الباب التاسع

بينما كان وانج لنج جالسًا في مدخل بيته، قال لنفسه: إنه لا بد من عمل شيء، ما في ذلك شك؛ فلا يمكن أن يظلوا في هذا البيت الخالي ويموتوا. كان بذلك الجسم النحيل عزيمة على أن يعيش. وكان يشتد به الغضب أحيانًا، فيخرج ويهز ذراعيه نحو السماء البلهاء، التي تضيء فوق رأسه في زرقة وصفاء وبرودة، والخالية دائمًا من الغيوم.

لم يكن أحد من أسرة وانج لنج يبرح فراشه الآن إطلاقًا. فلا حاجة بهم إلى النهوض. وحل النوم المضطرب لفترة ما، محل الطعام، على الأقل. لقد جففوا مُطُر الذرة الخالية من الحبوب وأكلوها. وكان الناس في جميع أنحاء الريف يأكلون أية حشائش يعثرون عليها على التلال في فصل الشتاء. لم يكن هناك حيوان ما في أي مكان. وما كان الإنسان ليرى أي طفل يلعب في طرقات القرية. وعلى أكثر تقدير، كان ابنَا وانج لنج يحبوان إلى الباب ويجلسان في الشمس. أما الطفلة فلم تجلس وحدها قط، رغم أن موعد جلوسها قد فات منذ مدة طويلة، بل كانت ترقد ساعة بعد أخرى ملفوفة في غطاء قديم. وكانت أولًا تملأ البيت صراخًا وعويلًا، ولكنها اضطرت في النهاية إلى التزام الهدوء، تمص في ضعف أي شيء يوضع في فمها.

كان تَمَسُّك هذه الروح الصغيرة بالحياة، بطريقة ما، سببًا في كسب محبة والدها. فكان ينظر إليها أحيانًا، ويهمس في رقة، قائلًا: «أيتها البلهاء المسكينة .. يا هذه البلهاء الصغيرة المسكينة!» وذات مرة انفجر باكيًا عندما حاولت أن تبتسم ابتسامة ضعيفة. وبعد ذلك كان يرفعها أحيانًا ويضعها داخل معطفه الدافئ، ويجلس هكذا وهي تنظر خارجًا إلى الحقول الجافة المستوية.

أما الرجل العجوز، فلو كان هناك أي شيء يؤكل أعطيه، حتى إذا لم ينل الأطفال منه شيئًا. كان أكثر أفراد الأسرة بهجة. فقال ذات يوم في صوته العجوز المتهدج: «قابلتنا أيام أسوأ من هذه .. رأينا أيامًا أسوأ من هذه.»

•••

ذات يوم جاء الجار تشنج، وكان نحيلًا جدًّا إلى أقل من شبح كائن بشري، إلى باب منزل وانج لنج، وقال هامسًا: «في المدينة يأكل الناس الكلاب، وفي جميع النواحي يأكلون الخيول وكل أنواع الطيور. أما نحن فأكلنا هنا الماشية التي كانت تحرث حقولنا، كما أكلنا الحشائش ولحاء الأشجار. فماذا يتبقى الآن كطعام؟»

هزَّ وانج لنج رأسه في يأس. وأحس فجأة بالخوف، فقال بصوت عالٍ: «سنترك هذا المكان. سنتجه شطر الجنوب!»

فنظر إليه جاره في صبر، وقال بحسرة: «إنك صغير السن. أنا أكبر منك سنًّا، وزوجتي عجوز، وليس لنا سوى ابنة واحدة. يمكننا أن نموت راضين!»

فقال وانج لنج: «إنك لأسعد مني حظًّا؛ فأنا أعول والدي العجوز، وهذه الأفواه الثلاثة الصغيرة.»

ثم بدا له فجأة أن ما قاله، هو عين الصواب، فنادى أو-لان، التي كانت ترقد على السرير يومًا بعد يوم دون أن تفتح فاها بكلمة، إذ لم يكن هناك طعام تطبخه على الموقد ولا وقود للفرن.

فقال لها: «تعالي، أيتها المرأة. سنرحل إلى الجنوب!»

نهضت أو-لان من فراشها في ضعف، مستندة إلى باب حجرتهم، وقالت: «أعظِمْ بهذا من عمل! فعلى الأقل يموت الإنسان وهو سائر.»

•••

عندما أشرقت الشمس في صبيحة اليوم التالي، دون أن تتغير سماؤها الزرقاء، خُيِّل إلى وانج لنج أن التفكير في الرحيل عن داره ليس إلا أضغاث أحلام. فليس معه أية نقود، وحتى لو كان معه نقود لما أفادته إلا قليلًا في ذلك الوقت، إذ لم يكن هناك أية مواد غذائية يمكن أن يشتريها.

وبينما هو جالس في مدخل بيته بعد ذلك، رأى أناسًا آتين من بعيد وسط الحقول، رجالًا يُيَمِّمُون جهته. وعندما اقتربوا منه تبيَّن أن عمه أحدهم، ومعه ثلاثة رجال لم يعرفهم.

نظر وانج لنج إلى عمه. كان نحيلًا، هذا صحيح. ولكنه لم يكن جائعًا كما كان ينبغي أن يكون. فأحس وانج لنج بما بقي فيه من قوة بحقد عظيم ضد هذا الرجل، عمه، فتمتم، قائلًا: «كيف تسنى لك أن تأكل؟ كيف حصلت على الطعام؟» فرفع عمه يديه نحو السماء، وصاح: «أكلتُ! آه، لو رأيت منزلي! إن العصفور الصغير نفسه لا يجد حبة فتات يلتقطها فيه.»

فأعاد وانج لنج قوله ببرود: «إنك أكلت.»

فأجاب عمه: «لم أفكر في أحد سواك وفي والدك، الذي هو أخي. وها أنا ذا أبرهن لك على صدق قولي. لقد اقترضت بعض الطعام من هؤلاء الرجال الأخيار ساكني المدينة، واعدًا إياهم أن أساعدهم في شراء بعض من الأراضي المحيطة بقريتنا. وكان أول تفكيري في أرضك الطيبة.»

لم يتحرك وانج لنج .. ولكنه رأى أنهم من المدينة حقًّا. كان يلوح أنهم تناولوا طعامًا، فما زال الدم يجري في عروقهم. وفجأة اعتراه شعور بأنه يمقتهم. فنظر إليهم باكتئاب، ثم قال: «لن أبيع أرضي.»

خطا عمه إلى الأمام. وفي تلك اللحظة أقبل ابن وانج لنج الأصغر، يحبو عند المدخل على يديه ورجليه، فإذ لم يكن لدى الطفل في هذه الأيام إلا قوة بسيطة، عاد يحبو كما كان يفعل أيام رضاعه.

فصاح العم: «أهذا ابنك؟ أهذا هو الطفل الصغير السمين الذي رأيته في أيام الصيف؟»

تطلَّع الجميع إلى الطفل، وعندئذ تساقطت الدموع من عينَي وانج لنج، فأخذ يبكي في سكون، مع أنه لم يذرف دمعة واحدة طوال هذه المدة كلها.

وأخيرًا قال وانج لنج هامسًا: «كم تدفعون ثمنًا للأرض؟»

عندئذٍ تكلم أحد رجال المدينة، فقال:

«أي رجُلي المسكين! إكرامًا لخاطر ابنك الذي يموت جوعًا، سنعطيك ثمنًا أعلى مما يمكن الحصول عليه في هذه الأيام في أي مكان.» وسكت برهة، ثم قال: «سنعطيك مائة بنس ثمنًا للفدان!»

ضحك وانج لنج في أسًى، وصاح: «لماذا هذا؟ إنني أدفع قَدْر هذا الثمن عشرين ضعفًا عندما أشتري أرضًا!»

فقال رجل آخر من رجال المدينة: «هذا صحيح، ولكنه ليس كذلك عندما تشتريها من أناس يتضوَّرون جوعًا.»

نظر وانج لنج إلى ثلاثتهم. كان أولئك الرجال متأكدين من حالته! وماذا لا يفرط فيه المرء من أجل أطفاله الجياع ووالده العجوز؟ … تبدل ضعفه غضبًا لم يعهده طول حياته من قبل، فقفز واقفًا، وصاح في الرجال: «لن أبيع أرضي إطلاقًا! سنبقى هنا، وسنموت فوق الأرض التي ولدتنا!»

كان يبكي بشدة، ثم انصرف عنه غضبه فجأة، ووقف يبكي ويرتعش.

وفجأة أقبلت أو-لان عند الباب، وتحدثت إليهم، فقالت: «أما الأرض فلن نبيعها، هذا أكيد، وإلا ما وجدنا شيئًا نقتات منه بعد عودتنا من الجنوب. غير أننا سنبيع المائدة والسريرين والفراش والمقاعد الأربعة، وحتى القِدر الموضوعة فوق الموقد. ولكننا لن نبيع شوكات جمع الحشائش ولا الفأس ولا المحراث، ولا الأرض.»

تمتم الرجال ببعض كلمات فيما بينهم، ثم استدار أحدهم، وقال:

«إنها أشياء حقيرة ولا تصلح إلا وقودًا. وعلى أية حال، سنعطيكِ قطعتين من الفضة. فخذيها أو اتركيها.»

بعد ذلك أدار الرجل ظهره وهو يتكلم بازدراء، ولكن أو-لان أجابته في هدوء، قائلة: «إن هذا لأقل من قيمة سرير واحد. ولكن إذا كانت الفضة معكم، فعليَّ بها في سرعة، وخذوا الأشياء.»

وضع الرجال الفضة في يدها الممتدة، ودخلوا ثلاثتهم إلى البيت وحملوا الأشياء فيما بينهم. بيد أنهم عندما دخلوا حجرة الرجل العجوز، وقف عم وانج لنج خارجًا إذ لم يرغب في أن يبصر به أخوه الأكبر.

عندما انتهى كل شيء، قالت أو-لان لزوجها: «هيا بنا نرحل والقطعتان لا تزالان معنا، وقبل أن نضطر إلى بيع عوارض السقف، وبعدئذٍ لا نجد ثقبًا نأوي فيه عند عودتنا.»

فأجاب وانج لنج، متثاقلًا: «هيَّا بنا.»

أرسل وانج لنج بصره عبر الحقول إلى الهياكل الصغيرة للرجال الذين انصرفوا من عنده، وأخذ يتمتم مكررًا عدة مرات: «على الأقل، لا أزال أحتفظ بالأرض .. أحتفظ بالأرض!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤