الاعتدال والمَطَالِب

عندما يشتري الإنسان طائرًا من بائع الطيور يوقفه البائع على كل ما يتعلق بغذاء ذلك الطائر، وطرق معيشته بكلمات قليلة موجزة. والإنسان نفسه لا يحتاج إلى أكثر من هذه الكلمات لمعرفة حاجاته الضرورية؛ لكونها على غاية من البساطة لا تُسئم ولا تضني، ولا تتطلب جهدًا يتعب ويكرب. فمن تعداها كثرت متاعبه، وزادت حيرته في الحياة، واعتلت صحته، واحتواه الملل والضجر، وعرف الهموم ومتاعبها الجمة؛ إذ لا شيء يحفظ صحة الإنسان وقواه كالمعيشة البسيطة الخالية من كل شذوذ، ولا شيء يضنيه ويتعبه غير تناسي هذه الحقيقة، والابتعاد عن السذاجة الفطرية والبساطة. ولو تساءلنا عما تتطلبه الحياة من الماديات ليعيش الإنسان عيشة راضية، لما كان الجواب إلَّا الطعام المغذِّي واللباس البسيط والمسكن الصحي والهواء والحركة. تلك هي الحاجات البسيطة التي تكفل للكائن الحي العافية والقوة. بيد أنَّ النفس تتوق إلى غير الاعتدال في الحاجات، وتشتط في المطالب الكمالية التي تنوء بها الكواهل، وتطرد من العائلات السعادة والهناء. وليس على المرء إلَّا أن يرسل نظرة دقيقة إلى الهيئة الاجتماعية؛ ليتحقق من ابتعاد الجميع عن روح الاعتدال الحميد.

ولو خطر لأحدهم أن يسأل أفرادًا من الناس عن لوازم المعيشة، والحاجات الضرورية للحياة لجَمَعَ خليطًا من الأجوبة المتباينة، فتتضح له رغبات الناس وأماني النفوس الطامعة متفاوتةً بتفاوت المطامع ودرجات التربية والتهذيب.

وكل هذه الرغبات تنحصر في مختلف الأطعمة، وزخرف اللباس، واختيار القصور المشيدة والحدائق الغناء، فلا ترى ذلك ممكنًا إلَّا للسراة وكبار الأغنياء، حتى إذا وصلت إلى مَن دونهم ثروة وكسبًا استحالت مرضاة النفس، فتعيش مرغمة على الكفاف ناقمة على سوء الحظ وقِصر اليد عن إرضائها بما جنحت وتاقت إليه.

وكم من الناس من انتحروا لأول إصابتهم بشيء من العسر بعد السعة، ففضَّلوا الموت والفناء على الإقلال بعد اليسار. مع أنَّ الحال التي لم ترضهم ربما كانت نعمة يحسدهم عليها غيرهم ويحلم بمثلها الكثيرون!

والمُشاهد أنَّ العالم صنوف مختلفة: منهم الأغنياء وملوك المال، وأولئك يعيشون عيشة البذخ والظهور، تحوطهم الأتباع والخدم ويتقلبون في مساكن عدة حسب تقلب أيام السنة وفصولها. ومنهم أنواع المزارعين وذوو الأملاك، وأولئك في حال من العيش لم يبلغ بذخ الأغنياء، ولم يهبط إلى دائرة الفقراء. ويعقبها طبقة الشعب وهي المزيج من ذوي الكفاف والصناع والعمال والفلاحين وسائر أفراد الأمة، بيئة لا يعرف العيش فيها إلَّا من نشأ معتادًا ما فيها من ضيق وعسر، ويصعب على أفراد الطبقات الأخرى اعتياد شظف عيشها ونكد حياتها، ومن قضى عليه الشقاء بالتدهور إليها لاقى من صنوف العذاب والألم ما لم يعرفهُ، ولا يكون له جلدٌ على احتماله، وربما طلب الموت فرارًا ويأسًا.

إن الناس على اختلاف الطبقات متساوون في الخلقة والتكوين؛ لأنهم من نوع واحد وطينة واحدة، لا يتفاوتون إلَّا في الحاجات والتبذير في الكماليات وحب الظهور، وليس من المفيد أو الضروري لسعادة الإنسان والهيئة الاجتماعية أنَّ تتعدد المطالب، وتكثر الحاجات إلى درجة تستدعي أنْ ينهك المرء نفسه، ويستنفد قوَّته وجهده للحصول على بعضها، إذا لم يتمكن من الحصول عليها جميعًا. ولو قارن كل فرد نفسه بمن هو دونه في الغنى والجاه، ونظر إليه كيف يرضى ويسر بالضروريات — إن حصل عليها — لاستطاع أن يردع النفس عن غِيِّها، وقوي على كبح جماحها وأرضاها بما يرضي القنوع الراضي.

والحقيقة أنَّ الاستياء عام يشمل كل الطوائف وكل الأفراد، اللهمَّ إلَّا المعوزين الذين لا يملكون قوت اليوم، أولئك الذين يتضوَّرون جوعًا ويُصْلَوْن لفحات الشمس؛ لأنهم لا يجدون مكانًا يتفيئون ظله، ويقرسهم البرد؛ لأنهم عراة لا يملكون لباسًا ولا غطاءً ويقتلهم العوز؛ لأن يدهم خالية لا تشمل ميراثًا ولا تستثمر موردًا. وإننا لنظلم أولئك البائسين إن عددناهم من الساخطين المستائين.

وقد يتعب الباحث إذا عني بمعرفة سبب سخط الناس على عيشهم وما هم فيه، سواء في ذلك طبقة الشعب والطبقة المتوسطة، أولئك الذين لديهم ما يفضل عن حاجتهم الضرورية ولا ينتفعون بما نالوا من الرزق ولا يعترفون بنعم الله وما منحهم من جزيل العطاء. فإنْ صادفت غنيًّا قانعًا بما في يده فلا تتوهم كون سروره بماله وثروته، فإنما هو رجل يعرف كيف يقنع فيسر وكيف يسعد فيلذُّ له العيش.

الدابة إن شبعت تنام ملء عينيها، ولكن الإنسان لا يهدأ طويلًا إذا هو أثرى، بل يشتد طمعه ويزيد جشعه، وكلما كثر ماله زادت شراهته وتعددت رغباته وأمانيه. ومن هذه الحقيقة ترى أنَّ أكثر الناس شكوى من الحال وسخطًا على العيش هم أكثرهم سعة، وأوفرهم في أسباب الاغتباط والشكر. وهذه حجة قاطعة على أنَّ السعادة ليست في الغنى وكثرة الحاجات، وإذا لم يعرف الإنسان هذه الحقيقة البديهية، فلا يعرف حدًّا لمطامع النفس، ولا يوقف رغباتها المتعددة، فلا يعرف معنًى لهدوء القلب وطمأنينة النفس.

•••

إن الرجل الذي يعيش ليأكل ويشرب وينام ويلبس ويتنزه ويلهو بكل ما في وسعه من أسباب الملاهي والملاذ؛ هو المعتلُّ أسير الشهوة وعبد النفس، سواء كان هو المقعد الذي يلذ له النوم تحت حرارة الشمس، أو العامل السكير، أو القروي البطن، أو المرأة المولعة بالزينة والتبرج، أو السري الشهواني، فكلهم على مزلق السقوط الأدبي، وهو مزلق — لو عرف الناس — خطير.

ومن ساء حظه وزلَّت قدمه كان شأنه شأن الحجر الساقط من علِ. وقد يعلل النفس بالوقوف عن هذا التطوح بعد نيل أمنية مطموع فيها، ولكنها تعلَّة فاسدة لا تلبث أن تزول إذا نِيل المطموع فيه فلا يقف ولا يقنع، يسوقه الطمع قسرًا ولا إرادة تمنعهُ من التورط؛ لأن الخضوع لأهواء النفس ومراميها يقضي على الإرادة ويقتلها، هذا هو سرُّ الارتباك المتفشي والاستياء العام، وهو أقل جزاء لمن تخضع إرادته لميوله ويستعبده الطمع والجشع، فإنَّ الرغبة تفعل في قلبه فعل النار بيابس الحطب، وتنخر عظامه نخر السوس الخشب، وتمتص دمه فلا يذوق طعم الراحة والهناء ما دام في قيد الحياة.

وليس هذا مجرد تخمين أو ظن أو رجم بالغيب، وإنما هو حكم وثيق بعد مشاهدات عديدة، واحتكاك بأحوال الناس وتصرفاتهم، حكم تؤيده المشاهدة والواقع، وهو من الحقائق التي لا ينقضها العقل ولا المكابر.

انظر إلى السكِّير المدمن فإنَّه لا يكفُّ عن الشراب مهما كرع، حتى لتتمزق أحشاؤه ويلتهب دماغه قبل أن يروى ويكف. وانظر إلى الوقاحة، فإنَّها لا تلطف حدة المعتدى عليه، بل تزيده حنقًا وغيظًا. إنَّ مَن يُرخي لنفسه العِنان، ويتبع مطالبها، ويجنح إلى ميولها يقوي رغباتها، ويعدد مطامحها حتى لا تقنع، ويكون شأنها شأن الميكروبات التي توضع في بعض السوائل؛ لتقتل وتعدم وتكون صالحة لها فتزداد وتنمو بكثرة هائلة.

وكل ظن يكون منشؤه توهم السعادة في الغنى، ونيل حاجات النفس وشهواتها باطل غير حق؛ لأن مَن يملك الملايين يطمع في سواها ولا يقنع بما ملكت يمينه، ومن تصل يده إلى الآلاف تتطلع نفسه إلى الملايين، ويموت بحسرة الحصول عليها. والبطن الذي يحصل على الدجاجة تتوق نفسه إلى الأوز، ثم إلى الخراف فإلى الغزلان، وهكذا تتنوع ميوله وتتجدد أمانيُّ نفسه وهو ضَجِر مكدٌّ تعب.

وهنالك كثيرون من الفقراء تتوق نفوسهم إلى عيش ذوي الثروة والسعة، فيخرج العامل عن حدِّه وقدرته ليظهر في مظهر ذوي الجاه. وتقلد الفتاة الفقيرة بنات البيوتات الكبيرة في الزِّي واللباس. ويقامر الموظف في أندية الأغنياء ورجال المال فيضيق ذرعه بمقتضيات ذلك الوسط المبذر، ويزيد إنفاقه على كسبه فتسوء العاقبة. وكثيرًا ما يغفل ذلك النفر المشتط المقلد عن أنَّ ما يضيع في سبيل الظهور يفيده في شئون أكثر نفعًا له ولذويهِ، لو أحسن التصرُّف واعتدل في عيشه وإنفاقه.

والرجل عبد الملاهي والملذات، وأسير النفس الطموحة الجشعة أكثر شبهًا بالدبِّ توضع في أنفه حلقة حديدية فيقتاده بها الإنسان؛ ليرقص ويلعب، وهو مرغم لا يملك من أمر نفسه شيئًا. وليس هذا التشبيه لمجرد التشنيع والتحقير وإنما هو الحقيقة المرَّة التي لا بدَّ من الاعتراف بها. إنَّ هذا الفريق من الناس مسوقون إلى أسوأ حال، ومنهم من يضحِّي بأعز ما يحتفظ به الإنسان في الحياة الدنيا، العرض والشرف؛ لنيل ما يرضي النفس ويقضي مطالبها، وعذرهم في ذلك كثرة الحاجات والافتقار إليها، وهي دعوى فاسدة؛ لأن الكفاف سهل الإدراك، ولا يكلف المرء عناءً طويلًا، ولا يسوقهُ إلى الحضيض الدنس الملوَّث.

ولا يستطيع أن ينبئك بنتيجة هذا السقوط غير أولئك النسوة اللائي بعنَ الطهر والعفاف، وارتمين في أحضان الرذيلة، فساقتهنَّ إلى أتعس المواقف وأحط منازل الحياة، ليسألهنَّ سائل عما وصلنَ إليهِ، وعن أسباب هذا السقوط، وعما إذا كنَّ في حال مرضية وعيش رغد وراحة وطمأنينة مع ما هنَّ عليهِ من الزينة والتبرج، فيعرف مقدار الشقاء والبؤس الذي يحيط بهنَّ ويجعلهنَّ آسفات على الحياة السالفة والأيام الماضية.

وفي الناس رَبُّ عائلةٍ يعولها بما استطاع تحصيله من عمل شريف يضيق صدره وذرعه بمطالب زوجته، وتقصر يده عن إرضاء رغباتها، فيدفعه الحنو والحب إلى المهاجرة إلى حيث الربح الوفير والمال الكثير؛ ليستطيع إرضاء تلك الخبيثة الطموعة. وهي تبسط يدها بالإنفاق وتبعثر ما جمعهُ الزوج التعس بعرقه الغزير وتعبه المضني، غير شاكرة له يدًا ولا معترفة له بجميل؛ فتتولاه السآمة والملل ويتناوبه الضجر، فينزع من قلبه الحنان والشفقة، ثم يقبض يده المبسوطة، ويترك تلك الشيطانة تسخط عليه، وتلعن الزمان والطبيعة والنوع البشري وتملأ الجوَّ أنينًا وعويلًا. ولو أنها اعتدلت في مطالبها وراعت ظروف الحال ودخل زوجها، لبقيت في رغدٍ دائم، وعملت على سعادة العائلة، ولَمَا خسرت عطفَ رجلها وحُبَّه الأول.

ولا شكَّ في أنَّ مثل ذلك العائل المنغَّص عيشه يجتهد أن ينسى أحزانه بضروب اللهو، فيشرب الخمر ويقامر ويتغزل حتى يتورط شيئًا فشيئًا، فلا يلبث أن يبلغ سبيل الرذيلة، ويركب متن الحرمات فينتهكها جهارًا، وتفسد أخلاقه، ويتأصل فيه الداء فيعز شفاؤه، وتكون النتيجة سقوط العائلة وخراب الدار. وكم من العائلات التي يكون في وسعها العيش بهناء ينزل بينها الشقاء والبؤس؛ لضياع العواطف الحية من قلب رجلها العائل ولنسيانه الواجب، فلا تجد في أفرادها غير والدة أنحلها الحزن وأضناها الهمُّ والتفكير، وأطفال عراة حفاة يعوزهم الخبز والماء والهواء؛ لكون ذلك الأب القاسي يبذِّر كسبه في غير ما يحتاجون إليه من مطالب الحياة، ويفقد ماله في سبيل شهوة النفس وأهوائها الكثيرة.

ولو اعتدل الناس في أمورهم وأنفقوا ما يكسبون في قضاء حوائجهم الضرورية لما عرفوا الحياة من وجهها الأسود، ولكانوا في غنًى عن الاستياء والتذمر، ولأمكنهم أن يواسوا المحتاج بما يتجاوز حاجتهم معاونة تبهج النفوس، وتشرح الصدور، وترضي الضمائر. ولكن الإسراف يستنزف الكثير والقليل ويترك الناس في عوز دائم، فلا يشعرون بقدر النعمة، ويأخذون باليمين من خزائنهم ما يبذرونه باليسار في شهواتهم بلا لذة ولا تنعم. وأنَّى لهم أن يعرفوا طريق السعادة والهناء وهم على هذا الشطط القبيح؟

إن الخضوع لشهوة النفس ومطالبها الجمة يودي بالسعادة والاستقلال الذاتي وحسن الخلق، وينتج اعتلال الصحة وضياع الثروة، ويلهي بالحاضر عن فضائل الماضي، ويشغل عن التطلع إلى المستقبل، ويكون سببًا لبيع الزرع ودرِّ الضرع والاقتراض بفاحش الربا؛ للتمتع برهة من الدهر وحينًا من الزمن تُرى بعده الحياة عبئًا يضني وحملًا يتعب، بعد أن يجفَّ مورد الثروة ويقفل باب الكسب. ثم يستنفد الدَّينُ القليلَ المرهون فيمرُّ العيش، وتتنغص الحياة، ويكثر الهمُّ والتفكير، وتخلق الأمراض، ويجيء الفقر فالعوز، فيشتد التطلع إلى ما في يد الناس؛ فيكون هذا منشأ الخصومات والمشاكل فتسوء الحال وتتعدد الجرائم المخلة بالأمن ونظام الاجتماع.

وعلى عكس ذلك إذا اعتدل كلٌّ في حاجاته وضروريات العيش يتأتى اجتناب هذه المكدرات، ويسهل اتحاد الهناء والسعادة بكل مميزاتهما الحسنة المنشودة. ولا يغربنَّ عن الأفكار كون القناعة من أحسن الوسائل التي تكفل الراحة والاطمئنان إلى المستقبل، وكون الحمية رأس الدواء. ومَن عرف ذلك وجعله محورًا لتصرفه دفع عن نفسه الأضرار التي تشقي وتحزن، وحفظ صحته وعقله من الفساد؛ لأن الاعتدال والبساطة في المأكل والملبس والمسكن من خير ما يمتاز به العاقل الحكيم، وعلى قدرهما في أحوال المرء تكون الثقة بمستقبله؛ إذ يكون في أمن من الطوارئ السيئة وعواقبها الوخيمة، ويكون له مما يدِّخر عون على المرض والعطلة، وكلاهما عارض محتمل الوقوع.

ومَن أَلِفَ البساطة في معيشته لا يدفعه اليأس إلى الانتحار، إن خسر ماله، أو فقد مركزه؛ لأنه قليل الاهتمام بظواهر الغنى والجاه، فلا يكون شأنه إذا نزل به الفقر شأن الطفل المدلَّل، إن حبسوا عنه سائر اللعب التي كان يفاخر رفاقه ويدل بها عليهم؛ إذ ينكمش بعيدًا عنهم ذليل النفس ضعيف الحول لا يقدر على رفع رأسه بين مَن كان يفخر عليهم ويشاكسهم.

ولو لم يكن في الاعتدال والبساطة في العيش غير كفِّ الأنظار عن الحسد، ومنع الكراهية والبغضاء التي تنشأ منه، وغير اجتناب نتائج الغيرة التي تتولد في قلوب الحاسدين، والمشاكل التي يستدعيها الإسراف لكفى.

وليتذكر العاقل أنَّ للظهور ثمنًا باهظًا يدفع من المال، وراحة الضمير والفكر ومن الحقيقة، وهو ثمن لا يستهان به، ولا يقوى على دفعه امرؤٌ بدون أن يعكِّر صفو هنائه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤