الفصل الأول

صفات المعتقد الأساسية

(١) المعتقد احتياج نفسي مهيمن

لقد عرَّفنا المعتقد في الفصل الأول من هذا الكتاب بأنه الإيمان، وذكرنا الفرق بينه وبين المعرفة، وتكلَّمنا بإيجاز عن شأنه، وأما الآن فسنبحث عن حياة المعتقدات.

إن العناصر التي يتألف منها كياننا تتصل بثلاث أنواع من الحياة … أعني: الحياة العضوية والحياة العاطفية والحياة العقلية، والاحتياج إلى الاعتقاد هو من مظاهر الحياة العاطفية، وهو في تجبُّره وسيطرته كالجوع والحب، وبما أن المعتقد هو احتياج مهيمن على طبيعتنا العاطفية، فإنه لا يكون إراديًّا عقليًّا، ولا يقدر العقل على تكوينه وتسييره.

ومهما يكن عرق الناس، ووقت ظهورهم، ودرجة جهلهم وعلمهم، فإنهم سواء في عطشهم إلى المعتقد، فكأن المعتقد غذاء نفسي ضروري لحياة الروح كضرورة الغذاء المادي لحفظ الجسم، وما مبدأ الشك العام الذي قاله (ديكارت) غير خيال وهمي، فإذا دخل المرء في طور اللاأدرية فذلك لأجل قصير، والحكيم وإن كان لا يعتقد الأمور كالجاهل، إلا أن الأشياء التي يؤمن بها قلما تكون قائمة على الدليل والبرهان.

وقد أوضحنا الفرق بين المعتقد والمعرفة في أوائل هذا السفر إيضاحًا كافيًا؛ فرأينا أن المعتقد إيمان أينع في عالم اللاشعور، ولا يحتاج لإثبات أمره إلى أية حجة تدعمه، مع أن المعرفة هي بنت الحياة الشاعرة وتقوم على التجربة والاختبار، فبالمعرفة نعلم، وبالمعتقد نسير، ولو ألزم الإنسان اكتساب المعرفة قبل أن يسير لاعترته البطالة والجمود زمنًا طويلًا، وقد ظلت المعتقدات وحدها أدلاء البشر قرونًا عديدة، فهي التي أنارت لهم السبل في جميع المسائل، ولم تكن الأديان منشأ احتياج الناس إلى الإيمان، بل إن هذا الاحتياج هو بالعكس علة الأديان، فمتى ترك المرء دينه لم يلبث أن يعتنق بغريزته معتقدًا آخر؛ صنمًا كان أم سحرًا أم خرافة سياسية … إلخ.

(٢) عدم التسامح في أمر المعتقدات

عدم التسامح هو إحدى صفات المعتقدات العامة الثابتة، وكلما كان المعتقد قويًّا قلَّ تساهله، فالناس بعد أن يدخل إيمانٌ في قلوبهم لا يصطبرون على من ليس عليه، هذه هي سُنَّة أجرت حكمها في جميع الأجيال، ولا تزال تجريه، وكلٌّ يعلم درجة ما يصل إليه المعتقدون من صولة دينية؛ كفارًا كانوا أم قانتين؛ فالحروب الدينية، ومحكمة التفتيش، وملحمة اﻟ (سان بارتلمي)، وإلغاء مرسوم (نانت)، والهول الأكبر، واضطهاد الأكليروس في الوقت الحاضر … إلخ، أمثلة على تلك الصولة.

وإذا كانت لتلك السنة شواذ نادرة سهل إيضاحها، فالرومان لم يعترفوا بآلهة مختلف الشعوب التي دخلت في ذمتهم إلا لأن هذه الآلهة في نظرهم عبارة عن سلسلة من الموجودات العلوية يجب اجتذابها بالعبادة، وكذلك البوذية فإنها لم تؤدِّ إلى اضطهاد؛ إذ هي متساهلة بما تأمر الناس به من التجرد عن الرغائب والشهوات، وباعتبارها الآلهة والموجودات أوهامًا لا أهمية لها، وليس من سبب يجعلها عديمة التسامح.

إذن مثل هذه الشواذ توضح نفسها بنفسها، وليس فيها ما يناقض الناموس العام القائل إن المعتقد عديم التساهل بحكم الضرورة.

والمعتقدات السياسية هي كالمعتقدات الدينية في عدم تسامحها، فليس من يجهل الشدة التي أباد بها رجال العهد الذين اعتقدوا أنهم على الحق المطلق خصوم إيمانهم السياسي، وأنصار إلاهة العقل في الوقت الحاضر هم كهؤلاء شدة وتعصبًا وتعطشًا إلى القرابين البشرية، وستظل كلمة القديس (طوماس) الآتية مبدأ لكل مؤمن حقيقي وهي: «إن الإلحاد إثم يستحق صاحبه القتل.» ولذلك أصاب الموسيو (چورچ صوريل) حيث أنبأ بأن أول عمل تأتي به الاشتراكية هو قتل أعدائها بلا رحمة، وإلا فكيف يستقيم أمرها حينًا من الزمن إذا لم تفعل ذلك؟

وعدم التسامح في أمر المعتقد وما ينشأ عنه من الاضطهاد ليسا عند العوام أقل منهما عند المتعلمين، بل قد يكونان عند هؤلاء أنمى وأكثر استمرارًا، قال (ميشليه): «أعجب أحيانًا من قسوة المتعلمين الشديدة التي قد لا يأتي بمثلها من هم أقل علمًا وأدنى معرفةً!»

(٣) استقلال الرأي: شأن عدم التسامح الاجتماعي

إذا دُرس عدم التسامح في أمر المعتقد من الوجهة العقلية وحدها بدا شيئًا ثقيلًا لا يطاق، وأما إذا نُظر إليه من الوجهة العملية فإنه لا يكون كذلك؛ لأن الرغبة في الاستقلال الذي يتخلص به المرء من سلطان المعتقد العام أمر شاذ، وكلٌّ يتحمل استعباد البيئة الاجتماعية المحددة للاستقلال الشخصي من غير أن يتظلم، وفي الغالب لا يشعر الإنسان بذلك الاستعباد، ولا بد له في البداءة من التحرر من ربقة البيئة — كأن يعيش منزويًا — لكي يصبح حرًّا حقيقيًّا.

وكل ما يمكن المرء أن يناله من الاستقلال هو أن يقدر أحيانًا على مقاومة ما يشيع بين الناس من تلقين شامل، وبذلك يمتاز من أفراد زمرته الذين يتبعون ما يطرأ على هذه الزمرة من معتقدات وآراء وأوهام كالهشيم الذي تذروه الرياح.

وصفوة الناس القليلة هي وحدها ذات آراء شخصية في بعض الأحيان، وإلى هذه الصفوة العالية يعود فضل الإتيان بمبتكرات الحضارة، ولا نتمنى زيادة عددها كثيرًا؛ لأنه لمَّا كان المجتمع لا يقدر على ملاءمة مبتكرات متتابعة صادرة عن صفوة كثيرة العدد، فإنه يقع في الفوضى بعد ظهور صفوة كبيرة، فالثبات الضروري لبقاء المجتمع قد تم أمره بفعل جماهير الناس ذوي النفوس البطيئة القليلة الذكاء التي تقودها البيئة والتقاليد.

فمن المفيد أن تكون أكثرية المجتمع مؤلفة من متوسطي العقل الذين لا رائد لهم سوى ما في البيئة من آراء ومعتقدات عامة، ومن المفيد أيضًا أن تكون الآراء العامة قليلة التسامح؛ إذ الخوف من انتقاد الآخرين هو أحد الأسس الأخلاقية المتينة، ويكون التوسط في العقل أكثر فائدة للأمة؛ إذا اجتمع مع بعض المزايا الخلقية، وقد اطلعت إنكلترا على ذلك بغريزتها، فبقيت على رغم كونها من أكثر بلاد العالم حريةً تمقت كلَّ فكر متطرف.

(٤) اشتداد المعتقد: الشهداء

بين الرأي المؤقت وبين المعتقد التام الذي يستولي على العقل وقوة التمييز مراحل قلما قُطعت، وحينما تُجاز في بعض الأدوار النادرة تشتد اندفاعات المرء الدينية وما توجبه من المشاعر حتى لا تقدر على ردعها جميع الزواجر الاجتماعية وعقوبات القوانين، ووقتئذ يظهر أمثال (بوليوكت) الذي حطم الأصنام، والشهيد الذي لم يبالِ بسيف الجلاد، والعدمي الذي رمى قنبلة بين جم غفير ليقتل أميرًا.

ومتى بلغ معتقد المرء هذه الشدة لم يقم في وجهه حاجز فيستولي على أوضح منافعه، وأعز مشاعره، ويجعله يرى الخطأ صوابًا، والصواب خطأ، ويدفعه إلى التضحية بنفسه في سبيل نشر إيمانه، والذود عنه.

والشهداء جميعهم ذوو نفسية واحدة؛ أي لا فرق بين نفسية من ذهب منهم ضحية السياسة، ونفسية من ذهب ضحية الدين أو المبادئ الاجتماعية، ولمَّا سحرتهم حلاوة المبدأ ضحَّوا بأنفسهم بوجوه مبتسمة انتصارًا له غير طامعين بثواب في الدنيا ولا في الآخرة أحيانًا، يؤيد ذلك تاريخ العدميين والإرهابيين في روسيا الذين يلقون بأنفسهم إلى التهلكة غير راجين دخول ملكوت السماوات.

ومن حسن الحظ أن عدد هؤلاء المتهوسين قليل في كل دور، ولو زادوا لقلبوا العالم، والبحث عن الشهداء هو من خصائص علم الأمراض النفسية، ولما بين المتهوسين من شبه كبير على رغم التباين بين معتقداتهم فإن درس اثنين أو ثلاثة منهم يؤدي إلى الوقوف على حقيقة الباقين.

ولا ينشأ عن الإيمان تحول في الآراء فقط، بل تتبدد أمام سلطانه مشاعر قوية إلى الغاية؛ كالخوف والحشمة وحب الأبوين، ويشهد بصحة هذا القول تاريخ الشهداء الذين نعد القديسة (بيربيتوا) التي ظهرت في عهد الإمبراطور (سبتيم سيڨير) الروماني مثالًا لهم، فهذه القديسة الجميلة الثرية التي هي بنت رئيس مجلس شيوخ «قرطاجنة»، والتي اعتنقت الديانة المسيحية سرًّا فضَّلت عرضها عارية أمام الجمهور لتلتقمها الحيوانات المفترسة على أن تحرق اللبان في الهيكل الإمبراطوري.

ومما يعتقده المؤمنون هو أن هذه الأحوال دليل على قدرة آلهتهم، فلا ريب في أن هذا الاعتقاد وهمٌ باطل؛ ذلك لأن جميع الأديان والمذاهب السياسية لها شهداء كالذين أشرنا إليهم.

ومن بين ألوف الأمثلة نورد الديانة البابية التي انتشرت منذ ستين سنة في بلاد فارس مثلًا على ما ذكرنا.

ولقد ظن الشاه آنئذٍ أنه يقدر على إطفاء هذا الإيمان الجديد بسوم أنصاره سوء العذاب، ولكن انظر ماذا حدث حسب تقرير (غوبينو): «تقدم الأطفال والنساء نحو السيَّافة وهم ينشدون بصوت عال: «الله خلقنا، وإليه مردنا.» ومما شوهد على الخصوص أن جلادًا قال لوالد إنه سيضرب على كتفيه عنقي ولديه إذا لم يرجع عن مذهبه، فأجاب الوالد ملقيًا نفسه على الأرض أنه لا يبالي بذلك، ثم تقدم ولده الكبير — وكان في الرابعة عشرة — طالبًا بصفته أكبر الابنين أن يُذبح قبل أخيه، وكان أحد أشياع الباب وهو معلق على سور تبريز لا ينطق إلا بهذه الكلمة وهي: إلهي، هل أنت راضٍ عنّي؟»

ومثل ذلك الاضطهاد الذي عاناه في هذه الأيام أنصار مذهب (السكوبسي) في روسيا، وأتباع مذهب (المورمون) في الولايات المتحدة، وقد فضَّل جميع هؤلاء العذاب على الرجوع عن إيمانهم.

تثبت هذه الحوادث وما شاكلها ما في الروح الدينية من قوة قادرة على تبديد الألم، وعلى قبر المشاعر التي يقوم عليها كيان الإنسان، فماذا يستطيع العقل أن يفعل أمامها؟

لا تُحرَّك الجموع بالبراهين العقلية، وأما بالمعتقد فيمكن التغلب عليها على الدوام، والعقل، على ما فيه من سلطان يقدر أن يقاتل به الطبيعة، يعجز عن تكوين المعتقدات.

وبفضل المعتقدات التي تخرب أحيانًا وتبدع غالبًا وتنتصر دائمًا تتأسس دول التاريخ الرهيبة ودعائم الحضارات الصادقة، ولولا المعتقدات لما عاشت الأمم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤