شخصًا حسن السير والسلوك، متواضعًا، زاهدًا تقريبًا، نظيفًا، منضبطًا ومطيعًا، جديرًا بالثقة والاحترام، وكل سنتيم لديه قد اكتسبه بعَرَق جبينه، ودائمًا يدفع نقدًا فواتير المرافق، الإيجار، البقشيش، ولم يستدِنْ أبدًا .. ولم يكن عبئًا على أحد، لم يمرض، ولم يكلِّف أيَّة مؤسسة علاجية أو اجتماعية سنتيمًا واحدًا، لم يفعل شيئًا لإيذاء أحد .. وأبدًا أبدًا لم يرجُ شيئًا من الحياة سوى راحة البال، بينما يرى نفسه الآن وهو في الثالثة والخمسين واقعًا لقِمَّة رأسه في أزمة قلبت خطة حياته التي رسمها لنفسه، أزمة جعلته مجنونًا ومرتبكًا، جعلته يأكل شطائر الزبيب من فرط الحيرة والخوف، نعم كان «جوناثان» خائفًا.

يعلم الله أنه عندما نظر إلى ذلك المتشرد النائم؛ بدأ يرتعد من الخوف، وفجأةً خاف بشِدَّة، خاف أن يصبح مثل ذلك الرجل الضائع المُمدِّد أمامه على الدَّكَّة.

كيف يمكن أن يحدث ذلك كله بسرعة؟ أن يصبح فقيرًا .. على الحديدة، كيف يمكن أن ينهار بسرعة ذلك الأساس — الذي يبدو راسخًا — لوجود الإنسان؟ وبَرَقتْ في ذهنه مرة أخرى: إنك قد أخطأتَ سيارة مسيو «رويدل» الليموزين، وهو الشيء الذي لم يحدث من قبل، وما كان ينبغي أن يحدث، لكنه حدث اليوم: لقد أخطأتَ السيارة، وربما تهمل عملك كله غدًا، أو تفقد مفتاح الباب الفولاذي، وفي الشهر التالي يفصلونك بطريقة مخزية، ولن تجِدَ عملًا آخر؛ إذ مَن يُعطي عملًا لفاشل؟ لا أحد يستطيع أن يعيش على شيكات إعانة البطالة وعندئذٍ تكون قد فقدت غرفتك من زمن — هناك حمامة تسكنها، أسرة من الحمام تعيش هناك، تلوِّث غرفتك وتُتلِفها — فواتير الفندق تتراكم، وبسبب هذا الهمِّ تبدأ في الشراب أكثر فأكثر، ستنفق كل سنتيمٍ ادَّخرتَه .. وتُصبح عبدًا للشراب .. ولا مخرج لك، تمرَض، يهدُّك التعب، القمل، العار، يطردونك من منزلك الأخير المؤقَّت .. لم يعُدْ لديك سنتيمٌ واحد .. تُواجِه الإفلاس التام .. والدمار في الشارع، تنام، تعيش في الشارع، تقضي حاجتك في الشارع .. تصل إلى نهاية الحبل .. «جوناثان» .. خلال عام ستكون عند النهاية مثل ذلك المتشرد في أسْماله على الدَّكَّة .. سترقد هناك، وتصبح شقيقه في البؤس والضعة.

جفَّ فمه، وأدار بصره عن الرجل النائم، وابتلع القضمات المتبقية من شطيرة الزبيب، مرَّ وقت طويل حتى وصلت القضمة إلى مَعِدته، كانت تزحف في المريء ببطء حلزوني، أحيانًا تلتصق وتضغط وتؤلم، كأنَّ مسمارًا يندفع في صدره؛ حتى اعتقد «جوناثان» أنه سوف يختنق ويموت من تلك القضمة، ولكن الشيء بدأ ينزلق قطعةً قطعة، وأخيرًا نزلت وتلاشى الألم بالتدريج. أخذ «جوناثان» نفَسًا عميقًا، لا بدَّ أن يذهب الآن، لا يود أن يبقى هناك أكثر من ذلك، رغم أنَّ فترة الراحة ما يزال فيها نصف الساعة، ولكن ما حدث له يكفي، هذا المكان فسدَ. وبظهر كفِّه مسحَ بنطلونه من أثر الجلوس ومن فُتات الشطيرة الذي كان يتساقط أثناء الأكل .. رغم حذَرِه. فرَدَ ثنيات ملابسه، نهضَ وسارَ دون أن يُلقي نظرة واحدة على المتشرد.

عندما عاد إلى شارع «سيفرس» اكتشف أنه ترك كرتونة الحليب الفارغة على دَكَّة الحديقة، وذلك أزعجه كثيرًا؛ لأنه كان يكره أن يترك الناس مخلَّفاتهم على الدِّكَك، أو أن يلقوا بها في عُرض الطريق بدل أن يضعوها في الأماكن المخصَّصة للفضلات .. أي في الصناديق المنتشرة في كل مكان. هو نفسه .. لم يحدث أبدًا أن ألقى بشيء أو ترَكَه على مقعد .. أبدًا .. ولا حتى بسبب الإهمال أو النسيان .. لم يحدث شيء كهذا من قبل، ولذلك لا يريد أن يحدث شيء كهذا اليوم .. وبخاصة اليوم .. ليس في مثل هذا اليوم المضطرِب الذي وقعَتْ فيه بالفعل أضرار كثيرة، كان فعلًا على أرضية قَلِقة، يتصرَّف مثل الحمقى، مثل متشرد لا يعرف المسئولية، مثل أيِّ شخص مُهمِل، لقد أخطأ موعد سيارة مسيو «رويدل» الليموزين، وتناول شطائر الزبيب في الحديقة! وإذا لم يكن حريصًا في الأمور البسيطة بخاصة، وإذا لم يضع كل طاقته لإيقاف مدِّ تلك الأمور التي قد تبدو تافهة، مثل تركِ كرتونة الحليب وراءه؛ فإنه قريبًا سوف يفقد سيطرته على الأشياء كليَّة .. ولن يمنع نهايته التَّعِسَة.

وهكذا استدار عائدًا إلى الحديقة، من على البُعد كان يرى أنَّ الدَّكَّة لم يشغلها أحد، وعندما اقترب استراح لرؤية الكرتونة البيضاء من خلال اللون الأخضر في فواصل ألواح ظهر الدَّكَّة؛ يبدو أن لا أحد قد لاحظ إهماله، وأنه سوف يستطيع أن يمحو تلك الغلطة التي لا تُغتفر. تقدَّم عدَّة خطوات من خلف الدَّكَّة، انحنى على ظهر المقعد، وأمسك الكرتونة بيَدِه اليسرى، ثم وهو يستقيم ثَنَى جسمه بحدَّة ناحية اليمين، تقريبًا في نفس الاتجاه الذي يعرف أنَّ به سلة من تلك المخصَّصة للفضلات. وفجأةً أحسَّ بأنَّ بنطلونه قد أمسك بشيء جذَبَه بشِدَّة إلى أسفل. ولأنَّ ذلك حدث فجأةً، ولأنه كان في وسط حركةٍ صاعدة إلى أعلى في الاتجاه العكسي تمامًا؛ لم يستطع أن يتحرَّك في اتجاه الجذب. وفي نفس الوقت دوَّى صوت شيء يتمزَّق، وأحسَّ بلفحةِ هواءٍ آتية من الخارج تضرب فخذه اليسرى؛ فأصابه الفزع لِلحظة، لدرجة أنه لم يجرؤ على النظر، بدا له أيضًا أنَّ المزْق الذي كان صداه ما يزال يرنُّ في مسمعه؛ كان شديدًا لدرجة أنه لم يشقَّ البنطلون وحده، وأنَّ المزْق قد امتدَّ عميقًا إليه .. عبر الدَّكَّة، عبر الحديقة كلها .. كأنه صدعٌ كبير في زلزال، وكأنَّ كل الناس من حوله قد سمعوه، ذلك المزْق المرعب، وأنهم من هَوْل الصدمة كانوا يراقبونه، يراقبون «جوناثان» الذي أحدَثَه، لكنَّ أحدًا لم يكن يراقب ذلك؛ النساء العجائز يواصِلْنَ شغل الإبرة، والرجال العُجُز مستمرُّون في قراءة الجرائد، والعدد القليل من الأطفال يواصلون تزلُّجهم، والمتشرد مستمر في نومه.

وبسرعة .. خفض «جوناثان» عينيه، كان المزْق بطول خمس بوصات تقريبًا، يمتد من الزاوية السفلى لجيب بنطلونه الأيسر، والذي كان قد اشتبك بمسمار بارز من الدَّكَّة أثناء التِفَافِه، ثم ينزل إلى الفخذ، ليس بحذاء خياطة البنطلون؛ ولكن في الوسط تمامًا .. وفي آخره زاوية قائمة بعَرض إصبعين مع كرمشة .. لم يكن هناك مجرد مزْقٍ غير واضح في القماش .. وإنَّما فتحة يرفرف فوقها عَلَمٌ مثلَّثُ الشكل.

شعر «جوناثان» بالأدرينالين يرتفع في مسرى دمه، تلك المادة التي تُشعرك بالوخز، والتي قد قرأ عنها ذات مرة، وكيف أنَّ هناك غدَّة في الكلى تفرزها في لحظات الخطر الجسماني والكرب النفسي؛ لتعبئة الاحتياطيات الأخيرة في الجسم .. للهرب، أو لمعركةٍ حتى الموت. في الحقيقة كان يبدو له أنَّه قد جُرِح، وأنَّ تلك الفتحة ليست في البنطلون، وإنَّما في لحمه الحيِّ، وأنها جُرْح طوله خمس بوصات. دمه، حياته؛ يندفع بدل أن يدور دورته الداخلية المغلقة. وإنه سوف يموت إن لم يُغْلَق هذا الجرح فورًا، ولكن هناك مشكلة الأدرينالين. ورغم إحساسه بأنه كان ينزف حتى الموت، إلا أنَّ اندفاع الأدرينالين أنعشه تمامًا، وبعنف. قلبه يدقُّ الآن بقوة، شجاعته عالية، ذهنه أصبح صافيًا فجأةً ويتَّجه نحو هدفٍ وحيد، صاحَ في صمت: «لا بدَّ من أن تفعل شيئًا في الحال.» «لا بدَّ أن تتصرَّف الآن لكي تسدَّ هذا الخرق وإلا ستضيع.» حتى وهو يسأل نفسه: ماذا سيفعل؟ كان يعرف الإجابة؛ كان تأثير الأدرينالين سريعًا، ذلك العقار الرائع. وهكذا كانت الأجنحة التي أسلمها الخوف للذكاء والعزيمة. وقرَّر بسرعة: نزعَ بيده اليسرى كرتونة الحليب التي كانت ما تزال في يسراه، ضغطَ عليها براحته وكرمشها، وألقى بها في مكان ما .. في أيِّ مكان، على الحشيش، أو على الممر الرملي — لم ينتبه — ضغَطَ بيده اليسرى الخالية على الخرْق على فخذه، وسار متعثرًا، محتفظًا بساقه اليسرى متصلبةً قدر الاستطاعة؛ حتى لا تنزلق يده. وكان يضرب بذراعه اليُمنى في الهواء، يعرَج وكأنه يتمايل في عاصفة، جرى خارجًا من الحديقة. وفي شارع «سيفرس» كان قد بقي لديه أقل من نصف الساعة.

في قسم البقالة من محلات بون مارشيه، على ناصية شارع «باك»؛ توجد خيَّاطة. وكان قد لاحظ ذلك قبل أيام قليلة، كانت تجلس بالقرب من مدخل المحل؛ حيث توجد عربات التسوُّق. على ماكينة الخياطة توجد لوحة صغيرة يتذكَّر تمامًا ما كان مكتوبًا عليها: ««جيناين توبل» – إصلاح وتعديل الملابس: شعارنا الدقة والسرعة.» هذه المرأة سوف تساعده، هذا إذا لم تكن في فترة راحة الغداء .. لا .. لا .. إن حدث فسيكون ذلك من سوء حظه، لا يمكن أن يجتمع كل سوء الحظ هذا في يوم واحد، ليس الآن، ليس عندما يكون في مَسِيس الحاجة. إن حسن الحظ لا يجيء إلا عندما تكون في مَسِيس الحاجة، عندما تجد مَن يساعدك، مدام «توبل» ستكون في موقعها وسوف تساعده.

كانت مدام «توبل» في مكانها من المدخل! وحتى قسم البقالة كان يراها جالسةً أمام ماكينة الخياطة، وتشتغل. نَعَم؛ يمكنك الاعتماد على مدام «توبل». كانت تعمل حتى أثناء فترة الراحة .. تعمل بسرعة ودقة. جرى نحوها، اتخذ موقعًا بجوار الماكينة، أزاح يده من على فخذه، ألقى نظرة سريعة على ساعة يده — الثانية وخمس دقائق — تنحنح، وبدأ: «مدام …» انتهت مدام «توبل» من خياطة ثنيةِ تنُّورةٍ حمراء كانت في يدها، أبطلت الماكينة وسحبت الإبرة لتُحرِّر القماش وتقطع الخيط، ثم رفعت رأسها ونظرت إلى «جوناثان». كانت تلبَس نظَّارة طبية كبيرة جدًّا، إطارها ثقيل مرصَّع بالصَّدَف الذي تُصنع منه الأزرار، ولها عدسات مُحدَّبة سميكة تجعل عينيها تبدوان هائلتَي الحجم، وتُحوِّل المَحجِرين إلى حفرتين عميقتين مظلمتين .. شعرها كَسْتَنائيُّ اللون، ينسدل ناعمًا على كتفيها، وعلى شفتيها طلاء بنفسجي مُفضِّض، كانت في نهاية الأربعينيات .. ربما .. أو في وسط الخمسينيات، لها شكل النسوة اللائي يَعرِفْنَ لك حظك من الكوتشينة، أو كُرَة الكريستال .. وهيئة سيدةٍ جارَ عليها الزمن، سيدة لم يعُدْ يناسبها لقب «سيدة»، إلا أنَّ المرء يمكن أن يثق بها بسرعة.

حتى أصابعها — كانت تستخدم أصابعها لدفع نظَّارتها فوق أنفها قليلًا؛ لكي ترى «جوناثان» جيدًا — كانت قصيرة وغليظة مثل السجق، إلا أنها مُعتنًى بها؛ رغم كل العمل اليدوي وأظافرها مطليَّة بِلَون بنفسجي مُفضَّض، وتتمتَّع بشبه أناقة توحي بالثقة. قالت مدام «توبل» بصوت خشن قليلًا: «أيَّة خدمة؟» وحيث خُيِّل إليه أنه قد صاغ سؤاله بجلافة، وربما يكون قد كشَفَ عن اهتياجه الذي سبَّبه الأدرينالين .. أضاف بصوتٍ معتدل إلى حدٍّ ما .. وعلى قدر ما يستطيع: «خَرْق .. مَزْق صغير .. سوء حظٍّ يا سيدتي .. هل يمكن عمل شيء .. هل يمكن إصلاحه؟»

تركت مدام «توبل» نظرة عينيها الكبيرتين تُفتِّش «جوناثان» لكي تجِدَ الخرق على فخذه، ثم انحنت لكي تفحصه. وبينما هي تفعل ذلك افترق سطح شعرها الكَسْتَنائيُّ الناعم، وانقسم من على كتفيها حتى نهاية رأسها من الخلف وكشَفَ عن رَقَبة صغيرة .. قصيرة .. مُكتنِزة باللحم، وفي نفس الوقت تصاعدَ منها عطرٌ ثقيل منتشر ومُدوِّخ، بدرجة جعلتْ «جوناثان» يُلقي رأسه بطريقة آلية، وترَكَ نظرته تقفز من تلك الرَّقَبة القريبة إلى نهاية السوبر ماركت، وللحظة رأى أمامه المكان بكامله .. الأرفف والثلاجات ومنصات الجبن وشرائح اللحم وطاولات الصحف وأهرام الزجاجات وجبال الخضروات وسط كل ذلك، والزبائن مسرعين، ويدفعون أمامهم عربات التسوُّق، ويسحبون أطفالهم وراءهم، والموظفين وعُمَّال المَحَلِّ والمحاسبين … زحام البشر الصاخب .. وفي نهايته يقف «جوناثان» ببنطلونه الممزَّق أمام أعين الجميع! ودارت في ذهنه فكرة .. ربما كان مسيو «فيلمان» ومدام «روك»، وربما مسيو «رويدل» بين هذا الزحام، وقد لاحظوه .. لاحظوا «جوناثان» بينما تفحص جزءًا مريبًا من جسده سيدةٌ ليست فوق مستوى الشبهات .. ذات شعر كَسْتَنائيٍّ .. لدرجة أنه شعَرَ بالغثيان، وبخاصة عندما أحسَّ — يا إلهي! — بأحد أصابع مدام «توبل» الأشبه بالسجق على جلد فخذه؛ يقلب قطعة القماش الممزَّقة.

ثم ظهرت المدام مرةً أخرى من أعماق فخذه، اتَّكأتْ إلى الخلف في مقعدها، وانقطع تيار عطرها المباشر؛ لكي يستطيع «جوناثان» أن يخفض رأسه، ويُزيح نظرته عن مدى المكان الفسيح، ويُعيدها إلى مجال عدستي «مدام توبل» الكبيرتين المُحدَّبتين.

قال: «حسنًا!» ثم «حسنًا!» ردَّدها وهو في عَجَلة، كأنه مريضٌ يقِف أمام طبيبه مذعورًا .. يتوقَّع تشخيصًا مدمِّرًا .. قالت مدام توبل: «بسيطة! سنضع شيئًا تحته .. ولا أكثر من ذلك .. وسيكون هناك لَفْقٌ بسيط ظاهر .. لا توجد طريقة أخرى.» قال: «لا مانع .. لَفْقٌ بسيط لا يُهِمُّ .. مَن ذا الذي سينظر إلى مكانٍ غير ظاهر كهذا؟» ونظَرَ بسرعة في ساعته، لم يبقَ سوى أربع عشرة دقيقة: «يمكن أن تقومي بذلك يا مدام .. يمكنكِ مساعدتي.»

– «بالطبع.»

ودفعت نظَّارتها على أنْفها، كانت النظَّارة قد انزلقتْ قليلًا وهي تفحص الخَرْق. «شكرًا يا مدام .. شكرًا جزيلًا، لقد أنقذْتِني من حرجٍ شديد، والآن لي رجاء آخر: هل يمكنكِ؟ من فضلك .. لو تكرَّمتِ أنا مستعجِل جدًّا .. لديَّ فقط …» ثم نظر في ساعته مرة أخرى: «عشر دقائق باقية .. هل يمكنكِ إصلاحه على الفور .. أقصد الآن .. بدون تأخير؟»

هناك أسئلة يُبطلها مَنطُوقها، وهناك أسئلة تظهر حماقتها بمجرد النطق بها والنظر في عينَي الآخر، حدَّق «جوناثان» في عينَي مدام «توبل» الكبيرتين المظلمتين، وأدرك على الفور حماقة أسئلته .. عبثها .. لاجدواها .. وأدرك أن لا أمل هناك. كان قد فهم ذلك بالفعل عندما طرَحَ سؤاله القلق، عرَفَ الحقيقة، أحسَّ بها صريحةً واضحة في جسده عندما هبط مستوى الأدرينالين في دمه لحظةَ أنْ نظر في ساعته: عشر دقائق! انتابه إحساس بأنه يهوي .. مثل شخص يقف فوق سطح من الطَّفْو الجليدي الهشِّ على وشك أن يمتزج بالماء؛ عشر دقائق! لا يمكن .. هكذا ببساطة؟ مستحيل! أولًا من المستحيل إصلاح الخرق وهو على فخذه .. لا بدَّ من وضع شيء تحته .. وهذا يعني أنه لا بدَّ أن يخلع البنطلون، ولكن من أين له بغيره هنا في وسط قسم البقالة في محلات «بون مارشيه»؟ يخلع بنطلونه ويقف في ملابسه الداخلية! عبث! جنون! سألته مدام «توبل»: «الآن الآن؟» ورغم أنَّ «جوناثان» كان يعرف استحالة ذلك. ورغم أنَّ دوَّامة الهزيمة كانت قد أطبقَتْ عليه .. إلا أنه هزَّ رأسه.

ابتسمت مدام «توبل»: «انظر مسيو، كل ما هو أمامك هنا.» وأشارت نحو مشجب ملابس طوله ياردتان، كان مكدَّسًا بالفساتين والجاكتات والبنطلونات والبلوزات: «لا بدَّ أن يتم إصلاحه الآن، أنا أشتغل عشر ساعات في اليوم.» .. قال «جوناثان»: «نعم .. طبعًا .. أفهم جيدًا يا مدام .. لقد كان سؤالًا غبيًّا .. كم يستغرق إصلاح الخرق في رأيك؟»

عادت مدام «توبل» إلى الماكينة، وضعتْ قماش التنُّورة الحمراء في مكانه، وأنزلت الإبرة .. «إذا أحضرتَ البنطلون يوم الإثنين القادم؛ يكون جاهزًا في خلال ثلاثة أسابيع.» كرَّر «جوناثان» العبارة كأنه قد أصيب بالدُّوار: «ثلاثة أسابيع!»

– «نعم .. ثلاثة أسابيع، لا يمكن قبل ذلك.»

ثم أدارت الماكينة وراحت الإبرة تُدندِن. وفي نفس اللحظة؛ شعَرَ جوناثان بأنه لم يعُدْ موجودًا .. كان — بالطبع — يرى مدام توبل جالسةً أمام طاولة ماكينة الخياطة، على بُعد ذراعٍ واحد منه، يرى الرأس الكَسْتَنائيَّ بالنظَّارة المرصَّعة، يرى الأصابع الغليظة وهي تعمل بسرعة، والإبرة الطنَّانة وهي تشقُّ طريقها بالغُرَز في ثَنْية التنُّورة الحمراء .. وكان يستطيع أيضًا أن يرى الزحام الصاخب في السوبر ماركت من خلفه. ولكنه فجأةً لم يعُدْ يرى نفسه .. بمعنى أنه لم يرَ نفسه جزءًا من العالم المحيط به. كأنه يقفُ بعيدًا .. يقفُ خارجه .. وأنه ينظر إلى العالم من خلال الطَّرَف الخطأ في تلسكوب.

فجأةً أيضًا — مثل هذا الصباح تمامًا — أصبح مشوَّش الذهن، وكان يترنَّح، خطا خطوةً جانبية واحدة، واستدار، واتَّجه نحو باب الخروج. مع الحركة والسير؛ وجد نفسه يعود إلى العالم. أثرُ التلسكوب اختفى من أمام عينيه. ولكن الترنُّح كان مستمرًا بداخله. اشترى من قسم الأدوات المكتبية بَكرةَ شريطٍ شفَّافٍ لاصق، استخدمها لِلَصْق المَزْق لكيلا يرفرف الجزء المثلَّث الممزَّق الأشبه بالعَلَم مع كل خطوة، ثم ذهب إلى عمله.

•••

قضى فترة ما بعد الظهيرة في كَرْب وغضبٍ شديدَين، وقَفَ على الدرجة العليا أمام البنك، أمام العمود مباشرة دون أن يستند عليه؛ لأنه لم يكن يريد أن يستسلم لضَعفه. على أيَّة حال؛ كان لا يمكنه أن يفعل ذلك لأنه لكي يتكئ دون أن يلحظه أَحد؛ يلزمه أن يُشبك يديه خلْفَ ظهره، وهذا مستحيل .. لأنه لا بدَّ أن يُنزل يده اليسرى إلى أسفل؛ لكي تُغطِّي البقعة المسدودة بالشريط اللاصق فوق فخذه. وبدلًا من ذلك، ولكي يتأكد أنه يحتفظ بقدميه ثابتتين على الأرض؛ كان مضطرًّا لأن يُبقيهما متباعدتين .. وكان يكره هذا الوضع، كما كان يفعل صغار الزملاء. ولاحظ كيف أنَّ ذلك يجعل عموده الفقري يتقوَّس، وأنَّ رقبته التي كانت دائمًا حرة ومنتصبة؛ تغوص بين كتفيه ومعها رأسه وقبعته، وكيف أنَّ ذلك يجعله — بطريقة آلية — ينظر من تحت حافة قبعته نفس النظرة المُحَملِقة المُتَلصِّصة، من ذلك الجبين المُقطِّب الذي كان يراه جديرًا بالازدراء بين الحُرَّاس الآخرين؟!

كأنه مشلول، شكله مضحك، صورة كاريكاتورية لذاته. احتقر نفسه، كَرِهَ نفسه طوال تلك الساعات. احتقاره الشديد لنفسه جعله يودُّ أن يقفز خارجًا من جِلده. نعم؛ إنه وبمعنى الكلمة كان يودُّ أن يقفز خارجًا من جِلده .. لأنَّ جلد جسده كله كان يأكل الآن .. وهو لا يستطيع أن يحكَّ نفْسَه في ملابسه .. لأنَّ جِلده ينضح بالعَرَق في جميع مَسامِّه، والملابس مُلتصِقة به كأنها جِلدٌ ثانٍ.

أمَّا في الأماكن التي لم تكن الملابس مُلتصِقة بها، حيث كان ما يزال بعض الهواء بين الجِلد والملابس: على رَبْلَتَي الساقَين والساعدَين، وفي تلك المساحة الأشبه بالأخدود فوق القفص الصدري .. في هذا الأخدود بالضبط، حيث كان الأكَلان لا يُحتمَل، وحبَّات العَرَق تتدحرج كبيرة في خطٍّ متعرِّج؛ هنا بالتحديد لم يكن يريد أن يهرِش. لا! لم يكن يريد أن يُريح نفسه؛ لأن ذلك لن يُغيِّر من حالة البؤس العام، ولكنه ترَكَها تظهر عليه بوضوح وسخرية الآن؛ كان يريد أن يُعاني. كلَّما زادت المعاناة يكون من الأفضل. المعاناة تُناسبه جدًّا، تليق به، تُبرِّر وتُشعل كراهيته وغضبه، والكراهية والغضب بِدَوْرهما يشعلان المعاناة .. لأنَّ ذلك يجعل دمه يفور بعنفٍ أكثر، ويواصل اعتصار موجات جديدة من العَرَق، واستخراجها من مَسامِّ جِلده. كان وجهه يتصبب عَرَقًا، والماء يتساقط من ذقنه وشعر رَقَبته وسَيْر القبعة يقطع في جبينه المُخْضَلِّ، ولكنه لن يخلع تلك القبعة لأي سبب كان .. ولا للحظة واحدة. وكان ذلك يعني أن تظلَّ على رأسه وكأنها مُثبَّتة بقلاووظ .. كأنها غطاء طَنْجَرَةِ طَهيٍ تعمل بضغط البُخار .. وأن تُطبق على صُدْغيه إطباق حلقة حديدية .. حتى لو انفجر رأسه. لم يُرِدْ أن يفعل شيئًا ليُخفِّف من هذا الكرب الشديد، لاحظَ فقط أنَّ عموده الفقري كان يزداد التواءً، وأنَّ كتفَيه ورَقَبته ورأسه يزداد انخفاضها بالتدريج .. وأنَّ جسمه قد اتخذ وضعًا يقترب سريعًا من شكل الجالس القرفصاء .. شكل الضفدعة.

وفي النهاية — لم يكن راغبًا ولا قادرًا على أن يمنع ذلك — فاض قَرَفه من نَفْسه الذي تجمَّع بداخله، واندفع من العينين المُحَملِقتين واللَّتين أصبحتا أكثر تجهُّمًا وغضبًا تحت حافة القبعة، وأغرق العالم بكراهية شرِسة، كان «جوناثان» يُغطِّي كل ما يدخل مجالَ رؤيته بطبقةٍ من الكُرْه والبغض. والحقيقة أنك تستطيع أن تقول: إنَّ صورةً حقيقية للعالم لم تعُدْ تمرُّ من شبكية العين لتدخل إلى العقل؛ وإنَّما بالأحرى، وبعكس تدفُّق الضوء، كانت عيناه تقذفان بالصور المُحرَّفة إلى العالم الخارجي؛ عُمَّال المقاهي مثلًا، عبر الشارع، في الجانب الآخر من الطريق، على الرصيف أمام المقهى، أولئك الذين لا لزوم لهم ولا يصلحون لشيءٍ، عُمَّال المقاهي الصغار البُلَهاء الذين يتسكَّعون بين المقاعد والطاولات، المغفَّلون، الذين يثرثرون ويبتسمون .. يتكلَّفون الابتسامات، ويعوقون حركة المَارَّة، ويعاكسون البنات، المتغطرسون، الذين لا يفعلون شيئًا سوى إبلاغ طلب زبون من وقت لآخر بالزعيق من خلال الأبواب المفتوحة باتجاه البار: واحد قهوة .. واحد بيرة .. واحد ليمون … إلخ، ثم في النهاية يدخلون ليعودوا حاملين الطلبات، متصنِّعين العَجَلة، ويتلاعبون على طريقة المُشعوِذين، ويضعونها على الطاولات بإيماءات فنية متكلَّفة، اشتُهر بها الجرسونات: الكوب يوضع بطريقة لولبية، زجاجة الكولا بين الفخذين، وتُفتح بحركة خاطفة من الرُّسْغ، فاتورة الحساب — ممسوكة بين الشفتين — يبصقها أولًا في أحد اليدين، ثم تُدفع تحت مَنفضة السجائر، بينما اليد الأخرى مشغولة بإعطاء بقية الحساب للطاولة المجاورة، وتجمع أكداسًا من النقود .. والأسعار فَلَكية .. الإسبرسو بخمسة فرنكات، زجاجة البيرة الصغيرة بأحد عشر فرنكًا، بالإضافة إلى ١٥٪ مقابل الخدمة الرديئة والبقشيش الإضافي. نَعَم .. ينتظرون ذلك أيضًا .. يعتبرونه حقًّا .. وإلا فلن تجِدَ كلمات مثل «شكرًا» طريقها إلى شفاههم .. ناهيك عن «مع السلامة.» وبدون البقشيش الإضافي فإنَّ الزبائن — من الآن — يصبحون — وببساطة شديدة — لا قيمة لهم، وعندما يغادرون المكان؛ لا يرَون شيئًا سوى ظهور ومؤخرات الجرسونات المتغطرسين وفوقها أكياس النقود السوداء المنتفِخة، المُعلَّقة بأحزمة الوسط؛ لأنهم يعتبرون ذلك أناقة .. ولامبالاة .. أولئك الشواذ الأغبياء، يضعون أكياس النقود معروضةً هكذا مثل المؤخرات المُكتَنِزة. ياه! كان بودِّه أن يطعن ولو بنظرة؛ أبناءَ الزناة أولئك، المتأنقين في قمصانهم الفضفاضة ذات الأكمام القصيرة.

كان يتمنى أن يجري ويسحبهم من آذانهم من تحت تلك المظلات، ويلطمهم على وجوههم في الشارع؛ يُعطي كُلًّا منهم صفعة عنيفة على خدِّه الأيسر، ثم على الأيمن، ثم على الأيسر، ثم على الأيمن خلف أذنه؛ ويجلد مؤخرته.

ولكن ليس أولئك فقط، ليس عُمَّال المقهى فقط، أصحاب الأنوف التي تشبه الخراطيم؛ بل وزبائنهم أيضًا، لا بدَّ من جَلْد مؤخراتهم جميعًا، قُطْعان السُّياح البُلَهاء الذين يتنقَّلون من مكان لآخر بالقمصان الصيفية وقبعات القشِّ ونظَّارات الشمس، ويسرفون في تناول المشروبات الغالية ليُنعشوا أنفسهم، بينما يكسب الآخرون لقمة العيش بعَرَق الجبين .. واقفين! وبعد ذلك يأتي السائقون! أولئك القِرَدة الذين يلوِّثون الهواء، ويُحدثون صخبًا بشِعًا ولا يعرفون سوى التسابق في شارع «سيفرس»، أليست رائحته كريهة .. ونَتِنَة بالفعل .. وبما يكفي؟! أليس الشارع مليئًا بالضوضاء والصخب .. بل والمدينة كلها؟ ألا يجعل الحَرُّ اللاهب القادم من أعلى كلَّ الأشياء ساخنة؟ هل لا بدَّ من أن تستهلكوا البقية الباقية من الهواء .. تمتصُّونه بمحركاتكم ثم تلفظونه مرةً أخرى مخلوطًا بالسُّم والهباب والأبخرة السَّامة في أنوف المواطنين المحترمين؟ خنازير قذِرة، سفَّاحون! يجب أن يتخلصوا منكم .. يجب جَلدكم! .. جَلدكم حتى الموت، والتخلُّص منكم .. إعدامكم رميًا بالرصاص! إطلاق الرصاص على كلٍّ منكم، وعليكم جميعًا في وقتٍ واحدٍ .. ياه!

كان يشعر برغبةٍ تُلحُّ عليه في أن يجذب مسدسه ويطلقه في كل اتجاه، على المقهى مباشرة. يضرب بقوة لكي يخترق واجهته الزجاجية، ولا يبقى سوى صوت ودَوِيِّ التحطُّم .. مباشرة على حشدِ السيارات، أو في وسط واحدة من تلك البنايات الضخمة على الجانب الآخر من الشارع، تلك البنايات العالية القبيحة المزعجة المخيفة، أو يضرب في الهواء عاليًا، في السماء مباشرة. نعم؛ في تلك السماء اللاهبة، في تلك الأبخرة المرعبة الظالمة، السماء الزرقاء الرمادية بلون الحمامة؛ ليجعل ذلك الغطاء الرصاصي يتحطم بطلقة واحدة، ينهار فيَسْحق كل شيء .. كل ذلك العالم البائس، الكئيب، الصاخب، النَّتِن. كان كُرْه «جوناثان نويل» شاملًا وكبيرًا في تلك الظهيرة لدرجة أنه كان يودُّ اختزال العالم إلى هديم ورماد .. لأنَّ خَرْقًا كان هناك في بنطلونه.

ولكنه لم يفعل. الحمد الله! لم يفعل ذلك، لم يصوِّب نحو السماء، لم يطلق النار على المقهى المقابل، أو على السيارات المَارَّة. كان واقفًا، يتدفق عَرَقه .. كان واقفًا دون حَراك؛ لأن نفس القوة التي جعلت ذلك الكائن الخرافي الغاضب يتدفق داخله، ويخرج مندفعًا بعنفٍ في نظرته؛ هي التي شلَّت حركته تمامًا لدرجة العجز عن تحريك عضلة واحدة في جسمه .. فما بال أن يُمسك بمسدسه أو يَثني إصبعه على الزناد. والحقيقة أنه لم يكن قادرًا حتى على هزِّ رأسه لكي يطرد حبة عَرَق معذَّبة من على أرنبة أنفه. حوَّلته تلك القوة إلى حَجَر، والحقيقة أنها خلال تلك الساعات الطويلة حوَّلته إلى هيئة أبي الهول، هيئة مخيفة .. عاجزة .. كانت شيئًا مثل التوتر الكهربائي الذي يجذب قطعة من الحديد ويُمسك بها معلَّقة، أو القوة الشديدة في قنطرة مبنًى هائل تُمسك بكلِّ حَجَر في مكانه، كانت مجرد أمنية، كانت كل إمكانياتها كامنة في: «بودِّي، بإمكاني، أتمنى من كل قلبي.»

وعندما كان يقلب كل تلك التمنِّيات والتهديدات واللعنات في عقله؛ كان جوناثان يعرف جيدًا أنه لن يفعلها، لم يكن ذلك النوع من البشر، لم يكن من النوع النزَّاع للقتل أو الهجوم المستمر، لا لأنَّ الجريمة قد تكون شيئًا بغيضًا من الناحية الأخلاقية بالنسبة له، وإنَّما لسببٍ آخر بسيط وهو أنه غير قادر بالمرة على إتيان شيء مؤكَّد .. لا قولًا، ولا فعلًا! لم يكن جوناثان رجل أفعال .. كان رجل إذعان .. ورضوخ!

في الخامسة مساءً؛ وجد نفسه في حالة من البؤس لدرجة الاعتقاد أنه لن يبرح مكانه عند العمود على الدرجة الثالثة أمام مدخل البنك، وأنه سيموت هناك. شعَرَ بأنه كَبِر عشرين عامًا على الأقل، وأنه قد انكمش ثمانية بوصات خلال تلك الساعات الطويلة تحت حرارة الشمس، وأنه قد انصهر أو تفتَّت في أسْماله الداخلية. نعم؛ كان شيئًا أشبه بالتفتت لأنه لم يعُدْ يشعر برطوبة عَرَقه، نعم تفتَّت وتوزَّع في الجوِّ، احترق وتحطَّم مثل أحدِ تماثيل أبي الهول الحجرية بعد خمسة آلاف سنة، ولن يمرَّ وقت طويل قبل أن يجف تمامًا ويحترق ويصبح لا شيئًا، يتفتت إلى لا شيء، يصبح ترابًا أو رمادًا .. وسيرقد هنا، في هذه البقعة التي يحاول أن يقف على قدميه فيها مثل كومة صغيرة من القمامة، حتى تأتي نسمة هواء وتطيِّره في النهاية، أو تكنسه امرأةٌ عجوز، أو يمحوه المطر.

نعم؛ هكذا سوف ينتهي، ليس مثل شخص كبير السِّن، محترَم، يعيش على معاشه في سريره وبين جدرانه الأربعة؛ ولكن هنا على مدخل البنك مثل كَوْمة قمامة صغيرة، وأنه يستطيع فقط أن يتمنَّى حدوث ذلك، أن تأتي عملية التحلُّل سريعًا، وأن تكون هناك نهاية لها. تمنَّى أن يفقد الوعي، وأن تنثني ركبتاه وأن يسقط. حاولَ بكلِّ قوة أن يفقد الوعي وأن ينهار. عندما كان طفلًا كان يستطيع أن يفعل ذلك؛ كان يبكي عندما يريد، وكان يستطيع أن يكتم نَفَسَه حتى يُغمى عليه أو يوقف إحدى دقات قلبه. الآن لا يستطيع أن يفعل شيئًا من ذلك؛ لم يعُدْ يستطيع التحكُّم في نفسه، لا يمكنه أن يَثني ركبتيه وأن يقرفص. كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يواصل وقوفه هكذا ويتحمل كل ما يمكن أن يحدث له.

بعد ذلك سمع همهمة سيارة مسيو «رويدل» الليموزين .. لم يسمع صياحًا .. فقط تلك الهمهمة المكتومة التي تحدث عند بداية تشغيل المحرك عند خروج السيارة من الساحة الخلفية وباتجاه المدخل. وعندما وصلت تلك الضوضاء الخافتة إلى أذنيه اخترقتهما، ودبَّت مثل التيار عبْرَ كل عصب في جسده. كان جوناثان يشعر بالتشقُّق في كل أوصاله وبامتداد عموده الفقري؛ وحيث إنه كان يحسُّ — دون تدخل من جانبه — بأنَّ ساقه اليُمنى المتباعدة قد جذبتْ نفسها نحو الساق اليسرى، وبأنَّ القَدَم اليسرى قد دارت على محور الكعب، وكيف أنَّ الرُّكبة اليسرى قد ثَنتْ نفسها استعدادًا لخطوة .. وبعدها اليُمنى، ثم اليسرى؟! وكيف كان يضع قَدَمًا أمام الأخرى؟ كيف كان يمشي فعلًا؟ بل يجري في الحقيقة، كيف قفَزَ درجات السُّلَّم الثلاث وأسرع نحو المدخل بسهولة وفتَحَ الحاجز الحديدي، ووقَفَ في وضع «انتباه»، ورفَعَ يده اليُمنى بجوار حافة القبعة مؤدِّيًا التحية؛ لتمرَّ الليموزين .. فعَلَ ذلك كله بطريقة آلية ودون أيَّة إرادة منه، كان عقله الواعي مُشارِكًا فقط بمراقبة حركاته وسرعة استجابته. المشاركة الوحيدة التي قام بها «جوناثان» في الحدث؛ كانت عبارة عن نظرة حَنَقٍ، وهتافِ لعناتٍ خرساء تابع بها سيارة مسيو «رويدل» وهي تمرُّ. ولكنه عاد إلى وضعه الثابت، كانت ألسنة الغضب المُشتعِل، ذلك الوميض الأخير من الخصوصية يموت بداخله. وبينما هو يتسلَّق الدرجات الثلاث بطريقة آلية؛ تصاعدت البقية الباقية من كراهيته، فنظَرَ إلى الشارع بعينين توقفتا عن تقيؤ السُّم والغضب .. وكانت نظرته مكسورة.

خُيِّل إليه أنهما ليستا عينيه، وكأنه كان يجلس خلفهما يُحدِّق منهما كما يُحدِّق من خلال نافذتين مستديرتين لا حياة فيهما. نعم! بدا له أنَّ كل ذلك الجسد الذي يضمُّه لم يعُدْ جسده. وأنه — «جوناثان» أو ما تبقَّى منه — لم يكن سوى قزم خرافي صغير منكمش داخل ذلك الهيكل الضخم لجسم غريب، قزم لا حول له ولا قوة، مسجون في آلة بشرية تضخَّمت، آلة معقَّدة لا يستطيع أن يُسيطر عليها ويُخضعها لإرادته، ولكنها محكومة — إن كان الأمر كذلك — بنفسها أو بقوة أخرى. في تلك اللحظة؛ كانت تلك الآلة تقف في هدوء أمام العمود، لم تعُدْ مستقِرَّة داخل نفسها الشبيه بأبي الهول، بل مطروحة جانبًا، أو مُعلَّقة بعيدًا عن الطريق مثل الماريونيت، واقفة هناك في الدقائق العشر المتبقية من نوبة الحراسة، إلى أن ظهر «مسيو فيلمان» في الخامسة والنصف تمامًا عند الباب المضاد للرصاص، ظهر للحظة وهو يقول: «سنُغلق.» عند ذاك عدَّلت آلة الماريونيت «جوناثان نويل» نفسها في الحركة المناسبة، ودخلت البنك. وضعتْ نفسها أمام لوحة التحكم الكهربائي لإغلاق الأبواب، شغَّلتها، وضغطتْ على التوالي الزِّرين الخاصَّين بجُزأي الباب الزجاجي .. لكي تسمح للعاملين بالخروج، ثم شاركت مدام «روك» في إغلاق أبواب الحريق في الخزانة التي سبق أن أغلقتها مدام «روك» مع مسيو «فيلمان»، أبطلت الجهاز الكهربائي الخاص بالأبواب، غادرت البنك مع مدام «روك» ومسيو «فيلمان». وبمجرد أن أغلق مسيو «فيلمان» الباب الداخلي، ومدام «روك» الباب الخارجي المضاد للرصاص؛ قامتْ بإغلاق البوابة الحديدية حسب التعليمات. وبعد أن انتهت من ذلك. انحنت الماريونيت انحناءةً خشبية نحو مدام «روك» ومسيو «فيلمان»، فتحتْ فمها وألقت إليهما: «تصبحون على خير»، و«عطلة سعيدة». ومع تعبيرات الشكر من جانبها؛ تلقَّت تمنِّيات مسيو «فيلمان» بنهاية أسبوع سعيدة، و«إلى اللقاء يوم الإثنين.» من مدام «روك». انتظرتْ حتى تحرَّك الاثنان بضع خطوات، ثم مضت مع تيار السائرين، تاركةً ذلك الدَّفْق البشري يدفعها في الاتجاه المعاكس.

•••

المشي يُهدِّئ النفْس .. له قوة علاجية. وضعُ قدمٍ أمام الأخرى بانتظام مع التجديف المتناغم بالذراعين في نفس الوقت، ارتفاع التنفُّس، إثارة النبض الخفيفةُ، الحركات المطلوبة من العين والأذن لتحديد الاتجاه والحفاظ على التوازن، إحساسٌ بالهواء الساري وهو يلمس الجِلد. كل تلك؛ أحداث تجمع الجسم والعقل على نحوٍ لا يمكن مقاومته، وتسمح للرُّوح بأن تنمو وتتفتَّح مهما كانت ضامرة ومكلومة، وهذا ما حدث لجوناثان المُزدوَج، للقزم المحبوس في ذلك الجسد الدُّمية الواسع عليه، شيئًا فشيئًا، خطوةً خطوة، عاد ينمو داخلَ جسده، ملأه من الخارج، أصبح يتحكَّم فيه .. وأخيرًا توحَّد معه. كان ذلك بالقرب من ناصية شارع «دي باك». كان من المؤكَّد أن يتجه (جوناثان الماريونيت بطريقة آلية، مواصلًا طريقه المعتاد إلى شارع لابلانش)، وتجاهل شارع «سان بلاسيد» على يساره، حيث يوجد الفندق الذي يقيم فيه، ومضى إلى الأمام مباشرة حتى شارع «لابي جريجوري»، ومنه إلى شارع «فوجيرارد»، ومن هناك إلى حديقة «لكسمبورج». دخل الحديقة وسار ثلاث خطوات على الممر الخارجي العريض، الذي يُستخدم لرياضة العَدْو تحت الأشجار، التي تحدُّ السياج الخشبي، ثم انعطف جنوبًا، وسار في «بوليفار مونبارناس»، وحول المقابر، مرةً، مرتين؛ ثم اتجه غربًا في المنطقة الثالثة عشرة من المدينة، ثم قطَعَ الخامسة عشرة إلى «السين»، وسار على ضفة النهر، مُتَّجِهًا نحو الجنوب الشرقي .. إلى المنطقة السابعة .. ثم السادسة … ثم أبْعَدَ فأبْعَدَ .. لا نهاية لمساء صيفي كهذا في الحقيقة، ثم عائدًا إلى اللكسمبورج؛ حيث كانت الحديقة تُغلق أبوابها عندما وصَلَ إلى هناك. ثم توقَّف عند البوابة الحديدية الضخمة، وإلى اليسار من مجلس الشيوخ، الساعة الآن التاسعة، ولكن كل شيء حوله مُضيء وكأننا بالنهار، لا يستطيع المرء أن يستدل على قدوم الليل إلَّا بواسطة الأثر الذهبي الخفيف للضوء، ومن حوافِّ الظلال البنفسجية.

حركة المرور في شارع «فوجيرارد» أصبحت خفيفة .. ثم متقطِّعة. وزحام البشر تفرَّق؛ الجماعات الصغيرة عند بوابات الخروج في الحدائق وعند نواصي الشوارع ذابت واختفت، واحدة بعد الأخرى، في الشوارع الكثيرة الضيِّقة حول «الأوديون» وكنيسة «سان سالبيس». الناس انصرفوا لتناول مشروب سريع أو إلى المطاعم .. والهواء رقيق مع رائحة عطر خفيف ينبعث من الزهور، خيَّم الهدوء. كانت باريس تأكل.

فجأةً لاحظ أنه كان مرهقًا؛ ساقاه، ظهره، كتفاه، كلها توجعه بعد المشي ساعات طويلة، قدماه ملتهبتان في حذائه. فجأةً شعَرَ بالجوع، الجوع الشديد؛ لدرجة أنَّ مَعِدته كانت تتقلَّص، جائع للحساء، للسلاطة، للخبز الأبيض الطازج، ولقطعة لحم. كان يعرف أحد المطاعم القريبة في شارع «كانيت»، حيث يمكن أن يحصل على ذلك كله كوجبة كاملة بسعر مُحدَّد .. سبعة وأربعين فرنكًا، أو خمسين بالخدمة. لكنه لا يستطيع أن يذهب إلى هناك وهو في تلك الحال .. عَرْقَان ورائحته نفَّاذة، وبنطلونه ممزَّق. قرَّر أن يمشي حتى الفندق، كانت هناك في طريقه .. في شارع «آساس» بقالة تونسية. اشترى علبة سردين، وقطعة صغيرة من جبن الماعز، وحبة كُمَّثْرى، وزجاجة نبيذ أحمر وبعض الخبز العربي.

•••

غرفة الفندق أصغر من غرفته في شارع «لابلانش»، وبالكاد أوسع من الباب الذي تدخل منه في جانب منها، وطولها عشرة أقدام على الأكثر، الجدران — بالتأكيد — لم تكن قائمة الزوايا، بل تنحرف واحدًا عن الآخر وتتسع الغرفة ليصبح عرضها حَوالَي سبعة أقدام .. ثم تنجذب نحو بعضها فجأةً وتتَّحد على شكل زاوية قبوية.

للغرفة شكل النعش، مع أنها لم تكن أوسع من نعش! السرير يقف في جانب، وفي الجانب الآخر يوجد حوض غسيل وتحته «بيديه» يمكن نقله. في الزاوية القبوية يوجد كرسي. فوق حوض الغسيل على اليمين، تحت السقف بالضبط؛ كانوا قد فتحوا منفذًا، ليس أكثر من فتحة صغيرة مغطَّاة بزجاج، يمكن فتحها وإغلاقها بواسطة حبلين. ومن هذه الفتحة؛ كان يدخل تيار هواء خفيف شديد الحرارة والرطوبة إلى النعش، حاملًا معه من العالم الخارجي مزيجًا من أصوات قليلة مكتومة: خشخشة الصحون، وشيش الماء في الحمامات، مِزَق كلمات إسبانية وبرتغالية، ضحك قليل، بكاء طفل، وأحيانًا صوت آلة تنبيهِ سيارةٍ من بعيد.

جثَمَ «جوناثان» على حافة سريره في ملابسه الداخلية ليأكل. كان قد جذب الكرسي ليستخدمه كطاولة، وضَعَ حقيبته الكرتون فوقه، وفرَدَ كيس مشترياته فوق ذلك كله، شقَّق السردينات الصغيرة بالطول مستخدمًا مِطواته، فرَدَ نصف سردينة، فرَدَها فوق شريحةِ خبزٍ ودفَعَها في فمه. أثناء المضغ كان لحم السردين الغارق في الزيت؛ يمتزج مع الخبز العربي، ويصبح لهما طعْمٌ شهي. ربما يحتاج الأمر بعض قطرات الليمون — هكذا فكَّر — ولكن ذلك كله كان قريبًا جدًّا من الطعام والشراب الجيد؛ لأنه بعد كل قضمة، وعندما كان يرشف رشفةً من النبيذ الأحمر من الزجاجة؛ كان يترك القضمة تتقلَّب على لسانه وبين أسنانه وهو يحسُّ بطَعْم السردين القوي مخلوطًا بالشذى الحمضي للنبيذ بدرجة مقنعة، ولدرجة أنَّ «جوناثان» كان كله ثقة في هذه اللحظة بأنه لم يسبق له أن تناول عَشاءً أفضل من ذلك في حياته. بالعلبة أربع سردينات، وهذا معناه ثماني قضمات يمضغها بتأنٍّ مع شرائح الخبز ومعها ثماني رشفات نبيذ، كان يأكل ببطء.

قرأ مرةً في إحدى المجلات أنَّ الأكل بسرعة، وخاصة عندما تكون جائعًا جدًّا؛ ليس صحيًّا، وقد يؤدي إلى عسر هضمٍ وربما لمَغَصٍ أو قَيء. كان يأكل ببطء أيضًا؛ لأنه كان يعتقد أنها وجبته الأخيرة.

بعد أن أكل السردين، ومسَحَ بقايا الزيت في العلبة ببقايا الخبز؛ أكَلَ جبن الماعز والكُمَّثْرى … الكُمَّثْرى ناضجة جدًّا لدرجة أنها كانت تنزلق من يده وهو يقشِّرها، وكانت قطعة الجبن كثيفة وصمغيَّة لدرجة أنها التصقت بنصل السِّكِّين، وفجأةً شعَرَ بطعمها الحمضي اللاذع في فمه حتى تغضَّنَتْ لِثَتُه، كما يحدث في حالة الخوف .. ثم جفَّ لُعابه للحظة. ولكن بَعدَ الكُمَّثْرى وقطعة حلوى، ثم الكُمَّثْرى ثانية؛ بدأ كل شيء يعمل ويمتزج ويسيل من سقفِ باطنِ الفم والأسنان، على لسانه، وإلى أسفل، ثم قطعة جبنٍ أخرى، رجفة بسيطة، ثم الكُمَّثْرى المهدِّئة، وجبن وكُمَّثْرى. كان الطعم لذيذًا لدرجة أنه كشَطَ بقايا الجبن من الورقة، وأكَلَ البقايا العالقة ببذرة الكُمَّثْرى التي كان قد نزَعَها من الثمرة.

جلس فترة طويلة غارقًا في أفكاره، يلعق أسنانه بلسانه قبل أن يأكل ما تبقَّى من الخبز، ويشرب ما تبقَّى من النبيذ. بعد ذلك جمَعَ العلبة الفارغة وقِشْر الكُمَّثْرى وَوَرق الجبن، ولفَّها جميعًا في كِيس التسوُّق مع بقايا الخبز. وضَعَ المخلَّفات والزجاجة الفارغة في الركن خلف الباب، وتناولَ حقيبته من على الكرسي، وأعاد الكرسي مكانه في الزاوية القبوية، وغسَلَ يديه، وذهب لينام. طَوَى البطانية الصوف وأزاحها إلى آخر السرير، وغطَّى نفسه بالمُلاءة فقط، ثم أطفأ النور. كان الظلام تامًّا، لا شعاعَ ضوءٍ في الغرفة، ولا حتى من تلك الفتحة، لا شيء سوى ذلك التيار الضعيف المكتوم والأصوات القادمة من بعيد .. من بعيد جدًّا. كان الجو شديد الرطوبة، قال: «سأقتل نفسي غدًا»، وراح في النوم.

•••

في تلك الليلة حدَثَتْ عاصفة رعدية، كانت واحدة من تلك العواصف التي لا تهبُّ فجأةً مصحوبةً بوابلٍ من صواعق البرق والرعد، بل من تلك التي تأخذ وقتًا طويلًا، وتحبس طاقتها لفترة غير قصيرة، لمدة ساعتين، ظلَّت متوارية في السماء دُون حَسْم، مصحوبة ببرقٍ خفيف ودمدمةٍ بسيطة، تنتقل من مكان لآخر، وكأنها لا تعرف أين تستجمع قوَّتها؟ وتتمدَّد طول الوقت .. تنمو وتنمو، ثم تُغطِّي المدينة في النهاية مثل بطانية من الرصاص الرقيق. انتظرتْ ثانيةً مستغِلَّة تردُّدها لكي تشحن نفسها بمزيد من التوتر .. ولكنها لم تهبَّ حتى الآن، ولا شيء يتحرَّك تحت البطانية، ولا نسمة — ولو ضئيلة — في ذلك الهواء الثقيل المشبَع بالرطوبة، ولا ورقة شجر، ولا ذرة تراب، المدينة نائمة كلها كأنها مخدَّرة، كانت ترجف تحت ذلك التوتُّر المعقَّد. المدينة نفسها كأنها العاصفة الرعدية التي تنتظر أن تنفجر في السماء! وأخيرًا مع اقتراب الصباح، ومع لمحةٍ من الفجر؛ حدَثَتْ قَصْفةٌ عنيفة واحدة، عنيفة وكأنَّ المدينة كلها قد انفجرت. انتصب «جوناثان» قائمًا في السرير، عقله الواعي لم يسمع القَصْفة، ولم يتبيَّن أنها رعد، وكان ذلك أسوأ؛ في لحظة اليقظة تلك كان الانفجار، سرى في جسده مَسرَى الرعب، الرعب المجهول الذي لا يعرف مصدره .. مثل الخوف من الموت. الشيء الوحيد الذي لاحظه؛ كان صدى القَصْفة، دمدمة تتردَّد، صدى الرعد الهادر .. كأنَّ المنازل في الخارج تنهار مثل خزائن الكتب، وكانت أول فكرة تضرب رأسه: هكذا نقضي .. هكذا النهاية!

لا يقصد بذلك مجرد نهايته الشخصية، وإنَّما نهاية العالم كله، يوم القيامة — زلزال، القنبلة الذرِّية، أو كلاهما معًا — وهي على أيَّة حال .. النهاية التامة .. ولكنَّ صمتًا خيَّم فجأة. صمتٌ مثل الموت .. لا هدير، لا قعقعة، لا تشقُّق … لا شيء .. لا شيء .. ولا صدى لأي شيء! كان ذلك السكون المُفاجئ والمستمر أكثر رعبًا من زئيرِ عالَمٍ يفنى، فالآن .. يبدو لجوناثان رغم أنه كان ما يزال موجودًا؛ أن لا وجود لأيِّ شيء آخر، لا شيء حوله، لا أعلى، لا أسفل، لا خارج، لا شيء آخر يمكنه أن يُحدِّد اتجاهه به، كل الإدراك الحسِّي، الإحساس بالتوازن — أيُّ شيء يمكن أن يرشده، مَن هو؟ وأين كان؟ — سقَطَ في خواء وظلام السكون التام.

كل ما يشعر به الآن هو قلبه الذي يركض، وارتعاشة جسده. عرَفَ فقط أنه كان في سرير — ولكن سرير مَن؟ وأين يوجد هذا السرير؟ — هذا إن كان له أيُّ وجود بالمرة، وأنه ربما يهوي في مكان سحيقٍ لا قرار له؛ لأنه بدأ يتمايل، ويُمسك المرتبة بكلتا يديه لكيلا ينقلب .. لكيلا يفقد ذلك الشيء الذي كان يُمسك به. حاول أن يجِدَ قدميه في الظلام بعينيه، في السكون بأذنيه؛ لم يسمع شيئًا، لم يرَ شيئًا، لا شيء بالمرة. مَعِدته تتقلص بشدة، وطَعْم السردين المروِّع يرتفع داخل أمعائه. كان يفكر .. لا تتقيَّأ .. لا تُخْرِج ما بداخلك الآن أيضًا، وبعد أَبَدٍ مروِّع رأى شيئًا؛ رأى وميضًا شاحبًا على يمينه، لمحةً من ضوء. حملَقَ فيها، وتعلَّق بها بعينيه، بقعة ضوء صغيرة .. مربعة، فتحة، حدًّا بين الداخل والخارج، شيئًا أشبه بالنافذة في الغرفة .. لكن أيَّة غرفة؟ من المؤكَّد أنَّ هذه ليست غرفته، «هذه ليست غرفتك، مستحيل، نافذة غرفتك عند نهاية السرير وليست عالية هكذا بالقرب من السقف .. لا .. ليست غرفتك في منزل عمك .. إنها الغرفة التي كانت لك وأنت طفل في منزل والديك في «شارنتون» .. لا! ليست غرفتك، إنها القبو. نعم؛ أنت في قبوِ منزل والديك، أنت طفل، كان مجرد حلمٍ بأنك قد كَبِرتَ وأصبحتَ حارسًا عجوزًا مقرِفًا في «باريس». لكنك طفل وتجلس الآن في قبوِ منزل والديك بينما تدور حربٌ في الخارج، أنت في فخ .. مدفون .. منسي! لماذا لا يأتون؟ لماذا لا ينقذونك؟ لماذا هذا السكون القاتل؟ أين الآخرون؟ يا إلهي! أين ذهبوا؟ لا أستطيع الحياة بدون الآخرين.»

كان على وشك أن يصرخ، يريد أن يشقَّ الصمت بتلك العبارة .. بأنه لا يستطيع أن يعيش بدون الآخرين .. الكرب عظيم والخوف ممزِّق، ذلك الذي كان يشعر به الطفل العجوز «جوناثان»؛ لأن الكل قد تخلَّى عنه. ولكنه تلقَّى إجابةً في تلك اللحظة التي كان يريد أن يصرخ فيها؛ سمِعَ ضوضاء، سمِعَ طَرْقةً هادئة، ثم طَرْقةً أخرى، وثالثة .. ورابعة من شخصٍ ما فوقه، ثم تحوَّلت الطَّرقات إلى إيقاعٍ منتظمٍ رقيق، أصبح أكثر عنفًا، ثم لم يعُدْ إيقاعًا، أصبح صوتًا قويًّا مُتخَمًا، وأدرك «جوناثان» أنَّ ذلك كان اندفاع زَخَّات المطر. حينذاك عادت الغرفة إلى النظام، وأدرك «جوناثان» أنَّ تلك البقعة المثلَّثة اللامعة هي فتحة التهوية، وفي الضوء الضعيف تعرَّف على الحدود الخارجية لغرفة الفندق، حوض الغسيل، الكرسي، الحقيبة، الجدران …

أرخى قبضته على المرتبة، جذَبَ رجليه إلى صدره وعقَدَ ذراعيه عليهما، ظلَّ جالسًا على هذا الوضع قُرَابَة نصف الساعة يستمع إلى صوت المطر، ثم وقَفَ وارتدى ملابسه، لم يكن في حاجة إلى إضاءة النور؛ فقد استطاع أن يتبيَّن طريقه في ذلك الضوء الخافت، أخَذَ الحقيبة والجاكت والمظلة وغادر الغرفة، نزَلَ على السُّلَّم بهدوء، في الدور الأرضي كان الحمَّال الليلي نائمًا عند مكتب الاستقبال، سارَ نحوه على أطراف أصابعه محاوِلًا ألَّا يوقظه، ضغَطَ على الزِّرِّ بحذر ليفتح الباب، سمِعَ تَكَّةً خفيفة، وانفتح الباب، خرج في الهواء الطلق. وفي الخارج كان ضوء الصباح الأزرق الرمادي يحتضنه، وكان المطر قد توقَّف، والماء يَنقُط من حوافِّ البنايات ويتساقط من مظلات النوافذ .. على الأرصفة تجمُّعات مائية صغيرة. سار «جوناثان» حتى شارع «سيفرس»، لا أحد هناك … ولا سيارات، البنايات قائمة .. صامتة في تواضُعٍ وبراءةٍ مؤثِّرة، كأنَّ المطر قد غسَلَ كبرياءها، وبهاءها المغرور، وكل ما تبعثه في النفوس من خوف. في الناحية الأخرى جرتْ قِطَّةٌ بسرعة من أمام واجهة العَرْض في قسم البقالة في محلات «بون مارشيه»، واختفت تحت طاولات الخضروات الخالية. على اليمين، عند ساحة «بوسي كاوت»؛ كانت الأشجار غارقة بالماء، وتُصْدِر طقطقة. وزوجٌ من الطيور الزرقاء بدأ يُصفِّر، والصفير يرتدُّ منعكِسًا من واجهات المباني، وكأنه يُعمِّق السكون المُخيِّم على المدينة.

عَبَر «جوناثان» شارع «سيفرس»، وانعطف إلى شارع «دي باك» مُتَّجِهًا ناحية البيت، مع كل خطوة كانت نعلاه المبتَلَّتان تطرطشان الماء على الأسفلت، وكأنه يسير عاري القدمين. وكان بذلك يعني الصوتَ أكثر مما هو الإحساس الزَّلِق بالرطوبة في حذائه وجوربه. الآن يشعر برغبةٍ مُلِحَّة في أن يخلع الحذاء والجورب، وأن يُكمل الطريق عاري القدمين، ويعرف أنه إن لم يفعل ذلك فإنَّما من باب الكسل، وليس لأنه يَعتبِر ذلك غير لائق .. ولكنه كان يخوض باجتهاد وحِرْص! عبرَ بِرَك الماء الصغيرة .. يخوض في وسطها بالضبط ويسير في خط متعرِّج من بِركة إلى أخرى، ويعبُر الطريق أحيانًا لأنه رأى بركةً أكبر على الرصيف البعيد، ويضرب بنعليه، ويرسل الرذاذ والرشاش أعلى واجهات العرض والسيارات المركونة في الناحية الأخرى وعلى رجلي بنطاله، كان مبتهِجًا ويحبُّ أن يُحدِث تلك الفوضى الطفولية .. شيء أشبه بالحرية الكبيرة التي عادت إليه، وكان ما زال مسافرًا على أجنحةِ النعيم عندما وصَلَ إلى شارع «لابلانش»، دخَلَ المبنى مسرعًا من أمام غرفة مدام «روكار» المغلقة، عبَرَ الفناء الخلفي، وتسلَّق سُلَّم الخَدَم الضَّيِّق.

عندما وصل إلى نهايته، واقترب من الدور السابع، هنا فقط شعَرَ بالخوف فجأةً في نهاية رحلته. الحمامة هناك .. فوق .. تنتظر.. الحمامة .. ذلك الحيوان المرعب، ستكون رابضة في نهاية الممرِّ بقدميها الحمراوين المخضَّبتَين، من حولها بقاياها وكُتَل صغيرة من زَغَبها المتراكِم .. ومن المستحيل تجنُّبها؛ لأنَّ الممرَّ ضيِّق. وقَفَ، ووضَعَ حقيبته على الأرض رغم أنَّ كل المتبقي كان لا يزيد عن خمس خطوات. لم يكن راغبًا في الرجوع. كل ما يريده هو أن يتوقَّف دقيقة واحدة؛ ليلتقط أنفاسه ويترك قلبه يهدأ قليلًا قبل أن يُكمل المسافة الباقية من الممرِّ. نظَرَ خلفه. نظرته تَتْبَع الالتفافات اللولبية والبيضاوية في الدرابزين حتى بئر السُّلَّم. وعند كل دَوْر؛ كان يرى أشعة الضوء الساقطة من الأجناب، كان ضوء الصباح قد فَقَدَ زُرقته وأصبح مصفرًّا وأكثر دفئًا .. فكَّر في ذلك، ومن الشقق الأنيقة تترامى إلى مسمعه الأصوات الأولى للبيوت المستيقظة: رنين الأكواب، صوت مكتوم لباب ثلاجةٍ يُغْلَق، موسيقى خفيفة من الراديو. حمَلَ حقيبته، وواصَلَ. فجأةً لم يكن خائفًا؛ عندما دخل الممرَّ رأى شيئين مباشرةً، وبنظرةٍ واحدة: الشبَّاك المغلَق، وخرقة تنظيفٍ كانت متروكة فوق الحوض بجوار الحمَّام المشترَك لكي تجفَّ.

لا يستطيع أن يكشف طريقه كله حتى نهاية الممر؛ مربع الضوء الساطع من الشبَّاك قطَعَ خط البصر. سار إلى الأمام، ليس خائفًا، سار في الضوء، دخَلَ منطقة الظل بعده، الممرُّ خالٍ تمامًا، الحمامة اختفت، والبقع التي كانت على الأرض تمت إزالتها .. لا توجد ريشة واحدة، ولا أثر لأي زَغَبٍ يتراقص على البلاط الأحمر.

١  دولة قديمة في وسط إيطاليا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤