الفصل الأول

تدخُّل المعتقدات في أمر المعرفة

تكوين الأوهام العلمية

(١) لماذا تظل المعرفة مشوبة بالمعتقدات؟

لا يقدر عالم على الافتخار بأنه خرج من دائرة المعتقد خروجًا أبديًّا، فهو مكره في الحوادث التي لم تعرف تمامًا على إيجاد نظريات وفرضيات؛ أي معتقدات لا يسلم الناس بها إلا لما له نفوذ وتأثير.

وقد نضطر أيضًا إلى التسليم بالحوادث التي دُرست كثيرًا، كما نسلم بالمعتقدات عندما لا نستطيع أن نحققها جميعها، ولو نظرنا إلى تربيتنا المدرسية لرأينا أنها عبارة عن الإيمان بمبادئ لم تدخل في نفوسنا إلا بنفوذ الأستاذ، وإذا دعمها الأستاذ أحيانًا بالتجربة فذلك ليبين للطالب إمكان تحقيقها بالتجربة، وليعلمه أن الاختبار والتجربة هما أساس الحقائق.

إن تحقيق معارفنا جميعها بالتجربة متعذر تعذرًا يجعل نصيحة ديكارت في كتابه «قواعد الأصول» خيالية وهمية؛ فقد قال: «لا تسلم بصحة شيء ما لم تعرف أنه كذلك، وارفض كل شيء ترتاب فيه.» ولو طبق (ديكارت) قواعده على العمل لما صرَّح بأقوال نسخر منها الآن، فالمعتقد هو الذي ران على قلبه كما ران على قلوب كثير من معاصريه وخلفائه، حقًّا إن اللاأدرية المتطرفة هي في الواقع لا تشك إلا قليلًا، قال (لوك): «من يشك في أمور حياته العادية التي لم تؤيدها الأدلة والبراهين لا بد من هلاكه في وقت قصير؛ لأنه بذلك لا يجرؤ على الاغتذاء بطعام ولا بشراب.»

وأضيف إلى هذا قائلًا: «إن المجتمع لا يعيش بتحليل آرائه ومعتقداته تحليلًا انتقاديًّا، وليس شأن المعتقد سوى كفاية المجتمع مؤونة مثل ذلك التحليل.»

وبما أن العلماء يضطرون إلى التسليم بكثير من القضايا العلمية كما يسلمون بالمعتقدات فإننا لا نعجب مما يبدو عليهم أحيانًا من السذاجة كما يبدو على الجهلة الأميين، فالعالِم قلما يكون أسنى من الجاهل في الأمور التي ليست من دائرة اختصاصه، وبهذه الملاحظات ندرك السبب في كون أفاضل العلماء يؤمنون بأشد الأوهام خطلًا.

(٢) تكوين الأوهام العلمية

يتعذر تكرير جميع التجارب، ولذلك يبقى مبدأ نفوذ العالم وتأثيره مرشدنا الأساسي كما ذكرت آنفًا؛ فالناس يؤمنون بالعالِم الذي اكتسب من مقامه العلمي نفوذًا كبيرًا، فيظنون أنه لا يأتي بمزاعم مختلَّة يتعرض فيها للتكذيب.

حقًّا إن العالم لا يخبر بشيء يراه غير صحيح، غير أن الوهم قد يتطرق إليه بتأثير التلقين — حتى في الأمور المضبوطة — فيظن الأضاليل التي أملتها عليه مخيلته حقائق، وأكبر دليل على ذلك حكاية أشعة (N) التي كان أشهر علماء الطبيعة يقيسون انحرافها، مع أنه ثبت بعد ذلك أنه لا أساس لتلك الأشعة.

وقد أسهبت في بيان هذا الموضوع؛ لأنني بإظهاري الخطأ في مباحث علم الطبيعة — التي يتوخى العلماء الضبط والدقة في درسها — أوضِّح السهولة التي تستحوذ بها الأوهام على النفوس إزاء حوادث لا تنالها يد التحقيق إلا قليلًا، وإني أختار أمثلة تشاهَد في العلماء وحدهم؛ لأثبت أنه بتأثير النفوذ والتلقين والعدوى يحدث في جميع الناس، ومنهم أولو المدارك السامية، معتقدات وآراء مختلة.

ومن تلك الأمثلة المؤثرة الضلالُ الذي وقع فيه أعضاء المجمع العلمي منذ أربعين سنة، وحمل (ألفونس دوده) على هجو ذلك المجمع في رواية سماها «الخالد»، فقد نشر هذا المجمع مئات من الرسائل التي نسبها أحد المزورين قصيري الباع في الأدب إلى (باسكال)، و(غليله)، و(كاسيني)، وغيرهم، وحازت القبول مع ما فيها من الأغلاط الكثيرة والسقطات الكبيرة؛ نظرًا لنفوذ المؤلفين المنسوبة إليهم، ونفوذ المهندس العالم الذي عرضت بواسطته، ولم يشك أعضاء المجمع حتى سكرتيره في صحتها، وظلوا على ذلك حتى اعترف لهم المزوِّر بأنه هو الذي لفَّقها، وحينئذ زال النفوذ، وأعلنوا أن أسلوب الرسائل ركيك جدًّا بعد أن عدوه من أفصح الأساليب، وقالوا: إنه خليق بأولئك المؤلفين.

قد يقال إنه يصعب على أولئك الأعضاء أن يحققوا أمرًا ليسوا متخصصين به، فحكموا حسبما لزميلهم من التأثير والنفوذ! نجيب على ذلك بأن نبين أن أعضاء المجمع العلمي المتخصصين قد انخدعوا فيه أيضًا، ثم إن الاعتراض المذكور يزول عند البحث في حوادث جديدة أخرى ضل فيها رجال متخصصون دون غيرهم.

ومن أوهام النفوذ والعدوى ما فصَّله منذ خمس عشرة سنة الموسيو (بيكريل) — أحد مشاهير علماء الطبيعة، وأستاذ الحكمة الطبيعية في مدرسة «البوليتكنيك» — في مجمع العلوم؛ قال: «لقد ثبت من تكرار التجارب الدقيقة أنه يصدر عن معدن الأورانيوم أشعة تستطيع أن تزيغ وتنحرف وتنعكس كأشعة الأجسام الفوسفورية.» وعلى رغم ما أبداه أحد علماء الطبيعة في فرنسا — المعروف عند قرَّاء هذا الكتاب — من الأدلة المخالفة أصر ذلك العالم المشهور على رأيه مدة ثلاث سنوات، وشاطره خطأه في أثناء ذلك جميع علماء أوروبا، وما اعترف العلماء بخطئهم إلا بعد أن أثبت أحد علماء أميركا — الذين لم يؤثر فيهم باطل العالم المذكور لبعد الشقة بين البلدين — أن تلك الأشعة لا تنحرف، ولا تنعكس، وأنها شيء غير الضياء، فلو بحثنا عن أسباب ذلك الخطأ الذي ران على العلماء ثلاث سنين لرأينا أنها نفسية بحتة.

وتاريخ أشعة (N) التي ألمعنا إليها آنفًا بارزٌ، يتجلى فيه شأن النفوذ والتلقين والعدوى النفسية، وليست حكاية هذه الأشعة كحكاية الأمثلة السابقة التي سلَّم بها الناس من دون تحقيق، بل صرَّح كثير من علماء الطبيعة بأنهم حققوا أمرها بالتجربة.
ظن أحد أساتذة الحكمة الطبيعية المشهورين الموسيو (بلوندلو) أنه شاهد كثيرًا من الأجسام تنشر أشعة خاصة نعتها بأشعة (N)، يمكن قياس تموجها بضبط ودقة، وبما أن العالم المذكور ذو نفوذ كبير سلَّم أكثر علماء فرنسا بصحة زعمه غير مجادلين، وقد كرروا التجربة ذاتها بأنفسهم فرأوا صحة ما تلقنوه، ثم إن مجمع العلوم رأى أن يكافئ صاحب ذلك الاكتشاف الخطير فأوفد كثيرًا من أعضائه — ومنهم العالم الطبيعي (ماسكار) — إلى المكتشف كي يحققوا عنده صحة مباحثه، فعادوا مشدوهين بما شاهدوه منه، ومنحه المجمع جائزة قدرها خمسون ألف فرنك.
وفي أثناء ذلك أتى العلماء الأجانب الذين لا تأثير لعلماء فرنسا فيهم بتجارب مكررة في الموضوع فلم يظفروا بشيء، وعندئذ عزم عدد غير يسير منهم على شد الرحال إلى المكتشف ليختبروا الأمر أمامه، وسرعان ما علموا أن هذا الأخير ذهب ضحية أوهام تطرقت إليه من قياسه انحراف أشعة (N) بمنشور من زجاج، وعلى أثر ذلك قامت «المجلة العلمية» ببحث ضافٍ في المسألة، فظهر أن أشعة (N) هي نتيجة للتلقين والعدوى، وأنه لا وجود لها.

تدلنا هذه القصة العجيبة على ما للنفوذ والتلقين والعدوى من السلطان الكبير، وبها تتضح لنا كيفية تكوين المعتقدات، وكثير من الحوادث التاريخية، وجميع حادثات السحر؛ فالناس يُسحرون بالتلقين، وإذا كان تأثير التلقين في المسائل العلمية هو كما وصفنا فما أحرى به أن يكون عظيمًا في إحداث أمور خارقة للعادة.

لم أبحث هنا إلا عن أوهام علمية شهيرة، ولو ذكرت ما تسرب في مختلف المسائل العلمية من الأوهام التي مصدرها النفوذ لاستوعب ذلك سِفرًا كبيرًا، ولذا فإني أقتصر على إيراد المثال الآتي:

اعتقد أحد طلاب الموسيو (ليمان) أنه اكتشف أن الجسم المكهرب وهو في دور الحركة لا يجتذب الإبرة المغناطيسية، وقد كان أمر هذا الطالب مجهولًا، ولكنه لما أتى بتجاربه في حضرة الموسيو (ليمان)، واستعان بنفوذه العلمي العظيم، اتَّبعه جميع علماء الطبيعة إلى أن أثبت أحد علماء الأجانب أن الطالب وأستاذه كانا على ضلال.

وأكثر ما تكون الأوهام في العلوم التي هي في طور التكوين — كعلم الطب مثلًا — حيث يصعب تحقيقها، فتعدادها عبارة عن تدوين لتاريخ الطب، وإثبات لكون النظريات والأدوية تتغير في كل خمس وعشرين سنة، وإني أختار المثال الآتي كدليل على ذلك:

كان الأطباء منذ خمسين سنة يعتبرون معالجة ذات الرئة بالفصد من أهم ما اكتشفه فن الطب، وقد استندوا في ذلك إلى الإحصاءات التي دلت على أن عدد الوفيات من المصابين بالداء المذكور — بعد معالجتهم بالفصد — هو ثلاثون في المائة، وقد استمر استعمال طريقة الفصد إلى أن زار طبيب ماهر أحد مستشفيات لندن؛ فحقق فيه أن عدد الوفيات من المصابين بذات الرئة هو خمسة في المائة بدلًا من أن يكون ثلاثين في المائة، وأن علة هذا النقص في الوفيات هي أن الأطباء يعالجون المرضى هنالك بعدم التعرض لهم بدواء.

وإني لأرجو أن يكون القارئ قد اقتنع من الأمثلة السابقة بأنه يجب نعت أكثر آرائنا العلمية بالمعتقدات لا بالمعارف؛ فالآراء المذكورة التي هي من فصيلة المعتقدات تتكون بفعل بعض المؤثرات؛ كالنفوذ، والتوكيد، والتلقين، والعدوى، وغيرها من العوامل البعيدة من العقل، والتي هي ذات سلطان أكبر من سلطانه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤