الباب الرابع والعشرون

عاد وانج لنج إلى داره في ظهر أحد الأيام، فتقدم نحوه ابنه الأكبر، قائلًا: «أبتاه! لو أن لي أن أصير عالمًا، فليس لدى ذلك الرأس العجوز بالمدينة ما يُعَلِّمنيه.»

كان وانج لنج قد غمس فوطة في حوض من الماء المغلي، ورفعها أمام وجهه والبخار يتصاعد منها، فقال: «وماذا الآن؟»

تلعثم الغلام برهة، ثم أردف يقول: «إذا كان لي أن أصبح عالمًا، فإنني أودُّ الذهاب جنوبًا إلى المدينة، وألتحق بمدرسة كبيرة، حيث أتعلم ما يجب تعلمه.»

مسح وانج لنج وجهه بالفوطة المبتلة بالماء الساخن، وردَّ على ابنه في حدة: «ما هذا الهراء؟ أقول: هذا لا يمكن. لقد تعلمتَ ما يكفي لهذه البقاع.»

بَيْد أن الفتى وقف في مكانه ينظر إلى والده بحقد، وقال: «لن أبقى في هذا المنزل الغبي، وأُرَاقَب كما يُراقَب الأطفال. سأسافر وأتعلم شيئًا وأرى بقاعًا أخرى.»

نسي وانج لنج أنه كان يزهو بمعرفة ولده للكتابة واجتهاده في دروسه، فصاح فيه: «إذن فلتذهب إلى الحقول. ادعك جسمك بقليل من التربة الطيبة لئلا يظنك الناس سيدة، واشتغل قليلًا من أجل الأرز الذي تأكله!»

وقف الصبي ينظر إلى والده في مقت. ولكن وانج لنج لم يلتفت إلى الوراء ليرى ما يفعله الغلام.

عندما عاد وانج لنج ليلًا، ودخل الأبهاء الداخلية، وجلس إلى جانب لوتس وهي جالسة على سريرها، وكوكو تروح لهما بمروحة، قالت لوتس في خمول: «يرغب ابنك الأكبر في أن يرحل من هنا.»

«حسنًا، وماذا يعنيك من هذا؟ لا يمكنني أن أتركه في هذه الحجرات وهو في تلك السن.»

فأسرعت لوتس تقول: «لا .. لا .. إنها كوكو التي تقول ذلك.»

لم يفكر وانج لنج إلا في غضبه من ابنه، فقال: «كلا، لن يرحل، لن أنفق نقودي بلاهة.» ولم يتكلم عن هذا الأمر بعد ذلك.

لم يأتِ ذِكر هذا الموضوع لعدة أيام، ويبدو أن الفتى رضي فجأة بالأمر الواقع. ولم يذهب بعد ذلك إلى المدرسة، وقد سمح له وانج لنج بهذا.

كان يمكن أن يرتاح بال وانج لنج بعودة حياته إلى الهدوء ثانية، ورضي ابنه بحاله. غير أنه بينما كان جالسًا وحده في إحدى الليالي يعد على أصابعه ما يمكنه بيعه من الذرة، وما يمكنه أن يبيعه من الأرز، جاءت أو-لان إلى الحجرة في رقة.

مرت السنون على أو-لان، فجعلتها نحيلة هزيلة، غائرة العينين. وإذا سألها امرؤ عن صحتها فلا تقول غير: «توجد نار في أحشائي.»

كانت تصحو من نومها مع الفجر، فتقوم بعملها. وكان وانج لنج لا يراها إلا عندما يرى المائدة أو مقعده. وما كانت لتتكلم، بل تدأب على طبخ الطعام، وغسل الملابس عند البِركة حتى في الشتاء والماء كالزمهرير يكسر الثلج من فوقه. ولم يفكر وانج لنج في أن يقول لها يومًا ما: «لماذا لا تستأجرين خادمة أو عبدة بالنقود الزائدة عن حاجتي؟»

لم يفكر قط في أن هناك أية حاجة إلى مثل ذلك رغم أنه استأجر عمالًا لحقوله.

عندما جلس وحده في هذا المساء، وقفت أمامه، وقالت أخيرًا: «أريد أن أخبرك بشيء.»

فحملق فيها مدهوشًا، وأجاب: «إذن، فهاتي ما عندك.»

فقالت في همس خشن: «يذهب الولد الأكبر كثيرًا، للتحدث في الأبهاء الداخلية، وأنت غائب عن هناك.»

فحملق فيها وانج لنج.

قالت: «عُد إلى بيتك، يا سيدي، على غير انتظار.» وبعد فترة صمت، قالت: «مِن الخير أن ترسله إلى مكان ما، حتى إلى الجنوب.» ثم انصرفت في هدوء وتركته جالسًا هناك.

فقال وانج لنج في نفسه إن هذه المرأة تغار. ولكنه تذكَّر بعد ذلك أن لوتس كانت على علم برغبة ابنه في السفر، فقال لنفسه:

«لا بد لي من مراقبة هذا الأمر بنفسي!»

خرج وانج لنج بعد ذلك ليرى رجاله كعادته في وقت الحصاد والبذر. ثم صاح حتى يسمعه كل مَن بالمنزل: «سأذهب إلى قطعة الأرض المجاورة لخندق المدينة، ولن أعود مبكرًا.»

ما كاد وانج لنج يسير نصف الطريق، حتى جلس يفكر في نفسه، وأخذ يقلِّب الأمر في ذهنه عدة مرات، ويقول: «هل أرجع ثانية؟»

ثم عاوده الغضب، ورجع إلى منزله من طريق آخر، ودخل ووقف ينصت بجانب الستار المعلق على باب البهو الداخلي. فسمع صوت همهمة رجل، وكان صوت ابنه.

سرى في قلب وانج لنج غضب لم يعهده من قبل طول حياته. فصرَّ على أسنانه، وخرج فانتقى خيزرانة رفيعة مرنة، ونزع فروعها. ثم دخل فوجد ابنه واقفًا في البهو يتحدث إلى لوتس الجالسة على مقعد صغير عند حافة البِركة. ولم يسمعه كلاهما. ولكن كوكو خرجت ورأته وصرخت، فأبصراه.

انقض وانج لنج على ابنه وأخذ يضربه حتى سال منه الدم. ولما صرخت لوتس وأمسكت بذراعه، ضربها هي الأخرى. ثم رمى الخيزرانة، وهمس يصرخ في ابنه، وهو مبهور الأنفاس: «انصرف إلى حجرتك الآن، ولا تحاول الخروج منها حتى أتخلص منك، وإلا قتلتك!»

نهض الولد صامتًا لا ينطق بحرف واحد، وانصرف.

جلس وانج لنج على المقعد الذي كانت لوتس جالسة عليه، وكان صدره يعلو وينخفض في عنف، وهو يتنفس. ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه. فظل هكذا جالسًا حتى هدأ، وانصرف غضبه.

نهض بعد ذلك مكدودًا، وخرج ومرَّ بحجرة ابنه، وناداه دون أن يدخل: «ضع أمتعتك في صندوق وارحل غدًا إلى الجنوب إلى حيث تريد، ولا ترجع إلى هنا حتى أرسل في طلبك.»

استمر وانج لنج في سيره حتى وجد أو-لان جالسة تخيط بعض ملابسه. وإذا كانت قد سمعت الضرب أو الصراخ فلم يبدر منها ما يشير إلى ذلك. ثم خرج وانج لنج إلى حقوله في شمس الظهيرة العالية قد برَّح به التعب كما لو كان اشتغل يومًا كاملًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤