الفصل السابع

ومرت السنون وتولَّى شهاب منصب مدير مكتب الوزير وأصبح هو المشرف على تعاملات الوزارة مع الغير؛ فأصبح المال الذي كان يغتاله راشد يتدفق على شهاب وحده لا يشاركه فيه أحد؛ ولذلك لم يكن عجيبًا أن يفكر شهاب في الزواج، وهو لم يكن يذهب إلى مجتمعات، ولو كان يذهب ما شجعه هذا على طلب أي فتاة؛ فقد كان شرطه الوحيد الذي وضعه لمن يتزوجها أن تكون ذات ثراء يجعلها على الأقل مسئولة عن نفقات البيت، وقفز اسم سعاد راشد الجوهري إلى ذهنه، ولكنها ليست على شيء من الجمال ولكنها أيضًا ليست قبيحة وأستطيع أن أجد الجمال في أماكن أخرى، أي أماكن، الأماكن التي أسمع عنها ولا أرتادها، الزوجة شيء والجمال شيء آخر، على الأقل لا تجعلني أغير عليها، وأظل وأنا خارج البيت مطمئنًّا غاية الاطمئنان أن عرضي مصان. ولا تنسَ أنها أصبحت طبيبة وهذا الأمر سيزيد من دخلها كما أنه سيشغلها عن مغامراتي التي أنوي بإذن الله أن أقوم بها، هي سعاد وليس أنسب لي من سعاد، وكان راشد الجوهري قد بلغ سن المعاش ولا يعرف شهاب إن كان يعمل أم أنه متقاعد في البيت.

توكل على الله طلب راشدًا في التليفون.

– آلو من؟

وعرف صوته فقال: تلميذك.

– شهاب.

– إذن لم تنسني.

– أنت الذي نسيتنا يا خائن.

– أنا لا أنساك أبدًا.

– أية مناسبة سعيدة جعلتك تفكر في الاتصال بي؟

– هي سعيدة إن شاء الله، متى أستطيع أن أزورك؟

– أي وقت؛ فأنا كما تعلم على المعاش ووقتي كله ملكي.

– ربما تكون وجدت شركة تنتفع بخبرتك.

– والله هناك وعود ولم يتحقق منها شيء؛ فأنا الآن لا عمل لي إلا المقهى في الصباح والبيت بعد الظهر حتى اليوم التالي. متى تحب أن تجيء؟

– بكرة.

– وهو كذلك، الساعة السابعة تناسبك؟

– على بركة الله.

– أهلًا وسهلًا.

– أهلًا بك. سلام عليكم.

وذهب شهاب في الموعد المحدد، وجلس في حجرة الاستقبال الفاخرة مع راشد، وما لبث أن جاء الخادم بالقهوة، ولم يُضع شهاب الكثير من الوقت بل عاجل راشدًا قائلًا: أنا أجيء إليك كوالد لي أولًا، ثم بصفة ثانية سأطلعك عليها في وقتها.

– مرحبًا بك بأي صفة تريدني فيها؟

– ألا ترى أن الوقت الآن مناسب لي أن أتزوج؟

– طبعًا مناسب جدًّا؛ فأنت الآن ميسور الحال، وأنا على علم بكل صفقاتك فأنا ما زالت لي صلات بالوزارة والمتعاملين معها.

– أنا لا أشك في هذا فلنتوكل على الله.

– وأنعم بالله وكيلًا.

– أريد أن أتزوج الدكتورة سعاد.

ووضحت المفاجأة على وجه راشد وسرعان ما تغلب عليها وقال: ولمَ لا؟ إنما هناك شيء لا بد أن أذكره لك حتى أكون صريحًا معك، أنا أعرف أنك لست أمينًا في عملك في الوزارة ولا تقل لي إنني أيضًا لم أكن أمينًا، ولكني أنا بالذات حالة خاصة.

– كيف ذلك؟

– أنا استطعت أن أفصل تمامًا بين عملي في الوزارة وبين حياتي الخاصة، ولا أعرف إنسانًا مثلي؛ فإني لم أخن زوجتي في حياتي مطلقًا مع أنك لاحظت أنها غير جميلة، لا تعجب فقد تبينت هذا في عينيك منذ أول يوم قابلتها، فأنا شخصيًّا مثال فردي لا يقاس عليه ولا يتوسع فيه.

– ولماذا لا أكون مثلك؟

– يا شهاب يا بني أنا رجل عركت الحياة فإن لم تنتفع ابنتي من خبرتي فهي إذن خبرة لا قيمة لها، سعاد ليست جميلة ومالها ليس بالكثرة التي تتصورها؛ فهي ستساعد في مصاريف البيت ولكن بقدر معلوم، وقد تكسو نفسها ولكنها لن تكسوك.

– هذا كلام معقول وأنا أرحب به ولا أريد أكثر منه.

– أخشى أنك تقول هذا الآن ثم تنساه.

– أنت رجل تعرف الله فتوكل عليه.

– توكلت على الله، ولكن لا بد أن أسأل سعاد.

– طبعًا، وإذا وافقت فسأذهب إلى أبي وأمي وآتي بهما ليخطبا لي ويباركا زواجي.

– هذه علامة طيبة.

– أنت تعرف ماذا يعمل أبي، ولن يكون غريبًا أن ترى أبي يلبس جلبابًا وأمي متوشحة بالطرحة.

– من ينسى أباه ينسه أبناؤه، أنت رأيت سعاد أكثر من مرة ورأتك، ولكن لا أظن أنها فكَّرت فيك كخاطب لها سيصبح زوجًا، والزواج صلة لا مثيل لها في كل الصلات الأخرى، ولا يشبهها أي آصرة، فأنا سأسألها وربما طلبت أن تجلس إليها.

– أنا تحت أمرك وأمرها.

•••

ولمَ لا؟! إن هذا الشاب يخطبني لذاتي؛ فأبي لم يعد رئيسًا له ولا لأحد غيره، ولماذا أرفضه؟ أنا أعلم أنني لست جميلة، وقد عوَّضت هذا بنبوغي في العلم، وهو أيضًا في مركز مرموق، ومن المرات التي رأيته فيها تبين لي أنه ذو ذكاء وحدَّة بادرة وليس سخيفًا في تعليقاته، أو حديثه وشكله، لا بأس به وملامحه ومتناسقة، وإذا أكل فبطريقة متحضرة نظيفة؛ وذلك يدل على ذكائه الذي جعله يتعلم كيف يأكل بالشوكة والسكين فلا يجعل الذي يؤاكله ينفر منه أو يتقرف. الواقع أنه لا بأس به وأنا لا أتوقع لنفسي خيرًا منه. وقالت لأبيها: هل أنت راضٍ عنه؟

– المهم رضاكِ أنت.

– على بركة الله.

وقال راشد لشهاب: على بركة الله.

وفرح شهاب وسارع قائلًا: متى أحضر أبي وأمي؟

– اليوم الإثنين، لنجعل الخطبة يوم الخميس إن شاء الله.

– وهو كذلك.

•••

فرح متولي وتفيدة بقدوم ابنهما؛ فقد كان قليل الزيارة لهما رغم أنه اشترى سيارة، وبعد الاحتفاء به قال لأبيه وأمه سبب مجيئه، وفرح أبوه غاية الفرح، أما أمه فلم يكن فرحها عظيمًا كأبيه.

– ألم تكن واحدة من قريباتنا أولى بك؟

وأجاب عنه متولي: يا شيخة اسكتي. ومن في قريباتنا تستحقه، إنه يقول لك إن عروسته دكتورة، ألا تفهمين معنى دكتورة؟ وأبوها كان رئيسًا له في الوزارة يعني بك. وقالت تفيدة: هذا يوم المُنى عندي. نريد أن نفرح بأولاده.

وقال متولي: هذا هو الكلام، زغردي يا أم شهاب، زغردي. وقال شهاب: طبعًا ستصحباني لتخطبا لي.

وقال متولي في بعض حذر: أترى ذلك؟!

– بل لا بد من ذلك.

– وأذهب بالجلباب وأمك بالطرحة.

– وهل قلت لهما إنني ابن باشا أو بك، إن راشد بك وأسرته يعلمون جميعًا أنني فلاح وابن فلاح وفلاحة، وإذا لم تخطب لي أنت وأمي فلن تكون هناك خطبة، كيف تتم إجراءات الخطبة إذا لم تخطب لي أنت وأمي أطال الله عمركما؟

– على بركة الله.

وقالت تفيدة: تعيش يا بني، وهل نتمنى أنا وأبوك شيئًا أجمل من الخطبة لك.

– اليوم الثلاثاء. بكرة إن شاء الله نسافر في الصباح.

– وهو كذلك.

وفي المساء ذهب متولي إلى الباشا وأخبره، فأصر الباشا على حضور الخطبة.

اشترى شهاب شبكة بخمسمائة جنيه، وكانت شيئًا مشرفًا له ولعروسه أمام كبار القوم الذين دعاهم راشد لحفل الخطبة، ولو أنهم لم يكونوا كثيرين، ولم يخبر متولي أحدًا إلا الباشا. أما شهاب فهو الآخر قد أخبر الوزير الذي يعمل مديرًا لمكتبه ووعد بالحضور، ولكنه لم يحضر. ودعا شهاب اثنين فقط من زملائه في العمل هما حماد شريف صديقه اللصيق، ويسري خطاب سكرتير الوزير منذ أصبح شهاب مديرًا للمكتب.

وفي أثناء الحفل دعا فؤاد باشا شهابًا إلى غرفة جانبية وأعطاه ظرفًا قائلًا: لم يتسع وقتي لشراء هدية، خذ هذا واشترِ أنت وعروسك ما تريدان.

وتناول شهاب الظرف وهم بتقبيل يد الباشا وهو يفهم أن الباشا لا يقبل أن يُقبِّل يده أحد؛ ولهذا لم يكن عجيبًا أن يختطف الباشا يده قائلًا: يا شهاب أنت ابني مثل عمر وعلي.

– أطال الله عمرك يا سعادة الباشا، وأسعدك بعمر بك وعلي بك وعائشة هانم.

– شكرًا يا بني.

وقام الباشا ليعود إلى الآخرين وتبعه شهاب وخالطوا المدعوين، وبدأت مراسم الخطبة ولكن شهابًا كان مشغولًا عن دوره المفروض أن يقوم به بهذا الظرف الذي أعطاه له الباشا، كم يحوي هذا الظرف يا ترى؟ كان توقه إلى معرفة المبلغ الذي يحويه الظرف يأخذ عليه تفكيره كله، ليس للمبلغ في ذاته ولكن ليعرف إن كان الباشا ما زال كريمًا كشأنه، وهل ما زال غنيًّا قادرًا أم قصم الإصلاح الزراعي ظهره فأصبح لا هو بالكريم ولا هو بالقادر.

تمت إجراءات الخطبة في شكلها المرسوم، وكان شهاب وعروسه وأهل عروسه جميعًا قد ملأهم الزهو بالشبكة التي قدمها العريس. وهكذا نال شهاب ما كان يصبو إليه من تفاخر بفخامة الشبكة.

الوحيد الذي مسه كثير من العجب والدهشة هو متولي أبو العريس؛ من أين جاء شهاب بثمن هذه الشبكة التي بهرت المدعوين جميعًا؟ إنه حتى لم يطلب مني أي مساعدة مالية، وربما عاونه حموه حتى يتاح له الزهو بالشبكة أمام المدعوين، هذا هو الأرجح؛ فالعروس وإن كانت دكتورة إلا أنها من المؤكد أنها ليست جميلة وليس عجيبًا أن يعاون أبوها خطيبها لتكون الشبكة غالية الثمن إلى هذا الحد، وكانت بجواره زوجته تفيدة فإذا هي تلكزه بمرفقها سائلة زوجها: ما رأيك في العروس؟

– ليس الآن.

– ومن أين أتى شهاب بهذه الشبكة التي بهرت المدعوين؟

– قلت لك ليس الآن.

– على كل حال ربنا يزيده، هل أعطيته أنت شيئًا؟

– لو كنت أعطيته لكنتِ أنتِ أول من يعرف.

– عجيبة، ربنا يكثر ماله.

– آمين.

– آمين على أن يكون حلالًا.

– آمين وخلاص يا تفيدة.

وانتهت مراسم الخطبة وصحب شهاب أباه وأمه إلى بيته الذي لم يتمكنا من رؤيته على حقيقته في الليلة السابقة التي باتا فيها عنده؛ فقد خرجا في صباح يوم الخطبة ليزورا أولياء الله الصالحين، وأصر شهاب أن يدعوهما ليكون غداؤهما كبابًا في سيدنا الحسين، وحين عادا إلى شقة شهاب بعد الظهيرة لم يكن الوقت متاحًا ليسأله أبوه وأمه الأسئلة التي وجَّهاها إليه بعد حفل الحطبة.

– الشقة عظيمة من أين لك كل هذا يا ولد؟

– خير الله كثير والحمد لله.

وقالت أمه: على أن يكون من الله لا من الشيطان.

– اطمئني يا أمه.

– والشبكة التي بهرت الأكابر الذين كانوا مدعوين.

– الذي يهمك أنت وآبا أن يكون المال حلالًا، وهو حلال، وأنا لم أطلب من أبي شيئًا.

– أنت لم تطلب وعلى كل حال أنا مستعد أن أساعدك بالذي تطلبه.

– أعرف هذا، ولكن لماذا ما دامت مستورة؟

– الواقع أن أمورك أكثر من مستورة بكثير.

– بركة دعواتك أنت وأمي، دقائق ويكون العشاء جاهزًا.

وقالت أمه: أي عشاء؟ أنت جوعان يا متولي؟

– أبدًا.

– وهل بعد الذي أكلناه من حلوى عند العروس يمكن أن نأكل شيئًا، هذا من رابع المستحيلات.

– إذن تصبحان على خير.

وتركهما في غرفتهما وسارع إلى حجرته ليخلو إلى الظرف الذي أعطاه له فؤاد باشا الجويني.

– يا قوة الله ثلاثمائة جنيه! أولاد الكلب، هؤلاء لا ينفع معهم لا إصلاح زراعي ولا إلغاء الرتب ولا حكم عسكري، الرجل يقدم هذا المبلغ الفادح هدية لي ليجعلني أتأكد أنه ما زال السيد صاحب الأفضال وأنه قادر، وأنه ما زال صاحب الغنى والأموال، إلى متى سيظل أولاد الكلب هؤلاء سادة ويدهم هي العليا، إلى متى؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤