تقديم

أكتب هذه القصة تذكارًا لقطعة عزيزة من حياتي، وأهديها إلى هزة الشباب الكبرى في عام ١٩١٩.

كانت ليلة من ليالي فبراير سنة ١٩١٩ قبل أن تتفجَّر الثورة الكبرى، التي كانت كامنة في النفوس تنتظر الشرارة التي تُشعل لهيبَها، وكان القمر التامُّ يغمر الْمَنْزَه المنعزل الذي جلسنا فيه في حدائق القبة، وكانت إذ ذاك في عالمها الشعري الوديع قبل أن ينزل بها العمران إلى زحمة الحياة العابسة، وهبَّتِ النسمات الدفيئة علينا في ظِلال الأشجار المبعثرة في الْمَنْزَه كأنها تُبشرنا بقرب مقدم ليالي الربيع. وكان الناس يجلسون حولَنا أزواجًا أزواجًا يتلفَّتون في حذر من العيون الفاحصة، وهم يتناجَوْنَ في همساتٍ خافتة تحتَ أنوار مصابيحَ تتهامس كذلك بأشعَّتها الضئيلة. كان ذلك قبل أن يطلع على فتيان مصر وفتياتها برق المدنيَّة الحديثة، وقبل أن تزولَ عنهم الْغِلالة الرقيقة التي كانوا يتستَّرون بها إذا أرادوا أن يختلسوا ساعة لقاء.

ومرت بنا الساعات سريعةً ونحن في حديثنا لا نلتفت إلى شيءٍ مما حولَنا، وكان صوتنا يعلو أحيانًا في حماستنا، فنتلفَّتْ خشية أن نُعكِّر الصفاء على الأزواج القريبة من مجلسنا، فما لهؤلاء السعداء الذين كانوا يتبادلون أمانيَّ الحياة المزدهرة، ويتعاطَوْنَ خفقات القلوب الخالية التي هزَّها الربيع المقبل، ما لهؤلاء وما نحن فيه من أحاديث ملتهبة حانقة تنبعث من الثورة الثائرة في أعماق قلوبنا. كُنا جَمْعًا من الشباب لا يعدو أكبرُنا سِنَّ الخامسة والعشرين، ولكنَّا كنا قد قفزنا عبر الشباب، فلم نَكَدْ نُلِمُّ بشيء من عبثاته السعيدة، ولم نُدرك عند ذلك مبلغ إسرافنا في ساعاته، وما أسرع طيرانها! كُنا لا نُحسن من شبابنا إلا تلك الدفعات العنيفة التي لا تحمل شيئًا من روائح الشباب العطرة. وكانت الحرب العالمية الأولى قد هدأتْ في ميادينها فجأة كما تهدأ العاصفة العاتية فجأة، ولكن الحُطام الذي تخلَّف عنها كان ما يزال ماثلًا في كل الأركان، يُثير رعبها ومخاوفها وقلقها، كأنها ما تزال تتوثَّب لِغَضْبَةٍ أخرى؛ فلم يكن في نفوسنا شيء غير سؤال واحد نردده في أحاديثنا: «ماذا يكون من أمرنا في مصر بعد أن هدأتِ العاصفة؟» كنا لا ندري ما يكون حالُنا غدًا وهذه الركام المخيفة تغطي وجهَ الأرض من حُطام الحرب، أَقَدِ انتهت الحرب الكبرى التي ثارت من أجل الحرية كما قيل، كي نُصبح نحن فنجد أنه قد حِيل بيننا وبين الحرية التي ما زلنا ننشدها؟ كانت الأحداث والأحوال كلها تنمُّ عن نية مستورة في شد القيود والأغلال في أيدينا وأعناقنا، فهل كانت الحياة تستحق أن نحياها إذا كان المقدور لنا أن نُصبح للأجنبي عبيدًا؟ وبَدَتْ لنا الحياة المقبلة طويلة هزيلة شاحبة شوهاء، حتى إن الموت نفسه كان في أعيُننا أهوَن من تأمُّلها. وكان وِلسن رئيس الولايات المتحدة قد أعلن شروطه الأربعة عشر؛ فتنفَّسنا ارتياحًا وحسبناه نبيًّا، وحسبنا أن تلك الشروط تصبح الأساس المتين لعالمٍ جديد نستطيع أن نحيا فيه مع أمانينا، وكنا نحفظ ألفاظها حرفًا حرفًا، ونردد عباراتها بقلوبٍ واجفة مترددة بين الأمل والخوف. وسألنا أنفسَنا مرة بعد مرة: أحقًّا يقوم عالم جديد على مثل هذه المعاني العليا؟ كان كل حرف منها يفتح أمامَنا بابًا من الأمل، كأنه قد أُنزل على الرئيس وحيًا من السماء يقصدنا. ولكن الواقع الذي شهدناه بعد ذلك ولمحنا اتجاهه كان في كل يوم يُكَذِّب آمالنا ويَزِيد مخاوفَنا وضوحًا، فما السبيل إلى الخلاص من المخاطر البشعة التي تهدد حياتنا ونحن من أمة تُحِسُّ وجودها؟ كنا نُحِسُّ وجودنا في الحاضر كما نُحِسُّ وجودنا القديم، ولكنَّا كنَّا لا نرى المخاوف تزداد في كل يوم إلا تجسُّمًا.

فتساءلنا: ماذا نستطيع أن نصنع إذا أردنا الجهاد وهذه الجيوش المنتصرة تملأ رحاب القاهرة والإسكندرية وسائر العواصم تُباهي بقوتها وتُزْهِي بنصرها؟ كانت تروح وتغدو في كل مكانٍ بسلاحها الضخم وكتائبها الكثيفة تُعلن للملأ أنها هناك، فما نلقى منها إذا اصطدمنا يومًا بها؟ أهو الموت؟ إذن فلتكن هَبَّة هوجاء لا نُبالي فيها ما يكون؛ إذ لم يبقَ أمامَنا إلا الاختيار بين العبودية وبين الموت. وتأملنا ذلك الاصطدام الرهيب الذي كان لا بد لنا منه، وثبت في روعنا أن الموت قد أصبح أمنية نحلم بها ونتطلَّع إليها ونبتسم إذا بلغناها. وهل أحبُّ من الموت إذا كانت الحياة لا تدخر لنا إلا أن نعيش فيها عبيدًا نُطْعَمُ ونُكْسَى ونَكِدُّ تحتَ أقدام سادتنا؟ إذن فهو الْحَنَق، وهو الغضَب، وهو الثورة التي لا تُفَكِّر في عاقبة. وإنَّ بَطْنَ الأرض خيرٌ مِنْ ظَهْرِها إذا كان ظِلُّ الحرية لا يَرِفُّ عليها.

هذا ما كان يضطرب في نفوسنا، وهذا ما جعلنا في سن الخامسة والعشرين نقفز عبر الشباب ولا نتنسَّم شيئًا من نسائمه.

وكانت ليلة الربيع الأول الساحرة وشعاع القمر الذي ينفذ من خلال الغصون الممتدة في أرجاء الْمَنْزَه والسكونُ الشامل ومنظرُ الأزواج السعيدة المتهامسة، كان كل ذلك يَزِيد نفوسَنا ثورةً وعُنفًا، فهل كانت الحياة الذليلة التي نستقبلها جديرةً بأن تبتسمَ لها الطبيعة مثل هذه الابتسامة أو تَخْفِق فيها القلوب مثل هذه الخفقات العاطفة؟ بل هي حياة لا يليق بها إلا أن تتجهَّم لها السماء وتُمطر الأرض حُمَمًا، وأن تتحجَّر لها القلوب، فلا تمتلئ إلا بالحقد والبغض والقسوة. وتنبَّهنا بعد حينٍ إلى ما حولَنا، يدفعنا شيء يشبه الْغَيْرَة أن نرَى السعداء على خطواتٍ منا لا يُبالون شيئًا مما يَضْطَرِم في قلوبنا، ولكنَّا لم نجد حولَنا إلا مقاعدَ خالية، وقد أطفأ الخدَمُ أكثرَ المصابيح التي تتدلَّى من الأغصان، وجاء صاحب الْمَنْزَه يحوم حولَنا كأنه يُذَكِّرُنا بأن هذه الجلسة قد امتدَّتْ بنا إلى أكثرَ مِنْ حقِّها، وكان وجهه ينمُّ عن شعور غامض، ولكنه واضح ناطق، شعور الذي يرى صقرًا يَحُوم فوق سِرْبٍ من الحمائم الوديعة.

ونظر بعضنا إلى بعضٍ في صمت، ثم همَّ واحد منا قائمًا، فقُمنا وراءَه على تفاهم صامت، ونحن نُحِسُّ شيئًا من الْخَيْبة. إن المجلس لم يمتدَّ بنا حتى نبلغَ ما نشاءُ من أحاديثنا، ولم يبلغ بعدُ ما يَشْفِي غليلَ صدورنا. وسِرْنا في الطريق الساكنة المتعرجة التي كانت عند ذلك تصل بين مَنْزَه الحدائق وبين العمران في (غمرة). ومَضَيْنا في حديثنا ونحن نسير على مَهَلٍ في ظلال أشجار اللَّبَخ، وأغصانها تتعانق من جانبَي الطريق فوقَنا كأنها نَفَقٌ يخترق الفضاء المضيء.

وبلغنا ميدان الحسينية قبل منتصف الليل، وكان النسيم ما يزال يهبُّ وديعًا والبدر الباهر يتوسط السماء الصافية، والأنوار الساطعة تنبعث من الحوانيت والمنتديات الشعبية التي تحفُّ بالميدان، ولاحت لنا حلقة حافلة في منتدًى كان قائمًا عند مدخل الطريق الضيق المؤدي إلى المدينة. وكان في وسط الحلقة شاعرٌ يُنشد على ربابته ويقصُّ على الْجَمْع الخاشع قصَّتَه. وكان في رنين إنشاده من بعيد ما يوائم نبضات قلوبنا المضطربة، فقال واحدٌ منا: «ما تَرَوْنَ في مشاركة هؤلاء؟» فما هو إلا أنْ قال ذلك حتى اتَّجهنا إلى المنتدى في موافقةٍ صامتة.

وكان الشاعر شيخًا لا أذكر أن عيني وقعت على مِثْل صورته، كان أشبه بخيالٍ أو بصورة في إحدى اللوحات الفنية التي يخلد بها مبدعوها. كان نحيفًا مَعْروق الوجه، له لحية خفيفة وَخَطَها الشَّيْبُ، ولكن عينيه الكليلتين كانتا تَبِصَّانِ بنورٍ لامع يُخالطه سيال وديع يُشعر بشجنٍ دفين. وكان يلبس عمامة بيضاء ذات عَذَبَة تَضْطَرِب على كتفه إذا تحمَّس في إنشاده. ومضى في إنشاده بصوتٍ مُتهدِّج تنمُّ نبراته عن حركة نفَسه وحرارة وجدانه. وكانت رَبابَتُه تصاحِب إنشاده بلحنٍ عميق يملأ جو المنتدى بأصدائه، وهو يعلو حينًا ويَخْفُت حينًا، ويَرِقُّ في مواضعَ ويَعْنُف في أخرى مُسرعًا أو مُبطئًا، مُبتهجًا أو حزينًا، والجمع من حوله يَنْصِت في لهفة. كان يُنشد كأنه يُحَدِّث نفسه بحُلْمٍ يراه خلال سِنَةٍ من النوم، أو يُناجي أطيافًا تظهر له من عالمٍ مستور يهتف له بأسرار الإنسانية التي ما زالت منذ القِدَم تملأ قلوب الْبَشَر أملًا، وتجعل لحياتهم مقصدًا. ولمحت عليه عندَ أوَّلِ مَقْدَمِنا شيئًا من التردد يكاد يكون ضِيقًا وكراهة، فمَن هؤلاءِ الأغراب الذين يَأْتُونَ إلى مجلسه في مثل تلك الساعة من الليل يقتحمون الجمع الخاشع الذي حولَه في شيءٍ من الزَّهْو، كأنهم يتنازلون بالذهاب إلى هناك للاستماع إليه؟ وهل تقع قصته في نفوسهم موقعها في نفوس الجمع الساذج الذي اعتاد الاستماع إليه؟ أجاءوا للمتعة أم جاءوا للسخرية؟ ولكن الجمع تحرك في دهشةٍ وفسح لنا مجلسه عندما رآنا نُقبل عليه. ولاحت على الوجوه بسمات عاطفة كأنها اغتبطت أن ترانا نُقبل على المتعة التي تتمتَّع بها. كانت تلك الوجوه تُشعرنا نحن كذلك بشيءٍ جديد يُشبه أن يكون وحيًا. أليس هؤلاء قومنا الذين نستند إليهم إذا عصفت العاصفة يومًا؟ فتبسَّمنا في بساطةٍ وجَهَرْنا بالتحية، وكان الرد عاليًا بنبراتٍ مؤنِسَة. أليس هؤلاء هم إخواننا الذين يطلع عليهم الغد كما يطلع علينا؟ أهي العبودية معًا أم هي الحرية معًا؟ ولم يَخْلُ قلبي من الألم عندما نظرت إلى وجوههم الباسمة، ألسنا مُقصرين نحن الذين يدعون أنفسهم بالمثقفين في أن نتقرَّب إلى هؤلاء وأن نتعرف إلى هؤلاء؟ كانوا ينظرون إلينا نظرة المضيف إلى الضيف. لم نكن منهم وإن أدخل مقدمُنا الأنسَ إلى قلوبهم. ولعلَّ ذهابنا إلى منتداهم قد زاد فيهم الرضى عن أنفسهم وعن المتعة التي يختصُّون بها وَحْدَهم، فنحن (الأفندية) نذهب للجلوس بين الجمع الحاشد الذي يزحم الطريق، ونسعى لمشاركتهم في شرب القهوة والخشاف وتدخين النارجيل الْمُكَرْكِرَة.

وبعد أن هدأتْ حركة اللقاء الأولى مضى الشاعر في إنشاده مرة أخرى وقد لانت نظرتُه وذهب أكثرُ تردده، وإن كان بين حينٍ وحين يرفع بصَره إلينا في نظرة سريعة؛ ليلمح ما كان يبدو على وجوهنا من الرضَى أو السخرية.

منذ تلك الليلة صِرْنا من قُصَّاد ذلك المنتدى البلَدِيِّ، نذهب إليه معًا إذا اجتمعنا، أو وحْدانًا إذا لم نُدَبِّر اجتماعًا، حتى أصبح لنا بعد قليل ملتقًى مختارًا. ولم نلبث أن صِرنا أصدقاء الجميع، وعرَفنا الأفرادَ شخصًا شخصًا، وعرَّفْنا من هناك بأسمائنا. وكانوا يحتفظون لنا بمجالسنا، فإن غِبنا ليلة أو ليالي أو تأخَّر حضورنا سألونا أين كنا؟ وكان لهذه الصداقة الجديدة أثرها العظيم عندما شبَّتِ الثورة الكبرى في مارس من ذلك العام، كنا نجتمع هناك كلَّ ليلة في المنتدى ندَبِّر مع أصحابنا خُطَط الجهاد في سبيل الحرية. وكان لهذه الصداقة أثرها في تهدئة الخواطر عندما كادت الفتنة تقع بين أهل الحي وبين النزلاء من طوائف اليهود والأرمن. ألا ما أجَلها من ذكرى! إن هذا الشعب جدير بأن يكون أكرمَ مما هو، وأقوى مما هو، وأسعد مما هو.

وهذه القصة التي أكتبها اليوم بعد مضي أكثر من ثلاثين عامًا على تلك الأيام البعيدة ما هي سوى تحية، أؤدِّيها لذكرى اللحظات المجيدة التي كنا نُجاهد فيها بأنفسنا ونسخو فيها بأرواحنا، لا نسأل أحدًا عليها أجرًا ولا شكرًا. وهي بعد ذلك تحية لهؤلاء الأصدقاء الذين كنا نجلس إليهم في ليالي النشوة الثائرة ثم فرقت الأيام بيننا. ثم هي تحية للشاعر الذي ما زالت صورته ماثلةً في الذكرى، وإن كان اليوم يَثْوِي في مضجعه الأبدي، لا يذكر أحد أن أناشيده القوية الوثَّابة كانت تحرك قلوب طُلَّاب الحرية نحو عزمات الغد الطالع من ضمير الغيب. وهذه القصة هي بعض الأصداء الباقية في القلب من تلك الأناشيد البارعة التي كانت القلوب تتجاوب لها، عندما كانت تضطرب وتأمل وتُخلص وتصادق في غير تحفُّظ، عندما كان الأفق البعيد يبدو جميلًا صريحًا، تفيض عليه أنوار ساحرة، عندما كانت الأيدي تَسْخو بقليلها والقلب يجود بكثيره، عندما كانت الصور والمعاني أثمنَ وأكثرَ قوة من الحقائق والمادة.

وبدأ الشاعر ليلةً من الليالي يُنشد قصة سَيْف بن ذي يَزَن عندما طلبنا ذلك إليه، لنملأَ نفوسنا بصورةٍ من ذكرى المجاهد العربي القديم، فأودَعَ الشيخ النحيل إنشادَه كلَّ حرارة قلبه المشتعل، وكان يُترجم في أنغامه وألفاظه ما في قلوبنا من نبضاتٍ حية. كان يعرض الصور علينا ويسوق الحوادث في بيانه كأنها قِطَع من الحياة التي تضطرب فينا، وكان يتحدث على ألسنة الأشخاص كأنها نفوس جاءت معنا لتشاركنا، وكان يُلقي علينا أسجاعَه في أمواجٍ من النغم تتلاحق وتتداخل مُطْرِبة مُشْجِيَة، فيها تقاذف الحياة بالأحياء، وفيها طعوم الآلام الْمُرَّة والآمال العذبة، وفيها نشوة الحب وجراح المعارك. وقال في أول إنشاده: «هل الحياة إلا صور متجددة تتجسد في جيلٍ بعد جيل في شخوصٍ شتَّى، وإن كانت حقيقتها واحدة؟»

وكان في إنشاده يَشْخَص ببصَره فوق رءوس الجمع، كأنه لا يرى أمامَه شيئًا سوى الصور التي يراها وَحْدَهُ سابحة في عالمٍ غير منظور. وكنا نستمع إليه في صمتٍ ونكاد نُعلق أنفاسنا في صدورنا. ولو استطعت أن أعيد كلماته ولَفَتاته، وأن أُثْبِتَ قصته كما قالها حرفًا حرفًا وإشارةً إشارةً، لما استطعت أن أبيِّن أصداء إيقاعه ولا حركات الأفئدة التي كانت تُصغي إليه. وأنَّى للألفاظ أن تَحْمِلَ فوق طاقتها أو أن تَبعث من المشاعر ما لا تستطيعه بطبيعتها؟ وهل الألفاظ سوى أداة صنعتها الإنسانية من مادَّتها وأبدعتها من فطرتها؟ ما كان لألفاظنا المحدودة أن تسموَ إلى غير أُفقها ولا أن تصوِّر ما يَدِقُّ عن بيانها. ليست هذه الألفاظ سوى أستار نسَجَها الإنسانُ بيديه لكي يُسدلَها على مكنون ضميره؛ لترمز إلى ما وراءها إذا عجز اللسان عن الإفضاء بمعناه. وما كان لها أن تُصور رؤى شاعر يسبح وَحْدَهُ في عالمه إلا كما تدل الرموز الغامضة على الأقداس الخفيَّة. فحسبي إذن أن أُردد هنا ما وَعَتْه ذاكرتي من تلك الأناشيد التي كانت دماؤنا تتدفَّق مع أصدائها، وأن أَقنع بما يتهيَّأ لي من لفظي وبياني مع الاعتراف بالقصور، وشَتَّانَ بين الصادِح والحاكي، وبين الأصيل والدخيل.

وكان أول نشيده يُشبه أن يكون اعتذارًا، وإن كان يُخفي في ثناياهُ أقوى معاني الاعتداد بكبرياء نفسٍ طليقة. قال:

«أيها السادة الكرام، إليكم قصة صاغها الزمان من أحداثه وأنشدتها الليالي في نغمها الصامت، قد طالما صاحب الزمان الأحياء كما يُصاحبنا اليوم، وطالما عابث الناس كما يُعابثنا في الْأَصْباح والأماسي.

وهو يدور بالبشر في حركته الأبدية، لا يفرق بين قديم وحديث، ولا يميز بين قوم وقوم. له حكمته الصارمة، لا يُحابي ولا يعادي فيها، ولا يعرف الأشخاص ولا الأمم ولا العقائد ولا ألوان الشعوب. وهو لا يعبأ بما كانت الحياة تكسوهم به من مظاهرَ تَعارَفَ الناسُ عليها فيما بينهم، مِنْ مُلوكٍ وسُوقَة، وعظماء وصغار، وعِلْيَة وسِفْلَة، بل يناديهم جميعًا بأسمائهم مُجردة ويُعرفهم بحقائقهم مكشوفة. يصف الجميع بأوصافهم الصادقة، ولكنه لا يتهم ولا يمدح، هو هادئ هدوء الأبدية، عادل عدل الأزلية، صارم نافذ، ولكنه لا يعرف رحمة ولا قسوة. وهو يضم الذين عاشرهم بالأمس إلى أولئك الذي مضى بهم من قرون، يودعهم جميعًا في رَحْبَة واحدة؛ لأنهم أخذوا فرصتهم في الحياة ومَضَوْا عنها، ولا سبيل لأحدٍ منهم إلى معاودة الْكَرَّة فيما كان.

هو يُعاشر هذه البشرية ويشهد حركتها ويعرف دخائلها وكوامن أسرارها، ويرى كل جيل وهو يستقبل الحياة، ثم يراه وهو يودِّعها، ولا يمل أن يستعيد المنظر الْمُعاد مرةً بعد أخرى. كل فرد يستقبل حياته جديدة ويُحِسُّ حرارتها، ويذوق منها سعادتها أو شقاوتها. يحمله الشباب حينًا في فلكه الْمُذهب، وينساق به حينًا مع تيَّاره الدافق، ويحسَب أنه يجرب ما لم يجرب أحد من قبله، ويُدرك ما لا يُدركه أحد غيره، يذوق الحب فيحسب أن أحلامه الساحرة لم تخطر قَطُّ على قلب، وأن الأودية الغامضة ذات الألوان الزرقاء الرفيقة لم تكشف أستارها لأحدٍ قبل أن تتكشَّف تحت عينيه المسحورتَين. وهو يقارف حالات الحياة من سلام واضطراب، وسعد وشقاء، وخوف وأمن، فيظن أنه أول من ذاق حُلْوَ الحياةِ ومُرَّها. ولكن الزمان يرمقه باسمًا وينادي بصوتٍ خَفِيٍّ قائلًا: «هكذا كانوا دائمًا.»

وما نحن أيها السادة في حياتنا سوى بعض مشاهد هذا الزمان القديم الجديد، نُحِسُّ ما أحسَّ مَنْ كانوا قبلَنا، ونجرب على الأرض في مغامرتنا مثل ما جرَّبوا، فلسنا سوى قصص مُعادة فيما نشهد من مباهج الحياة أو مآسيها. فإذا سمعتم أيها السادة قصتي فطربتم أو جزعتم، ووثبت هممُكم أو خشعَتْ، فإنما هي هزَّات قلوب بشرية ترى صورتها في مرآة، فاستمعوا أيها السادة إلى أنشودتي، فهي قصة كلٌّ منكم؛ لأنها لَمْحة من المغامرة الإنسانية الكبرى، مغامرتها القديمة الجديدة في حياتها على الأرض منذ خلق الله الإنسان. والبشر يتلاقَوْنَ ويتفرَّقون، وقد ينقطع ما بينَهم أَبَدَ الدهر، فلا يذكر أحدهم الآخر إلا أن تسنح ذكرى عابرة عقيم في لحظةٍ من اللحظات، ثم تمضي كما يومض البرق ويُخلِّف وراءه الظلام، وقد تتعقَّد الأمور وتتلاقى خطوط سير البشر، فتصبح للناس قصة يتناقلها بعضهم من بعض ويستوحون منها الحكمة.

وهذه القصص التي تخلِّفها الأجيال وراءها هي أثمن ما فيها؛ لأنها تراث الإنسانية الأكبر، فيها صور خالدة من حالات النفس التي أبدع الله نشأتها. وهذه الصور قد تختلف في ملامحها وفي ألوانها، وقد تتعدَّد بيئاتها وتتباين أزياؤها وطرائق تفكيرها، قد تكون في الجبل، أو السهل، وفي الغابة أو الصحراء أو في المدينة المزدحمة، وقد تتجلَّى في معابد الأوثان أو مساجد الوحدانية، ولكنها في جوهرها واحدة خالدة.

استمعوا أيها السادة إلى قصتي وإلى أنغام ربابتي، لا، بل إنني وأنا أنشد لكم أستمع إليها معكم. ولقد سِرْتُ في أنحاء المدينة كلَّ حياتي، وعرفت أركانها، وغشيت نواديها، وسمعت منشديها، فأنا أعلم أين تقع قصتي، وأيَّان يبلغ إنشادي. أعرف أن الآخرين قد يكونون أعلى صوتًا، وقد تكون حلقاتهم أكثر من حلقتي عددًا، ولكني لست أُبالي ما يقولون عن أنفسهم ولا ما يقول الناس عنهم، فإني أعرف أنهم محجوبون عن عالمي الذي أستمدُّ منه صوري وأستوحيه ألحاني. ولست أَكْذِبُكم في قولي أنني أكثركم طَرَبًا وأشدكم نشوة في هذه الساعات التي أنشد لكم فيها، ففيها أُحِسُّ وجودي وأتمتَّع بحريتي وأبلغ حقيقة إنسانيتي. وكلما أخذتني النشوة وجدت أنني أسمو إلى آفاقٍ عُلَا، يحيط بي فيها السلام وترفُّ من حولي السعادة. وعند ذاك يتضاءل في قلبي كل ما يحسبه الناس في الحياة عظيمًا، ويضعف عندي كل ما كنت أظنه قويًّا من إغرائها ومن فتنتها، فلا المجد يستهويني ولا الغنى يُغريني، ولا شيء من مادة الأرض تُثقل وجودي. فأنا هناك في عالمٍ ليس فيه إلا صور شفَّافة تسبح سبح الأرواح في دعة واطمئنان ورضًى وسعادة، وقد تجرَّدَتْ من أستارها وجهرت بحقيقتها. فأنا أعرفها وهي تعرفني، وآنَس إليها وتأنس إليَّ، لا تخفى عني خافية من ضمائرها ولا أسر عنها سرًّا من ضميري. نتعبد جميعًا في محرابنا العلوي بعيدين عن الغرور والرياء، فما دمت هناك مع تلك الأرواح أجدني ساميًا فوق صغائر الأماني وتَوافِه الشجون، التي تلعب بألباب البشر وتسخر من عقولهم كما يسخر السراب من عقل السارب الظمآن إذ يَهِيم على وجهه في الصحراء.

هنالك أستطيع أن ألمح معنى الجمال الصادق والحب الصافي، وأن أخلوَ إلى الحقيقة خاشعًا عابدًا مُخلصًا، لا ترهبني عنها خَشْيَةٌ ولا تُطْمِعُني عندَها مَثوبة؛ لأنها هي الأفق الأجدر بأن يكون غاية الغايات. قد أجد الجمال في الزهرة الضئيلة بين رمال الصحراء، كما أجده في الراعية الفقيرة في أَسْمالها البالية، كما أجده في العذراء الطاهرة التي تمدُّ يدها إلى جريحٍ تُواسيه. وإذا كانت جَنَّة عَدْن هي جزاء الصالحين على ما قدموا من الصالحات، فإن أعلى طبقاتها تنتظر الذين كانوا يقدمون الحسنة ولا يطمعون في الثواب. فالحسنة في ذاتها جمال، وفي جمالها وَحْدَهُ جزاؤها. الحب جميل، والرحمة جميلة، والإيثار والصدق والجود كلها جميلة، تذوق النفوس الصادقة جمالَها وتتملَّى بلذَّتها، ولا تبغي من ورائها ثوابًا.

هناك أيها السادة في هذا العالم المستور أجد جزائي وثوابي، لا أُبالي شيئًا مما يتطاحن عليه الناس من الأدعياء. فأنا حُر سعيد ما دُمت أُنشد وأستمع إلى نغم ربابتي، فإذا أمسكت صحوت من أحلامي وهربتْ مني صوري وعدتُ إلى عالم الأحياء، أعيش منهم قريبًا وإن كنت بينهم غريبًا. سأنشد لكم وأنشد ليلة بعد ليلة، ولكم أن تَرْضُوا إذا أرضاكم ما يصدر عني، ولكم أن تُنكروا كما شئتم إن بدا لكم من ذلك ما لا يروقكم. لكم أن تُصفقوا استحسانًا، أو تُظهروا استهجانكم بغير مُداراة! فهذا حقٌّ لكم. أما أنا فما أقصد إلا أن أُظهر ما عندي مما يهتزُّ له فؤادي، وما أودعته ثمرة حياتي، وأَسَلْتُ فيه عُصارة رُوحي، فإذا وقع عندَكم موقِعَه عندي زادت بذلك سعادتي، وإلا فلستُ أسألكم شيئًا إلا أن تشعروا في قلوبكم الرحمة، فالرحمة أعظم ما يعطي إنسان وأثمن ما ينال إنسان.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤