الفصل السابع

الشيخ علي

وكأنما أنظر الآن في قلب رجل لا في وجهه، إذ تهلل على السحاب وجه «الشيخ علي» شيخ المساكين.١

أراه كما كنت أعرفه ضاحكًا غير الضحك الذي يلبس وجوه الناس، فلا يضحك لشيء إنساني، بل ما هو إلا أن تراه قد تهلل فرفع وجهه إلى السماء، وأرسل من فمه مثل نور التسبيح في إشراق جميل، حتى لقد كان يُخيَّل إليّ حين أبصره على تلك الهيئة أنه لا يضحك، ولكن قلبه يرتعش بعضلات وجهه!

لو أراد الله بالناس خيرًا لوضع في أبصارهم أشعة تنبثُّ في أطواء القلوب؛ فتعرف ألوان العواطف، وتميزها لونًا من لون، ولكنه جعل الوجه غطاء على معاني القلب، ثم سلط الفكرَ على معاني الوجه ومعارفهِ، يصوّر فيها ما شاء مما له أصلٌ في الحس، وما لا أصل له حتى ليختبئ الإنسان عن الإنسان، وهو مكشوف لعينيه … وإذا كان الله سبحانه قد أوجد الخير والشر صريحين، فقد أوجد الإنسان ثالثًا لهما، وهو تلبيس أحدهما بالآخر، وأراد الخالق ذلك، ويسَّره للإنسان، فجعل فيه آلة واحدة للصدق، وهي القلب، وآلتين للكذب: وجهه، ولسانه!

•••

كان «الشيخ علي» يشبه إنسانية قائمة بغير إنسانها، على حين ترى أكثر الناس كأنه إنسان قائم بغير إنسانيته،٢ وكانت الدنيا كأنما نسيت أنه فيها، فتركت له روحه صافية منطلقة، تتطعم الحياة غير مستقرة في شيء، كما يتطعم النسيم رائحته من ورق الزهر؛ فهو يتسحب عليه، ولا يستقر فيه، ولو أنه ورق الزهر.
وما زالت روح هذا الرجل مني منذ عرفته كأنها نضّاحة عطر،٣ تمجُّ رشاشها على حياتي رَوْحًا وعبيرًا وندى، وكأن الرجل طفل عزيز من أطفال قلبي، يملأ ما حوله ابتسامًا، وطفولة، ورِقّةً، ولو أن أحدًا خُلق من عيني الطفل الضاحكتين لكان هو «الشيخ علي» رحمه الله، على أنه كان رجلًا من سُوسِه القوة، معصوبًا متكدسًا،٤ يملأ جِلده جِذْلٌ من أجذال الشجر.٥

•••

… وانقبضت نفسي انقباضةً شديدة، إذ تغير الرجل في خيالي؛ فنظر إليَّ نظرة ينقدح منها شررُ الغيظ، فلو أبصَرتْ عيناك طائرًا ضعيفًا أراغَه نسرٌ، فاستطرده في نواحي الجو هكذا وهكذا،٦ ثم أهوى له بمخالبه، ثم سدَّد إليه نظرة غرزتْ هذه المخالب، وانفجرت بآلام لحمه ودمه — فاعلم أن تلك هي كنظرة الشيخ إليَّ، ولقد تبعثرت لها شياطينُ نفسي، فانطلقتْ يحاول كلُّ شيطان منها مهربًا، وكانت توسوس في صدري أن أستمدَّ من روح الشيخ قوله في الحب، هذا الحب الذي مهما اعتبرته لم تجده إلا كإحياء الخيالات بقتل حقائقها.
… ثم ما لبث أن استضحك، وأطلق لي نفسي، وجاشت عيناه بنظراتهما الحكيمة، فقلت: ويحك يا نفس! إن عين الشيخ ترى من الجمال غير ما نرى، ثم تعلم علمها مما نظرت فيه، ثم تقدِّره على حساب ما تعلم منه؛ فما يُدرك لعل هذا الرجل الرُّوحاني لا يرى إلا ما وراء تلك البشرة الجميلة التي تكسو وجوهَ النساء الجميلات، كما نُبصر نحن من وجوه الموتى، وقد تأكَّلَ جلدُها، وتناثر لحمها، وبرزت عظمًا كسائر العظم من كل حيوان؛ فلا موضع قُبلة، ولا سحر نظرة، ولا إشراقُ بسمة، وما هو إلا تركيب من العظم صُنع هذه الصنعة؛ تيسيرًا لما خُلق له … ولعله يا نفسُ لو حَشر الله لعينيك أجملَ الجميلات في صعيد واحد، وحشر معهنَّ إناث البهائم صنفًا صنفًا، ثم نزع عن تلك الوجوه كلها ذلك الطراز من الجلد، وما وراءه من اللحم مُزعة بعد مزعة،٧ حتى لا يبقى إلا الوضع في بناء العظام وهندستها؛ فما يدريك لعل أجمل الجمال عندنا هنا لا يكون حينئذ إلا أقبح القبح هناك؟

أفمن جلدة على وجه امرأة يجيء الشعر والجنون معًا، ويجتمعان في هذا الخيال الذي يسمى الحب، ويستنزلان معاني التقديس من أعلى السماوات إلى عين تلحظ لحظة، وشفة تبسم بسمة؟

إنه القلم الإلهي المبدع الحكيم هو الذي صوّر ولوّن، وافتنَّ ما شاء؛ فإن رزقت امرأة جلدة جميلة مشرقة كأنما تجري فيها الشمس، وأُلبست أخرى جلدة قبيحة سفعاء،٨ تجول فيها رهبة الظلمة؛ فكلتاهما صبورة من صنع الله، وكلتاهما تُظهر لونًا من ألوان الحكمة، وكلتاهما جاءت لمعنى، وكلتاهما بعد غشاءٌ زائل على وضع ثابت لا يختلف في هذه، ولا في تلك: وضع الحقيقة الجسيمة التي تحمل الحياة بأدواتها الكثيرة، والحياة لا تعرف البشرة إلا غطاء على ما وراءها، اسودَّ أو ابيض، وكان من لون المرمر، أو من هيئة الطير!

ولو أن كل وجه في نساء الدنيا خُلق دميمًا نافرًا على أبشع ما نتصوّره من القبح، لكان كلُّ نساء الدنيا جميلاتٍ؛ إذ يألف الطبع الإنساني تلك الصورة الواحدة، ويتقرّر بها الذوقُ في الجمال، وتستمر بها العادة، فلا يستبين وجه من وجه آخر في صفة، ولا يخالف مذهبٌ مذهبًا في حالة.

ولكن هذا الإنسان كُتب عليه الشقاء، فخُلق وخلق معه ما يُطغيه، وما يستفزّه، وما يُخرجه عن طوقه، كما خُلق له ما يُزهِّده، وما يطمئنّ به، وما يحصره في إنسانيته. فالجميلات والقبيحات كلهن سواء في أنهنّ نساء هذه الإنسانية، لا تقصِّر في ذلك واحدة عن واحدة، وإنما يتفاوتْن في أسباب الشقاء الإنساني الذي يبتلي الرجل بالمرأة، ويمتحن المرأة بالرجل.

ولو سما عقل الرجل إلى الغاية العليا من كماله؛ لرأى المرأة الجميلة الفاتنة في نصف جمال المرأة القبيحة، ولَبانَت الواحدة عنده من الأخرى بأن الدميمة مهيأة في نفسها لمعاني الأخلاق، والجميلة مهيأة لسفْسافِها،٩ ولرأى مع هذه بعض طباعها، ونزغاتها شرًّا مما تقدم بها من جمال وجهها، ومع تلك من أكثر طباعها، وصفاتها خيرًا مما قصّر بها من حسن صورتها.

بَيْد أن من شقوة الطبع الإنساني أنه سخط القبح فأحاله فسادًا، وعَبَد الجمال فأحاله فسادًا من نوع آخر؛ إذ كان في نفرته وحبه لا يعتبر المنافع والحقائق، ولكن الأهواء والشهوات، والمنفعة والحقيقة كلتاهما لا تكون إلا في قيودها، أما الأهواء والشهوات فهي دائمًا لا تقع إلا مُتخطِّيةً حدود العقل، إما إلى النقص، وإما إلى الزيادة، ولا تُغري بشيء إلا أوقعت به السوء، إذ لا يستوي في القصد ما خرج عن الحقيقة، وما هو مقيَّد بالحقيقة.

•••

كان هذا وحيَ «الشيخ علي» في نفسي، غير أني رددته عليه، وأزلَّني شيطان الحب مرة أخرى، فقلت: أفتُرى الشوهاء على ما بها مما ركع للدهر وسجد،١٠ ثم تلك المرأةَ التي سمُج تركيبها فتحامتْها العيون، ثم الأخرى التي قمِعَت في بيتها تختبئ فيه من القبح؛١١ فصارت سرًّا في صدر الحيطان، ثم تلك التي تلوح في النساء كالسطر المضرب عليه أفسده الخطأ، ثم المهزولة التي أدبر جسمُها،١٢ وتقبّضت أعضاؤها، وأصبحت جلدة تمشي وتتكلم … أفتُرى هؤلاء أو إحداهن كتلك الغانية المتشكلة في ألوان الثياب كأنما تُلبس بدنها الجميلَ بدنًا معنويًّا يدل على معانيه، أو الأخرى التي تظهر في جمالها الفتّان عاطلة من كل حيلة، ومع ذلك ترفّ على حسنها روح الياقوت، والألماس، واللؤلؤ مما عليها من البريق والشعاع، أو المطوية الممشوقة المسترسلة، كأنها في قوامها ووجهها غصن الجمال وزهرته، أو الحسناء اللعوب المزَّاحة، كأنما اجتمعت طباعها من نور القمر أطلَّ في ليلة من ليالي الربيع يداعب أوراق الورد النائمة، أو … أو تلك يا شيخ علي …؟
قال الشيخ علي: فيا ويلك! إني والله بك من رجل لخبير،١٣ أفمن أجل واحدة؟ أما إنه لعل الذي جعلها حقًّا عندك هو الذي يجعلها باطلًا عند سواك، ولعله ما حسنها في عينك إلا أن طبعًا من الجد فيك استملح طبعًا من الهزل فيها، كما ترى معنى مكدودًا في إنسان يستروح إلى نقيضه في إنسان آخر. ولعل من أمتع اللذات وأبهجها لَقلب المهموم أن يتصوّر في همه من يعرفه طروبًا فرِحًا، وإن كان كِلا الرجُلين لا يسكن لعِشرة الآخر لو تعاشرا واختلطا. وهذه القلوب لا تؤتى من مأتى هو أدقُّ وأخفى من توهم ما فيه اللذة؛ فإن النفس ترجع عند ذلك بكل حقائقها إلى نوع واحد من الوهم، ينصرف بها إلى تمثل هذه اللذة التي استشرفت لها، وطمعت فيها، فإذا طعمها في الدم يهيج له سُعار١٤ الجوع العصبي … وما هي السرقة مثلًا إلا أن يضع اللص عينه على المال أو المتاع، ويتذوق طعم اليسر والفائدة، فتجنّ أعصابه جنون الحاجة، فلا يرعوي إلى شيء من الرأي يزجره، أو يمنعه، أو يكفه، ويكون في الحقيقة سارقًا من قبل أن يسرق، وكذلك يكون الفاسق متى نظر إلى المرأة واشتهاها، ونبّه معانيها في نفسه، وقل مثل هذا في كل من طار قلبه، وطار صوابه.

أُلهُ عن وهمك يا بني، وضع الأمر على قاعدته، وسدّد نظرك إلى حقيقته، ودعني من حبل الباطل الذي تجرّ فيه شيطان هواك، أو يجرّك هو فيه، وما تتكلم عن اثنين من الخليقة: أنت، وهي، ولو أن الأمر قد انحصر فيكما، وفنيتَ بالحب فيها لكانت هي الكون كله، ولو فنيت هي فيك لكنت أنت ذلك الكون، وهذا — حرسك الله — موضع النقص في النفوس العاشقة؛ إذ تنقطع إحدى نفسين من العالم إلى نفسها الأخرى: وهو نقص أشبه بجنون المجانين، بل هو متمم له؛ فإنما ذهاب العقل في المجنون المختبَل هو نصف الجنون الإنساني، أما النصف الآخر فهو تجرد العقل في العاشق المتدله.

نصف الجنون في العاشق الذي يتجرد من الناس إلا من أحب، ونصفه في المعتوه الذي يتجرد من الزمن إلا الحاضر!

إنه ليس للمجنون عند نفسه ماض ولا مستقبل؛ إذ لا يأمل هذا، ولا يذكر ذاك، وكل سعادة نفسه في هذا النسيان الذي طمس عليها، وتركها كأنما تعيش في غير عمرها، بل في كل أعمار الإنسانية، بل بغير عمر، وكذلك ليس للعاشق مع الحبيب شخص آخر ممن مضى، وممن يأتي، مادام الحب قائمًا؛ فالحبيب هو الحبيب، وكل الناس بعده أدوات، وشخص واحد هو الألف واللام، والحاء والباء، والناس جميعًا نقطة صغيرة ملقاة تحت الباء فقط …

(قال الشيخ علي): ثم يبرأ المجنون، ويثوب إليه عقله؛ فيعرف أنه كان مجنونًا، ويُبغض المحبُّ، أو يسلو ويبرأ من وهمه في تلك المرأة، فلا يرى إلا أنه كان بها مجنونًا، أفلا يكفي هذا — ويحك — في الدلالة على أن الحب والجنون من أم واحدة وإن اختلف أبواهما؟ … وإن رأي العاشق في كل النساء كرأي المجنون في كل الناس: لا يجوز أن نأخذ بواحد منهما إلا إذا أخذنا بالآخر، وأقررناه في باب الصواب والعقل؛ إذ كلاهما حاصل من حالة متى تغيرت فانقلبت اعترف صاحبها عليها بالجنون، وإن كانت إحدى الحالتين في طبيعتها، ووصفها غير الأخرى؟ ويلُمّه وصفًا من العاشق لو كان مع صاحبه رأي وويلمِّه١٥ رأيًا من المجنون لو كان مع صاحبه عقل!

•••

(قال الشيخ علي): سُئل الحلاج١٦ وهو مصلوب يعاني غصة الموت: ما التصوّف؟ فقال لسائله: أهونه ما ترى … فهذا رجل يموت في سبيل حقيقة تقتله بغموضها السماوي العجيب، وعلى أنها قد دقت المسامير في أطرافه، وجمعت لموته آلام الحياة كلها، وأنبتت في كبده من وخزات الجوع شجرة من الشوك، وأطلقت في عروقه من لذعات العطش لهيبًا من النار، وتركته على صليبه ممدودًا تتساقط نفسه كما يُنشر الثوب الذي بلي وانسحق، فهو يتمزق من كل نواحيه؛ على هذا البلاء كله، لم تتغير الحقيقة في رأي الرجل، ولا فساد موضعها في نفسه، ولا أرى ما يكرهه الناس من الألم مكروهًا في ذاته فيميل عنه، ولا ما يحبونه من اللذة محبوبًا فيميل إليه، ولا تسحَّب قلبه حركة واحدة في السخط على الحكمة الإلهية فانتقصها برأي، أو اغتمز فيها بكلمة، بل نظر نظرة الحكيم من وراء الحد الإنساني المنتهي فيه، إلى ما يبدأ عنده الحد الإلهي الذي لا ينتهي، ورجع آخره إلى أوله، فكأنما يقول بلسان حكمته فيما نزل به: اللهم إنك بدأتني طفلًا غِرًّا جعله فقدان العقل لا يملك مع أحد إلا صياحه، فخذني إليك طفلًا عاقلًا جعله العقل لا يملك مع أحد، ولا صياحه!
واذكر الطفل يا بنيَّ، فرُبَّ معضلةٍ من أمور هذه الدنيا يحار الناس في آخرها، وهي محلولة من أولها. وما هؤلاء الأطفال إلا الأساتذة الذين يُعلِّموننا وهم يتعلمون منا؛ غير أننا لا نأخذ عنهم فلا نصلح، ويأخذون عنا فيَفسُدون! أفرأيت ولد الشوهاء تعرف عيناه في كل ما طلعت عليه الشمس أجمل من وجه أمه، أو يرى طائلًا في وجه سواها، أو يحنُّ إلى غير طلعتها، أو يسكن إلى صدر غير صدرها، حتى كأنَّ الله لم يخلق وجهَ حبيب لقبلات مُحبه إلَّا وجهها هي لقبلاته؟١٧

إنه في ذلك ينظر من ناحيتين؛ الأولى: ناحية صفاته هو، فإن القلب إذا لم يكن بهيميًّا منعكسًا أشرق صفاؤه فيما حوله؛ فلا يرى إلا خيرًا، ولبست المرئيَّ صفةُ الرائي فلا ينظر إلا جمالًا، واتصل الشعور الطيب الرقيق الجميل بين نظر النفس وبين ذات النفس، كما يصل الشعاع الذي يُلقى على حائط من المصباح بين هذا الحائط وبين المصباح، فيُغَشِّيه النور وإن كان الحائط نفسه من الطين … فإذا كان القلب بهيميًّا زائغًا عن الإنسانية إلى حيوانيته، استفاضت ظلمته وشهواته على ما حوله، فلن يشهد من صفات الجمال شيئًا، بل يرى في كل شيء من صفات نفسه هو؛ حتى ليكون الوجود كله في عين بعض الناس كما يكون الطعام كله في فم المريض … ومثلُ هذا يعشق أجملَ النساء فلا يرى فيها جمالًا ألبتَّة، وإن هو خدع نفسه في ذلك، واختدع الناس، وإنما يرى شهوات، شهوات جميلة ليس غير!

أما القلب البهيمي غيرُ المنعكس — وهو ذاك الذي تحمله البهائم، فلا يحتمل فيه عقل، ولا يحتشد فيه خيال، وما هو إلا أن ينصبَّ الحيوان به على محض المنفعة؛ لأنه عاملٌ في الطبيعة، يُعدُّ من عمالها لا من شعرائها — فليس عنده جمال يقع في ظاهر الروح، وآخر يقع في باطنها، وثالث متوهّم لا يقع ولا يمتنع أن يقع،١٨ وليس يعرف من معنى القبح إلا أن تكون الأنثى قد طاش بها المرض، فما تستقل إعياء وضعفًا، وبذلك سلِمت إناث البهائم من شرٍّ كثير يملأ لغة الحياة النسائية بمعانيه، وتجمعه كلمتان: الجمال، والقبح!

والناحية الأخرى التي ينظر منها الطفل لأمه الدميمة الشوهاء، ناحية الصفات الإلهية، فإن الحب الصحيح الذي يمكن أن يسمى حبًّا، لا يكون فيما ترى من لون وشكل وتركيب وتناسق، وغيرها مما يُظهِر البشرية على أتمها، وأحسنها في الشخص المحبوب كما يظن الناس خطأ، بل هو في عكس ذلك، أي فيما يخفي البشرية بمحاسنها وعيوبها جميعًا، ويظهر في أمكنتها خصائص الروح المحبوبة وحدها؛ فمن ثم يبدو لك شخص المحبوب على أيِّ أشكاله وهيآته كأنه تمثال سماوي وضع لروحك خاصة، فهو مجبول من مادة واحدة، هي مادة الفتنة، ولو كان في أعين الناس كافة تمثال الأرض السفلي، يصور كل ما تشتت فيها من القبح!

فإذا لم تظهر لك خصائص روح المرأة ظهورًا يستفيض على وجهها وجسمها، ويجعل كل شيء فيها ذا معنى منه، وكل معنى منه ذا معنى فيك، فما أنت من حبها في شيء ولو ذهبتْ من جمالها بعقول الناس، ولا هي عندك من الجمال في شيء، ولو كانت في النساء كليلة البدر في الليالي، ومن أجل ذلك لا يخلو الحب من بعض معاني الوحي، ولا تخلو الحبيبة من بعض المادة الملائكية١٩ في النفس التي تعشقها، وهل مَلَك الوحي إلا قوة المزج السماوي في نفوس الأنبياء، وهل روح الحبيبة إلا على قدر من مثل هذه القوة في نفس محبها؟ ولعل هذا يفسر لك سرًّا من أسرار احتراق في بعض الأرواح العاشقة التي تيّمها الحب؛ فإن تلك القوة المزجيَّة متى أفرطت على نفس رقيقة حساسة أذابتها، واشتعلت فيها فأكلتها أكل النار للهشيم، وتركتها تحترق أسرع ما تحترق لتنطفئ أسرع ما تنطفئ!

•••

(قال الشيخ علي): تلك هي الحقيقة يا بنيّ، فلن يأتي لكائن من كان أن يقسم النساء إلى جميلات وقبيحات، إلا إذا طوى في ذلك معنى القسمة إلى شهوات جميلة، وشهوات قبيحة، ومتى انتهينا إلى هذا فقد خرجنا إلى المخاطبة بلغة لا هي من لغة البهائم، ولا هي من لغة الإنسانية.

أفرأيت قَطُّ ألفاظ الجمال والقبح تشيع في أمة من الأمم، وتعلو بالأعين عن النساء، وتنزل،٢٠ وتمتد بها وتنقبض، إلا أن تكون أمة ضعيفة القوة قد اختلت أجسامها، أو ضعيفة الدين قد اختلت أرواحها؟
انكشف القمر ذات ليلة لرجل اسمه «من عباد الله المقربين»٢١؛ فإذا البدر أسود كالحبر، وإذا مكتوب في وسطه بالنور: «أنا وحدي»؛ فالقمر نفسه لم يمنعه كل ضياء الشمس عليه أن يَسْوَدّ في عين الرجل الكامل الذي ينظر لروحه، فما الذي يمنع مَن ينظر لروحه وخصائصها أن تصير المرأة القبيحة في عينه كالقمر الأزهر؟

•••

في البدر ظهرت كلمة الألوهية «أنا وحدي».

في وجه الحسناء تقرأ كلمةَ الألوهية «أنا وحدي».

فهل يمكن أن تقع الدميمة من الحسناء أقبح ما يقع ظلام القمر من نوره، فلا تكون في وجهها هي أيضًا كلمة الألوهية «أنا وحدي؟».

•••

لم يبق في البدر مع الحكمة العليا شيء يُسمى الجمال، ولا المرأة الحسناء يكون فيها شيء أجمل من القمر؛ فهي مثله ليس فيها مع تلك الحكمة شيء اسمه الجمال؛ أفيمكن أن يكون مع الحكمة نفسها في وجه القبيحة شيء اسمه «القبح؟».

•••

القمر طالع مشرق كما كان.

والجميلة الحسناء لا تزال فاتنة.

والدميمة ظاهرة كما هي.

لم ينقص الكون من ثلاثتها شيء.

ولكن أين أعين الرجل الكامل؟.

هوامش

(١) وضعنا كتاب (المساكين) على لسان هذا الرجل ليتعزى به أهل البؤس وأحلاف الهموم، وقد أفردنا لوصفه بابًا في ذلك الكتاب، وحسبه أكثر القراء رجلًا مخترعًا كرجال الروايات، ولكنه كان رجلًا أشبه في حياته برواية، وقد توفي في سنة ١٩١٩، وظهرت بموته كرامات عجيبة شهدها الناس بأعينهم، ولم ينعه أحد، ولا كان أحد يحفل به، ومع ذلك كانت له جنازة لم يعرف مثلها في بلدته وأحوازها، كأنما خرجت الحياة نفسها تشيع أصغر حي لتجعله أكبر ميت!
(٢) أكثر من ترى الناس لهم حظوظ الإنسان ولا إنسانية فيها، والشيخ علي لم يكن له حظ الإنسان إلا الجرعة واللقمة وغمضة العين!
(٣) رشاشة العطر، وهي ترجمة لكلمة “Vaporisateur”، ويسميها العامة «بخيخة العطر».
(٤) المكدس: الممتلئ عضلًا، والمعصوب: الشديد طي الجسم بعضه على بعض، ومن سوسه: أي من أصله وطبيعته، أو كما يقول العامة: (من عوده).
(٥) ما عظم من أصولها.
(٦) أي هنا وهناك.
(٧) هي القطعة من اللحم.
(٨) السفع: سواد مشرب بحمرة، والمراد به هنا فساد لون الوجه، وقبحه، وبشاعته.
(٩) السفساف: الدنيء، وأصله ما يتطاير من الغبار إذا أُثير، ومن الدقيق إذا نخل لأنه أهونهما ولا فائدة منه.
(١٠) كناية عن أسباب فقرها من الجمال وسقوطها فيه، ويقال: ركع للدهر وسجد، إذا كان فقيرًا ساقطًا ليس وراء ما به من الذل.
(١١) هي القمعة (بوزن ملكة): وجمعها قمعات (كملكات): من تستتر لما ابتليت به من قبح الصورة.
(١٢) كاد يفنيها الهزال! وتسمى الممصوصة.
(١٣) أي خبير بك وبما تبطن وتخفي.
(١٤) ما يأخذ من الجوع الشديد شبه الجنون، وحالة الأعصاب متى اهتاجت لأمر لا تكون إلا هكذا، وبخاصة إن كان هذا الأمر من الحب.
(١٥) كلمة تقال لتفخيم شأن الأمر، تشعر الذم ولا يريدونه، وأصلها: ويل أمه، ولكنهم يسقطون الهمزة، ومن أجل ذلك رسمت كلمة واحدة، وترسم كلمتين إذا أمن الخطأ فيها.
(١٦) هو الحسين بن منصور الحلاج الصوفي الشهير، اختلف العلماء فيه اختلافًا كثيرًا، ورمي بالكفر، وقتل سنة ٣٠٩ للهجرة، وهو فيما قرأنا عنه من أكبر رجال الحقيقة، وما زال التصوف كالحقيقة نفسها: هي موضع المعرفة، وموضع الجهل معًا. ومن أبدع ما قرأناه في ذلك أن أصحاب الشيخ عثمان القرشي، من أكبر علماء مصر في علوم الحقيقة والشريعة، قالوا له يومًا: ما لك لا تُحدثنا بشيء من الحقائق؟ فسألهم: كم أصحابي اليوم؟ قالوا: ستمائة، فقال: انتخبوا منهم مائة، فانتخبوهم، فقال: اختاروا من هؤلاء عشرين، فاختاروهم، فقال: استخلصوا من العشرين أربعة، فكان الأربعة أئمة الجماعة: ابن القسطلاني، وأبا الطاهر، وابن الصابوني، وأبا عبدالله القرطبي، قالوا: فلما انتهى الأمر على ذلك قال الشيخ — رحمه الله —: لو تكلمت بكلمة من الحقائق على رؤوس الأشهاد لكان أول من يفتي بقتلي هؤلاء الأربعة! فتأمل غور هذا البحر، فما أبعده غورًا. وتوفي القرشي سنة ٥٦٤ﻫ.
(١٧) قلت: انظر قصة (قبح جميل) ج١، ص١٥٩ وحي القلم: للمؤلف.
(١٨) رأينا هذه الكلمة مروية للمأمون، وهي: إن الجمال إذا وقع في ظاهر الروح كان صباحة، وإذا وقع في باطنها كان فصاحة، فزدنا عليها ما هو فوقهما مما لا يعرف إلا بالتخيل، ولا حقيقة له في الواقع.
(١٩) نسبنا إلى الجمع للخفة، وفرقًا بين هذه وبين النسبة إلى الملك (بكسر اللام)، فإنها ملكية (بفتح اللام).
(٢٠) يقال: علت العين عن كذا: أي نبت عنه نفورًا فلم تلصق به، فاستعملنا منها «نزلت» كما ترى.
(٢١) هذا تهكم من الشيخ علي، يريد به طاشة فتياننا وفتياتنا ممن يرون الدين شيئًا قديمًا في لغة قديمة ومذهب قديم: فليهنأهم البلاء الجديد الذي حل من أنفسهم محل الدين، فجعل الرجل بلاء على المرأة إن تزوج بها أو أهملها، والمرأة بلاء على الرجل إن كانت له أو لنفسها، والوطن بينهما يقول: ما تقول جهنم لأهلها: لَّا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤