الباب الثامن عشر

هكذا كوَّن وانج لنج ثروة بيته. وما إن أقبل العام السابع حتى طفح النهر العظيم المتجه إلى الشمال، بالماء؛ إذ هطلت أمطار غزيرة، ونزل ثلج كثير من المناطق الشمالية الغربية. فارتفعت المياه على الشاطئَين وغمرت جميع أراضي المنطقة. بيد أن وانج لنج لم يخشَ شيئًا؛ فلم يتطرق الخوف إلى نفسه على الرغم من أن خُمسَي أرضه صارت بحيرة يصل الماء فيها إلى أكتاف الرجل ويزيد. كانت أسواق الغلال مدينة له بالنقود. وكانت مخازنه مملوءة بغَلَّة السنتين الماضيتين. وكانت بيوته تقف هكذا شامخة فلا تصل إليها المياه.

لمَّا لم يمكن زرع معظم الأرض، ظل وانج لنج بدون عمل، أكثر من أي وقت مضى في حياته كلها. وليس من اليسير على المرء أن يجلس وينظر إلى بحيرة من الماء تغطي حقوله. كما أنه لا يستطيع أن يأكل في وجبة واحدة أكثر مما تتسع له معدته. وعندما كان ينام، كان يملُّ النوم. وقد شمل المنزل هدوء لا يطيقه الدم المتوثب. أما الرجل العجوز فقد أصابه الضعف حتى أصبح لا يتحدث إليه أي فرد إلا ليسأله عمَّا إذا كان يشعر بالدفء والشبع، أو عمَّا إذا كان يريد قدحًا من الشاي. وقد أقلق وانج لنج ألَّا يستطيع والده أن يرى ما فيه ابنه من ثراء. وما كان أحد ليقول له شيئًا؛ لأنه كان ينساه في الحال.

ليس لدى الرجل العجوز، والبنت الكبرى التي لم تتكلم إطلاقًا، بل كانت تظل جالسة بجانب جدها ساعة بعد ساعة، تلوي بين يديها قطعة من المنسوج؛ ليس لدى هذَين ما يقولانه له. كان وانج لنج يدير وجهه دائمًا عن ابنته الكبرى في لحظة هدوء، وينظر إلى طفليه الصغيرين، الولد والبنت، اللذَين ولدتهما أو-لان معًا أخيرًا، واللذَين كانَا يجريان الآن في مرح.

غير أن المرء لا يمكن أن يقنع ببلاهة الأطفال الصغار؛ ولهذا أخذ ينظر إلى زوجته أو-لان. وخُيِّل إليه أنه ينظر إليها لأول مرة في حياته. فرأى لأول مرة أنها امرأة، لا يمكن أن يصفها أي رجل إلا بأنها مخلوق غبي عادي، تعيش وهي صامتة، لا تفكر في منظرها، الذي تبدو به في عيون الآخرين. فلما نظر إليها هكذا، صاح قائلًا: «كل مَن ينظر إليك الآن، لا يقول إلا إنك زوجة رجل عادي، لا زوجة رجل يملك أرضًا.»

كانت هذه أول مرة يتكلم فيها عمَّا تبدو عليه أمام ناظريه. فعَلَتْ عظامَ خدَّيها حمرةُ خجل شديدة. وتمتمت قائلة: «منذ أن ولدتُ هذين التوءمين، وصحتي ليست على ما يرام. أشعر بالتهاب في أعضائي.»

فأجابها بخشونة أكثر مما أراد: «أقصد أن أقول، ألَا يمكنك أن تشتري قليلًا من الزيت لشعركِ، كما تفعل السيدات الأخريات، وتصنعي لك معطفًا من المنسوج الأسود؟»

ولكنها لم تُجب بشيء، بل نظرت إليه في ذلة. فأحس بعد ذلك كما لو كان قد خجل بينه وبين نفسه من أنه قد جرح كرامة هذه المخلوقة التي تبعته كل هذه السنين في وفاء، كما يتبع الكلب سيده، فاستمر يقول: «وأقدامكِ هذه …»

لم يُتم وانج لنج كلامَه إذ كانت تبدو أمامه دميمة في كل شيء، ولكن أكثر دمامتها كان في قدميها الكبيرتين داخل الحذاء المصنوع من المنسوج القطني، فنظر إليهما باشمئزاز حتى إنها أدخلتهما تحت المقعد. وقالت أخيرًا هامسة: «لم تربط أمي قدميَّ؛ إذ باعتني عبدةً وأنا صغيرة السن. أما أنا فسأربط قدمَي الطفلة الصغيرة.»

خجلت أو-لان لغضب زوجها منها. أما هو فارتدى ثوبه الأسود الجديد، وقال: «سأذهب إلى مشرب الشاي الجديد عساي أسمع شيئًا جديدًا. لا أحد في منزلي غير البلهاوات ورجل عجوز وطفلين.»

كان بالمدينة مشرب شاي كبير افتتحه حديثًا رجل من أهل الجنوب. وأراد وانج لنج أن ينسى تعسُّفه مع زوجته، فذهب إلى ذلك المكان.

بادئ ذي بدء، لم يتكلم وانج لنج في مشرب الشاي العظيم، بل طلب قدحًا من الشاي واحتساه في هدوء، ونظر حواليه متعجبًا. كان المشرب بهوًا فسيحًا عُلِّقت على جدرانه لوحات من الحرير الأبيض رُسم عليها صور بعض النسوة … خُيِّل إلى وانج لنج أنهن نساء عالم الأحلام. فنظر إليهن في اليوم الأول، وشرب الشاي بسرعة، وانصرف.

بَيْد أنه طالما كانت المياه تغطي أرضه، كان يذهب يومًا بعد يوم إلى ذلك المشرب ويطلب الشاي. كان يجلس وحيدًا ويشرب الشاي، ويحملق في صور السيدات الفاتنات. وكان سيستمر على تلك الحال لعدة أيام، لولا أنه بينما كان جالسًا يشرب الشاي ذات مساء، ويمعن النظر في الصور، إذ بشخص يأتي من السلم الضيق القائم في الطرف البعيد للبهو، ويربت على كتفه. فالتفت مذعورًا. وما إن رفع رأسه حتى وقع بصره على الوجه الصغير الجميل، وجه المرأة كوكو، التي وضع في يديها الجواهر يوم أن اشترى الأرض.

فقالت وهي تضحك منه: «حسنًا. هذا هو وانج المزارع! ومَن كان يفكر في أن يراك هنا!»

خُيِّل إلى وانج لنج أنه لا بد أن يبرهن لهذه المرأة أنه أكثر من مجرد فلاح ريفي. فضحك، وقال بصوت عالٍ: «أليست نقودي التي أُنفقها، طيبة كنقود أي رجل آخر؟ وإني لأملك نقودًا في هذه الأيام.»

وقفت كوكو عند سماعها ذاك القول، وكان صوتها سلسًا كالزيت، فقالت: «ومَن ذا الذي لم يسمع بهذا؟ وهل ينفق أي رجل نقوده في مكان طيب، إلا في هذا المكان؟ لا يوجد نبيذ يفوق نبيذنا .. هل ذقته، يا وانج لنج؟»

أجاب وانج لنج وهو شبه خجلان: «لم أذق إلا الشاي حتى الآن.»

فصاحت مدهوشة وهي تضحك عاليًا: «شاي! وأظنك لم تنظر إلى شيء سواه، أليس كذلك؟»

قال: «كلا .. كلا .. لم أنظر …»

ضحكت المرأة ثانية، وأشارت إلى الصور المرسومة وقالت: «اختر أية سيدة تريدها من هؤلاء، وضع النقود الفضية في يدي، وأنا أحضرها لك.»

فقال وانج لنج مستغربًا: «ظننتهن نساء الأحلام كاللائي يتحدث عنهن مَن يقصون الحكايات!»

أجابت: «إنهن نساء الأحلام، ولكنها أحلام تُحوِّلها قطعة فضية صغيرة إلى لحم.» ثم سارت في طريقها.

أما وانج لنج، فجلس يحدق النظر في الصور بمتعة جديدة، ورأى الآن أن بعضهن أجمل من البعض الآخر، وأن من بينهن واحدة أجملهن جميعًا؛ فتاة نحيلة العود ذات وجه صغير مدبب كوجه القطيطة، تُمسك في إحدى يديها ساق زهرة لوتس في برعمها.

أحدق النظر فيها، وقال فجأة في صوت مرتفع: «إنها لأشبه بالزهرة.» ولما سمع صوت نفسه، خجل ونهض بسرعة، ودفع حسابه، واختفى وسط الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤