الكِبْرُ والاعتدال

ربما تعب الباحث دون أنْ يجد موضوعًا غير الكِبْرِ يثبت به أنَّ العقبات التي توجد في طريق الرقي الاجتماعي يخلقها الإنسان لا الظروف.

ولو كانت المصالح المتباينة والمراكز المتفاوتة هي وحدها سبب الخصومات، ومنشأ الشجار والعراك، لكان السلام سائدًا بين المتكافئين في الطبقات والمراكز، وذوي المصالح المتماثلة، والحظوظ المتشابهة، ولزال من بينهم كل اختلاف. والحال أنَّ أشد العداوات ما كانت بين المتناظرَين المتساويين في الجاه والمراكز والثروة والمهنة، وبين الأنداد والرفاق. ولو أنصف الناس لاعترفوا بأن سبب الخصام والعداء إنما هو في الحقيقة الغطرسة والكِبْر؛ فهما يجعلان الرجل كالقنفذ ما مس غيره إلا وآلمه وآذاه.

الناس لا يغيظهم من الغني الوجيه وجاهته وغناه، ولا كثرة خدمه وحشمه، ولا فضته وذهبه، ولا زينته وظهوره، بل يغيظهم الاحتقار الذي يتعمده والتعالي الذي يظهر به. وما يسؤهم إنْ كثر مال زيد أو قل، ولا يضرهم إنْ تبرَّج وتزَّين، ولا يقهرهم إنْ استكثر من الخدم والأعوان؛ لأن كل هذا خاص به وليس فيه أذًى للناس، ولكن يؤلمهم أنْ يجرح الرجل عواطفهم بتعاليه واحتقاره شأنهم وشموخه عليهم، حتى ليفترض عدم وجودهم وتجردهم من مميزات الإنسان، لا لسبب غير إكثاره وإقلالهم وغناه وفقرهم، إنه بذلك ليؤلمهم بلا فائدة يجنيها. وإنَّ النفس العالية لهي التي تثور في وجه ذلك الشامخ الوقح، وليست هذه الثورة عن حسد، ولكنها إحساس العاطفة المجروحة التي تنزع إلى الثأر وتأديب المعتدي، وإلا فلا كرامة للنفس ولا قيمة، وكل امرئٍ خالط الناس وعرف واجبات نفسه وما عليها يعترف بصحة هذا القول، ولا يكابر أو ينكر التأفف والاستياء العام من كل متكبر مختال.

إنَّ هذا الداء كثير الشيوع والانتشار حتى ليكون قدر الكبر على قدر الثروة أو يزيد، والوداعة على قدر الفقر والعوز فالغني يحتقر مَن دونه وشأنه مع الأكثر مالًا وجاهًا شأن المقل في نظره؛ ولهذا هام الناس بالتطلع إلى ما فوق آفاقهم والوقوف في غير مصافهم، فنشأ عن ذلك التزاحم والعراك، ووجدت الخصومات في القلوب أبوابًا مفتحة وأرضًا ممهدة، فغرست فيها بذور المنافسة والشقاق، وليس الفقر هو السبب الرئيسي وإنما الكبر والصلف.

من الأغنياء كثيرون لم يصبهم هذا الداء الوبيل، وجل هذا الفريق ممن ورثوا الجاه والثروة أبًا عن جد، فعلى قدر أنسابهم علت نفوسهم وطابت قلوبهم. ولكن أولئك أيضًا يجهلون أنَّ ظهورهم بالبذخ والإسراف والفخفخة يخلق الحسد في قلوب ذوي الفاقة، ومن لم تحصل أيديهم على فتات الموائد وثمالات الكئوس ومطرح الثياب الخلِقة.

أليس من الذوق السليم اجتناب القوي الممتع بالصحة والعافية، ذِكر ما يتمتع به من راحة وهناء في نومه ويقظته، وفي أكله وشربه أمام المريض الذي يدنو من ساعته الأخيرة ويهيأ له القبر؟ كثيرون من الأغنياء ينقصهم الذوق السليم والشفقة والحكمة؛ لأنهم بأعمالهم يثيرون على أنفسهم نفوس سواهم ويحركون عوامل الحسد، فهل يجوز لهم بعد ذلك أنْ يتأففوا من العواقب، أو يستاءُوا من نتيجة المقدمات التي وضعوها بأنفسهم؟ إنَّ ضعف التمييز هو الذي يجعل الأغنياء فخورين بما ملكوا، وينفث فيهم روح الاختيال والكِبْر.

من الخطأ الاعتقاد بأن الثروة من الصفات الشخصية التي ترفع أو تخفض قدر الإنسان، فقيمة الشيء في ذاته لا في الغلاف الذي يحتويه، والعاقل من لا يخلط بين ما يملكه وبين شخصه؛ لأن الفصل بين الاثنين سهل وممكن في كل الأوقات، والجوهر النفيس لا تقلُّ قيمته أو تكثر بتغير ما يُحفظ فيه، فالمتكبر مغرور ومخدوع، وكثيرًا ما ينسى أنَّ التملك عارض يزول، وأنَّ الإنسان من أفراد الهيئة الاجتماعية كَبُر أو صغر، فيجب أنْ يكون كل ما يعمله موجهًا للصالح العام قبل أي غرضٍ آخر.

ومن ضعف العقل تصور الغنى والثروة وسيلة للتمتع بما تشاء النفس وتجنح إليها ميولها، ولهذا نرى القليل من الخلق يعرف كيف يتربع عرشَ الغنى والجاه. فكم من الملوك تواتروا على عروش الأمم، ولكن النذر القليل منهم عرف كيف يحكم ويتربع العرشَ، وكما كان التاج شوكًا في رءوس الكثيرين من الملوك، فكذلك نرى الثروة بين يدي الكثيرين من ذوي الغنى، كالقيثارة بين حافري الدابة لا يعرفون التمتع بها، كما لا يعرف الحيوان التوقيع على الآلة ليطرب.

والغني الذي يعرف أنَّ الثروة ليست إلا وسيلة لتأدية واجباته الإنسانية، وقضاء حاجاته المعتدلة، وحاجات المجتمع الذي هو فيه هو رجل يجدر به التبجيل والاحترام؛ لأنه الإنسان الكامل. وهو عاقل لم يغترَّ بوسائل التغرير التي تلعب برءوس الكثيرين من أمثاله. وهو حكيم؛ لأنه لا يخلط بين قيمة ما في جيبه وبين ما في رأسه، ولأنه يقدِّر الناس بالصفات والأعمال لا بالجاه وكثرة الأموال. وإنَّ هذا الرجل ليتضع بدلًا من أنْ يشمخ؛ لأنه يعلم مقدار المسئولية التي عليه والواجبات التي يستدعيها مركزه الاجتماعي، فبدلًا من أنْ يكون غليظًا صلفًا تراه وديعًا لطيفًا، وعوضًا من أنْ يحتجزه الغنى عن بقية العالمين يتخذه واسطة للقرب من إخوانه، والأخذ بناصرهم متى كانوا في حاجة إلى ذلك. إنَّ مثل هذا الرجل ليخفض من حقد الناس على الأغنياء الأغبياء الذين يثيرون على أنفسهم سخط الجمهور بما طبعوا عليه من العتوِّ والكِبْر. وإنَّ مَن يجتمع بمثل هذا الرجل لا يلبث أنْ يستصغر نفسه بجانبه، ويشعر بتفوقه عليه، وكثيرًا ما يسائل نفسه عما إذا كان في استطاعته أنْ يعمل عمله، ويكون في وداعته ولطفه إنْ أتيح له أنْ يكون يومًا ما في مركزه وجاهه.

إنَّ الدعة والطيبة لا تنزعان الحسد من القلوب المنافسة فقط، بل تكونان واسطة أيضًا لاستمالة قلوب الناس ومحبتهم، وما الذي يضرُّ الأغنياء من حمل الغير على حبهم بدلًا من إثارة البغضاء والعداء في نفوسهم؟

•••

أضرُّ من الكِبْر الذي يسببه الغنى العتوُّ الذي ينشأ عن السلطة، والمراد بالسلطة كل نفوذ يخوِّله المنصب سواء كان مقيدًا أو بلا قيد. نعم، إنه من المحال أنْ يبقى العالم بلا نظام عام يفضي بمقاليد إدارته وتدبيره، وتنفيذ مقتضياته إلى أناس تتفاوت درجاتهم بتفاوت العمل المطلوب منهم. وإنما الخوف كل الخوف والخطر الداهم هما في جهل الموظفين استعمال هذا النفوذ فيما وُضع له، وعلى قدر ما يسمح به النظام العام، بدون تعدٍّ على الحرية الشخصية، وبدون مسِّ كرامة الناس بلا حق. الخوف كل الخوف من سوء استعمال السلطة وتشويه سمعتها عند الجمهور، فيقع الضرر على رءوس الحاكمين المستبدين. إنَّ السلطة والنفوذ وإطلاق اليد بالحكم تحدث في عقل الموظف تأثيرًا سيئًا يختلف زيادة ونقصًا باختلاف سعة العقل وضيقه، والحكيم الثابت من لا تفسد السلطة نفسه ولا تحوِّله عن جادة الحق.

الاستبداد في ذاته نوع من الجنون النوعي يتسلط على عقول الحاكمين، وهو مرض عام لم يخلُ زمان من أعراضه وظواهره. والظلم كمين في النفوس تظهره القوة ويخفيه الضعف. والظالم في الحقيقة أكبر عدوٍّ للسلطة، ومن أقوى أسباب الانقلاب عليها، وكل مَن يأمر وينهى ويسخِّر الناس لمجرَّد التلذُّذ بإخضاعهم لشخصه يسيء إلى نفسه قبل أنْ يسيء إلى الناس؛ لأن العبرة بالعواقب لا بالأوقات القليلة التي تتمتع فيها النفس بميولها الفاسدة.

وليس من ينكر أنَّ في كل نفسٍ شعورًا داخليًّا ينفِّرها من الحكم المطلق والإذعان لغير النظام العام. والعقل يحكم بصحة هذا الشعور واحترامه؛ لأن الناس في الحقيقة متساوون وقد خلقوا أحرارًا. فليس هنالك ما يحمل زيدًا على الخضوع لبكر لمجرد أنه زيد وهو بكر؛ لأن استسلام الأول يذله ويحقره في عيني نفسه وفي عيون الناس، والرضاء بالهوان دلالة على صغار النفس وانحطاطها.

وليس من يدرك الضرر الذي ينجم عن الاستبداد والصلف، مثل من عاشوا في المدارس والمعامل والجيش وإدارات الحكومة، ورأوا من قربٍ أكثرَ العلائق التي بين الرؤساء والمرؤسين. إنَّ الاستبداد مما يزهق النفوس الحرة ويحوِّلها إلى نفوس مستعبدة، ولكنه ينفث فيها روح الثورة والفوضى. ويظهر أنَّ هذه النتيجة الوخيمة التي لا تلتئم مع صوالح الهيئة الاجتماعية تكون أكثر خطرًا وأشد تأثيرًا على النفوس، كلما خرج المستبدون المرهقون من صفوف الشعب، وتناسوا منشأهم وأثقلوا ظهر الأمة بما استطاعوا من أنواع العتوِّ والإرهاق.

والمشاهَد أنَّ الجندي في الجيش أشدُّ صلفًا وقسوة من الضابط، وهذا أقسى وأشدُّ على مرءوسيه من القائد على الجميع. وقد ترى في المنازل والقصور أنَّ السيدة التي لم تنل حظًّا وافيًا من التعليم والتربية، أو التي ينتشلها زوجها من درك منحط تكون أكثر عتوًّا وقسوة على الخدام من بنات البيوتات وذوات التربية العالية.

•••

من خطأ الحاكمين تجاهلهم أنَّ الواجب الأول على ذي السلطة الدعة والخشوع؛ لأن الغلظة والصلف ليستا من السلطة في شيء، بل هما تدلان على الضعف وتنشأان من الحماقة. السلطة مستمدَّة من النظام والقوانين، فهي للقانون والنظام وليست للأشخاص، والقانون فوق المصالح الشخصية، وفوق الناس، وفوق الرغبات والأغراض. فمن أهم واجبات الموظفين الذين يمثلون القانون أنْ يحترموه ويخضعوا له ويسيروا على مقتضاه؛ ليكونوا قدوة صالحة لغيرهم. فإن الحكم والطاعة في ذاتهما توءمان لا يفضل أحدهما الآخر، والطاعة إنْ لم تكن اختيارية لشعور المرء بضرورتها طبقًا للنظام العام فهي ليست بالطاعة. ولو تأمل الناقد في أسباب الفوضى والثورات، لعلم أنَّ منشأها جهل الحاكمين بأغراض النظام، واستعمالهم السلطة والنفوذ في غير موضعهما.

وليس من يعرف سرَّ الحكم وروح الطاعة غير المعتدلين الذين لا يرهقون العباد، فتراهم ودعاء عند الشدة تلطف كلماتهم وقر القسوة، ويخفف لينهم وطأة النظام على النافرين الجامحين، فينالون ما يتطلبه القانون والنظام، وينفذون ما شاءوا من غير حاجة إلى الاعتساف ووسائل القوة. ومن شاء أنْ يطلب إلى الناس عملًا أو تضحية فعليه أنْ يبدأ هو بها قبل أنْ يطلبها من غيره. إنَّ العين لترى كثيرًا من القواد المستبدين فتحسبهم غزاة أشداء، وما هم إذا جاء وقت الحاجة إلَّا ضعاف لا حول لهم على مَن تحت إمرتهم؛ لنفور النفوس منهم، ولأن الجبن من صفات المستبدين. وكم من هزيمة أو اندحار نجم عن إبغاض الجنود القائدَ المستبد؟! وكم من القواد تراهم ودعاء حتى لتحسبهم من الجنس اللطيف؟! فإذا ما تأججت نار الوغى وحمي وطيس الحرب كانوا روحًا تنشط النفوس وتشدِّد العزائم، فترى الجنود تحت إمرتهم يفتدونهم بالأرواح، ويعترضون سبيل الخطر غير حافلين بالحياة ولا فزعين من هول الموت. فمن شاء أنْ يطاع ويحترم فعليه بالاعتدال في الحكم؛ ليملك القلوب قبل إخضاع الرءوس، فإن من السهل على النفوس الخضوع مع الحب، وصعب بل ومحال ذلك عليها مع البغض والكراهية.

•••

إنَّ الرجل الذي ينفخ أوداجه الكِبْرُ وتعميه الخيلاء، حتى يقول: أنا هو القانون، هو الأحمق المتعجرف الذي يهيج روح الثورة والتمرد في الأفئدة والقلوب، ومثله وأشد منه خطرًا من لا يريد أنْ يخضع لروح النظام، ولا يريد أنْ يعترف بوجود سلطة قاهرة يدين لها مع الاحترام.

في الناس كثير من هذا النوع الفاسد يهيجهم ويسوءهم النظام على وجه العموم، ويحتقرون كل رأي لسواهم وإنْ كان صوابًا وكل انتقاد وإنْ كان على حقيقة، ويرون كل سلطة — وإنْ كانت شرعية ومن دواعي العدالة — تعدِّيًا على الحرية الشخصية. أولئك فوضى لا يعترفون بسلطة ما، ولا يخضعون لغير أفكارهم السخيفة وعقولهم القاصرة، ولا يرون من المصلحة العامة إلَّا ما كان منطبقًا على أغراضهم ومصالحهم الشخصية، ولا أظن الحشرات المؤذية والأمراض الوبائية أشدُّ خطرًا على البلاد والعباد من هذا الفريق السقيم.

ويدخل في عِداد المتكبرين كل مرءوس يشمخ بأنفه، ولا ترضيه معاملة رئيسه وإنْ حسنت، ويظن كل إشارة منه تحقيرًا له، أو حاطَّة من كرامته جارحة عواطفه. فهؤلاء فريق لا يستطيع أكرم الناس وأوسعهم حلمًا إرضاءهم، وهم يؤدون أعمالهم بتذمر كأنما هم أرقاء مسخرون، ولا شكَّ في أنَّ منشأ روح الكبرياء التي تنفخ أوداج أولئك الحمقى هي الأنانية وحبُّ الذات، فعسير عليهم أنْ يؤدوا عملهم تامًّا جيدًا، وكثيرًا ما يكونون سببًا في المشاكل والتهويش على أعمال وحياة من يعملون بينهم؛ لسوء نياتهم وخبث نفوسهم.

ومن يُعنَ بدرس طبائع الناس درسًا دقيقًا يرَ الكبر متفشيًا منتشرًا، وله مواطن عدة بين من اشتهروا بالتواضع. وقد تشتد وطأته على البعض حتى ليكون حاجزًا بينهم وبين أقرب الناس إليهم، ويكوِّن من المطامع واحتقار الغير حصنًا منيعًا لهم يصدهم عن الناس. والكبر — سواء أظهر أم بقي كامنًا في النفس — من أردأ الصفات التي تجرد صاحبها من الإنسانية، وتمثله عدوًّا للجنس البشري على الإطلاق. والمتكبر — فقيرًا كان أم غنيًّا — يقضي حياته معتلًّا محزونًا منعزلًا عن الناس، ويكون دائمًا سيئ الحظ لدرجة غير محدودة، ويسبب من المشاكل ما يشقيه ويتعب من يربطهم به العمل وسائر الروابط الاجتماعية.

ومن المؤكد أنَّ معظم الكراهية والبغضاء التي تتولد بين الناس في سائر الطبقات تنشأ غالبًا من هذا الداء الوبيل. نعم لا ينكر أنَّ اختلاف المصالح وتناقض المنافع والمزاحمة على المراكز الحيوية والاجتماعية تسبب العداء بين الناس، وتجعل بينهم حوائل وموانع، ولكن الكِبر يجعل هذه الحوائل سدودًا عالية سميكة يقف المتكبِّر خلفها وجلًا، يندب حظه ويتساءل مدهوشًا عما إذا كانت قد انقطعت كل علاقة بينه وبين الناس.

•••

كل مَن يكون على شيء من العلوم والمعارف ويضن على الجمهور بمعلوماته، هو ممن أخذ الكبر بخناقهم ووسمهم بميسمه الشائن؛ لأن رقي الهيئة الاجتماعية لا يتم إلا بنشر التعليم الصحيح، وعناية المتعلمين بأمر غيرهم، ومن لم يفعل فهو مقصِّر ملوم.

ومن عداد المتكبرين المعجبين بأنفسهم كل عاقل يحتقر من قضى عليه نكد الطالع بالجنوح عن السبيل السوي فارتكب وزرًا أو أتى أمرًا إدًّا. فمِن لوازم الإنسانية الشفقة، وعدم الافتخار بفضائل النفس، والتساهل مع المسيئين، وقبول معذرة المخطئ، وكل فضيلة دالة أو مختالة تقل قيمتها الذاتية إنْ لم تتلاشَ وتزُلْ.

ومن الخطأ الحط من قدر المواهب والكفاءة الشخصية بافتراضهما واسطة للظهور والكبر؛ لأن الفضل كله راجع إلى كليهما معًا أو إلى أحدهما. واستعمال الثروة والجاه والسلطة وعواطف القلب والعلم والفكر لمجرد الزهو والكبْر يقلل من فائدتها العامة، ويحوِّلها إلى أسباب للشقاق والأذى؛ لأنها لا تثمر ولا تفيد إلَّا إذا حسن استعمالها، وكانت مقرونة بالتواضع والحكمة.

•••

كل دَيْنٍ واجب وفاؤه، والشريف من يدفع ما عليه رغبة في أداء الحقوق، لا رهبة من الوسائل القهرية. وعدم الوفاء يكون إما عن عسر وإما عن تقصير، أو عن رغبة في هضم الحقوق، ولكن الشرف في الاعتراف بالحق ووفائه بغير مكابرة، وكل ما يملكه الإنسان من متاع أو يحصل عليه من ثمرات العقول دين عليه للناس يؤدي لهم ثمنه. وليس في استطاعة الرجل أداء كل الواجبات المطلوبة منه، فهو في حكم المعسر وواجب عليه الغض من كبريائه؛ لأن المدين المعسر لا يرفع رأسه عتوًّا وخيلاء أمام الدائن الملحِّ.

وخير لذي المنصب والنفوذ، ولمن في يده شيء من أمور العباد وتدبير النظام والإدارة أنْ يكون متواضعًا لا غليظًا فظًّا؛ لأن الواجبات الجمة التي يتطلبها المركز أكبر من قوته مهما أوتي من المقدرة والكفاءة. والعاقل من يحكم على نفسه بالتقصير بدلًا من الدعوى الكاذبة والفخر.

وليكن الاتضاع من صفات العالِم الضليع؛ لأن العلم وكثرة الاطلاع تدلُّ المرء على قدر نفسه وحقارة معلوماته الكثيرة بالنسبة للمجهول الغامض، فما العلم إلا خضم عجاج لم يغترف منه الناس غير قطرة واحدة، ليكن الاتضاع من صفات ذوي الحِكمة والفضائل؛ لأنه ليس من يعرف عيوب نفسه حق المعرفة. فالعين لا ترى سيئات النفس ولا تعرف ما يخبئه القدر بين ثنايا المستقبل. وإنَّ اعوجاج المستقيم أسهل من تقويم المعوجِّ، وتحطيم الصحيح أيسر من إصلاح المحطم، فكذلك السقوط أكثر إمكانًا وأسرع تحقيقًا من القيام والارتقاء. ومن لا يعذر الناس ومن لا يشفق على الغير تقسُ عليه القلوب. ومن لا يلبي دعوة المستغيث تصم الآذان عن سماع صوته حتى يبحَّ ويتلاشى.

•••

ليس الغرض مما مرَّ محو الفروق الضرورية بين طبقات الهيئة الاجتماعية، وإزالة كل مميز للمراكز عن بعضها؛ لأن ذلك ضروري للنظام العام، ومحتم وجوده لكمال الاجتماع، ولكنني أرى أنَّ الفارق الذي يميز فردًا عن آخر ليس هو في المركز ذاته، ولا في المنصب، ولا في الرتبة، ولا في الثروة، وإنما في ذات الإنسان وشخصه.

ولم تظهر صحة هذا القول في عصر من العصور مثل وضوحها في هذا الزمن الحاضر، ولهذا رسخ في كل الأذهان تقريبًا فساد الاعتقاد بضرورة سمو المميزات العرضية، ولم يعد للتاج والعرش تأثير على العقول والقلوب، ولا عاد القروي يرتجف ويهلع أمام سيف الضابط ورداء الجندي، ولا عاد للرتب والأوسمة تأثيرها الأول في النفوس؛ لأن العالَم أدرك أنْ لا قيمة لها في ذاتها، وأنَّ قيمتها الحقيقية إنما تكون في شخص حاملها. وأصبح من الهين على الشعوب خلع من لا يحسن سياسة الملك، بعد أنْ طال العهد بالاستكانة لشهوات الحاكمين وجوْر المتعسفين. وصار من الأمور العادية معاقبة الضابط الذي يهين الناس بغير وجه حق اعتمادًا على هيبة وكرامة ردائه العسكري. كل ذلك صار من الهيِّنات؛ لأن الغشاوة التي كانت تحجب عن البصائر نور الحقيقة والتمييز أزالها مرور الزمن والتعليم وكثرة التجارب.

وقد كان للاستبداد والظلم أكبر تأثير في رفع حجاب الجهل عن العيون، ودفع الناس لاطراح رداء الرق وكسر قيود العبودية، فلم يعد للأوهام قيمة إلا في مخيلة المجانين والأطفال والأغبياء. وأصبحت الأقدار على قدر الكفاءات الشخصية والمميزات الذاتية، ومن رام إعنات الناس وإرغامهم على احترام ذوي المناصب لوجودهم فيها، أو الأغنياء لمجرد الغنى والثروة يرهق هذه النفوس، ويولِّد فيها الكراهية بدلًا من الحب، والاحتقار بدلًا من الاحترام.

مما يؤسف له انتشار روح خبيثة في كل أفكار الشعوب، نشأ منها الاحتقار العام ومقت ذوي المناصب وأفراد الطبقات العالية، وليس ذلك لعدم وجود المميزات الشخصية الجديرة بالإكبار والإعجاب. وإنما لغطرسة أولئك الكبراء وتعمدهم تناسي واجباتهم نحو الاجتماع وروابطهم بالإنسانية، ولعدم احترامهم الناس إلَّا من يكون معهم في مستوًى واحد أو يسمو عنهم جاهًا وسؤددًا.

إنَّ الرفعة لا تُخْلِي العظيم من المسئولية ولا تكبر به عن الاستسلام للقوانين والنظام العام؛ لأنها فوق كل عظمة وجاه، ومن الغرور والجهل نبذ التواضع والوداعة تظاهرًا بالارتقاء والرفعة. واللوم راجع إلى الإنسان نفسه إنْ لم يعرف كيف يكتسب احترام الناس.

ومن الثابت عقلًا وتجربة استحالة وفاء من لا تصدق في معاملته، وحبِّ من تبغضه، واحترام من تحتقره وتنكر عليه كرامة النفس، فلا بدَّ لحفظ نظام الاجتماع من وجود الاحترام بين الأفراد، وذلك لا يكون إلَّا بوجود المميزات بينهم، والمميز الحقيقي بين الفرد والناس إنما هو التفوق بالكفاءة، وحسن الخلق، وسلامة الضمير، وشرف النفس.

والمشاهَد أنَّ كل ذي رغبة في الرفعة والارتقاء يخفض من كبر النفس والغلواء، ويقوِّم من اعوجاجه بقدر ما يستطيع، ويظهر ودودًا وديعًا حتى مع من يتحتم عليهم احترامه وطاعته، وعلى قدر تساهله في إنكار ذاته والتخفيض من كبريائه تكون منزلته في القلوب والأنظار. فكأن الاحترام والكِبْر خلقا على نسبة عكسية في كل أدوار الحياة، وبين كل أفراد الهيئة الاجتماعية مهما اختلفت الأزمان والظروف والأسباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤