الشاويش يتدخَّل

في صباح اليوم التالي أسرع «محب» و«نوسة» إلى منزل «عاطف» و«لوزة» حيث اعتاد المغامرون الخمسة أن يجتمعوا في الحديقة الواسعة، وكان البستاني قد زرَع في الحديقة بعض أشجار الطماطم … وكان الأصدقاء يتسابقون في اكتشاف الثمرات الناضجة، وكانت والدة «عاطف» قد سمحت لهم بأكل ثمرات الطماطم الناضِجة. فكان من يَعثُر على واحدة منها يُسرع بغسلها بالماء البارد وأكلها، وكان مِن رأْي «محب» أن هذه أشهى طماطم أكلها في حياته.

أسرع الشقيقان إلى الحديقة مُبكِّرين … وانصرفا إلى البحث عن ثمرات الطماطم الطازجة … ولكنَّهما لم يَجِدا ولا واحدة … ثم فُوجئا في نهاية الحديقة ﺑ «تختخ» يجلس وقد وضع أمامه كمية رائعة من الثمار المغسولة … لقد سبقهم هو و«زنجر» واستولى على الثمرات الناضجة كلها!

صاح «محب»: أعطني واحدة.

قال «تختخ»: بعظَمة آسِف جدًّا، إنَّني لا أعطي الكُسالى من أمثالك شيئًا.

عاد «محب» إلى الترجي: أعطني واحدة … وسوف أعطيك واحدة بدلها غدًا. أو بعد غد.

لوى «تختخ» فمه قائلًا: لقد أوضحتُ لك موقفي، ولا أحب التراجع.

وكانت «نوسة» تقف تتفرج على المشهد الظريف أمامها وهي تَبتسِم، وقد انضم إليها «عاطف» و«لوزة»، فقال «محب»: طيب، إذا لم تُعطِني واحدة فلن أقول لك أغربَ لغزٍ سمعتُه.

لم يهتمَّ «تختخ» وظنَّ أن «محب» يضحك عليه، فقال: لقد شبعتُ من الألغاز، وأريد الآن أن أشبع من الطماطم …

وانصرف إلى الأكل وهو يتظاهر بمزيد من الاستمتاع ليغيظ «محب» أكثر.

فقال «محب»: صدِّقني إن عندنا لغزًا يتحدَّى ذكاءنا جميعًا، ولن يستطيع أحد حله.

لم يهتمَّ «تختخ» ومضى يأكل، فقال «محب» متنهدًا: إذن استمرَّ في أكل الطماطم لتزداد سمنة، وسأجعلك تبكي بالدمعة على اللغز الذي طار منك.

ضحك الأصدقاء على النكتة؛ فالدمعة تُصنع من عصير الطماطم، وطلب «محب» من «عاطف» و«لوزة» التي اهتمَّت جدًّا بأخبار اللغز أن ينضمَّا إليه هو و«نوسة» ليرويَ لهما الغز.

جلس الأربعة بعيدًا عن «تختخ» الذي استمرَّ في أكله، وفي الوقت نفسه أخذ «محب» يروي للصديقَين حكاية الدكتور «مختار» والمريضين الغريبَين اللذين دخلا عيادته ثم غادراها خلسة دون أن يَنتظِرا علاج المريض.

أحسَّ «تختخ» بالقلق لأنه لاحظ أن «محب» يتحدَّث جديًّا، وأن «عاطف» و«لوزة» يستمعان إليه باهتمام تامٍّ. وبعد نحو عشر دقائق اتجه الأربعة إلى «تختخ» وقال «محب»: سنتركك تُكمِل طعامك وسنَذهب نحن لمحاولة حل اللغز.

لم يهتمَّ «تختخ» وظنَّ أن المسألة كلها مجرد هزار، وتركهم يَمضون، وهو يتوقع أن يعودوا بعد أن يصلوا إلى باب الحديقة، ولكنَّهم تجاوزوا الباب ومشوا، ولاحظ أن «لوزة» تشير إليه من طرف خفيٍّ أن يَتبعهم.

ترك «تختخ» الثمرة الباقية ثم غادر مكانه بهدوء، وأخذ يتبع هو و«زنجر» الأصدقاء من بعيد، وكانوا يتَّجهون إلى شقة الدكتور «مختار» الذي كان ما زال هناك يَتناول إفطاره استعدادًا لفتح العيادة؛ فقد كان في إجازة من قصر العيني حيث يعمل أستاذًا للأمراض الباطنية هناك.

استقبل الدكتور «مختار» الأصدقاء الأربعة جميعًا ثم غادر الشقة إلى العيادة، وفي ذلك الوقت كانت «تختخ» يقف أمام المنزل، وقد بدأت الشكوك تُساوره.

صعد «تختخ» العمارة، وكان يعرف أن الدكتور «مختار» قريب ﻟ «محب»، واستنتج أن «محب» عنده، وهكذا دخل العيادة ليبحث عن الأصدقاء ولكنه لم يَجدهم … وكان الدكتور «مختار» في مكتبه فلم يرَ «تختخ» الذي وقف حائرًا … ثم قرَّر العودة إلى الشارع … ولكن «زنجر» تركه وأخذ يَضرب باب الشقة المقابلة للعيادة بأظافرِه … وكان على الشقة اسم الدكتور «مختار» فأدرك «تختخ» أن الأصدقاء في الداخل، فأسرع يضغط الجرس وسرعان ما فتحت «لوزة».

كان الأصدقاء في الصالة حائرين. فلم يَعثُروا على أثرٍ لأيِّ شيء، فلما رآهم «تختخ» صاح: ماذا تفعلون هنا؟

محب: نبحث عن حل اللغز!

تختخ: أي لغز؟

محب: اللغز الذي رفضتَ الاستماع إليه مقابل ثمرة طماطم.

تختخ: هل تمزح؟

محب: أبدًا، هذه هي الحقيقة.

قالت «لوزة»: فعلًا يا «تختخ» هناك لغز عجيب.

تختخ: قل لي حالًا ما هو هذا اللغز العجيب؟

وجلس الأربعة، ثم أخذ «محب» يروي اللغز مرة ثانية و«تختخ» يستمع بانتباه شديد.

انتهى «محب» من روايته، وأخذ «تختخ» ينظر حوله، كانت الشقة مكوَّنة من صالة واسعة، وخمس غرف كانت أبوابها جميعًا مُغلَقة، وطلب «تختخ» من الأصدقاء ترك الكنبة التي كانوا يجلسون عليها، حيث أجرى الدكتور الكشف على المريض الذي هرب … وأخذ «تختخ» يُدقِّق النظر في الكنبة كما رفع مساندَها لعله يعثر على شيء، ولكن لم يكن هناك شيء على الإطلاق.

قام «تختخ» ومعه الأصدقاء بمُحاولة فتح أبواب الغرف ولكنَّها جميعًا كانت موصدة بالمفتاح ما عدا غرفة النوم … وغرفة أخرى مُنفرِدة. وتردَّد «تختخ» قليلًا ثم فتح بابها ودخل.

كانت غرفة صغيرة، مؤثَّثة بمقاعد مريحة، وبها بعض أجهزة التسجيل والراديو.

فقال «محب» معلِّقًا: نسيتُ أن أخبركم أن الدكتور «مختار» من هواة الاستماع إلى الموسيقى، بل هو حُجة في معرفة الموسيقى والأغاني خاصة القديمة منها، وعنده مجموعة كبيرة من الأشرطة والأسطوانات لأشهر السيمفونيات العالمية، والأدوار القديمة لأم كلثوم، وعبد الوهاب، وعبده الحامولي ومنيرة المهدية، وسيد درويش وغيرهم. وقف «تختخ» يتأمل الغرفة الصغيرة، كان كل شيء فيها مرتبًا بطريقة لطيفة. وقد توزَّعت الميكريفونات الصغيرة في أماكن متفرِّقة، وأجهزة التسجيل والاستماع كلها موضوعة في قطعة موبيليا فخمة ضخمة تُشكِّل أحد جوانب الغرفة بكاملها.

خرج الأصدقاء وأغلق «تختخ» باب الغرفة، وأعادُوا البحث مرةً أخرى في مختلف أنحاء المنزل دون أن يَعثُروا على أثر واحد.

قال «عاطف»: لا أثر، ولا أدلة، ولا شيء على الإطلاق، وربما كان المريض يريد التهرُّب من دفع قيمة الكشف، فغادر الشقة قبل أن يعود الطبيب.

تختخ: لقد فكرت في هذا أيضًا، ولكن الدكتور لم يُوقِّع الكشف الكامل، وليس المهم للمريض هو الكشف ولكن العلاج؛ فهو إذن لم يَستفِد شيئًا حتى يهرب.

لوزة: هل تبقى هذه الحكاية لغزًا إلى الأبد؟

تختخ: من يدري؟ فقد تحدُث تطوُّرات جديدة تُلقي ضوءًا على هذا الغموض، ولكن حتى الآن فإن لغز المريض الهارب ليس له حلٌّ على الإطلاق.

غادر الأصدقاء الشقة، وذهبوا لمقابلة الدكتور قبل انصرافهم، وكان الدكتور في غرفة العيادة للكشف على أحد المرضى. وكان المُمرِّض «حسني» يجلس في صالة العيادة ومعه بعض المرضى الذين ينتظرون دورهم فقال لهم: لا داعيَ لأن تَنتظرُوا الدكتور واتركوا مفتاح الشقة معي وسأسلمه للدكتور.

وأخذ حُسني المفتاح ثم غادر الأصدقاء العيادة وهم يتحدَّثون عن الحادث. كانت الشمس قد ارتفعت في السماء، واشتدَّت درجة الحرارة، فقالت «نوسة» مقترحة: إننا لم نذهب إلى الكازينو منذ فترة طويلة، فما رأيكم لو ذهبْنا لتناول بعض الجيلاتي.

محب: أعتقد أن «تختخ» لن يتحمَّس لاقتراحك، فلم يَعُد في بطنه مكان للجيلاتي … فهي مملوءة الآن بالطماطم.

ابتسم «تختخ» وهو يتحسَّس بطنه قائلًا: إنني مُتحمِّس للاقتراح … وفي بطني متَّسع لكل شيء.

وانطلقُوا في طريقهم إلى الكازينو، حيث جلسوا تحت شجرة وطلب كلٌّ منهم نوع الجيلاتي الذي يُفضِّله، ثم انطلقُوا يتحدَّثون عن حكاية الدكتور «مختار» وهم يُقلِّبونها على وجوهها المختلفة لعلَّهم يصلون إلى بصيص من النور يهديهم … وبينما هم في جلستهم إذا بالشاويش فرقع يظهر فجأة.

ابتسم الأصدقاء جميعًا للشاويش؛ فهُم منذ فترة طويلة لم يتعامَلُوا معه. فلما شاهد الشاويش ابتسامتهم حيَّاهم فدعَوه لكوب من الشاي الذي يُفضله على أي مشروب آخر، فقبل الدعوة.

أخذ الأصدقاء يَمزحون مع الشاويش فترة من الوقت ثم همست «لوزة» في أذن «تختخ» قائلة: ما رأيك إذا روينا حكاية الدكتور «مختار» للشاويش لعله يُفسِّر لنا اللغز؟

قال «تختخ» هامسًا: فكرة لا بأس بها، وإن كنتُ أعتقد أن الشاويش لن يفسر شيئًا.

قالت «لوزة» للشاويش: إننا نُريد أن نعرض عليك مشكلة لم نستطع حلها، ولعلك بخبرتك في العمل بالشرطة تستطيع أن تجد لها تفسيرًا.

تجهَّم وجه الشاويش وقد ظن أن «لوزة» تُريد أن تسخر منه، فسارعت «لوزة» إلى الحديث قائلة: إنها تتعلَّق بشخصية مهمَّة في المعادي … إنه الدكتور «مختار»، وتستطيع أن تسأله إذا لم تُصدِّقنا.

عندما اطمأنَّ الشاويش إلى حديث «لوزة» اعتدل في جلسته قائلًا: قولوا ما عندكم وسوف أحل المشكلة في دقيقة واحدة.

روى «تختخ» للشاويش حكاية الدكتور «مختار» والمريض الهارب وزميله الهارب ذي العضلات، وزيارتهم للشقة التي لم يُسرق منها شيء، ثم قال «تختخ» في النهاية: ماذا ترى يا سيادة الشاويش في هذه المشكلة؟

ولدهشة الأصدقاء، ودون أن تمضي الدقيقة التي حددها الشاويش، قال: إنها مسألة غاية في السهولة، إن هذا المريض ليس مريضًا، إنه فقط تظاهر بالمرض هو وزميله، فهما ليسا إلا لصَّين دخلا شقة الدكتور بهذه الحيلة لمعرفة ما بها؛ فاللصوص المحترفون يُحاولون دائمًا معرفة المكان الذي سيسرقونه ويدرسون جغرافيته جيدًا حتى إذا سطوا عليه كانت مهمَّتهم سهلة، وهم عادة يُرسلون بائعًا متجولًا ليطرق أبواب الشقق بدعوى أنه يبيع فاكهة أو أي شيء آخر، حتى يطَّلع على المكان ثم يأتون ليلًا لسرقته، وأراهن أن شقة الدكتور سوف تُسرق الليلة … والحمد لله أنكم أخبرتُموني، فسوف أحرسها الليلة، وأقبض على اللصوص.

قال «محب»: هذا تفسير معقول جدًّا.

وأيده بقية الأصدقاء … ولكن «تختخ» ظل ساكتًا يُفكِّر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤