وفاء الزمان – سجل التوبة للريحاني

ألَّف الريحاني رواية «وفاء الزمان» في الفردوسي، وأخرج مخائيل نعيمة كتاب «جبران خليل جبران»، فكان الأول مسرحيًّا، والثاني قصصيًّا وكلاهما لم يوفقا إلى الفن.

الريحاني ونعيمة تقضى شبابهما في بلاد الدولار، ونهلا من ينابيع الثقافة الأميركية الإنكليزية، لهما آثار واضحة في النهضة الحديثة لا يُنقصها فقدانُها بعضَ جِدَّتها.

كان كتاب نعيمة أسبق ظهورًا فهو أولى بالتقديم، ولكن هذه القافلة الفردوسية السالكة طريق التجارة القديمة حاملة إلى بلاد فارس مرًّا ولبانًا — كالمجوس من قبل — تخفى علينا آثارها إذا تباطأنا عن ترسم خطاها. والحمد لله في كل حال لم يفتنا «الموسم» وقلنا في الفردوسي نثرًا وشعرًا.

ما كنا لنُعنَى بنقد هذه المسرحية لو لم تكن للريحاني كبير كتَّابنا والزعيم الأدبي الذي له في كل معركة غبار، وفي كل عرس قرص، ولولا أن ظهور المسرحيات في جونا الأدبي كظهور مذنب هالي.

للريحاني «الجديد» خطب ومقالات اجتماعية وسياسية … حتى الصحية. وله روايات وقصص وكتب رحلات عربية وإنكليزية. وللريحاني «القديم» ترجمة نتف من لزوميات أبي العلاء، وله شعر إنكليزي، وله كتاب «المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية» الذي شهره فتحدث الناس به، وله أيضًا نبذة في الثورة الإفرنسية، وقصة المكاري والكاهن التي أعاد طبعها هذا العام.

قلنا: إن الريحاني لم يوفق لتكوين مسرحيته الفردوسية، وأنَّى يوفق من يصبغ صبغًا؟ فالرواية فصلان في ست وثلاثين صفحة — قطع وسط حرف أول — يرفع فيها الستار اثنتي عشرة مرة، فتأمل.

أما موضوعها فالأسطورة التي نسجتها عناكب التاريخ على شخصية الفردوسي، وتناقلتها الصحف والمجلات بمناسبة ذكراه الألفية. لم يزد الريحاني عليها شيئًا غير شخصية «الزمان» و«الجمال» الذي رافقه الفردوسي، فكان أبلغ من الشاعر والزمان، مع أن المثل يقول: إن لم تعلِّم ابنك فالزمان يعلمه.

وإليك عرض الرواية: في المشهد الأول يحلل الريحاني عقلية السلطان الروحية في حوار رائع مع الشاعر يكاد يدنو من الواقع. ويتدرج إلى مجاملة الشاعر بلباقة وفن — وإن سمَّاه الفردوسي قبل الأوان — أما حمل السلطان كلام الشاعر عنه وعن الرسول محمل الظَّرف فهذا كثير، ولا يحدث مثله عندنا فكيف يكون منذ ألف عام؟ وأغرب منه أن يكره سلطان فارسي «المجاملة» ويعدها تبذلًا غير خليق بالشاعر. إن بدعة التبجيل والتعظيم كان الفرس دعاتها بين العرب، فدنَّا بها ولا نزال نركع ونقوم في هيكلها الرميم.

فنحن — ولا فخر — إذا لم نسلم على الكتَّاب والشعراء بألقابهم «بنصها وفصها» عدُّونا ممن يبخسون الناس أشياءهم ولا أدري ماذا؟! وحمَّلوا البريد إلينا رسائلهم «اللقيطة» النامَّة عن وجوههم العظمية.

عفوًا لقد شط القلم … وينجلي المشهد الأول عن تعهد السلطان للفردوسي بدينار عن كل بيت تدفع ألفًا بألف، أما الفردوسي فيرى أن يقبض المال جملة ويبني السد المزعوم الذي يتغنى به شعراؤنا.

ويرخى الستار ليرفع عن وزير يفاتح السلطان الكلام، وهذا لم يألفه الملوك القدماء، وتبتدئ محنة الشاعر فيكيد له حسن واياز، ويغالط المؤلف نفسه فينسى ما قاله في المشهد الأول، فنخبر في هذا المشهد وما يليه أن الفردوسي ملحٌّ ملحفٌ.

وبعد المناقشة يخرج حسن واياز ويرخى الستار ليرفع عن المشهد الثالث فيظهر السلطان وحده في المكان عينه، ليتكلم دقيقة أو أقل، ويقول: «إن الفردوسي مثل سائر الشعراء مسترفد، لجوج، شتَّام.»

لقد حيرني إرخاء الستار ورفعه هنا ولم أفهم حكمة الريحاني فيه.

أما المشهد الرابع ففي طوس. الفردوسي ببيته عاتب ساخط على السلطان، يعجب كيف لا يأمر وزيره بقضاء حاجته فيقول: «أأستدين ثم أستدين ثم أستدين … أطلب من اللئيم الجالس في باب الخزنة مائة دينار فيرسل إليَّ عشرة دنانير!»

وفي آخر هذا المشهد، وهو خاتمة الفصل الأول، يوزع الريحاني «الملبس» فيقول بلسان الشاعر: «لولا الحاجة — أي الدنانير — لوضعت كل دينار في بعرة جمل وأرجعتها إليه.»

الفصل الثاني: وهنا يبتدئ التقطع والتفكك؛ ففي المشهد الأول، وهو صفحة واحدة، يجتمع السلطان ببطانته ليقول لوزيره حسن: «أرسل إلى الفردوسي حمل فيل ذهبًا، ستين ألف دينار.» فيقنعه الوزير بإرسال ستين ألف درهم من الفضة، ويرخى الستار.

أما كان يقدر الريحاني على قول هذا بلسان أحدهم في المشهد الثاني، فيستريح ويريح ويرضي الفن، رضي الله عنه؟

وفي المشهد الثالث يدخل «الزمان» على الشاعر في بيته. في هذا المشهد روعة عظيمة لولا حدة في الشاعر تشبه الجنون، فلو قللها أمين لكانت أبرع. لعل له عذرًا فربما نسي أنه يحدثنا عن الفردوسي. لعله تخيل شاعرًا آخر في تلك اللحظة فشوه الصورة.

وفي المشهد الرابع يهدر السلطان كالجمل الهائج ويسب الشعراء جميعًا. وضع أمين قصيدة الهجاء في يده ولم يبالِ بشكوك المؤرخين. يا ليته فعل هذا في كثير من المواقف فأنقذ روايته من القحط والجدب. وماذا عليه؟ فحياة الفردوسي أسطورة وشعره أساطير.

أما الطعن في الشعراء جميعًا، والنيل منهم كلهم بلسان هذا السلطان، فما أشبهه بعمل يوسف وهبه في روايته «الدفاع». أفسد الرجل فنه وجعل المحكمة المصرية ملهاة وملعبًا ليغمز على اللبنانيين؛ إذ أبرز ذلك الشاهد العنتري الديابي الهلالي الذي أخذ صورته عن «صندوق الدنيا».

أما المشهد الخامس ففي الطريق، وعندي أن يجلس رفيقا السفر: الشاعر والجمَّال، لأن ما قوَّلهما إياه المؤلف يقصر دونه المسرح، مهما بعد مداه. وحديث كهذا أخلق بالجلاس منه بالمشاة. المشهد جميل ولا غرابة فيه إلا أن هذا الجمَّال — قاطع الطريق — كان يستجوب الفردوسي ويستنطقه كالممتحن ثم يقول له: أعد الرمي … ولم يكن ينقصه إلا أن يربِّته!

وفي المشهد السادس يندم السلطان، ويأمر رئيس الديوان بأن «يعد» ستين ألف دينار ذهبًا، وإذا نقص شيء فليرسل بقيمته ليلًا.

وفي المشهد السابع تمر جنازة الفردوسي، والجمَّال واقف مع رفيق له يتذكر صحبته الشاعر منذ عشر سنوات. ويأتي رسول السلطان بالمال … إلخ. ما شبَّهت هذا المشهد إلا بما يمثله النصارى في القرى يوم «سبت إلعازار» وأظن أمينًا يتذكر مثلي ذلك ولا ينساه.

هو ذا اليابسة. قد بلغنا المشهد الثامن وهو الأخير، فتنفس معي أيها القارئ الكريم، واستعد لتنظر «الأب نويل» ثانية! فهذا الزمان قد ظهر بعد ألف سنة. هنا تظهر شخصية الريحاني بكل خطوطها فيقول ما يريد أن يقول، ويقرر ما يريد أن يقرر من «الحقائق»، بلا شك ولا تجمجم. لا يحسب لتقلبات الزمان حسابًا. أفلا يرى معي أمين أن زمانه خرف إذ يقول: المستقبل للعلم الذي فيه خير الناس أجمعين وحرية الأمم جمعاء، لا للمال المستعبد للشعوب.

هل قضى على الشعوب المستضعفة وأقض مضاجعها واستعبدها واحتلبها — فنيًّا — غير هذا العلم الجشع الميت الضمير؟ أليس باسمه يعاني الضعيف ما يعاني؟

كان على الأستاذ أن يأتينا بخير ما عنده من البضاعة الفنية، ولا يضع بفم الزمان هذا المبتذل من الكلام، ولا يسمعنا هذه التطويبات والدعوات والتمجيدات! أيفكر الزمان يا ترى أن يفتخر بما جعله الريحاني يفتخر به؟ لقد بذَّ أمينٌ المتنبيَ، وابن هانئ، وكل شاعر عربي.

ومجمل الرأي في هذه المسرحية أنها «كدرب الصليب» ولا ينقصها إلا النشيد واللازمة. وأبشع عيوبها قلة الخطوط التي تميز الأشخاص، وهذا أهم ما يتطلبه الفن من الروائي؛ فهو كالمثَّال. وأشهد أنني لولا قصة الفردوسي المعروفة ما عرفته في رواية وفاء الزمان؛ إنها لم تظهر لنا منه غير رجل متكالب على المال، أما مثله الأعلى في الحياة فما فهمته من هذه الرواية، ولا من قصائد الشعراء.

الوزير هنا يصلح أن يكون وزيرًا في الهند أو الصين ولا بأس عليه، والشاعر ككل الشعراء بل هو والجمَّال سواء، والبيئة ككل مصر من الأمصار الإسلامية المستعربة. إن إنطاق أشخاص من الفرس كما كانوا ينطقون منذ عشرة أجيال لمهمة شاقة لا يحققها إلا درس عميق طويل؛ ولهذا تاه الأمين في صحراء الفن مع أنه لم يته في الدهناء!

أما الحوار فكان يستقيم حينًا ويلتوي غالبًا، وحديث الجمَّال — لولا تلك الفلسفة العالية — كان خير الحوار، فكأني بأمين تمثل مكاريًّا نبيهًا يرافقه فأجاد — لولا التفاصح.

والختام لم يكن فيه شيء من «المسك»، فالزمان كان كخطيب فاته الختام البارع، فانقض كجلمود امرئ القيس، يتكلم ولا يعلم كيف ومتى ينتهي! لقد كان على الزمان أن يبقي شيئًا في نفسه، وإن لم يفعل الزمان هذا فمن يفعله؟

إن الزمان في المشهد الأخير كان محاضرًا لا ممثلًا.

وبعد؛ فقد تصادف هذه الرواية استحسان الناس — كما قالت الصحف الغراء — ولكن الفن لا يقوَّم باستحسان الجمهور، فالناس يسرهم ويدهشهم شيخ كالزمان طويل اللحية يدب على العصا، وكم تدهش اللحى الطويلة، فهي وحدها رواية.

فليت أمينًا كتب قصة ولم يؤلف مسرحية نيئة فجة، ليته فكر طويلًا ليقطع بالحجة أولئك الذين ينعون على العرب قلة الإبداع والاختراع، منذ أيام الجاحظ.

وقصارى الكلام: ليس في هذه الرواية جهود فنية بارزة تنبئنا أن صاحبها انخرط في سلك جوقة تمثيلية أميركية. فما هي غير عرض حكاية لا عمل للخيال فيها، ومشاهد متعددة، مفككة أسرع من جنازة بشار لا تؤلف مسرحية، ولا سيما أن الريحاني كان كالملقن الأجش، صوته لا يختفي، وأكبر عيوب الرواية ظهور شخصية المؤلف في أبطاله.

أين اختفت شاعرية الريحاني، وأين توارى خياله الخصب؟ هذا ما سألتنيه نفسي واحترت بماذا أجيبها.

أنا أعلم أن الريحاني مغامر يكتب في كل باب — حتى قال الشعر الموزون مرة في زحلة — وهو يخرج كتبه بسرعة مدهشة، فما أظنه إلا اكتفى بلقب الفيلسوف وما إليه، وكم يجني الإطراء الجزاف على الأدب والأدباء. إنني أنصح له أن يتقن ويمحص، فالغد هدام زلزال.

أما تصحيح الأخطاء المطبعية فليته تركه فقد عرف شيئًا وغابت عنه أشياء.

فالزمانَ نسألُ أن يسدل على هذه المسرحية خصلة من لحيته الطويلة، وقد كان على الريحاني قبل شحنها إلى إيران أن يكتب عليها: سريعة العطب.

اللهم، إنها شدة شديدة فاسترها.

سجل التوبة

هذا عنوان كتاب «يتيم» ألَّفه فيلسوف الفريكة، أبو الشعر المنثور. أبصرت هذه المجموعة القصصية النور، منذ أسابيع، بفضل القيِّم والوصيِّ الوفي الأستاذ ألبير الريحاني شقيق أمين، وعناية دار المعارف بمصر.

خلق الريحاني مطبوعًا على القصِّ فكان فيه غير متكلف ولا متعمل. ظهرت باكورة أدبه فيه يوم أخرج «المكاري والكاهن» و«المحالفة الثلاثية» فكان الأمين فيها كليهما كاتبًا واقعيًّا وإن تخيلهما. ثم راعينا هذا النجم الذي تألق على منابر العالمين الغربي والشرقي، فإذا بنا نرى أبرز عناصر أدبه في خطبه هو القص الذي يسترعي الانتباه، بل يفتن ويغري.

فأمين لم يكن غير واقعي إلا في شعره المنثور الذي طبعه على غرار شعر ويتمان الأميركي، ثم بهَّره وفلفله بشيء من توابل الصوفية الشرقية.

أجل كان أمين في هذا اللون البكر من الأدب متصوفًا، ثم عافه وصار نضاليًّا صرفًا. عدى عنه إلى أدب الرحلات والروايات والأقاصيص فكان في هذه كلها كاتبًا وشاعرًا وأديبًا، وناقدًا أدبيًّا، واجتماعيًّا، وفنيًّا، وسياسيًّا مخلصًا للعرب داعيًا إلى توحيد ملوكهم وأمرائهم ورؤسائهم، كما يعرف كل من قرأ «ملوك العرب» وغيره. ولكن الأمين ظل في تصانيفه التي لا قرابة بينها وبين الشعر المنثور دائم الحنين إلى هذا الحبيب الأول فرصَّع كتب رحلاته به.

ورأى الريحاني، بعد «المحالفة» «والمكاري»، أن يكتب روايات، فكتب: «زنبقة الغور» و«خارج الحريم». أما عنوان الرواية الأولى فلعله ينظر إلى أحد عناوين بلزاك، ولا إخالك تجهل لأقول لك: إن أمينًا حاول في فجر حياته محاولات جمة، فمن فتًى يلتحق بقافلةٍ مسرحية ليكون ممثلًا فلا يفلح، إلى طالب حقوق لم يثبت، وإنا لنحمد الله على فشله في تلك الميادين، فلولا ذياك الإخفاق ما كان لنا هذا الأديب العالمي.

وأخيرًا وجد أمين ذاته فكان الكاتب الممثل حين يخطب، والمحامي الفيلسوف حين يكتب، وكأن حنينه إلى المسرح لم ينقطع فكتب مسرحية «وفاء الزمان» بمناسبة ذكرى الفردوسي الألفية، وها نحن نقرأ له اليوم في «سجل التوبة» مسرحية رائعة عنوانها: «عبد الحميد»، وهي إحدى أقاصيص السجل الخمس. إن هذه الأقاصيص مختلفة البيئة والألوان، فواحدة إسطمبولية، وأخرى تسالونيكية، والثالثة بابلية، والرابعة نيويوركية، والخامسة لبنانية سورية، وهي جميعها نضالية تحارب الطغيان والرجولة المنحطة في كل مكان وزمان.

عاش أمين مكافحًا هذه الرذائل، وما ألقى سلاحه إلا ستة عشر يومًا غيب القبر بعدها ذلك الوجه الإنساني النبيل.

قالوا في عمر بن أبي ربيعة: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر، والريحاني الذي لم يفلح الفلاح كله في «وفاء الزمان»، لقد وفق جدًّا في مسرحية «عبد الحميد» المار ذكرها. وأمين الذي كان قصاصًا عاديًّا في «المكاري والكاهن» أمسى قصاصًا فنانًا في «نبوخذ نصَّر» وغيرها من أقاصيص سجل التوبة. ولا أستثني من هذا القول إلا أقصوصة «بقضاء وقدر»؛ لأنها دون أخواتها، وقد تكون السياسة هي التي أفسدتها. كان الريحاني في «خارج الحريم»، و«الزنبقة» يحوم في جو غير جوه، أما هنا فكتب في شئون عجنها وخبزها فلم يكن عنها غريبًا.

وبعد؛ فيظهر لي أن «اليتيم» محروس معان، فإذا نظرنا إلى بواكير قصص أمين بإعجاب فليس لأنها فنية أصولية، بل لأنها نادت بفكرة إصلاحية، وحملت على التقاليد الهرمة فكان أمين طليعة كتَّاب العقل في صبح القرن العشرين، فأعلنها حربًا عوانًا.

إن القص هو أبرز خواص فيلسوف الفريكة؛ فهو إذا حدثك عن أتفه الأشياء أحسست بمتعة لا تجدها في كلام غيره من المتأنقين. كان أكره ما يكره أمين شيئين: الاستبداد والتعصب الديني، فكانت مكافحتهما نجمة قطبه في خضم الحياة. فإذا قرأنا الأقصوصة الأولى «شريف أفندي» وجدناها كفاحية، ترينا كيف يحن الشعب إلى نيره، بينا هو ينتقل من مخالب نسر إلى براثن نمر. أما أقصوصة «عبد الحميد» المسرحية التامة الألواح فغرضها معروف من عنوانها. لقد سلط أمين على ذاك الطاغية الجبار أشباحًا شكسبيرية راعبة، فكادت أن تكون هي وأقصوصة «نبوخذ نصَّر» من الروايات العربية التي تستحق أن يكتب على جلدها: لا تقرأ ليلًا، كبعض أقصوصات «بو» مثلًا.

وإذا كانت أقصوصة «عبد الحميد» المسرحية رائعة جدًّا، فأقصوصة «نبوخذ نصر» في القمة القصصية فنًّا وفلسفة. كأني بالريحاني قد تشبع من حكاية هذا الطاغية في التوراة، وأعجبته كثيرًا حتى شبه حاله ببطلها في كتاب «ملوك العرب»، حين سئم اللحم الذي كان يصبحه ويمسيه مدة ثلاثة أشهر. وحن إلى العشب فقال عن نفسه: «تبعت «مبارك» إلى مواطن المرعى الطيبة، ورحت أرعى كالبعير، بل رحت أدب على الأربع مثل نبوخذ نصر آكل الحشيش.» (ص١٣٤ جزء ٢ الطبعة الثالثة).

ربما لا يعرف القارئ العزيز حكاية نبوخذ نصر. هذا الطاغية كان ملك بابل أيام سبي يهوذا، فتنبأ له دانيال أنه يطرد من مملكته ويعيش دابًّا على الأربع كالبهائم، حتى ينقضي الزمن المفروض، ثم يعود إلى ملكه بعد انقضاء زمن التوبة. لعل هذا قد ألهم الريحاني قصته هذه، ثم أوحى إليه هذا العنوان، «سجل التوبة»، الجامع شتات أقاصيصه الخمس.

وفق أمين توفيقًا عظيمًا في قصة «نبوخذ نصر» التي اخترعتها مخيلته، وقديمًا كانت التوراة مصدر إلهام للكتَّاب والشعراء الكبار، وأمين واحد منهم، فجعل من نبوخذ نصر عبرة للطغاة المستبدين. نصر عليه بالادان أحد أفراد رعيته، فانتقم نبوخذ نصر من هذا المتمرد انتقامًا غريبًا عجيبًا. لم يرضَ له بالموت؛ لأن في الموت راحة، ولكنه أخيرًا مات غصبًا عن الملك، وأخذت روحه تصارع الملك فتظهر له في كل آنٍ وتعذبه، وكان خاتمة هذه المأساة الرائعة ما قصته عليه هذه الروح من أخبار العالم الآخر فاضطرب نبوخذ نصر، ومات معذبًا.

يمضي أمين في تصور «الآخرة فيذكرنا برؤى أغوسطينوس وحكاية الإنجيل عن الغني المعذب في النار»، وظل يطارد نبوخذ نصر حتى «شفي من أمراض الحياة كلها» أي مات، وكم لأمين من تعابير جميلة كهذا!

أما أقصوصة «إكليل العار» فطريفة كأختها، وتزيد عليها هذا السخر الناعم الذي يبدأ بالعنوان وينتهي بالختام. إن خواص القصة الأصيلة تتجمع في «إكليل العار»، فهي متشابكة الحوادث بلا تعقيد ولا كلفة، يصور فيها الشخوص تصويرًا ممتعًا، فيرينا حركات أناس كثيرًا ما نراها، فنكاد نقول: هذا فلان! وإن كان لي شيء يقال هنا فهو أن المؤلف قطع كل صلة بين بطل قصة «إكليل العار» ومعشوقته الأولى، فزحلت عن عتب الطريق تاركة توفيق زيدون يمضي بسلام. ولكن هذا طبيعي لأنه يحدث في مجاري الحياة العامة.

أما أقصوصة «بقضاء وقدر» فليست كأخواتها، ولهذا أقسم «سجل التوبة» ثلاث طبقات؛ الأولى «نبوخذ نصر»، و«عبد الحميد»، و«إكليل العار»، والثانية: «شريف أفندي»، والأخيرة، وهي أخيرة حقًّا، قصة «بقضاء وقدر»، ولعل الأمين قد كتبها بعد المنفى فلمَّح ولم يصرح.

إن فيلسوف الفريكة لم يكن مقلًّا كجبران، ولا متنوقًا مثله، ولهذا تجد في كلامه الرائع والعادي؛ فهو في نثره كخليل مطران في شعره، دنيا من الفن والفكر فيها القمم والشماريخ، والأودية والكهوف والهُوَى.

كان على الواقفين على طبع «سجل التوبة» أن يصححوا بعض تعابير مثل: «فإذا بتوفيق زيدون واقفًا هناك»، فهي واقف لا واقفًا. كونوا إخوانًا فتثرون وتسعدون، ومثل: وإليك الأجرة، وإن كان الكثير من الكتَّاب يستعملونها بمعنى خذ. ثم قوله: بخمر أرمني معتق. وتلصصني.

إن التعبير الصحيح شيخ السفرة في المآدب القلمية، ولكن شيئًا آخر يسد مسده عند أمين ألا وهو تلك العبارات الشخصية الطريفة التي يرسلها الريحاني هنا وهناك فتنعش وتحيي الكلام. إن خلق مثل هذه الروائع لا يستطيعه إلا عبقري كالريحاني، أما تصحيح ما ذكرت فيستطاع كل حين، ولكن تصحيحه ضروري؛ لأنه كالكلف في الوجه الجميل.

رحم الله الريحاني الأبيَّ، سفير العروبة المسخَّر يوم لم تكن السفراء، فعرَّف العالم بنا. لقد أعطى أمين وأخذ، وحلاوة الدنيا كلها الأخذ والعطاء، شرط أن يكون ما يُؤخذ ويُعطى حلالًا زلالًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤