الفصل التاسع

الشيخ محمد عبده

وشفَّ سحابي عن جلال رائع يضطرب القلب له! أذكرَني روعة السحاب التي كان يهبط فيها ملك الوحي، ليست في نفسها آية، ولكن الآية فيها.

وظهر لي وجه الشيخ، وما أدراك من الشيخ؟ ثم ما أدراك من هو؟١ رجل كان في تركيب العالم الإسلامي أشبه بالجبهة من جسم المؤمن: هي مجلى نور الإيمان، وأعلى ما يرتفع للأعين، ولكنها مع ذلك أول ما يسجد لله من هذا الجسم كله!
خُلق فصيحًا مُبين اللهجة؛ لأن لسانه أُعِدَّ لتفسير معجزة الدنيا في هذه اللغة، فكان لسانه — ولا غَرْو — معجزة في الألسنة، وكان له بيان ينبث من طبعه المصقول كالشعاع الذي توامضك به المرأة إذا انقدحت جمرة الفلك عليها.٢
وكان له عقل لو وزن في رُجحانه لعُدَّ بين العقول من موازين التاريخ، وقلبٌ إن يكن في جنبيه كالقلوب التي وُضعت على منحدر المعاني الأرضية، فإنه كان دون القلوب على مهبط السماوات.٣
رجل لم يُخلق من قبل زمنه؛ لأن الأقدار المصرّفة ذخرتْهُ للقرن الرابع عشر تجعله وأصحابه النهضة الثالثة في الإسلام،٤ وكتبَتْ له أن يكون الكنز الثمين الذي يُفجأ العالم بانكشافه؛ ليعود القديم المبدَع الذي كاد يُنسى؛ فيتمكنَ في الأرض بأسلوب جديد، وما يدريك، لعل هذا الحكيم الفذَّ في علمه وعمله، وذكائه وإصلاحه سيكون التمثال العقلي المشرف على الأجيال، يفصل في تاريخ الإسلام بين ثلاثة عشر قرنًا مضت، وثلاثة عشر قرنًا تأتي؟

ولقد كان في تفسير كتاب الله رجلًا وحده، على بُعد عصره من فجر الإسلام؛ فكان يحمل في رأسه ذهنًا كآلة اللاسلكي، تهبط عليه من أقاصي الدهر شرارة النبوة، فإذا تكلم في آيةٍ رأيتَ كأنما تتكلم الآية نفسها على ملأ العقل بين مشارق الأرض ومغاربها.

ولست أدري على أي روح نبت هذا الرجل؟ ولكن الذي أعرفه أنه حين أثمر فنضج فحلًا، أذاق الناس من ثمره طعم معجزة الفكر العربي.

•••

نظرتُ إلى عينيه ذات مرة فخيل إليَّ أن فيهما رهبة الأسد حين يجلي بنظرة كبريائه٥ ليدل على أنه الأسد لا غيره، فمددت النظر إليهما، فإذا روعة إنسان هو أرفع من إنسانيتنا، وإذا أنا ألمح فيهما ذلك الشعاع الغريب الذي ينبعث من أعين الحكماء ليصل بين السر الكامن في العقول، والسر الكامن في العقل، وكأنه استشعر ذلك فتبسم، فكان لنظرته جلال سماوي رحيم، أشرق على نفسي كما تُشرق على روح الطفل ابتسامة أصله الإنساني. كان منطويًا على حقيقة روحانية يسطع ضياؤها في عينيه، وينتشر على ما حوله، فلا يشعر من يجلس إليه أنه جالس مع الرجل، ولكن مع النفس العالية التي هي فيه؛٦ وكان أعظم هيبة من الملوك؛ لأن هؤلاء يحيطون أنفسهم بالديوان، والمواكب، والأسلحة، وكثير من ضروب التوقير والتعظيم، أما الشيخ فكنت تراه حيث رأيته كالمحراب حيث يكون: لا يقف عنده إلا من وقف ليتخشع، وما ذكرتُه إلا ذكرت قول القائل: في هذه الصورة الآدمية آدمُ، والملائكة له ساجدون!

كان هذا الإمام الفذّ في قوة من ربه كقوة الجبل؛ يحمل ما يحمل، ولا يتلوى، وفي سعة من طبعه كاستفاضة البحر؛ يغمر ما يغمر، ولا يتغير، وفي صراحة من نفسه كاستطارة النهار؛ يطلع كما يطلع، ولا يخفى، فهو رجل، لكنه فكر من أفكار السماء، وهو جسم، لكنه عضلة من عضلات الطبيعة، وهو إنسان، لكنه حقيقة من حقائق الكون.

يصفه الناس بأنه الرجل الحكيم الذي أُتيَ سر الحكمة لينبُغ به، ويصفه التاريخ بأنه الحياة المجددة التي وُهبت سر العظمة لتعمل لها، وتصفه الحقيقة بأنه العقل المفسر الذي اتصل به طرف السر الأعلى ليتكلم عنه، وليعمل له، ولينبغ فيه.

إذا كان في بعض جوانح الأرض أمكنة نادرة مقدسة هي قلب الدنيا الذي أودعه الله سر التأله، ففي بعض جوانح الناس قلوب نادرة هي كتلك الأمكنة، ولقد كان العالم الإسلامي كله يتصل من قلب الشيخ العظيم بمنسك٧ فيه معنى كمعنى الكعبة إذ تُولّي شطرها كل وجوه المؤمنين.

•••

وأما بعد: فكأنما أفرط عليَّ القلم فيما كتبت عن الحب؛ فإنه يخيَّل إليَّ الساعة أن روح شيخنا الجليل تريد أن تغسل هذا الكتاب كله، وتدعه ورقًا أبيض،٨ ويخيل إليَّ كذلك أني كنت ماضيًا فيما أكتبه كما تتعكس الأفعى٩ في مشيتها، إذ يندفع نصفها ليجرّ النصف الآخر، فلا تدري إن كان آخرها معلَّقًا بأولها، أو الأول هو معلق بالآخر.
وكذلك كنت أكتب، فمرة أجد الفكر يجرُّه القلب جرًّا، ومرة أجد القلب ينسحب للفكر، وبين ظهريْ ذلك١٠ أراني ساعة ممتلخ القلب، وساعة مدلَّه العقل١١ كأني لم أحب إلا لأتحول رجلًا شاذًّا، تراه في الحب والبغض، وفي الصواب والخطأ، وفي الفكر والحس، على حدّ مما يعرف، وحدّ مما لا يُعرف، فليس كله من هذا، ولا كله من ذاك، وهو محب إلا أنه يبغض، ومبغض لكنه يحب!
إن زفرة من جهنم، ونفحة من الجنة جاءتا إلى هذه الدنيا، فرأتا من خُبث الناس بِدعًا مبدَعًا١٢ حتى لا يخلصون بأعمالهم إلى جنة ولا نار، فلا هم من أهل هذه وحدها، ولا أهل تلك على حدة، فاختلط نفس الجنة بزفير النار، وامتزجا حرًّا يستوقد الضلوع ببرد تثلجُ عليه الصدور، واجتمعا نعيمًا ببؤس، وراحة بتعب، وسرورًا بهمّ، ثم وقعا في القلوب معًا، فإذا هما الحب!

كذلك توحي إليَّ روح الشيخ.

أنت يا هذا إن أحببت امرأة فهي كما تثير كل ما فيك من الكمال تُنبّه كل ما فيك من النقص، بيد أنها تجعل هذا النقص عُلويًّا، وهو أفسد له، كالزوبعة إذ ترتفع من الأرض خَلقًا ماردًا من الغبار ملتفًّا بالنور، ذاهبًا إلى السماء، فيكون ارتفاع الغبار شرًّا طائرًا لم يكن في الغبار الساكن … أفتحسب أن حبك إياها هو الحب؟ كلا بل هو بادئ الأمر حبُّك أن تُعجب بك، ثم بزيد فإذا هو الحب أن تميل إليك، ثم يبلغ فإذا هو حبك أن تخضع لك؛ هذه ثلاث كلهن مفسدة، فإن هي أدَّت في رجل واحد من الإنسان إلى فضيلة واحدة أدت إلى ألف رذيلة في ألف رجل من هذا الحيوان.١٣
كل شيء يمكنك أن تضع ضميرك في أوله فتمضي فيه على بصيرة، إلا هذا الحب؛ فإن ضميرك لا يأتي موضعه فيه إلا آخرًا، فإذا أنت أردت أن يحكم قلبك على من تحبها، وأن تأخذ عليها حكم قلبها،١٤ فإنما تريد بنفسك الألم لا الحب، تريد أن تستوحي الدموع، وتخرج منها كلامًا يبكي، تريد أن تزدرع شجرة الجنون التي ينبت فيها زهر الشعر … وهذا لا يسمى حبًّا لحبيبة، ولا يؤمَن إلا على كبار الحكماء، كما لا يؤمن فحص الآلة المُهلكة … إلا على كبار العلماء والمخترعين!

أنت يا هذا إن أحببت خاضع لقلبك، ولكنك أنت وقلبك سائران في طريق قلبها … يقول كل محب في حبيبته: لا هي إلا هي، أفلا يدل ذلك على ضلال الحب، وإفساده ملكة التمييز، وأنه شيء من الخَبَل يعتري فكرة بعينها في العقل، ويُخرجها إلى الهَوج والبَله؟ وإذا ساغ لكل محب أن يقول في صاحبته: لا هي إلا هي؛ فمعنى ذلك أن (الهِيات) … كلهنّ عبث وباطل، وتكون الحقيقة الطبيعية التي يصرّح عنها هذا القياس، أن كل (هِيَ) مثل كل (هِي) في الواقع، ولا انفراد لها إلا في عقل مجنون لا مِساكَ له من المنطق، ولا عبرة به في القياس.

من أعجب الأمور أن الصفات التي يعدُّ بها الإنسان إنسانًا تخضع كلها أحيانًا لصفة واحدة من تلك الصفات التي يُعدُّ بها الإنسان حيوانًا، فإن خدعك بائع مثلًا في دراهم معدودات، لا تُمض الأمر على أنه خدعك، بل تعرف أنه غشَّك، ثم لا ترى أنه غشك، بل ازدراك، ثم لا تقول إنه ازدراك، بل تهزأ بك، وهذه حركة للنفس في اندفاعها إذا تُركتْ تندفع، وتُركت المعاني الغضبية تخوض في دمها.

ومن ثم فلا يكون البائع في رأي نفسك قد سلبك بعض الدراهم، بل شيئًا من القوة التي بها حولُك وحيلتُك، ومن الذكاء الذي تعامل الناس عليه، وسلبك بعض الشأن الذي يجعلك رجلًا ذا بصر ومعرفة، وعلى قدرِ ما يتحرك من ذلك في نفسك يتحرك من الغيظ والحقد إن كنت رجلًا داهيةً ذكيًّا، وبخاصة إذا رأيت البائع لا يبالي أن تعرف أنه تغفّلك، بل يجعل من همّه أن تعرف ذلك؛ فلا تعود الدراهم أشياء كما هي في نفسها من ضعف الخطر والقيمة، بل كما هي في نفسك مما وُضع أمرها عليه؛ فلا تنحطُّ قيمتها إلا بانحطاط قيمة النفس، وتلتحق بمعاني القهر والغلبة، وما كانت إلا من بعض معاني الربح والخسارة.

وعلى هذا المثل يقاس أمر الحب ونكده وجنونه؛ فما هو على قدر المرأة، ولا بمقدار مما تعطيه، وإنما هو استخذاء المعاني الإنسانية، وخضوعها لصفة حيوانية واحدة ينصرف كل ما في هذا الإنسان إليها، والأمر بعدُ كما قال أحد الأطباء في تعليل الجوع إذ قال: إن المعدة متى خّوَّت،١٥ وفرغت من طعامها الذي كان فيها بعثت أعصابها الباطنة برسائلها العصبية إلى ساقة المخ،١٦ وإلى مركز الأعصاب في العمود الفقري؛ تؤذن بأنه صار من الممكن إرسال طعام آخر. قال: فتترجم مراكز الأعصاب السُّفلى هذه الرسائل إلى جوع …

وقل أنت مثل ذلك في القلب، فإنه متى وقعت امرأة من حاجته موقعًا، ظمئ إليها؛ فأرسل رسائله العصبية إلى المخ بأنه من الواجب … إطفاءُ هذا الغليل المحرق، فتترجم مراكز الأعصاب هذه الرسائل إلى حب!

وأنت أعلى عينًا١٧ بأن هذا كله نقلٌ للمعاني الحيوانية إلى اللغة التي تحرك النفس فتُلجئها إلى تسخير قُواها في دفع الألم إن كان حقيقة أو خيالًا؛ فإذا أضلعك أمر الحب، وضقت به، وعجزت أن تصرف القلب عن رسائله، فأشغل العقل عن ترجمتها، وأحْكِم معاقِدَ هذه الخيالات ومقاصدها، وازدَر تلك الحيوانية، وأبق الدرهم على قيمته … ولا تحسبن المرأة مطيعة أكثر مما فيها، ولا تتوهمنَّ أحسن ما يبدو لك منها إذا سَحرَتْ به على عينك إلا صورة مسحورة من أقبح ما فيك أنت، فإن قررت في نفسك هذه القواعد، وأجريت عليها ما يترجم لك العقل من رسائل القلب، جاءك من هذه الرسائل الحكمة، والفلسفة، والكبرياء، والأنفة، أو الصبر والأناة، وخضت الغمرة١٨ بذراعين فيهما السباحة والنجاة، لا الاختباط والغرق!

كذلك أوحت إليَّ روح الشيخ!

•••

في منطق الحس: متى وُجدت الأسباب جاءت النتيجة من تلقاء نفسها؛ لأنها تدور مع أسبابها وجودًا وعدمًا، فاحذف الأسباب تسقط النتيجة، ولكن الأمر عكس ذلك في منطق الحب: احذف النتيجة تسقط الأسباب كلها، فإنك إن لا تفكر في لذة ترجوها، أو تحرص عليها، نسيك الحب قبل أن تنساه، وهل علمت قطُّ عجوزًا تُعشق لأنها عجوز ليس فيها إلا حطام العمر، أو عرفت إنسانًا يحْدس عليها ظنًّا من ظنون الحب، أو يصل بها سببًا من أسباب المطمَعة؟ أما إن هذه الفانية منطق سقطت نتيجته فلا يمكن في الطبع أن تقوم أسبابها؛ فإذا أنت محقت النتيجة وخيالها لم يبق بينك وبين المرأة ماسَّة١٩ منك أو منها، واستحالت إلى منظر من مناظر الجمال يُفهمك أو يُلهمك أو يفسر لك، فلا تنزل منها منزلة الرجل، بل منزلة الفكر، ولا تكون هي منك بمقام المرأة! بل منزلة المعنى!
المصائب والنساء من شقاء الشقي أن يبالغ فيهن؛ فإن ما ينالك من خوف المصيبة ليس منها، ولكنه منك، وما يذهلك من حب المرأة ليس فيها، ولكنه فيك؛ فأنت من ذلك كالذي ينحت صنمًا من الحجر، ثم يصله بمكان الرغبة والرهبة من نفسه، فإذا القدرة كلها قد استفاضت عليه، وإذا الحجر الذي لا يملك ولا حشرة من حشرات الأرض قد تملك رجلًا بعقله وقلبه وحواسه وحيّزه من الدنيا، وإذا هذا الرجل يتعبد بحقيقته لخياله، وبعقله لوهمه، وبعلمه لجهله، وبما يصدق فيه لما يكذب عليه، ولا يبقى الحجر حجرًا، ولا يبقى الرجل رجلًا، وكذلك يصنع عاشق المرأة بالمرأة، وهي عند نفسه كأنما نبت جسمها على صنم معبود؛ يحسب فيها السماء والجنة، وما فيها أكثر من امرأة، ويكون منها في الحب والرضا كحجر الألماس: يلقي عليه الضوء لونًا واحدًا فيخرجه من قلبه ألوانًا ذوات عدد في بريق وبصيص، وفي البغض والنفرة كالجسم المحترق: تحوَّل كله نارًا من شرارة، أو جمرة، أو شعلة، وهو في كلتا الحالتين يُسر ويألم بمادته كلها لقليل طرأ عليه من مادتها هي، فهي شيء واحد، ولكنها بمادته تنقلب جمالًا ملء عينه، وفتنة ملء صدره، وفكرًا ملء عقله، وكذا وكذا مع هِنٍ وهنٍ وهنات.٢٠

إنما هذه سبيل اللذات في الأنفس المريضة التي تزدلف بما فيه لذتها إلى ما فيه هلكها، ولا تُكسبها اللذة شعورًا إلا لتسلبها شعورًا غيره، ولا تهيج فيها خيالًا إلا لتطمس به على حقيقة، ولا تبتعث حرصًا إلا لتغلب به على قصْد؛ فالخمر فيمن يُبتلى بها تسلب الشعور بفضيلة العقل، لتُنشئ اللذات الخيالية التي هي من بواعث الجنون، والمال فيمن يحرص عليه يستلب الشعور بفضيلة الخلق ليُحدِث له اللذات الوهمية التي هي من بواعث السقوط، والمرأة فيمن يُمتحن بها تنتزع الشعور بفضيلة التمييز؛ لتؤتيه اللذات الغريبة التي يكون منها الجنون والسقوط، ضرْب من هذا، وضربٌ من ذاك!

ولن تجد كل جرائر الحب إلا متفرعة من هذين الأصلين، فهي بجملتها داخلة في باب سلب العقل بعضه أو أكثر، وفي باب سلب الخلق بعضه أو كله.

وفي النفس الإنسانية لا تمرض الحقيقة إلى من سوء التخيل فيها، كأن نعمة الخيال إنما وُهبت للإنسان لتخرجه من حدود الحقائق؛ فيفسدها، ويفسد آثارها فيه، فتنقلب من مادة شقائه، وهي مادة سعادته! فالخيال هو القوة التي يثبت بها الإنسان إلى المجهول، وهو نفسه القوة التي يسقط بها إذا تقاصرت الوثبة، أو طاشت، وقلما جاءت إلا من هاتين، والخيال هو العنصر الذي تمزجه بالحقائق ليحدث فيها التنويع؛ فيخرج ثلاث حقائق من اثنتين، وهو نفسه العنصر الذي يستخرج الضرر الكامن في هذه الحقائق متى أسرف عليها، فيُخرج من المنفعة الواحدة مضرَّتين: للحقيقة وللإنسان معًا!

فالمنهوم الذي ينتهي بطنه، ولا تنتهي نفسه،٢١ والحريص الذي يفرغ عمره، ولا يفرغ أمله، والفاجر الذي تذهب مروءته، ولا تذهب لذته، والمدمن الذي يسقط عقله وخياله لا يزال يعلو، والمقامر الذي لا ينفك يطمع في الغنى وهو فقير حتى من الفقر٢٢ … كل واحد من هؤلاء مريض بمرض خيالي واحد، أما الذي هو مريض بشيء من كل شيء، فهو العاشق المريض بامرأة يهواها!

وهل في شقوة الخيال، وشدة غلوائه أعجب من خيال هذا العاشق؛ إذ يرى الجَمال المخلوق كله لا يبلغ مبلغ القبلة الأولى التي لا تزال في شفتي حبيبته لم تخلق بعدُ؟

المرأة في النساء امرأة، كالواحد في العدد واحد، بيد أن خيال العاشق يرقم إلى هذا الرقم الفرد صفًّا طويلًا لا يراه أحد غيره، فالواحد اسمه واحد، ومعناه ملايين كثيرة … وبهذا يصبح العاشق مع المرأة الخيالية كالنسر حطمت مخالبه، وصدع منقاره، ونُسل جناحاه، فاسمه نسر، ومعناه دجاجة …

أفٍّ للشعر! يعلو بالأشياء كلها علوّ الأسرار الإلهية التي فيها، ويعلو بالشاعر على كل الناس؛ إذ كان فيه من روح الله أكثر مما فيهم، ثم لا يكون عقابه على هذا التأله إلا أن يرمي بصاحبه من فوق سماواته تحت قدمي امرأة إن كان في الشاعر روح رجل تام، أو بين سفلة الخلق، وسفاسف الأشياء، إن كان الشاعر مؤنث النفس أو ساقطها.

آه … آه! إن الله لا يُنعِّم قلبًا في الدنيا على أسلوب النعيم في الآخرة، ولكنه ترك للناس أن يعذِّبوا أنفسهم هنا على نحو مما هنالك، فكلما طفئت لهم نار أوقدوا غيرها يحترقون فيها ليذوقوا العذاب لا ليموتوا!

إن لنار الآخرة سبعة أبواب، وكأن كل باب منها ألقى جمرة على الأرض، فبابٌ ألقى الوهم، وآخر قذف الخوف، وثالث رمى بالطمع، والرابع بالحرص، والخامس بالألم، والسادس بالبغض، أما السابع فرمى بالشر الذي يجمع هذه الستة كلها، وهو الحب!

النار في الآخرة، ولكن أرواحها في الناس لتسوق أرواح الناس إليها!

هوامش

(١) قال الراغب: كل موضع ذكر في القرآن َمَا أَدْرَاكَ فقد عقب ببيانه: نحو وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ؛ وكل موضع ذكر فيه وَمَا يُدْرِيكَ لم يعقبه بذلك، نحو: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ قلنا: وهذا من أدق معاني الإعجاز، فإن أَدْرَاكَ صيغة الماضي، والماضي مكشوف معروف؛ لأنه وقع، ولكن يُدْرِيكَ صيغة المستقبل، والمستقبل محجوب؛ فتأمل وكرر النظر، فإن المقام لا يتسع هنا.
(٢) كناية عن الشمس. وتوامض: تبرق.
(٣) ليس همه إلا المعالي، ومصالح الخلق.
(٤) نهضة الأخلاق زمن الصحابة والتابعين، ثم نهضة العلم من بعدهم، ثم نهضة العقل الإسلامي التي كان يدعو إليها الشيخ، رحمه الله.
(٥) أي يرفع بصره، وينظر نظرته الشديدة.
(٦) قابلت الشيخ — رحمه الله — في الجامع الأزهر مرة من المرات، واستأذن عليه طالب من نوابغ الطلبة وأذكيائهم، فلما مثل بين يديه وقف كما يقف المصلي — واضعًا يديه أسفل صدره، راميًا بطرفه إلى الأرض — وتكلم كالمناجي المتضرع حتى فرغ وانصرف. فأعظمت ذلك، ولما خرجت لحقت به، وكلمته فيه، فقال: وأنا أنكرت من جلوسك إلي جانب الشيخ تلك الجلسة ما أنكرت أنت من وقوفي على تلك الهيئة. لو تعلم أن أحدنا لا يقف أمام هذا الرجل إلا كما يقف العالم إزاء كتاب نادر مضى يفتش عنه عدة سنين، فلما رآه سجد لله شكرًا، وأنت تحسبه يسجد للكتاب.
(٧) مناسك الحج: عباداته، وكذلك مواضع العبادات.
(٨) لما انتهيت إلى هذا الموضع من الكتابة، وفرغت من صفة الشيخ دهمتني فجأة من فجآت المرض أنستني بأيامها كل ما كنت أريد أن أخطه في هذا الفصل، وكسرت حدة نفسي، وهيأتني تهيئة جديدة لكلام جديد، فكان هذا من أعجب ما اتفق.
(٩) تعكسها: أن يتراجع بعضها على بعض في انسحابها.
(١٠) أثناء ذلك، تقول: هو يتكلم، ويعمل كذا بين ظهري ذلك، أي في أثناء الكلام.
(١١) أي ذاهبهما.
(١٢) أمرًا غريبًا.
(١٣) كان أكثر زجر الشيخ لأحد أن يقول: «يا حيوان!» فيوبخ ولا يقول إلا حقًّا.
(١٤) أي لا يحكم قلبها عليها إلا بما أردت أنت.
(١٥) أي خلت، والخواء (ويقصر): خلو الجوف من الطعام.
(١٦) الجزء الخلفي منه.
(١٧) أي أبصر بذلك وأخبر.
(١٨) اللجة ومكان التيار.
(١٩) أي صلة وشابكة.
(٢٠) أي مع كذا وكذا وأمور أخري مما يمكن أن يكون.
(٢١) يمتلئ بطنه ولا يزال يشتهي.
(٢٢) المراد أنه نزل من العدم والحاجة منزلة قد يكون فقر الفقراء عندها شيئًا يسمى يسرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤