الحياة العائلية والاعتدال

ورث أحد الأعيان عن أبيه مالًا طائلًا، وعائلة سعيدة، وخصالًا حميدة وذكرًا جميلًا، فقضى حياته فاضلًا كاملًا بغير أنْ يذاع عنه ما يثلم سمعته، أو يحطَّ من منزلته في نظر العقلاء. غير أنَّ أحد الأمراء الحاكمين جاء — لسوء حظ ذلك الوجيه — فابتاع ضياعًا إلى جواره، وشاد قصرًا على مقربة منه، فَلَاحَ للرجل أنْ يضيِّف الأمير؛ لينال حظوة في عينيه، ويفخر بذلك الشرف على أقرانه وأبناء بلاده. ولما كانت الدار التي ورثها عن أجداده على طراز المباني البسيطة، الخالية من الزخرف والطلاء رآها غير لائقة بمقدِم ضيفه الكريم، فسلط عليها معاول الهادمين، وشيد على أنقاضها قصرًا فخيم البناء رحب الفناء، ثم شمَّر عن ساعده وفتح خزائنه الضخمة، فحوَّل ما فيها إلى تجَّار الرياش والذرابي النفيسة، فأعاضوه من ذهبه الوهاج ما لا يثمر إلا الاحتفاظ عليه بالعناية والبذل حتى يذهب الزمان بجدته. وما برح يجمع من الطرف حتى نفد ماله أو كاد. ثم لبث ينتظر حلول الأمير حتى حلت به الكوارث، ونزل عليه الفقر قبل أنْ ترى داره وجه الضيف المنتظر، فما أغناه قصره ولا سترت الرياش عوزه، ولا أخفت السجف عن أعين الناقدين الشامتين فاقته.

إنَّ مثل هذا الجنون ليصيب كثيرًا من الناس على صور مختلفة، فيضحون راحتهم العائلية في سبيل التمتع لحظة بما لا يفيد وجوده ولا يضرُّ عدمه. وإنَّ هذا الخطر الداهم ليصيب الكثيرين على مرأى الناس، ولكنَّهم لا يقلعون عن الشطط، ولا تعظهم مصائب الأيام حتى يصيبهم المحذور، فيعضون البنان أسفًا حين لا ينفع الأسف. وما أشبه ذلك النفر بالأعمى الذي لا يستمع إرشاد الناصحين حتى يقع في الحفرة، فيستنجد مَن هزأ بنصحهم!

كم من الأموال الطائلة بُذلت في سبيل الترف وإمتاع النفس بما هي في غنًى عنه، وليس من مقتضيات العيش والهناء؟ وكم من الثروات ضاعت في إعداد معدات السرور والنعيم، قبل أنْ يحصل المبدد المسرف على ما أراد؟ إنَّ من الجهل المطبق الشذوذُ عن العادات الحسنة، والتطرف في طلب السعادة من غير طريقها، وبذل الراحة والمتاع؛ للحصول على ما عاش الإنسان دهورًا قبل ابتداعه وبدون حاجة إليه.

إنَّ السعادة العائلية لتقتضي الاعتدال والحكمة، فإن كل ما يهوِّش على الحياة العائلية يضر ويؤثر على الهيئة الاجتماعية، ولكي يحفظ كيان الأمة من التزعزع والوهن، يجب أنْ تُخرج العائلات لرئاستها وتدبيرها أفرادًا لهم من التربية والاعتدال ما يكفل توفير السعادة لعائلاتهم، والعمل لما فيه رقيِّها وراحتها، فمن المعقول أنَّ رقيَّ العائلات يساعد على رقيِّ الجماعة، ويؤثر في الإصلاح العام تأثيرًا فعليًّا، وإلَّا فإن ضعفت الرءوس ضعفت العائلات وارتج معها أساس الإصلاح، فتصبح الأمة كقطيع من الأنعام فقد الراعي وضلَّ الحارس.

من المحال أنْ تتكون قوة الأمة، ويتم إصلاحها بغير إصلاح الأفراد والعائلات. ومن شاء أنْ يرى كيف تزول العادات القومية، وينضب نبع الحمية الوطنية، ويسود الجهل على الشعوب، فليدرب العائلات على التهاون في شئونها الخاصة، وعلى ترك العناية بتربية أفرادها التربية الصحيحة، فإنه لا يمضي ردح من الزمن حتى تتراجع الأمة إلى أحطِّ منازل الحياة وأسفل دركات الوجود.

من الصالح العام أنْ تكون كل دار هيئة منتظمة، يرفع فيها عماد الاحترام، ويتبادل أفرادها الحبَّ الخالص، كما يكون ذلك متبادلًا بين العائلات، فيتكون المجموع من أجزاء منتظمة صالحة قوية، فيظهر صالحًا قويًّا منتظم الحركة في التقدم والرقي، وتتكوَّن الوحدة المنتظمة التي تنشدها الأمم ويتمناها كل وطني صميم.

إنَّ بعضًا من العائلات تتحصن بانزوائها بين الجدران، وتبعد عن الجماعات إلَّا فيما يتعلق بشئونها الخاصة، غير حافلة بما لا يكون خصيصًا بها، فهذه العائلات حجر عثرة في سبيل الوحدة القومية المقصودة والرقي المنشود، وليس من المبالغة أنْ يقال: إنها دخيلة أيضًا تختلس ما للأمة، وتهضم حقوق الاجتماع. ولا بدَّ وأنْ تؤدي هذه الأنانية يومًا ما إلى بذر بذور الشحناء، والبغضاء بينها وبين سواها، وتكون قرحة دامية في جسم الأمة والوطن، فحقيق بكل إنسان أنْ يستأصلها؛ ليطهر المجموع من مضارها التي هي ضرر النوع الإنساني وعدوُّ المدنية والاجتماع. ولا يفوت العقل أنَّ هنالك فرقًا واضحًا بين أمثال هذه العائلات وبين الأحزاب المتنافرة؛ لأن الحزب مجموع يرتئي رأيًا يقتنع بوجاهته، فيعمل لتعزيزه ونشر مبادئه ابتغاء المصلحة العامة، ولو كان ذلك على غير رأي خصومه والخارجين عليه.

إنَّ الأحزاب تعمل للصالح العام كلٌّ على قدر ما يُرتأى، ولكن العائلات المعتزلة لا تهتم بغير مصالحها الشخصية، فتكون حملًا على المجتمع وضررًا عامًّا بين الناس.

العائلة هي الأساس الوحيد لتقدم الأمم ورقيِّها، فيجب أنْ تكون العناية بها شديدة؛ لأنها واسطة لنشر الفضائل والأخلاق القومية، وفيهما ينشأ الأفراد على المبادئ الشريفة أو السافلة، وعلى قدر حضارتها ورقيِّها يكون رقيُّ الأمة بالنسبة للأمم الراقية والشعوب المتحضرة، واحتفاظها بمجدها السابق ووطنيتها المقدسة. ويظهر ذلك جليًّا في كل شيء؛ يظهر في الأفكار والأعمال، وفي الأقوال وفي مكنونات الصدور، وفي العواطف وفي كل المظاهر، حتى ليظهر ذلك في المصنوعات كالأثاث والرياش والملابس والأغاني والأناشيد.

إنَّ هذا كله ليس بالشيء الخطير في نظر الغبي، ولكنه ذخيرة ثمينة وتميمة مقدسة في نظر الحكماء، ومَن يعرف قيمة الحياة العائلية والوحدة القومية.

•••

إنَّ البدع من الأسف أخذتْ تقوِّض دعائم العائلات، وتلاشي أسباب السعادة والهناء بكل الوسائل الفعالة، كالخصال الغريبة، والعادات المستحدثة، والمطالب المختلفة، والترف والتبذير. وبهذه الأسلحة القتالة تمكنت البدع من إفساد نظام العائلة والعبث براحتها وهدوِّها المألوفين، فأضرَّت بها ضررًا عظيمًا يشكوه كل فرد على حدته، ويتألم منه المجموع على الإطلاق.

عجيب أنْ يتخلق الناس بهذه الأخلاق الموضوعة على سبيل التقليد والمجاراة، بدون أنْ ينظروا إلى النتيجة، أو يفحصوا ما يكون للبدعة الجديدة من حسنات أو سيئات، فكأن حالهم معها حال الأمة المحتلة مع القاهر المستبد، تسخر الأبناء لطاعته، ويهمل العمل والصالح الشخصي، ويضحي كل عزيز ونفيس لمرضاته. وأنى له أنْ يرضى وقد جاء لهذا الغرض، ومصلحته في تخريب العامر وتدمير القائم، حتى لا ترتفع رأسٌ عن مواطئ نعليه، ولا يفاخر سيد بخيْله وعدده؟ فالعاقل من لا يكلف نفسه إلَّا وسعها، فيبقي على ما ملكت يداه، ويحتفظ به مهما اختلفت الظروف وتبدلت الأحوال والأزمان.

إنَّ البدع لتتسرب إلى العائلات تحت زي المدنية ومقتضيات الضرورة، فتراها تصل إلى النفوس، فتتأصل فيها ويتبدَّل كل خلق كريم وذوق سليم، فتتبدَّل الأشخاص والأثاث والعادات، وما أكثر ما تروج في فرص الأعراس والمآتم! حيث تنشأ العائلة تتقزز من كل قديم ألفته، وتسخر مما كان للسلف عادة جارية، وهنا يبدأ الخطر وتظهر أوَّليات المصاب.

وإنَّ المرء ليستهين أولًا بالأمر فيبدل الأثاث، ثم لا يلبث أنْ يبدل تدريجًا ما كان محتفظًا به من التقاليد القديمة، والخلال التي شبَّ عليها وتلقاها عن الأقدمين، ثم يتبعها بالفضائل وسائر الصفات الحميدة، فيخلق خلقًا جديدًا على ما شاءت أهواؤه، وسوَّلت نفسه الخبيثة، ونفدت فيه إرادته الضعيفة. وما هي إلَّا فترة وتنزل العائلة نفسها بين وسط جديد، وتأخذ بأسباب عيش لم تعهده، فيحدث الانقلاب التام، وتتلاشى العادات القومية، وتنتشر المدنية الموهومة مراعاة للذوق الجاري ومقتضيات العصر الجديد. وقد تعرو الإنسانَ دهشةٌ إذا صورت له حالته تصويرًا دقيقًا، ولا يكاد يصدق أنَّ الإنسان الأول هو بعينه التمثال الجديد.

ولو وقف الحد عند تلك الحال لهان الخَطْب، ولكن الداء المتأصل تكثر ميكروباته مع الأيام، فيبتدئ الألم ويشتد الضجر حتى تزهق النفس، وقد يعود للعين بصرها وللرأس فكره، ولكن يوم لا ينفع البصر والفكر يوم يستعصي الشقاء، ويستحيل الخلاص من براثن المرض الفتاك.

إنَّ البدع لأشدَّ فتكًا بالأمم والشعوب من الأوباء بالعباد، وإنَّ الشكوى من الأدواء المنتشرة، ومن تأثير المدنية الحديثة في الفضائل والأخلاق لأعم من الشكوى من الفقر، وضيق ذات اليد، ونكد العيش وخيانة الأصدقاء، وكم من بدعة ظهرت مليحة حتى إذا انتشرت بان ضررُها البليغ، فعلتِ الشكوى وارتفع الصراخ من هول النتائج؟

وإنَّ الحكيم ليعوذ من البدعة والمبتدع، ومن كل مرادفات هذه الكلمة وما يشتق منها، وخير للمرء أنْ يتدبر قبل أنْ يتورط، ويتئد قبل أنْ يشتط، وأنْ يحذر ويحرص على مبادئه وعاداته القويمة، وأنْ تكون له إرادة قوية تشد عزمه ورأيه؛ للذود عن تلك الخصال الحميدة، والطبائع الممدوحة التي توارثناها أبًا عن جَدٍّ، فإن الفضائل خُلقت مع الإنسان، ولم يعبث بها غير مرور الزمن وتقلبات المطامع. نعم، إنَّ لكل جديد طلاوة، إلا أنه في غير نفاسة القديم الجيد، فليتقِ الله المبتدعون، وليحرص على كرامتهم العائلون.

•••

إنَّ الكثيرين من الشبان لا يتبعون عند زواجهم العادات القويمة المألوفة، وينزعون إلى العادات المبتدعة جريًا وراء التمدن الكاذب، فبدلًا من أنْ يقتدوا بآبائهم في حياتهم ومعيشتهم الاقتصادية يندفعون مع تيار الغرور والتقليد، فيبذرون ذات اليمين وذات اليسار، ويتطرفون في الأفكار العقيمة والأقوال السخيفة والأعمال الصبيانية، فيفرغ المتزوج ما في وسعه ليبتاع فرش الدار وأثاثها على آخر طرز مبتدع، نافرًا من كل مألوف شبَّ عليه واعتاد مشاهدته ولمسه في داره، وعذره في ذلك أنه ابن العصر الجديد الذي هو خليق بزخرف المدنية الحاضرة. على أنَّ ذلك يمحو من ذاكرته كل أثر للماضي ويذكِّره دائمًا بما يراه في الأندية والمجتمعات والمراقص العمومية، يذكره بالشطط والنزق فيطير إلى حيث يكرع كأس المدنية حتى ثمالتها، ولا يعود إلى داره إلا متعبًا منهوكًا، فيسلم جسمه إلى الرقاد ويقهره سلطان النعاس، فلا يفتح عينيه حتى يذكر موعدًا يوشك أنْ يفوت ميقاته، وما هي إلا أنْ يهب إلى ملابسه هبوب الخاطف إلى لقطته، ويطير إلى حيث يودِّع الفضيلة والراحة والسعادة.

عجيب ألا يقدر الإنسان على البقاء لحظةً في داره بين ما جمع من أثاث العصر الجديد ورياشه البديعة! إنها بلا روح ولا ذكرى فهي لا تؤثر على النفس والروح، إنَّ ولع الناس بطول الغيبة عن منازلهم وعائلاتهم لشديد، كأنما هم يخافون قرب انقضاء العالَم، فيبادرون إلى إشباع النفس بملاذ الحياة والتردد على جميع الأمكنة، وهم في ذلك أشبه شيءٍ بتلك الخيالات السينماتوغرافية إذا ظهرت في ناحية لا تلبث أنْ تغادرها بسرعة، وإنَّ هذه الجماعة لا يطيقون البقاء بين ذويهم، بل يفضلون الكدر خارج منازلهم على السرور والسعادة في دورهم وقصورهم. فهل هكذا كان شأن السالفين أم كانوا يقيمون على أرائكهم وبين أهليهم ما خلوا من أعمالهم، ولهم من السكينة مظهر جليل، ولمرآهم وقارٌ وهيبة يشعر بها القريب والبعيد؟ كانوا إذا تزاوروا فللسمَر وتبادل الودِّ وتوثيق روابط الألفة والإخاء.

إلا أنه لو بعث امرئ من قبره ورأى حياة اليوم وأبناء هذا العصر، لظن المجانين قد فرُّوا من مستشفيات المجاذيب وجعلوا يعبثون بالراحة ويقلبون نظام العالَم. إنَّ الفساد عمَّ كل الطبقات ولم تخلُ منه الضياع والقرى، وحذا الناس حذو بعضهم في هذه الطريق المحفوفة بالمكاره، حتى أصبح من المدنية ودلائل الرقي هجرُ الدور لتعمير الحانات والمواخير.

وليس الفقر ونكد العيش الذي يشكو منه العالَم بكافٍ للدلالة على سوء الحالة التي وصل إليها أبناء العصر الحاضر. ولو تساءلت عن السبب الذي يدعو القروي إلى هجر داره، وقضاء أغلب أوقاته في حانة القرية، مع أنَّ الدار هي بذاتها التي نشأ فيها وألِفَ أركانها وقاعاتها ودرج منها أبوه وجده لم تتبدل ولم تتغير، ولو تساءلت عن السبب الذي جعله يتأفف من المجتمعات العادية في ضوء القمر في عرصات الدور، حيث كان يغنِّي مع رفاقه ويضحك بملء فيه لكان الجواب على ذلك: إنه أخذ من الحضارة والمدنية بقسط عظيم.

اللهمَّ إنْ كانت المدنية هي هذا الفساد الذي يخرب الدور ويفرط عقد العائلات، ويزجُّ بالرجال في مواخير الفجور وحانات الخمور، ويفسد العقول والنفوس ويميت الضمائر، ويطرد السرور من القلوب ويقتلع السعادة من البيوت الآهلة؛ فإنها لبئس المدنية وخيرٌ منها البداوة والهمجية.

المدنية الصحيحة بعيدة عن مثل هذه النقائص بُعْدَ الخير عن الشر، وما هذه إلَّا إفراط لإرضاء شهوة النفس وتقليد نشأ عن ضعف الإرادة، والتورط في المضار بغير تفكير ولا تدبير، وعن إهمال الواجبات العائلية والابتذال في سبيل الملاذ المضرة بالصحة والسمعة، وترك الاعتدال في العيش والسرور.

ولا يقوِّم هذا الاعوجاج غير الرجوع إلى العادات القديمة الحسنة، واحتقارُ هذه المضار المتفشية احتقارًا ينفِّر منها النفس ويردعها عن الغي؛ عساها ترعوي وتنشط للتطهر من أدران تلك الحياة المرتبكة. إنَّ من عادات الأقدمين في اللهو والسرور ما يشرح الصدور، ويبعث في القلوب الفرح والابتهاج، فلو تعمَّد تلك الوسائل نفرٌ من الشاردين، وقارَن بين الأغاني القديمة المهذبة وبين ما يتغنى به اليوم دعاة الفجر والفساد، لتهييج العواطف وسحر العقول، لعرف الفرق بين الفضيلة والرذيلة والميزة بين العفاف والدعارة.

زينة المرء الخلقُ، فالأخلاق حلية الرجال ودليل التكمل، وكل فرد سفلت أخلاقه سقط في نظر الناس، والأمة مجموع الأفراد فمتى انسرح أفرادها من الأخلاق الفاضلة تجرَّدت الأمة من دلائل الكمال، وخلا مكانها بين مصاف الشعوب الراقية. فالحكمة في الاحتفاظ بالأخلاق والعادات القومية احتفاظ العارفين بالآثار النفيسة، فإنها عنوان الكمال والدليل المحس على الرقي والتحضر.

وقد يلاحظ أنَّ هذا محال على كثيرين؛ لوفرة جهلهم كلَّ ما يختص بالحياة العائلية والأخلاق الفاضلة. والحقيقة أنَّ المحال أو العسير إنما هو وجود روح الاعتدال التي تحبب الحياة العائلية إلى الإنسان، فإذا ما وُجدتْ سهل غيرها من وسائل السعادة على المرء؛ لأنه يستطيع أنْ يقلد الحَسَن كما استطاع أنْ يقلد غيره من المفاسد والمضار.

إنَّ الحياة العائلية لا تحتاج أفرادًا عديدين، أو دارًا مشيدة، أو سعة ليست في استطاعة العائل؛ فالرجل يستطيع أنْ يهنأ في كوخه، وينعم مع زوجته، ويجعل السعادة ترفرف على خصهما الحقير متى عرف كيف يعيش ويبعد عن مزالق الحياة الفاسدة ويقمع شهوة النفس الخبيثة.

إنك لتدخل دارًا فلا تتجاوز سدَّتها حتى ينقبض صدرك، وتحس بالرطوبة تتمشى في كل مفاصلك، وتشعر بقشعريرة في كل جسمك. وتدخل دارًا أخرى فلا تكاد تتجاوز بابها حتى ينشرح صدرك، وتشعر بالانشراح والسرور الداخلي بلا سبب ظاهر، ما هذا إلا لأن للقاطنين تأثيرًا في الأماكن، فتظهر عليها مِسحة مما على ذوي الدار وأربابها.

إنَّ المرء لينتقل من دار إلى أخرى، فيحنُّ إلى القديمة ويمرُّ بجدرانها فتذكره بكثير من حوادث الماضي والأوقات الهنية. وإنه ليتعلق بريحانة يغرسها على حافة النافذة ويتعهدها بالسقيا، وإنه ليحتفظ بأثر من الآثار وقد لا يساوي شيئًا، وهو يجد في تلك الأشياء سلوةً وعزاء وتذكارات لذيذة، تعيد إلى القلب شيئًا من السرور أو السعادة الماضية، فهل يشعر أبناء هذا العصر بشيء من هذا الشعور؟ إنَّ التحوَّل الدائم والتغيير المستمر في الأماكن وشكلها ورياشها، وفي الأخلاق والأذواق والعادات، يترك الناس على غير هدًى ومبدأ ثابت.

•••

ألا إنَّ دار العائلة هي الموئل الذي يجد فيه المرء الراحة عند التعب، والحبَّ الطاهر إنْ عرف كيف يغرسه ويواليه حتى ينمو ويترعرع، فيقطف من ثمره الناضج وزهره العطر. وهي المكان الذي يجد فيه العزاء إنْ أصيب بمكروه، والعناية إنْ مرض والراحة إنْ شاخ وهرم، وفيها وبها يخدم الوطن ويخرِّج له أبناء صالحين يعملون لصالح البلاد ونفعها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤