تاريخ الأدب العربي للأستاذ ح. فاخوري

عندما مات لانسون قالوا في كتابه «تاريخ الأدب الفرنسي»: «إنه شحيمة الأدب» أو «السواعية»؛ أي كتاب الصلوات المفروضة تلاوتها على كل كاهن. وهذا الكتاب الجديد الذي ألفه الأب حنا الفاخوري البولسي سيكون شحيمة كل متأدب، وسواعيَّة طلاب البكالوريا؛ فهو أوفى الكتب وأجمعها وأحدثها تصنيفًا في هذا الموضوع الحديث العهد عندنا.

كنا قبل أن صنفت هذه الكتب المدرسية المنهجية، ندرس الأدب في مراجعه العديدة، فنجوب الأدغال ولا نعرف الطرق المعبدة، ولا هذه «القادوميات». أما اليوم فالعصر عصر صندويش، وفي استطاعة المتأدب أن يمر بالأدب العربي كله بأسبوع، ولكنها مرة كرام!

وهذه الطريق في التأليف شقها لنا المرحوم جرجي زيدان متبعًا في رسمها الهندسة الإنكليزية، فقسم العصور الأدبية تبعًا للتطورات السياسية، وترجم للشعراء والكتَّاب فكان كتابه الصادر قبل الحرب العظمى الأولى مثالًا طبع على غراره باحثو الأدب العربي ومؤرخوه ودارسوه.

أما كتاب الأب فاخوري الحديث فمعمول على أحدث طراز، يجمع إلى رصانة التعبير دقة التفكير والتحليل، وجمال التصنيف والتبويب، يعطيك في أول كل موضوع خلاصة ما ستقرأ، وهي تكاد تكون ما يسمونه «خطة»، ثم يمضي توًّا في التفصيل فلا يتنكب ولا يضل، كأنه وضع نصب عينيه تلك الكتب التي كثرت في أوروبا. فطبع كتابه على غرارها. وإذا لم ترَ عنده ذاك التطويل الفرنجي؛ فلأن شعراءنا محدودو الآفاق، وليس لهم ما لأولئك من مواضيع متنوعة. ترى عند القوم القصصي، والمسرحي، والناقد، والكاتب، والشاعر في شخص واحد، ولا ترى عندنا إلا الشاعر والكاتب الضيق التخوم، ما خلا بضعة أشخاص من أدباء منهجنا.

والمؤلف يتبع أيضًا خطة الفرنجة في ذكر المراجع عربية وأجنبية، ثم يختم كل دراسة بمواضيع شتى للبحث فيخفف كثيرًا من التعب على المدرس والدارس.

صدَّر المؤلف كتابه بمقدمة نفيسة بحث فيها اللغة العربية ونشوءها وتطورها إلى أن سادت لهجة قريش ونزل الكتاب الكريم بها فثبتها.

لا أظن أن القرآن ثبتها فقط، بل إنني أرى له في هذا شأنًا أجل وأعظم؛ فهو الذي رفعها إلى أعلى عليين في سموات الجمال الفني، وحدد لكلمات كثيرة معانيها، وهذا ما عجزنا عن الاتفاق عليه نحن اليوم. ثم أدخل عليها تعابير خاصة، وكلمات جديدة منها عربية فتغير معناها للدين والشرع، ومنها غير عربية احتيج إليها. ولا ننسَ أسماء الأعلام التي عربت فكانت لها الرشاقة وحلاوة الجرس اللتان فاقت بهما العربية أخواتها الساميات، ثم نشأت قواعد الوقف لتجويد تلاوة القرآن، بل كل العلوم اللسانية حتى النقد الأدبي لأجل فهم القرآن وإدراك سر جماله وتجويد تلاوته وقراءته. وهكذا صار القرآن الكريم دستور الدين والأدب؛ فهو الذي أوصل النثر إلينا كما كان يحكى يوم نزَّله الله على عبده، فكان أعظم أثر أدبي يصل الأرض بالسماء.

قلت: إن القرآن الكريم أدخل على اللغة العربية كلمات جديدة وحدد معانيها ومعاني غيرها من الكلمات العربية وهذا ما ينقصنا نحن اليوم. فأسماء الأعلام — مثلًا — يعربها كل واحد منا كما يشاء، فواحد يقول: غوت وآخر جوته، وذاك جيته وهذاك جوت. ومثل هذا يقال: هوغو، هيغو، وهوجو، وهيكو.

أما الألفاظ الأخرى كالأدب الرومنتيكي فأحدنا يقول: الأدب الإبداعي، وثانٍ يسميه الأدب الوجداني، وهكذا دواليك. وها هو ذا مؤلف هذا الكتاب القيم يقول: الأدب الإنشائي أو الإيجادي، والأدب الوصفي، أو الموضوعي، ثم يسمي فن عمل التماثيل النقش، ويسمي التصوير الرسم، وهذا ما نرى مثله في كل كتاب، وعند كل مؤلف. هكذا ضاعت الطاسة ولم نتفق على كلمات لهذه المسميات التي نحتاج إليها كل ساعة، فمتى نضع حدًّا لهذه الفوضى، ومتى يفهم القارئ معنى كل لفظة كما حددها العرف الحديث؟

وقد تكلم المؤلف الجليل عن «عناصر الأدب» فقال: «والآثار الأدبية الخالية من الفكر أو المشحونة ضلالًا لا يمكنها أن تعد أدبًا حقيقيًّا.»

إذا كان يريد حضرته بقوله: «الخالية من الفكر» تلك الفقاقيع الصابونية البراقة من «إنشاء» بعضهم فهو مصيب؛ لأن هذا أدب زيزفوني … أما قوله: «المشحونة ضلالًا» فلا أظن أن للضلال شأنًا يذكر في الفن، فالأدب، من حيث الفن، لا يعنيه الضلال والهدى. فالصورة الرائعة رائعة، سواء ألعشتروت كانت وللسيدة العذراء، عليها السلام. إن الجمال الفني لا يفقد من الأثر إذا خلا من الحقيقة؛ لأن الحقيقة مختلف عليها، فما هو ضلال في نظر هذا، ربما كان عين الحقيقة عند ذاك، والله أعلم، والحساب في ملكوت الله لا في دنيا الفن.

وقد تكلم أيضًا في هذا الموضع عن «الذوق» فجعله آخر عناصر الأدب، فليته جعله الأول ثم أطنب وغالى في وصف أهميته، فلو لم يكن الذوق الفني متأصلًا في نفس الفاخوري ما أخرج للمدرسة العربية هذا الكتاب الرائع. والفاخوري مسلط على طينه يجعل منه إناء للكرامة وإناء للهوان، كما قال بولس شفيع الأب فاخوري. ثم يتكلم عن أثر الدين في الأدب ويراه مكونًا للأديب، وهذا حق. فالدين، إن أحب الإنسان أو كره، يظل له الشأن الأكبر في منتوجات الأديب الحق، وبرهاننا على ذلك الجاحظ وأبو نواس والمتنبي والمعري وغيرهم وغيرهم.

إن مطالعة هذا الكتاب تردني إلى بحث الكلمات الوضعية Techniques فالمؤلف يسمي شعر زهير في مَن ومَن ومَن شعرًا تعليميًّا. أما الذي أراه أنا فهو أن نطلق كلمة الشعر التعليمي Didactique على مثل ألفية ابن مالك، والقصائد التي ذكرها الجاحظ في كتابه «الحيوان». أما مثل شعر زهير وغيره فهو الحكمي. أما كلمة الجاهلية فهي لا تعني الوثنية أبدًا، بل هي تعني النخوة المتطرفة التي اشتهر بها العربي حتى قال: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا. ولما جاء النبي بشيرًا بالحق، علمهم بالمثل سعة الصدر والانتصار للحق، ولما تحمس أحدهم في حضرته قال للمجلس: إن أخاكم به جاهلية فانصحوه، أو أرشدوه لا أذكر. أما دراسة المؤلف للشعراء فكافية وافية فهو لم يترك شيئًا لا بد منه. خذ مثلًا درسه امرئ القيس؛ فهو يحدثك عن كل غضون تلك الشخصية الفذة ومنعرجاتها حتى «النقل الآلي الجامد» فينزه امرئ القيس عنه، وهذه نقطة حساسة جدًّا في الفن، فالأديب الحق مصور يدوي لا مصور شمسي. عليه أن يخلق ما يرى خلقًا جديدًا ويضع فيه الكثير من ذاته. إنه كالنحلة — كما قلت غير مرة — التي تصنع الشهد بعد أن تأخذ مادته من هنا وهناك وهنالك.

وقد أعجبني جدًّا من الأب فاخوري إدراكه الدقيق للموسيقى في شعر يعده غيره أتفه ما قاله امرؤ القيس.

تطاول الليل علينا دمون
دمون إنَّا معشر يمانون
وإننا لأهلنا محبون

ليس هنا جمال، ولكن هنا موسيقى عميقة تترك في النفس ما يتركه رنين الجرس الضخم بعد انقطاع القرع والدق.

وبعدُ؛ فلا يتسع المجال — الآن — لنقد الكتاب كله، ولكنه كله على هذا النمط: زي فرنجي من قماش عربي مفصل على القد، فليت مؤلفه يقدمه إلى معرض الشيلي للكتاب التعليمي فيبيض وجهنا وينال الجائزة إن كان لهذا المعرض جوائز. وإذا اطلع عليه المستعرضون الذين يجهلون العربية فلا شك أن ما فيه من رسوم فنية رائعة يعرفهم بالوجه العربي النبيل الذي أحسن إلى الأدب والثقافة العالمية؛ إذ حمل مشعلها أربعة قرون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤