الفصل السادس

قامت الثورة وأوشكت أن تمسك بتلابيب كل المصريين لا تترك منهم أحدًا. تغيَّر وزير الزراعة، وأطاح الوزير الجديد بفتحي السكرتير الخاص، وبراشد مدير المكتب، أما شهاب فقد ظل في مكانه لهوان أمره فما كان أحد يشعر به، ولم يسارع الوزير الجديد بتعيين سكرتير خاص له أو مدير مكتب فكان حتمًا من الحتم أن يتولى شهاب أعمال السكرتير، وهو واثق أنه يقوم بها بصفة مؤقتة. ومرت أيام وهو يتوقع في كل لحظة أن يُعيِّن الوزير الجيد سكرتيرًا له إلا أنه فوجئ في مرة كان يعرض فيها على الوزير بعض أوراق وإذا بالوزير يسأل عن شهادته. وعن عمل أبيه، وعن كل شأن من شئونه الخاصة. وكان شهاب مع الذعر الذي شاع في الحياة حريصًا كل الحرص أن يكون صادقًا غاية في الصدق فيما أدلى به من معلومات، ويبدو أن الوزير لم يجد فيما سمع من سكرتيره ما يمنع أن يظل سكرتيرًا له، وكانت المفاجأة مذهلة لشهاب أن طالعه الوزير بعد الأسئلة العديدة التي وجهها إليه بقوله: أنا سأُبقي عليك سكرتيرًا.

وفي دهشة فرحة قال شهاب: تحت أمرك يا افندم.

– ولكن هناك شروطًا.

– تحت أمرك يا افندم.

– ما يجري هنا لا يعرفه أحد في الخارج حتى وإن كان أباك.

– طبعًا يا افندم.

– الشرط الثاني أن تكون صادقًا معي غاية الصدق، وتطلعني على كل شهيق أو زفير لكل الموظفين أو الزوَّار أو أي أحد تعرفه.

– هذا أمر مؤكد يا افندم.

– ومقابل هذا سأُبقي درجة مدير المكتب خالية حتى أتأكد من تنفيذك لهذه الشروط بكل دقة.

– ربنا يطيل عمر سيادتك يا افندم.

– وسأبدأ الآن.

– تحت أمرك يا افندم.

– ما الذي تعرفه عن مدير المكتب السابق راشد حمدي الجوهري؟

ولم تستغرق الإجابة من شهاب كثير تفكير؛ فإن أي مساس براشد سيأخذ بخناقه هو أيضًا؛ فكلاهما في شبكة واحدة وما أسرع ما قال: رجل طيب.

– وما معنى طيب.

– أولًا لا بد أن أقول لسيادتكم إنه لم يكن له شأن بالوزير السابق؛ فأسرار الوزير كانت كلها مع فتحي أما الأستاذ راشد فكان صورة فقط، ونادرًا ما كان يدخل إلى الوزير أو يستدعيه الوزير، وهو إلى جانب هذا رجل يصلي ويصوم ولم أرَ عليه طوال مدة خدمتي معه أي شيء يشينه.

– هل هو من الإخوان المسلمين؟

– أعوذ بالله يا سيادة الوزير، إنه لا شأن له بهذه الجماعة أبدًا، إنه رجل يرتعد إذا انفجرت عجلة سيارة.

– إذن تنقله، أين تظن المكان الذي يصلح له؟

– والله أعتقد أن طول مدة خدمته بالوزارة ترشحه أن يعمل في شئون الموظفين.

– والله فكرة لا بأس بها، اكتب قرارًا بنقله بدرجته إلى شئون الموظفين.

– أمرك يا افندم.

– أما فتحي فلن أرفته إنما قل لي من أي بلد هو؟

– أظن أنه من طنطا يا سيادة الوزير.

– إذن ننقله إلى جرجا.

– أحسن من الرفت على كل حال.

– اكتب قرارًا بهذا.

– أمرك يا سيادة الوزير.

•••

طبق قانون الإصلاح الزراعي على فؤاد باشا الجويني طبعًا، ولكنه لما كان رجلًا بعيدًا عن السياسة فقد أعتقه قانون الحراسات العشوائي، واحتفظ الباشا بحدائق الموالح، وهكذا أصبح في مقدوره أن يبقي على زكي النمر وعلى متولي وهدان في وظيفتيهما وبنفس المرتب أيضًا، وهكذا لم تؤثر الثورة على متولي وهدان تأثيرًا سيئًا بل إنها مكَّنته من أن يحصل على وعد من موظفي الإصلاح أن ينال خمسة أفدنة من أرض الباشا التي وزِّعت على الفلاحين المعدمين، وما أيسر على متولي أن ينفق على موظفي الإصلاح الزراعي بضعة جنيهات ليجعلوا منه معدمًا، ويغضوا البصر عن الفدانين اللذين يملكهما؛ الأمر الذي لم يفكر فيه زكي النمر أولًا لأمانته، وثانيًا للصعوبة البالغة التي ستواجه موظفي الإصلاح، فإن إخفاء فدانين لا يمكن أن يكون مثل إخفاء عشرة أفدنة.

وهكذا أصبح الشيخ متولي في حالة مالية منتعشة؛ فسبعة أفدنة مع مرتب الباشا يعتبر بالنسبة له غنًى أي غنى، ولكن مالًا آخر كان في الطريق إليه؛ فقد كان قانون الإصلاح الزراعي يتيح لمن يملكون أكثر من نصابه أن يبيعوا في حدود خمسة أفدنة لا تزيد للفرد الواحد وفي مدة محددة، وفي جلسة جمعت مع الباشا زكي النمر ومتولي وهدان قال الباشا: كم بعنا من الأرض الزائدة يا زكي أفندي؟

– حوالي ثلاثمائة فدان تقريبًا يا سعادة الباشا.

– والله لا بأس، اسمع أنا عندي فكرة؛ لماذا لا أبيع لك أنت خمسة أفدنة، ومثلهم للشيخ متولي، ومثلهم لكاتبي الحسابات بالدائرة، بيعًا حقيقيًّا نقوم بتسجيله دون أن أتقاضى ثمنًا منكم؛ ألستم أنتم أولى من الذين سيوزع عليهم الإصلاح الأرض ممن لا نعرفهم.

وقال زكي النمر ومتولي وهدان في وقت واحد: أطال الله عمرك يا سعادة الباشا.

– هذه أقل مكافأة لكم على أمانتكم في العمل.

أبلغ كمال أفندي الكاتب بأن يحرر العقود الأربعة ويكتب الثمن مثل ما بعنا به الأرض الأخرى، ويذكر في العقد أنني قبضت الثمن كله.

– أمرك يا سعادة الباشا.

وفي مدة وجيزة تم الاستيلاء على أرض الباشا الزائدة، وفي مدة وجيزة أخرى تسلم زكي النمر خمسة أفدنة من الباشا كما تسلم متولي وهدان أفدنة الباشا الخمسة ولم يمضِ كثير وقت حتى وزَّع المختصون من موظفي الإصلاح الزراعي الأرض على الفلاحين، وصدقوا وعدهم لمتولي وتسلَّم خمسة أفدنة مثل الفلاحين الآخرين الذين وُزِّعت الأرض عليهم.

وهكذا أصبح متولي يملك اثني عشر فدانًا الأمر الذي جعله يرسل لابنه شهاب أن يتوقف عن إرسال الخمسة جنيهات التي كان يبعث بها في كل شهر لأبيه، وطبعًا هو لم يخبر أباه بالأموال التي تنسكب عليه من التجار المتعاملين مع الوزارة ومن راشد الجوهري؛ فإن كانت الجنيهات الخمسة متوائمة مع مرتبه الضئيل إلا أنها لا تناسب بأية حال من الأحوال دخله الحقيقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤