الباب الرابع والثلاثون

كبر وانج لنج وشاخ، ولكنه كان كلفًا بنورة الكمثرى، وكان وجودها في بهوه عاملًا على اطمئنانه وراحة باله. وكانت تعطف على بلهائه المسكينة إكرامًا لخاطره، فكان هذا العطف عاملًا آخر على اطمئنانه، وعهد إلى نورة الكمثرى بالعناية بالبلهاء بعد وفاته.

أخذ وانج لنج ينطوي على نفسه، ويخلد إلى الاعتكاف وحده، إلا من بلهائه المسكينة ونورة الكمثرى. كان ينظر إلى نورة الكمثرى أحيانًا ويشق عليه أمرها، فيقول: «إنها لحياة هادئة بالنسبة لك، يا طفلتي.»

ولكنها كانت تجيبه دائمًا في رقة واعتراف بالغ بالجميل، فتقول: «إنها لحياة هادئة وآمنة، وإنك لرحيم بي.»

فلا يقول وانج لنج بعد ذلك شيئًا؛ لأنه كان وقتئذٍ يهوى راحة البال أكثر من أي شيء آخر، ولا يتمنى إلا أن يجلس في بهوه بقرب هاتين الاثنتين.

•••

هكذا كان يجلس وانج لنج، وتقدمت به سنُّه يومًا بعد يوم، وسنة بعد أخرى. وكان يقول في نفسه إن حياته قد انتهت وهو قانع بها.

كان يذهب في بعض الأحايين إلى الأبهاء الأخرى، وأحيانًا يرى لوتس التي كانت تُرحِّب به غاية الترحيب؛ إذ صارت عجوزًا هي أيضًا، وقانعة بالطعام والنبيذ اللذَين تحبهما، وبالفضة التي تنالها عندما تطلبها. بعد تلك السنين، كانت تجلس مع كوكو كصديقتَين، تتحدثان وتأكلان وتشربان وتنامان، وتصحوان من النوم لتتحدثَا ثانية قبل تناول الطعام والشراب.

عندما كان وانج لنج يذهب إلى بهوَي ولديه، كانَا يُهرعان ليُقدِّما له الشاي، فيسألهما عدة مرات؛ لأنه كان ينسى بسرعة: «كم حفيدًا وحفيدة عندي الآن؟»

وكان يتلقى الجواب على الفور: «أحد عشر حفيدًا وثماني حفيدات، لولديك معًا.»

بعد ذلك يجلس فترة قصيرة وينظر إلى الأولاد المجتمعين حوله، ويسألهم: «هل تذهبون إلى المدرسة، وهل تدرسون الكتب الأربعة؟»

فيضحك الأولاد من هذا الرجل العجوز، ويقولون: «كلا يا جدي، لا أحد يدرس الكتب الأربعة منذ عهد الثورة.»

بعد ذلك لم يَعُد يذهب ليرى ولديه، ولكنه كان يسأل كوكو أحيانًا: «هل زوجتا ابنيَّ على وفاق بعد كل هذه السنين؟»

فتبصق كوكو على الأرض، وتقول: «هاتان! إنهما كقطتين تواجه كل منهما الأخرى.»

ومرة أخرى قال لكوكو: «أمَا سمع أحد عن ابني الأصغر، وإلى أين ذهب؟»

فكانت ترد عليه؛ إذ لا يخفى عليها شيء في هذه الأبهاء، فتقول: «يقال إنه موظف حربي وذو مركز عظيم فيما يطلقون عليه في الجنوب، اسم الثورة.»

كان وانج لنج يصحب أحيانًا خادمًا، ويأخذ سريره إلى أرضه، وينام ثانية في بيته القديم المصنوع من الطين. وذات يوم في أواخر الربيع، سار في حقوله مسافة قصيرة، وذهب إلى الرابية التي دَفن فيها موتاه. ونظر إلى القبور، وتذكَّر كلَّ فرد منهم. كان يتذكرهم بوضوح أكثر من أي فرد آخر، حاشا بلهاءه المسكينة ونورة الكمثرى، ثم فكَّر فجأة: «حسنًا، وسأكون أنا بعدهم.»

نظر وانج لنج إلى قطعة الأرض التي سيرقد فيها، وتصور نفسه فيها، وفي أرضه أخيرًا، وإلى الأبد، وتمتم يقول: «لا بد أن أرى نعشي.»

اشترى ابنه نعشًا مصنوعًا من الخشب المستعمل في دفن الموتى؛ لأن هذا الخشب متين متانة الحديد، فاطمأن وارتاح ضميره.

بعد ذلك عقد نيته على الذهاب إلى المنزل القائم في أرضه، هو ونورة الكمثرى والبلهاء، وما يلزمهم من خدم. وأمرهم بنقل نعشه إلى هناك. وهكذا اتخذ مسكنه ثانية في أرضه.

كان وانج لنج يجلس في شمس الخريف الحارة، في الموضع الذي كان يجلس فيه والده، ويسند ظهره إلى الحائط. ولم يعُد يفكر الآن في شيء سوى طعامه وشرابه وأرضه.

كان يشكو أحيانًا من ابنَيه إذا لم يحضرَا إليه كل يوم، فكانت نورة الكمثرى تقول: «لديهما كثير من المشاغل؛ فقد عُيِّن ابنك الأكبر ضابطًا على أغنياء المدينة، وتزوج بسيدة أخرى. وافتتح ابنك الثاني سوقًا عظيمة للغلال خاصة به.» كان وانج لنج يصغي إليها، ولكنه كان ينسى كل شيء بمجرد أن ينظر إلى أرضه.

•••

رأى وانج لنج نِيَّة ولديه في وضوح تام؛ فذات يوم حضرا إليه سويًّا، وسارَا حول المنزل، ثم إلى الأرض، وتبعهما وانج لنج في صمت، وسمع ابنه الثاني يقول: «سنبيع هذا الحقل، وهذا، وسنقسم الأموال بيننا بالتساوي …»

ما إن سمع الرجل العجوز العبارة: «سنبيع الأرض» حتى صاح قائلًا: «الأبناء الأشرار العاطلون، يبيعون الأرض؟»

فهدآه قائلين: «كلا .. كلا .. لن نبيع الأرض إطلاقًا …»

قال: «إنها نهاية الأسرة .. عندما تبيع الأرض. مِن الأرض جئنا، وإليها نعود.» ثم انحنى وأخذ حفنة من تراب التربة، وأمسكها في يده، وتمتم يقول: «لو بعتم الأرض لكانت النهاية.»

أمسك الولدان أباهما، كل واحد من جانب، وكان يشدد قبضته على تراب الأرض الدافئ المفكك. فطمأناه، وأخذا يكرران قولهما. يقول الابن الأكبر، ثم يعيد قوله الابن الثاني: «استرح في طمأنينة يا أبانا، استرح في طمأنينة. لن تُبَاع الأرض.»

ولكنهما كانا ينظران، أحدهما إلى الآخر، من وراء ظهره، ويبتسمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤