الباب العشرون

كانت الحال ستستمر على ذلك المنوال إلى أن ينفق وانج لنج كل فضته لولا أن عمه عاد فجأة دون أن يوضح أين كان أو ماذا كان يفعل، فوقف بالباب وملابسه غير مقفلة بالأزرار، وتأوَّه بصوت عالٍ وهم جميعًا جالسون إلى المائدة يتناولون وجبة الصباح الباكر.

فنهض وانج لنج، وقال: «حسنًا، وها هو عمي. هل أكلت؟»

قال: «كلا، ولكني سآكل معكم.»

ثم جلس، وسحب أمامه طبقًا وعيدان تناول الطعام، وأكل كأنه كان جائعًا جدًّا. وبعد أن شبع، قال ببساطة كما لو كان هذا من حقه: «سأنام الآن؛ لأنني لم أذق للنوم طعمًا هذه الليالي الثلاث.»

لم يدْرِ وانج لنج ماذا يفعل إلا أن يقوده إلى سرير والده، فارتمى عليه العم واستسلم للنوم من فوره دون أن يتكلم كلمة واحدة.

عرف وانج لنج أنه لا يمكنه أن يطرد عمه طالما كان هذا يعلم أن ابن أخيه غني. كما عرف أن زوجة عمه ستأتي هي الأخرى إلى المنزل، ولا أحد يستطيع منعها.

حدث ما كان يخشاه وانج لنج؛ إذ خرج عمه من الحجرة بعد الظهر ومضى، وقال لوانج لنج: «سأحضر الآن زوجتي وابني؛ فلن نفتقر إلى ما نأكله في هذا البيت العظيم، ولا إلى الملابس الحقيرة التي نلبسها.»

لم يسَعْ وانج لنج إلا أن يجيب بنظرات ملؤها الغيظ؛ إذ من العار أن يطرد الرجلُ عمه وابن عمه من منزله وهو يملك ما يكفيه ويفيض. بَيْد أنه من نكد الدنيا على المرء أن يكون مغيظًا أشد الغيظ، ويُضطر إلى إخفائه، ويُرحِّب بأقاربه باسمًا. وبقي ثلاثة أيام لا يذهب إلى المدينة.

ولما وجد أن عمه وأسرته سيكونون مؤدَّبين من أجل طعامهم ومأواهم، اتجهت أفكاره ثانية إلى الفتاة لوتس. وسرعان ما أدركت زوجة عمه ما هو عليه، فصاحت ضاحكة، تقول: «يحاول وانج لنج الآن، أن يقطف زهرة من مكان آخر.» فلما نظرت إليها أو-لان في ذلة، وهي لا تفهم ما تعنيه، ضحكت ثانية: «الأمر ببساطة، هو أن زوجك مُتيَّم حتى الجنون، بامرأة أخرى!»

سمع وانج لنج زوجة عمه وهي تقول هذا، وكان راقدًا في غرفته ذات صباح، فجال بفكره بغتة، أنها هي الشخص الذي سيرتب أمر زواجه. فنهض من سريره في الحال، وأومأ سرًّا إلى زوجة عمه. فلما تبعته إلى خارج البيت في مكان لا يسمعهما فيه أحد، قال لها: «لقد سمعت ما قُلتِه في الأبهاء. وإنكِ لعلى حق. لماذا لا أتزوج ثانية طالما عندي من الأرض ما يقوتنا جميعًا؟ ولكن، مَن يقوم لي بدور الوسيط؟»

أجابته في الحال: «اترك هذه المسألة في يديَّ. وكل ما عليك هو أن تخبرني فقط بمَن تكون هذه المرأة.»

عندئذٍ أجابها وانج لنج: «إنها المرأة المسماة لوتس، وتقطن بمشرب الشاي الكبير في الشارع الرئيسي للمدينة.»

أخذت تفكر برهة، ثم قالت أخيرًا: «لا أعرف أحدًا هناك.»

فأخبرها بالسيدة كوكو التي كانت عبدة في البيت العظيم، فضحكت وقالت: «تلك المرأة! إنه لأمر بسيط حقًّا. تقوم هذه المرأة بأي عمل إذا أحست بالفضة في كفها.»

فلما سمع وانج لنج هذا، قال: «الفضة فقط! الفضة والذهب! أي شيء، حتى ثمن الأرض نفسها!»

لن يذهب وانج لنج بعد ذلك إلى مشرب الشاي العظيم إلى أن يتم تدبير المسألة. وكان دائمًا ينطلق إلى زوجة عمه ليقدم المزيد من النقود والملابس الحريرية والأطعمة اللذيذة إلى لوتس. حتى صاحت فيه تلك المرأة البدينة أخيرًا، وقالت: «هل أنا غبية؟ أو هل هذه أول مرة أدبِّر فيها أمر الزواج بين رجل وفتاة؟ اترك المسألة لي وحدي، وأنا أنفِّذ كل شيء.»

بعد ذلك قال وانج لنج لنفسه أنه ما دام سيكون في البيت امرأتان فلا بد من وجود جناح آخر … فريثما تُتِم زوجة عمه الموضوع، دعا عماله وجعلهم يبنون جناحًا آخر بالمنزل خلف الحجرة الوسطى، يتألف من بهو حوله ثلاث غرف. إحداها كبيرة، والاثنتان الأخريَان صغيرتان على الجانبين. فأحضر الرجال الطين من الحقول، وأقاموا الجدران وجعلوها ملساء. وأرسل وانج لنج مَن يشتري قرميدًا للسقف من المدينة.

عندما انتهى الرجال من بناء الحوائط، فرشوا أرض الحجرات الثلاث بالآجُرِّ، لأجل لوتس. واشترى وانج لنج منسوجًا أحمر للستائر، ومنضدة جديدة، ومقعدين مزخرفَين بالحفر، وصندوقًا أحمر ذا غطاء، مطليًّا بالبرداخ (اللاكيه)، كي يضع فيه كعك السمسم والحلويات التي ملأه بها، ثم وضعه على المنضدة. واشترى سريرًا منقوشًا بالحفر أيضًا، وحوله ستائر مزوقة برسوم الأزهار. وكان يخجل في كل هذا أن يطلب من أو-لان شيئًا. ولذلك جاءت زوجة عمه، وقامت بعمل الأشياء التي لا يتسنى للرجل أن يعملها.

تم كل شيء، ولم يبقَ ما يمكن عمله، ولكن المأمورية لم تنتهِ بعد. فاستدعى وانج لنج عاملًا، فحفر بركة مربعة الشكل طول ضلعها ثلاث أقدام، وبطَّنها بالقرميد. ثم ذهب وانج لنج إلى المدينة واشترى خمس سمكات ذهبية لهذه البركة.

في تلك الأثناء، كان لا يتحدث مع أحد بشيء، إلا ليزجر الأطفال إن كانوا قذرين، أو يصرخ في أو-لان لأنها لم تمشط شعرها لمدة ثلاثة أيام. ولذا انخرطت أو-لان في البكاء صباح أحد الأيام، وعلا نحيبها بدرجة لم يرها تبكي بها من قبل، فقال بخشونة:

«ماذا بكِ، أيتها المرأة؟ ألا يمكنني أن أقول لك أن تمشطي ضفيرتك الشبيهة بذيل الحصان، دون حدوث كل هذه الضجة؟»

ولكنها لم تجبه بشيء إلا لتكرر أنينها وقولها: «ولدتُ لك البنين … ولدتُ لك البنين …»

صمت وانج لنج لأنه خجل أمامها، فتركها وشأنها.

سارت الحال على هذا النمط حتى جاءت زوجة عمه في أحد الأيام، وقالت:

«تَمَّ الموضوع. ولكن يجب أن تدفع مائة قطعة من الفضة. وتريد هذه الفتاة قرطًا من اليشم، وخاتمًا من اليشم أيضًا، وآخر من الذهب، وثوبَين من الساتين، وثوبين من الحرير، واثنى عشر زوجًا من الأحذية، ولحافين من الحرير لسريرها.»

لم يسمع وانج لنج إلا جزءًا من هذا الكلام، حتى جرى إلى الغرفة الداخلية وأحضر الفضة، وقال لزوجة عمه: «وخذي لنفسك أيضًا عشر قطع طيبة من الفضة.»

فصاحت في همس عالٍ: «كلا، لن آخذ شيئًا، نحن عائلة واحدة، وقد قمتُ بهذا من أجلك أنت، لا من أجل الفضة.» ولكن وانج لنج وجد يدها ممدوة، فصبَّ فيها الفضة الطيبة. واعتبرها قد أُنفقت في موضعها الصحيح. واشترى كل شيء فاخر كان يعرفه، ثم انتظر.

•••

في يوم مشرق من الشهر القمري الثامن، الذي هو نهاية الصيف، جاءت لوتس إلى منزل وانج لنج. فأبصر بها وهي قادمة من مسافة بعيدة. فلم يعد يعرف تمامًا ما يفعله. فدخل بسرعة غرفته التي كان ينام فيها طيلة هذه السنين العديدة، وأقفل الباب عليه، وبقي في الظلام حتى سمع صوت زوجة عمه تناديه ليخرج.

كانت كوكو هناك أيضًا، فصاحت قائلة: «تعالي، يا زهرتي، يا لوتس. هنا بيتك، وهنا سيدك.»

نزلت لوتس في دلال من هودجها الذي حضرت فيه، وأمسكت كوكو من يدها. وعندما مرت أمامه أحنت إليه رأسها، وخفضت أجفانها، وهمست بصوت خافت: «أين شقتي؟»

بعد ذلك تقدمت زوجة عمه، وقادتاها بينهما إلى البهو وإلى الحجرة الجديدة التي بناها وانج لنج خصيصًا لها. وما إن دخلت حتى سحبت كوكو الستائر خلفها.

بعد مدة خرجت زوجة عم وانج لنج تضحك قليلًا وهي تقول: «ليست صغيرة كما تبدو، يا ابْن أخي! أستطيع أن أقول بكل جرأة، إنها إذا لم تكن في حدود السن التي يكفُّ فيها الرجال عن النظر إلى النساء، لكان من المشكوك فيه أن يغريها اليشم والذهب والحرير والساتين، على أن تتزوج مزارعًا.» ولما رأت الغضب باديًا على وجهه، قالت بسرعة: «ولكنها جميلة. لم أرَ في حياتي امرأة تفوقها جمالًا.»

لم تقترب أو-لان، طوال كل ذلك الوقت، من المنزل. فعندما بزغ الفجر، حملت فأسًا، ونادت الأطفال، وأخذت قليلًا من الطعام البارد، ولم ترجع. وعندما أقبل الليل، دخلت البيت صامتة منهوكة القوى. ولم تتكلم مع أحد، وإنما ذهبت إلى المطبخ وأعدت الطعام ووضعته على المائدة كما كانت تفعل دائمًا. ونادت الرجل العجوز وأطعمت المسكينة البلهاء ثم أكلت بعض الشيء مع الأطفال. ولما ناموا جميعًا، استحمت قبل أن تنام، وأخيرًا ذهبت إلى حجرتها ونامت.

كان وانج لنج يدخل كل يوم حجرة لوتس، حيث يجدها جالسة لا تقوم بأي عمل. لم تكن لتخرج في حرارة أيام أوائل الخريف. بل تظل جالسة، بينما تغسل لها كوكو جسمها، إذ أمرت بأن تبقى كوكو معها كخادمة لها.

كانت هذه الفتاة تمكث كل يوم في برودة ظلام حجرتها، تتسلى بأكل الحلويات والفواكه، مرتدية ملابس الصيف الحريرية الخضراء. وكانت تخرج وقت غروب الشمس إلى البهو وتفحص البركة الصغيرة ذات السمكات الذهبية الخمس، بينما يقف وانج لنج يتأمل في عجيب ما لديه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤