الفصل السابع عشر

«للإمبراطورة، لا للإمبراطورية»

استدار رئيس الأساقفة بحصانه متَّجهًا شمالًا حتى تجاوز قوَّاته، التي اصطفَّت في صف طويل لتحيته، وتبعته الكونتيسة ورولاند. ورافقه حتى نهاية الصفوف قائد قواته، الذي تلقَّى منه التعليمات النهائية بشأن المسيرة.

«لن تُخيِّم الليلة في قلعة مارتينسبورج كما كنتُ أنوي؛ بل على بُعد فرسخ أو اثنين أعلى رافد لان. وفي الغد صباحًا واصل مسيرتك على طول رافد لان وصولًا إلى ليمبورج، وهناك انتظر وصولي. سنَدخل فرانكفورت من البوابة الشمالية بدلًا من البوابة الغربية.»

ظلَّ رئيس الأساقفة ساكنًا فوق حصانه بضع دقائق، يُراقب القوات المغادرة، ثم دعا رولاند ليقف عن يمينه وهيلديجوندي عن يساره، وبعدها انطلق ثلاثتهم في رحلتهم القصيرة إلى ساين.

بدأ رئيس الأساقفة بالحديث مُخاطبًا رولاند قائلًا: «جلالتك، إنني أشعر ببعض الحيرة. أعتقد أنكما تدينان لي ببعض التفسيرات. إنني أمتطي حصاني وأسير بين اثنين من السُّجناء الهاربين، وها أنا ذا أرتحل بعيدًا عن سجنَيهما الحصينَين، لا إليهما. كان من الواجب عليَّ فور مُقابلتك وضعك تحت حراسة كافية، واقتياد كلٍّ منكما إلى وجهته منفردًا، أحدكما إلى فالتس والآخر إلى إيرنفيلس. وبعد إتمامي لهذه المهمة كان يجدر بي إطلاع زميليَّ على الواقعة، ولكن ها أنا ذا أرتكب جُرمًا وأُعاون سجينين على الهروب.»

تحدَّث رولاند قائلًا: «أيها الأمير، إنني مُقتنع تمامًا أن احتجازي لم يكن قانونيًّا؛ ولهذا فإنني لا أعتذر عن إبطاله. ولكن قبل الشروع في إبداء أي تفسيرات، أريد استيضاح السبب وراء احتجاز سيدة ساين. هل أنا مُحقٌّ في تخميني بأن وضعها مماثل لوضعي وأن رؤساء الأساقفة الثلاثة هم مَن أمروا بوضعها رهن الاحتجاز؟»

«أجل، يا صاحب السمو.»

«وبأيِّ تهمة؟»

«الخيانة العظمى.»

«ضد مَن؟»

لم يردَّ رئيس الأساقفة، وسادت لحظة من الصمت.

استأنف الأمير حديثه قائلًا: «لم يكن هناك داعٍ لطرح سؤال كهذا؛ فمعلوم أن الخيانة العظمى تهمة تتعلَّق بحاكم البلاد فقط. فكيف تعدَّت سعادتها على سلطة الإمبراطور؟»

«لقد نسيتَ جلالتك بأن هناك أيضًا ما يُسمَّى بالخيانة العظمى ضد الدولة.»

«أَوَلا يَحظى النبلاء بامتياز فيما يخص هذا الأمر؟»

«لا يُمكنهم ذلك؛ فالدولة تعلو على أيِّ فرد.»

«سأَحرِص على تذكُّر ذلك يا أمير كولونيا. أعتقد أنك على حق، وآمل أن يتحقق ذلك.» وأضاف وهو يضحك قليلًا: «في أثناء حبسي الانفرادي، درست حال الدولة، وتوصَّلت إلى استنتاجٍ مفاده أن أكبر الخونة في بلادنا هم رُؤساء الأساقفة الثلاثة؛ فهم يدَّعُون لأنفسهم سلطةً لا تنبغي إلا لإمبراطور البلاد، ولا يستخدمون هذه السلطة لقَمع دعاة الخيانة الآخرين؛ بارونات نهر الراين.»

«ماذا تُريد أن نفعل بهم؟»

«يجب أن تَنزعُوا أسلحتهم. ويجب أن تُطالبوهم برد ثرواتهم المكتسَبة بطرقٍ غير مشروعة. ويجب أن تفتحوا نهر الراين أمام التجارة الشريفة.»

«هذه كلمات يسهل قولها ويصعب تنفيذها. فإذا نزعنا السلاح من القلاع، لا سيما قلاع الضفة اليسرى، فسيَقع ظلم كبير ربما يؤدي إلى فَناء العديد من العائلات النبيلة. وهذا لأن غابات ألمانيا تعجُّ بالمتهورين الخارجين عن القانون، ممن لا يحفظون حرمة الحياة ولا المُمتلكات. حتى أنا لم أسلم من نهبهم لي مؤخرًا. ففي وضح النهار هجمت فرقة من هؤلاء الأشرار على قلعة راينستاين التي يُفترض أنها حصينة، ولم يكن هناك سبيل لمقاومتهم، وأساءوا معاملة البارون هوجو فون هوهينفيلس على نحوٍ مخزٍ، وقيَّدوه بلا حراك وكادوا يَخنقُونه بالحبال القوية، وبعدها سلبه الأوغاد كلَّ ما يمتلكه من أموال. وفي منتصَف الليلة البعد التالية هبطوا إلى فورستنبرج وهي إحدى إقطاعياتي، ولم يَكتفُوا بالسرقة بل تسبَّبوا بجحيم مُستعرٍ للمارجريف؛ فقد أحرقوا ودمرَّوا قلعته بالكامل.»

«سيدي إن الجحيم المستعر والمارجريف الأحمر يُناسِب كلٌّ منهما الآخر. إنها العدالة الإلهية هي مَن جمعت الاثنين معًا.» رفع الشاب سيفه عاليًا وهو يهزُّ قبضتَه مُلوِّحًا باتجاه السماء. وأضاف: «هذه اليد هي التي حملت المشعل الذي أحرق فورستنبرج. إن المسئولين عن الاستيلاء على القلعة وإحراقها ليسوا إلا ثلاثة من صانعي السيوف من فرانكفورت ممَّن لم يَشهدُوا قط هونسروك ولا مجرميها.»

كبح رئيس الأساقفة جماح حصانه، ورمق الشاب المتحمِّس في دهشة.

«هل «أنت» مَن أحرق فورستنبرج؟»

«أجل؛ بكل تأكيد يا سيدي. ولكنِّي سأعيد بناءها من أجلك، أما المارجريف الأحمر فسوف أشنقُه، كما فعل سلفي رودولف في سلفه.»

بدَتْ تعابير وجه رئيس الأساقفة توحي بالحدة والصرامة.

«سيدي، يُؤسفني أن أسمعك تتحدَّث هكذا، وتَعتمِد سلامتك على حقيقة عدم تصديقي لأيِّ كلمة مما تقول. ورغم ذلك فإن كلماتك الجامحة تلك تثير استيائي. وأرجو منك أن تتذكَّر أن اختيار الإمبراطور لم يتمَّ بعد، وأنني على الأرجح سأعيد النظر في قراري. ومع ذلك فإنني، كما قلت، لا أصدِّق كلمة واحدة من قصتك السخيفة.»

صاحت الكونتيسة بحماس: «أنا على يقين من صدقِ كلِّ حرف فيها، ويا له من فخر وجود مثل هذا العقلِ الجَسور واليدِ المُذعِنة له، اللذين استطاعا التخلُّص من قاتلٍ ولصٍّ في آن واحد!»

تلاشى التوتُّر الذي أحدثه هذا الكشف المذهل بضحكة أطلقها رئيس الأساقفة.

«عزيزتي هيلديجوندي، إنك تَغفُلين عن حقيقة أسلافك. ويسعني القول بأنه لا توجد امرأة من نسل عائلة ساين يُمكنُها التفوه بمثل هذا القول في حين أن الإمبراطور رودولف ساقَ كونت فون ساين إلى المشنقة. فهل سيكون لكِ قولٌ آخر إذا طُلب منك إعادة الملايين التي جمعها هنري الثالث وخلفاؤه من نسل ساين؛ فكل هذه الأموال المتراكِمة أتت عن طريق عمليات السلب الوحشية التي لا تَختلِف في شيء عن نهج المارجريف الأحمر؟»

ردت الكونتيسة بكبرياء: «سيدي، لم تكن بحاجة لطرح هذا السؤال؛ فأنت تعرف إجابته مسبقًا. سأُسلِّم كل تالر تحت تصرفي إلى الأمير رولاند ليستفيد منه في نهضة هذه البلاد.»

ضحكَ رئيس الأساقفة من جديد.

«أنا أعلم ذلك بالتأكيد يا عزيزتي، ولم يَجدُر بي التفوه بما قلته. وأظن أنكِ لن تسمحي لي بالتصويت ضد جلالته في الانتخابات القادمة.»

«بالطبع يجب أن تمنحه صوتك بكل حماس؛ فأنتَ تعلم من صميم قلبك أنه الرجل الذي تحتاجه ألمانيا.»

صاح رئيس الأساقفة قائلًا: «يا لهذا التغيير الهائل! عجبًا يا عزيزتي، ما بال التُّهَم التي أصررتِ على توجيهها إلى جلالته، والتي تفوق التهم التي اعترف بها بنفسه؛ كيف أصبح الآن منقذًا لألمانيا بينما كان في السابق …؟ آه، حسنًا، يجب ألا ألعب دور مروِّج الإشاعات.»

صاحت الفتاة قائلة: «أيها الأمير رولاند، لقد قال قريبي، الأب أمبروز، إنه قابلك في فرانكفورت، ولكنَّني الآن أظنه كان مخطئًا.»

«أوه، لا؛ لقد قابلتُ الأب الصالح على الجسر.»

صاح رئيس الأساقفة: «أرأيتِ؟ فما قولُكِ في هذا، يا سيدتي؟»

ارتبكت لسماعها هذا الاعتراف، ولكنها ردت على سيادته بسرعة بقولها:

«إنك أنتَ مَن قلتَ باستحالة وقوع ذلك؛ لأنه كان رهن السجن المشدَّد في إيرنفيلس.» وتابعت حديثها مخاطبة الأمير: «أكَّد الأب أمبروز أنك كنت رفيقًا لسُكارى ومشاغبين في قبو نبيذ حقير في فرانكفورت.»

«هذا صحيح تمامًا؛ كنتُ بصحبة عشرين منهم.»

زادت حيرة الفتاة أكثر فأكثر.

«هل سجنتَ الأب أمبروز؟»

«أجل في أحقر قبو للنبيذ، ولكن ليوم أو اثنين فحسب. آسفٌ جدًّا يا سيدتي، ولكن كان ذلك لا مفرَّ منه لضرورة الحرب. لقد كان يتدخَّل في أمورٍ لا يعلم عنها شيئًا ولم يكن هناك وقتٌ للشرح. إنه رجل مسالم وحتى إن شرحت له أسبابي، ما كان ليُوافقني على ما نويت فعله.»

تابعت الفتاة قائلة: «لقد قال إنه رآك تَسرِق صرةً من الذهب من أحد التجار.»

صاح الأمير قائلًا: «هذا ليس صحيحًا!»

«عزيزتي هيلديجوندي، ماذا تعني سرقةُ صرةِ ذهبٍ من أحد التجار بينما اعترف بسرقة الذهب من القلعة بأكملها؟»

احتجَّ الأمير قائلًا: «أنا لم أسرق أي تاجر. كيف للأب أمبروز أن يدَّعي هذا القول؟»

«لقد صعد درجًا خارجيًّا في فارجاسه، وعبر النوافذ المضيئة على الجانب المقابل استطاع رؤيتك وأنت تُوجِّه طرف سيفك إلى عنق التاجر الأعزل وأخذت منه صرة من الذهب.»

أراح رولاند رأسه للخلف وضحك بفرحٍ بعد أن كان عابسًا وتبدو عليه ملامح الغضب.

وقال: «حسنًا، هذه لم تكن سوى مزحة.»

والآن، تبدَّلت ملامح الفتاة ليرتسم عليها العبوس.

«لقد أُعجبتُ بك عندما انتزعت الكنز المسروق من براثن البارونات السارقين والمارجريف الذين كانوا تحت حماية عشرات من الرجال المسلحين، بهدف كسر شوكتهم وغوث التجارة، ولكنَّ قولك بأن سلبَ تاجرٍ لا حيلةَ له مجرَّد مزحة …»

حرص الأمير على تصحيح الأمر لها، ولم يكن واعيًا بأثر عبارته الرقيقة التي تسبَّبت في تورُّدِ خدَّي مُستمعتِه خجلًا، فقال لها: «لا، لا، يا عزيزتي إنك لا تفهمين الأمر. كان، ولا يزال، التاجر شريكي؛ فالسيد جوبل رجل نزيه، كاد أن يتعرَّض للشنق نيابةً عني حين أسرني رؤساء الأساقفة الثلاثة هؤلاء. وقد طلبت منه ألف تالر فأصرَّ على معرفة خططي الخاصة بفتح نهر الراين، وأصرَّ على عدم إعطائي الأموال حتى اضطررتُ مُكرهًا إلى الاعتراف إليه بأنني نجل الإمبراطور. ولكنه لم يستطِع تصديق الأمر واشترط إحضاري وثيقة مرور موقَّعة من جانب الإمبراطور وموثَّقة بختم الإمبراطورية العظيم. وقد حصلتُ على هذه الوثيقة بمخاطرة كبيرة بنفسي وبمساعدة والدتي. وها هي ذي.»

ووضع يده داخل صدريته وأخرج الوثيقة المقصودة وسلَّمها للسيدة التي مع ذلك لم تفتحها ولكنها ظلَّت تحدِّق فيه.

«أزعجتني عدم ثقته بي؛ ما كان ينبغي أن أفعل ذلك؛ فقد كان يتصرَّف وفقًا للطبيعة الحذرة التي يتَّسم بها التجار. وأنا نادم الآن على تصرُّفي الصبياني الذي دفعني لتوجيه سيفي نحو عنقِه ومُطالبته بالمال الذي حصلت عليه. إلا أنني لم آخذ سوى نصف الأموال فقط لأنَّ والدتي أعطتني الخمسمائة تالر الأخرى. أوه، لا؛ أنا بالطبع لم أسرق صديقي جوبل؛ كلُّ ما في الأمر أنني حاولت تلقينه درسًا مَفادُه أن غياب الثقة أمرٌ خطير.»

إن كان بإمكان الرجل العجوز أن يَتهامس مع الشابة بشأن ما سمعاه هما الاثنان، لعلم أنهما يتشاركان الاعتقادَ نفسه، وهو أن الأمير الشاب يتحدث بصراحة بالغة، وأن ما قاله لم يكن مَوضعًا للشك ولو لحظة. صحيح أن الرجل العجوز شعر بأن حديث الشاب جاء غير مبالٍ بالعواقب، ولكن هذا من ناحية أخرى كان في حد ذاته ميزة؛ لأنه تذكَّر بأن الأمير كان حذرًا بالقدر الكافي عندما استجوبه رؤساء الأساقفة الثلاثة.

قال رئيس أساقفة كولونيا بابتسامة: «لطالَما قرأت قصصًا مثيرة للشفقة حول السجناء الذين يعيشون في عزلة شديدة وينحتون أسماءهم مرارًا وتكرارًا فوق جدران السجن القاسية كقلوب سجَّانهم، ولكن يبدو لي أن جلالتك استمتعتَ بوقتك خلال فترة اعتقالك القاسية. هل لي أن أطلب من جلالتك المزيد من التوضيح بشأن الشاب السكير الذي يَستمتِع الآن استمتاعًا جمًّا في ضيافة قلعة إيرنفيلس؟»

وها قد حان الآن دور رئيس الأساقفة لإبهار الأمير.

«إذن فقد كشفتَ حيلتي، أليس كذلك؟»

««الكشف» كلمة غير ملائمة. ولكن «الاشتباه» هو الكلمة الأقرب للحقيقة. لقد تغلبتَ على سجَّانك ووضعت شخصًا آخر سجينًا مكانك.»

«أجل؛ إنه شابٌّ أَدين له ببعض الفضل، وبينَنا حساب لا بد من تسويته. إنه ابن الحارس الذي يظنُّ أننا، نحن الاثنين، بين براثنه؛ يُفرط هاينريش في تناول الخمر كما لو كان مدمنًا للخمر أو بارونًا، ولكنَّني سأخلصه من تلك العادة قبل أن تصبح عادة راسخة.»

«هل أنا مُحقٌّ في زعمي بأنك لم تحصل على حريتك إلا بعد مقابلتك للأمراء الناخبين الثلاثة؟»

«أوه، باركك الرب، كلَّا! ولكنَّني استعدت حريتي قبل ذلك بشهور. وفي الحقيقة أن بديلي أصبح بالفعل عديم النفع منذ ذلك الحين. ربما يكون هاينريش حلَّ محلي وقت الضرورة، ولكن هذا لأنك لم ترَني أنت ولا زملاؤك. لقد خبَّأته في مكانٍ أمين منذ ذلك الحين لأنني لا يُمكنني السماح له بالخروج حتى تنتهي إجراءات انتخاب الإمبراطور.»

«فهمت. احتياطات في غاية الحكمة. حسنًا جلالتك، لن أتفوَّه بشيء مما أخبرتني به، بل إنني أعدك بأن صوتي ما زال لك إن أطعت أوامري لحين تنصيبك إمبراطورًا. أرى أن الأمور لن تمرَّ بسلام معك كما كنا نتوقَّع، ولكن هذا الأمر يتعلق برئيسي أساقفة ماينتس وتريفيس أكثر من تعلُّقِه بي؛ فأنا لا أطمح في الحكم بالوكالة. والآن، يا سيدة ساين هل تتذكَّرين إطلاعي لك على بعض المعلومات بشأن فكر رئيس أساقفة ماينتس عندما ارتحلْنا جنوبًا ذلك اليوم من قلعة جوتنفيلس؟ ربما تذكُرِين ما قلته لك بشأن ورطته. كما أنني أظنه مُعجبًا بكِ على الرغم من صدِّك له، ولكن لا عجب في ذلك فجميعنا نكنُّ لكِ التقدير، كبارًا وصغارًا. أنا أيضًا أحمل وثيقة مرور آمن، شأني شأن الأمير رولاند، ولكنَّني أرى أن جلالته وضع سلامته بين يديك.»

ابتسم الرجل العجوز، ووجدت هيلديجوندي أنها لا تَزال ممسكة بالوثيقة التي أعطاها رولاند إياها. وللحظة كانت في حيرة من أمرها ثم ابتسمت وأعادتها إليه، ولكن الأمير هزَّ رأسه رافضًا. تابع رئيس الأساقفة حديثه قائلًا:

«لقد أرسل إليَّ رئيس أساقفة ماينتس إبراء الذمة الخاص بك في ورقة مكتوبة تحمل توقيعه هو ورئيس أساقفة تريفيس. وطلب منِّي إرفاق توقيعي وتحريرك وأنا في طريقي إلى فرانكفورت، وهذا ما نويتُ فعله لولا أن أوقفني هذا الشاب المتهور. بالمناسبة كيف التقيت جلالتك بكونتيسة فون ساين في فالتس؟»

بادرَت هيلديجوندي بالحديث قبل أن ينطق رولاند فقالت: «سنخبرك عن ذلك لاحقًا أيها الوصي. والآن ما التعليمات التي أصدرها السيد رئيس أساقفة ماينتس بشأني؟»

«لقد طلَب منِّي إحضارك إلى قصري في فرانكفورت، وأعرب بوضوح عن أمله في تغيُّر رأيك.»

ردَّت الكونتيسة على الفور من جديد: «يُمكنك أن تؤكِّد له أنني غيَّرت رأيي بالفعل، ولكن دعونا نتجاوز كل هذه التفاصيل في الوقت الحالي. هل سأذهب بعدها معك إلى العاصمة؟»

«أجل، صباح الغد.»

«وهل سأَمكُث هناك حتى حفل التنصيب؟»

«بالتأكيد، إن كنتِ ترغبين في ذلك. لكن ألم تلحَظي تغيُّر خطة أخي رئيس أساقفة ماينتس؛ فأنت تعلمين أنه لم يكن يَنوي إطلاق سراحك إلا بعد انتهاء هذا الحدث؟»

أجابت الكونتيسة بتلهف: «أجل، أجل. هذا واضح تمامًا، ولكنَّني لا أرغب في مناقشة الأمر في اللحظة الراهنة.»

«عظيم! لقد نويتُ دخول فرانكفورت من الجهة الغربية، ولكنَّني غيَّرت مسار قواتي بعد أن تفاجأت بلقائكِ، وأمرتُهم بالسير باتجاه رافد لان وصولًا إلى ليمبورج حيث سننضمُّ إليهم مساء الغد، وبعدها سنتبع طريق الأب أمبروز حتى نصل إلى العاصمة.»

«حسنًا سيكون ذلك مُمتعًا للغاية. أتمنَّى أن ترافقنا أيها الأمير رولاند، فهل توافق؟»

أجاب الشاب بثقة: «بالطبع.»

قال رئيس الأساقفة بهدوء: «لا.»

«ولمَ لا؟»

«لأنني قلت لا.»

اعتدل الشاب الذي يُوشك أن يصير إمبراطورًا في جِلسته في كبرياء، وأطبق شفتيه في عزم وإصرار.

«هل نسيتَ الوعد الذي قطعته سموُّكَ بهذه السرعة؟»

سأل رولاند بوجه عابس: «أي وعد؟»

«بالنظر إلى صمتي حول مسيرتك المشينة الأخيرة بما انطوَت عليه من إحراق وذبح واستعباد لهاينريش، فقد وعدتَ بالامتثال لأمري حتى تصبح إمبراطورًا.»

«كنتُ عازمًا على الانصياع لجميع طلباتك المعقولة، ولكنَّني أرغب بشدة في مرافقة الكونتيسة من قلعتها إلى العاصمة، كما أنني لم أزُر ليمبورج مطلقًا أو أسلك هذا الطريق إلى فرانكفورت من قبل.»

أجاب رئيس الأساقفة بنبرة جافة: «إنها مدينة عتيقة ساحرة، ويُمكنك زيارتها في أي وقت في رحلة لن تستغرق أكثرَ من يوم واحد. أنا مَن سيرافق الكونتيسة إلى هناك، وسأسعى جاهدًا للترفيه عنها بمحادثة ممتعة ومثمرة خلال الرحلة.»

واصل الأمير عبوسه، ولكنه عضَّ إحدى شفتيه وامتنع عن إصدار أي تعبير غاضب.

احتجت الفتاة قائلة: «ولكن ألن يكون دخول مدينة فرانكفورت في حماية جيشك أكثر أمانًا لسموه؟»

ضحك رئيس الأساقفة قليلًا.

«عزيزتي هيلديجوندي، إن وجود الأمير رولاند يجعلكِ تَتجاهلين الاختلاف الكبير في وضع كلٍّ منكما، ولكن من المؤكد أن تفكيرك في الأمر قليلًا سيمنحك نظرة حقيقية للأمور. إنك امرأة حرة وأنا أحمل بين يديَّ صكَّ استعادتك لحريتك. فلا تنخدعي إذن بما رأيتِ عندما رفع سموُّه قبضته عاليًا نحو السماء متحديًا المقادير الإلهية. فالأمر ليس كذلك. إنك لا ترَين القيودَ التي تُكبِّل كاحليه ومعصميه. ليس رولاند إلا سجينًا، وعليه أن يعود فورًا خلف قضبان سجنه. جلالتك، ها هي ذي قلعة ساين المهيبة ماثلة أمامنا، وهناك يُمكنك الاستراحة واستعادة قواك في الوقت الحالي، ويمكنك الحصول على فرس جديد نشط، يُمكنك امتطاؤه طوال الليل حتى تتمكَّن من الوصول إلى بوابات إيرنفيلس غدًا في الصباح الباكر. وبمجرد وصولك، عليك تنحية هاينريش عاشق النبيذ بعيدًا عن الأذى بإيداعه في أعمق قبو، ولتُصبح سجينًا مكانه. من المقرَّر أن يرافقك رؤساء الأساقفة الثلاثة بأنفسهم إلى فرانكفورت على متن سفينة رئيس أساقفة ماينتس، وسترسو بك عند الدَّرج المائي للقصر الإمبراطوري. وإن انكشف أنني أمضيتُ ولو ساعة واحدة برفقتك، فإن فرص وصولك للعرش ستكون في خطر شديد.»

صاحت الفتاة قائلة: «من المؤكَّد أنه لا داعي لهذه العجلة. يُمكنه الانطلاق غدًا إلى وجهته بينما نذهب نحن في الاتجاه الآخر. لقد أمضى طوال الليلة الماضية مُرتحلًا، وقضى أغلب الليلة مجدِّفًا بقاربٍ يحمل أربعة أشخاص، ومنذ وضح النهار تقريبًا وهو يمتطي حصانه، والآن يُعدُّ تكليفه القيام برحلة على ظهر الخيل طوال الليل أمرًا يجاوز طاقة أيِّ بشر.»

علت ابتسامةٌ جدية على وجه رئيس الأساقفة بعد أن لاحظ قلقها.

وقال: «بسبب ضياع مسمار، فُقدت الحدوة، وأنت تَعلمين باقي هذا التحذير. وإن كان الأمير رولاند يَجرُؤ على المخاطرة بالإمبراطورية في سبيل قضاء ليلة من الراحة، فإنني أسحب اعتراضي.»

استدار الأمير بحصانه فجأةً، وقاده بخفة إلى جانب الفتاة ووضع يده على يديها.

وصاح قائلًا: «أنا في انتظار قرارك أيتها الكونتيسة! امنحيني قرارك. وسأكون طوع أمرك دائمًا!»

تمتم رئيس الأساقفة قائلًا: «أوه، يا لتهور الشباب!»

تطلعت الفتاة إلى الشاب، فالتقط أنفاسه واشتدت قبضته على يدها وهو يحدِّق في أعماق عينيها اللامعتين.

وتنهدت قائلة: «لا بد أن تذهب.»

«نعم، للأسف!»

وتركته يرفع يدها ليقبلها، ثم استدار بحصانه مرة أخرى.

وسأله رئيس الأساقفة: «هل ستُطيع أمري؟»

«أجل يا سيدي، سأمتثل لأمرك.»

وأخرج سيفه، الذي صنعه بنفسه، من غمده سريعًا ووجَّهه نحو شمس المغيب، ورفع مقبضه إلى جبهته موجِّهًا التحية لرئيس الأساقفة.

وقال: «إلى اللقاء في إيرنفيلس يا سيدي.»

«لا تذهب هكذا. فلتأتِ إلى القلعة لتستريح ولو ساعة على الأقل.»

أدار الشاب سيفه ممسكًا بنصله وطبع قُبلة على المقبض وكأنه صليب.

وقال: «الحمد لله أنني استطعت الحفاظ على العهد الذي قطعته.»

ثم نظر للفتاة، وأضاف: «للإمبراطورة، لا للإمبراطورية!»

ركل رولاند حصانه وانطلق، وبدا السيف وكأنه يسقط في غمده من تلقاء نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤