الفصل الحادي عشر

خوارق الجان وخرافة الإله الحمار سعد الدين

أقف قليلًا عند هذه الحكاية الخرافية عن «سعد الدين» كأنموذج لا على اعتبار أنها بالاد١ أو ملحمة أو قصة شعرية بما تبقى فيها من نُظُم، بل على أنها حكاية أو خرافة جان، أسمح لنفسي بأن أصفها نموذجية، بل هي ربما كانت واحدةً من أوسع وأقدم حكايات الجان انتشارًا في فولكلور العالَم أجمع.

فهي تخضع وتتطابق مع مواصفات حكايات وخوارق الجان التي شغلت العديد من المدارس الفولكلورية والأنثروبولوجية زمنًا طويلًا، منذ أن توصل جامعَا الفولكلور الألمانيان الأخوان جريم من جمع ودراسة مجموعة كبيرة منها أطلق عليها يعقوب جريم حكمه المتعجِّل، القائل بأن حكايات الجان إنتاج آري كامل.

بمعنى أن كل ما يتواتر على الشفاه — على مستوى العالم أجمع — من حكايات وخرافات وخوارق الجان والعفاريت والنداهات وأم الشعور والأعوان وسكان تحت الأرض والرياح، يرجع بكامله إلى موطنه ومنبته الأم: الهند وإيران.

فمنذ أن أطلق الإخوان جريم حكمهما في موسوعتهما الآجرومية الجرمانية عام ١٨٤٢، حتى أثار حكمهما هذا عاصفةً من الجدل ما تزال ممتدة، شارَكَ فيها معاصِرهما المستشرق عالم الآريات تيودور بنفي، بإعلانه نظريته الشهيرة عن ارتكاز التراث الآري الأوروبي قلبًا وقالبًا على التراث الآري الهندي الفارسي، وأخصه الأساطير والخرافات.

فمن هذا المدخل والمنطلق أسوق هذه الخارقة عن البطل الحمار سعد الدين، والتي لا شك في أنها بقايا أسطورة مصرية عربية أو فلسطينية أردنية من ألفها إلى يائها، تحكي عن خوارق ومزايا إله ما قبل التاريخ: الحمار المصري الفرعوني ست أو ستخ، الذي لقَّبَه اليونان بطيفون، ولقَّبه العرب ببغل أو زوج أو سيد.

وأهمية هذه الخارقة، التي ما تزال تعيش على الشفاه إلى أيامنا هذه، تأتي من أن هذه الأسطورة التي ترجع أول منابتها إلى ٤ آلاف عام قبل الميلاد — أيْ إنها ترجع إلى ما قبل فجر التاريخ المصري برمته أو عصر ما قبل الأسرات — ومن مصر هاجرت إلى تخومها المجاورة في فلسطين والأردن، إلى أن أصبحت من أهم ملامح الأساطير والفولكلور السامي بأكمله.

ومن هنا يمكن مناقضة نظريات مروِّجي الآرية التي اكتملت في النازية، القائلين بالأصل الآري لخوارق الجان.

فها هي خارقة ذات جذور مصرية منحدرة من رحم أسطورة، تتحوَّل مع توالي العصور إلى خرافة جان، ما يزال بطلها ست يتوحَّد بالحمار، وتجيء به إلى الوجود المرأة العذراء التي لم يمسسها بشر.

فيجيء بطلها سعد الدين أو الحمار إلى الوجود، تصاحبه فكرة أسطورية، يُصنَّف بموجزها على أنه طفل موعود.

وهذا لا ينفي طبعًا أن في معظم الأحوال ما تحكي وتفيض أساطير الجان عن طفولة أبطالها وخوارقهم وتفوقهم.

فهو يجيء إلى الوجود بعد أن يموت الأب ويفتقد، وتنفذ الأم وصيته بتسليم بناتها الثلاث، ثم أبنائها الثلاثة، إلى الغول أو الجني أو القوى المجهولة أو نهر النيل، ويذهب أبناؤها الثلاثة بحثًا عنهم ولا يعودون، وتجلس الأم وحدها سوى من حمارها أو طوطمها المسمى «الرقيق»، وتقرر الأم أن تنتحر، وتشرب من بول الحمار، وهكذا يجيء إلى الوجود سعد الدين كطفل معجز «موعود» مكتوب على صدره سعد الدين.

«الحافر حافر جحش والودان ودان جحش،

وأسنانه تامة، ويومه بسنة.»

بل إن الخارقة تبالغ في إعجاز هذا الإله الحمار، فما إن وُلِدَ وقامت الداية لتغسل يديها، حتى قام فجلس على حيله، «الداية شافته واللمية٢ سبقتها».

وما إن قامت لتغلق الباب حتى قام وراءها فأغلَقَه، وكان أن قرَّرت الداية أن لا تولِّد بعد سعد.

وهكذا تواصل القصة أو الخارقة سردها لقوى البطل الخارقة، فسعد — أو ست — يلعب مع العيال في يومه السابع.

وفي حواره مع أمه تخبره بأنه «ابن جحش»، وتبكي وتطلب منه أن يمكث بعد أن أخذ منها الجان كلَّ أولادها، فيُجِيبها: «أنا مش جي لك، أنا جاي أتم المكتوب.»

وركب حصانه — أو بغلته — مكملًا رحلاته العبورية؛ بحثًا عن إخوته في عالَم ما تحت الأرض قائلًا: «قصدتك ياللي البرور٣ والسما والأرض لك.»

•••

وتتوحد هذه الخارفة إلى أكبر حد ممكن مع أسطورة البعل السامية،٤ الذي يخوض رحلاته العبورية في عالم ما تحت الأرض بحثًا عن «بناته»٥ الثلاث اللاتي اختطفهنَّ الجان.

وإذا ما كان كلا البطلين — والفاصل بينهما ٤ آلاف عام — البعل السامي وبطلنا المعاش اليوم سعد الدين.

إذا ما كانا ما هما إلا وجه واحد لنفس الإله أو الطوطم: ست أو ستخ أو طيفون؛ لَأدركنا مدى استنبات هذه الخارقة التي تعيش إلى اليوم على الشفاه من تراثنا العربي الفلسطيني الأردني، ومنه تواترت وهاجرت وعاشت في معظم تراث كل العالم، بل وربما التراث الهندي الآري ذاته.

فخوارق الجان التي على هذا النمط؛ أيِ التي يخوض بطلها عالمًا خرافيًّا أو عالم ما تحت الأرض أو العالم السفلي، لفك أَسْرِ واسترداد الأخوات والحبيبات والفتيات المعلقة من رموش عينيها، واللاتي يختطفهنَّ الجان أو الوحش أو رأس الغول سعدان أو التنين أو النيل أو العون.

خوارق الجان من هذا النمط تنتشر بكثرة شديدة جدًّا، ومنها ما يشكِّل الجسد الأسطوري والملحمي في أوروبا اللاتينية، مثل خوارق ذي اللحية الزرقاء، وقصة أو ملحمة بيوولف الشهيرة جدًّا، والتي لها متنوعاتها في إنجلترا وأيرلندا والدانمارك، ثم ملحمة كالفالا الأيرلندية.

بل إن سيرجيمس فريزر يسوق عشرات — إنْ لم نَقُلْ مئات — من متنوعات اختطاف القوى المجهولة أو الكائن الخارق للطبيعة، الذي تُزَفُّ إليه النساء، فهو في الأغلب أحد الآلهة.

ويُلاحَظ في معظم الأمثلة التي يسوقها فريزر انتماؤها إلى مصادر عربية أو إسلامية، منها ما كان منتشرًا حول بحيرة فيكتوريا حيث منابع النيل، ومنها ما ينتشر في جزر المالديف قبل أن يعتنق السكان هناك الإسلام. يقول فريزر: «وقد وصف الرحَّالة العربي الشهير ابن بطوطة هذه العادة وطريقة القضاء عليها، فذكر له الكثيرون من الثقات من أهل الجزيرة — وقد ذكر ابن بطوطة أسماءَهم — أنه في الوقت الذي كان الناس هناك يعبدون الأوثان، كانت تظهر لهم في كل شهر روح شريرة من الجن، تأتي عبر البحار على شكل سفينة مليئة بالمشاعل الملتهبة، وكان الشغل الشاغل للناس حين يرونها هو البحث عن فتاة عذراء صغيرة يزيِّنونها، ثم يسوقونها إلى معبد وثني معين على الساحل وله نافذة تطلُّ على البحر، فيتركون الفتاة هناك طول الليل، وعندما يعودون إليها في الصباح كانوا يجدون أنها فَقَدَت بكارتها وفارقت الحياة، وكان الناس يسحبون القرعة في كل شهر، فمَنْ وقعَتْ عليه القرعة وجب عليه أن يتنازل عن ابنته لجني البحر. وظل الحال كذلك حتى جاء رجل صالح — سعد الدين أو مخلص أو ماري جرجس — من البربر وأمكنه أن يخلِّص آخِر فتاة قُدِّمَت بهذه الطريقة إلى ذلك العفريت، وأنْ يطرد العفريت ذاته إلى البحر بتلاوة القرآن عليه.»

ويواصل فريزر: «والقصة التي يحكيها ابن بطوطة عن الجني العاشق وعرائسه الآدميات تشبه شبهًا قويًّا نوعًا معينًا من القصص الشعبي الشائع، والذي يتخذ صورًا وأشكالًا مختلفة من اليابان وسيام في الشرق، واسكنديناوه واسكتلندة في الغرب.»

وتختلف القصة في التفاصيل من شعبٍ لآخَر، لكنها في عمومها تتخذ الشكل التالي: «كانت هناك بلدة يهدِّدها ثعبان أو غول أو تنين أو أي وحش آخَر له عدة رءوس وينذر أهلها بالدمار.»

لكن ما فات فريزر وغيره ممَّن تعرَّضوا لهذه البقايا الأساطير التي تتخذ مسوحَ قصص الجان، وتعيش بشكلٍ خاصٍّ إلى اليوم في ذاكرة شعوبنا المصرية والعربية، تورث للأطفال مع لبن أمهاتهم.

ما لم يلتفت إليه الأنثروبولجيون عامةً، هو أن في هذه الخارقة أو الحكاية انتهت وحفظت أقدم وأوسع ديانة العرب واليهود الساميين المعروفة بالبعليم، ممثَّلة في عبادة الإله الطوطم السلف الحمار عند بعض الأقوام والحضارات، ومنبتها في مصر الإله الحمار ست، منذ ما قبل فجر التاريخ المصري أو الأسرات أو الدولة القديمة، حتى إنه كان هناك حلف قبائلي بمقتضاه يسود الحمار المصري ست متزعِّمًا ثلاثين حضارة وقبيلة من حضارات الشرق الأدنى القديم في الشام وفلسطين والأردن واليمن والجنوب العربي عامةً.

ومن اسم الحمار تَسَمَّى الملوك الحميريون، أو حِمْيَر التي ترد أخبارها في سِيَرهم عن عنترة وسيف بن ذي يزن والتباعنة — جمع تُبَّع — ومنهم التُّبَّع حسان اليماني والزير سالم وعشرات التباعنة.

فالجسد الروائي سواء لنصنا الشفهي المتواتر اليوم أو أسطورة البعل الكنعانية، موجزة اختطاف الجني أو القوى الشريرة لإخوته الثلاثة في نصنا الفولكلوري اليوم، وبناته الثلاث في النص الكنعاني ٤ آلاف عام، وفي كلا النصين يخاطر الإله الحمار سعد الدين محقِّقًا انتصاره بعودة بناته المغتصبات.

ليعاوِد من جديد اعتلاءَه قِمَمَ أشجار السنط أو البكاء كقرينٍ للريح وإنذار الأعداء.

فهذا البعل الصحراوي المتجبِّر ست أو سعد هو البذرة الأولى للإله ليهوه رب القبائل الإسرائيلية، أمس واليوم.

١  قصة شعرية خالصة، وقد يتعاقب فيها الشعر مع النثر، ومن أشهرها: بالاد السيد Le Cid في الفرنسية والإسبانية، وفي العربية: حسن ونعيمة، ويوسف وزليخة.
٢  أيْ بالَتْ على نفسها هلعًا.
٣  جمع بر أو برية.
٤  أردنية فلسطينية.
٥  اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤