الفصل السادس

قال الراوي:

كل شيء في الحياة يتغير، وهذا أمر لا شك فيه ولا موضع فيه للتأمُّل. ولكن الذي يدعو إلى الْعَجَب هو أن الإنسان يتغير بين صباحٍ ومساء أو بين ساعة وساعة في نظرته إلى الأمور وفي تقديره لنفسه ولما يُحيط به، فقد يرى الدنيا مُعْتِمَة في ساعة، ثم يراها مُتلألئة في أخرى، وقد يضيق بأمرٍ في موقف، ثم يكاد يسخر من ضيقه في موقفٍ آخر، وقد يكون ذلك التغيُّر نتيجة لسببٍ تافه، مثل كلمة أو حادث صغير، كما قد يكون لسببٍ غامض خفي لا يستطيع أن يتبيَّنه. تعجَّب سيف من نفسه عندما رأى الأمور تتبدَّل في نظره بعد أن استيقظ في عصر اليوم الذي لقي أمه في صباحه، كان عندما هبَّ من نومه شخصًا آخر غير الذي كان في الصباح، واستعاد حديثه مع أمه وجعل يُردِّد أقوالها حرفًا حرفًا، ويتمثل حركاتها حركة حركة. وخُيِّل إليه أنه إنما كان يلتمس أسباب الشقاء لنفسه بالاسترسال في أوهامه، والخضوع لوساوس أحلامه. وكاد يضحك من الحماقة التي جعلته يترجح في هبَّاتٍ تُطَوِّح به كما شاءت، بغير أن يتحكم في نفسه بعقله كما ينبغي لمثله، بعد أن شبَّ عن طَوْق الطفولة. ألم تكن أمُّه صادقة إذ قالت له إن أوهامه لم تكن إلا مخاوف طفولة؟ بل لعلها لم تكن سوى أثر من المتاعب التي أجهد فيها جسمه في تلك الشهور الأخيرة بغير حكمة. فما الذي كان يريده من وراء كل تلك الحماقات؟ أكان يحب أن يسمع أن أَبْرَهَة لم يكن أباه؟

وكانت الشمس الغاربة تطل على الحجرة من وراء صفائحها الْمَرْمَرية الشفَّافة، فتملؤها بنورٍ رفيق، يخلع بهاءً على الأثاث الثمين الذي كانت رَيْحانة تُعْنَى بترتيبه وتنسيقه بنفسها، كما كان يَزِيد في بهجة الأزهار الزاهية، التي كانت تبتسم في آنيتها الفضية الأنيقة.

ومدَّ يده إلى زنبقةٍ بيضاء مُتفتِّحة، وخُيِّلَ إليه أنه يمدُّ يده إلى خَيْلاء يُحيِّيها شاكرًا، فهي التي أشارت عليه بأن يذهبَ إلى أمه ويكشفَ لها عن وساوسه، حتى لا تَبْقَى في ظلمة سِرِّه وتنمو ولا تدع له سلامًا. وتذكَّر يومَ مدَّ يده بمثل تلك الزنبقة إلى خَيْلاء يُحيِّيها بها بعد غيبة، فرشقتها في شعرها الغزير، فكانت مثل غصن مزدهر. ماذا يقول لها إذا لقيها؟ فإنه سيلقاها بعد قليل في خَمِيلة من خمائل البستان أو في ردهة من ردهات القصر، فإذا لم يجدها فإنه ذاهب إليها ليقص عليها ما سمع من أمه. ولكنه كان يجد في نفسه حديثًا طويلًا آخر لا يدري ما هو، ولكنه يعرف أنه يتدفَّق في أعماقه. أحقًّا استطاع أن يمتنع عن لقاء خَيْلاء عمدًا كل تلك الأسابيع الطويلة، فكان لا يكاد يراها إلا في لحظات مثل لمح البصر، ثم ينصرف عنها كأنه يهرب منها؟ أيُّ شيطان ذلك الذي وسوسَ له ليحرمَه من جنته، ويقذف به إلى الشقاء الذي عذَّبه كل تلك المدة!

وعاد إلى حديث أمه يردده حرفًا حرفًا، ويتمثل حركاتها حركةً حركةً، وكاد قلبه يغوص في جوفه عندما لم يَجِدْ في كل ما قالته له ما يدلُّ على شيء قاطع. لم تَقُلْ له في صراحة: «ما لك تقول هذا القول يا سيف؟ فإنك بلا شك ابن أَبْرَهَة.» بل كانت تسأله عن أسباب شكه وعن مبعث أوهامه، ثم أخذت بيده آخِرَ الأمر إلى مخدعه، فهدهدتْ أشجانه بأغنيتها الحلوة حتى نام.

وذهب إلى النافذة، وكانت أشعَّة الأصيل تتخلَّل ظلال البستان نديَّة هادئة، لم تقع عينه على منظر أبعث على السلام منه. ورفثَ في صدره نشوة من الشعور الغامض الذي يجعل الشباب يُغَنِّي بحب الحياة، فما الذي يحمله على تعكير صفائه باللجاجة في شكوكٍ لا تؤدي إلا إلى الشقاء؟ إن الذين يجاهدون في سبيل أمنية عزيزة يُحَمِّلون أنفسهم العناء حينًا من الدهر؛ لكي يفوزوا فيما بَعْدُ بجزائهم الجزيل من السعادة عندما تتحقق أمنيتهم، فما الذي يدعوه إلى المجاهدة والمراجعة ومكابدة الأحزان؟ مع أن الأمنية التي يَتُوق إليها ماثلة أمامه بغير مُجاهدة ولا لجاجة. وماذا يُجديه من هذه الوساوس التي تُطارده كأنما هي حريصة على أن تُبرئه من أَبْرَهَة؟ ولو كان أَنْفَذَ بصيرة وأكثرَ حكمة لكان يتبيَّن من أول الأمر أن خَيْلاء هي أمنيته الكبرى التي يتطلع إليها ويتمنَّى أن يحققها. أهي في مخدعها في مثل هذه الساعة، فلا تخرج إلى البستان لتتمتَّع بساعة الأصيل الحالمة؟

وكانت خَيْلاء في تلك الساعة في البهو الأكبر الذي يلي جناح الملكة، وتنتهي إليه الردهة المؤدية إلى حجرتها. هناك كانت تجلس في انتظار درس الشيخ أبي عاصم في تلك الأيام السعيدة الماضية، قبل أن يطرأ على سيف ذلك التغيُّر العجيب الذي اعتراه في الأشهر الطويلة منذ الربيع المنصرم. وسارت حولَ البهو تقلِّب بصرها في تُحَفه وتماثيله ونقوش أثاثه وستوره، وهي شاردة لا تدري ماذا تفعل هناك. كانت تعلم أن الشيخ انقطع عن دروسه منذ أيام، وأنها لن تستقبلَه هناك كما كانت تفعل من قبل، فماذا كانت تبغي من بقائها هناك؟ وتمثلت لها صورة سيف الذي رأته في الصباح عند عودته من وادي ضهر، وكان عند ذلك مضطربًا يلوح عليه الحزن على رغم ابتسامته الضئيلة. وتذكرت ما قاله لها، وما أشارت به عليه من الذهاب إلى أمه الملكة ليُفضي إليها بأحزانه.

أفما كان ينبغي له أن يعود إليها ليقصَّ عليها ما قالت له الملكة؟ أيكون قد خرج من عندها عائدًا إلى وادي ضهر كما أتى؛ ليستأنف لياليه المسهدة؟ لم تعرف منه سوى أنه فريسة لشكوك مُضنية لا تدع له سلامًا في ليلٍ ولا في نهار، وأنه لا يستطيع الإفضاء بشيءٍ من تلك الشكوك إلى أحدٍ إلا إلى أمه، فهي وَحْدَها التي تستطيع أن تُلقيَ الضوء عليها. وكان في نفسها شيء من العتب لأنه لم يُفْضِ إليها بشيءٍ من تلك الشكوك، لعلَّها تُشاركه برأيها أو تسرِّي عنه بمواساتها. أهكذا لا يعود إليها بعد أن ذهب إلى أمه وأودعها أسرار حزنه؟ ولم يَخْلُ قلبها من الْغَيْرَة لأنه لم يُظهر لها من الثقة ما كانت تتوقعه منه. ألا يستطيع الإفضاء بما في نفسه إلا إلى أمه وَحْدَها؟ وكانت تُرهف سمعها لعلَّها تسمع وقع خطواته فوق الطنافس الوثيرة، فلعلَّه كان مُتعبًا فذهب يستريح حينًا، بل لقد كان متعبًا بلا شك، فإن عينيه كانتا تنطقان بالإعياء. أو لعله ذهب إلى الشيخ أبي عاصم قبل أن يفكر في العودة إليها. ومن هي حتى يُسرع إلى لقائها عقب لقائه لأمه؟ بل لعله كان لا يعبأ بلقائها أول الأمر لو لم يتفق لها أن تكونَ في البستان، منذ الساعة الأولى من الصباح في الممشَى المؤدي إلى جناح الملكة، ومع ذلك فقد بقيَتْ تُرْهِف سمعَها لسماع وقع خطواته، والأمل ما يزال يساورها أنه سيبحث عنها حتى يلقاها، لا شك في أنه لن يُبطئ عن الليلة في السعي إليها. وأخذت تدبر في نفسها أحاديث كثيرة فيها عتب وفيها عطف وفيها رحمة ومواساة. كانت تردد في سرها ألفاظًا تختارها وعبارات تتأمل جَرْسها وتقدر وقعها، حتى إذا لقيَته وحدَّثَته لم يخُنها لسانها بكلمة تنمُّ عن شيء من خواطرها، بل إنها كانت في عباراتها تحرص على أن تُخْفيَ قلقها ولهفتها على لقائه، وتُظهر له أنها ما وقفت هناك في ذلك البهو إلا عفوًا، وجَرْيًا على عادة تقودها إلى هناك بغير إرادة. وتذكرت آخرَ مرة لقيَته فيها بذلك البهو، وكان ذلك في أواخر الصيف، كان عند ذلك شاردًا صامتًا، لا يكاد يهتز إلى شيءٍ من قولها. وتذكرت كيف كانت نظراته خابية وانية، وكيف كان لا يرفع بصره إليها ولا يكاد يلقى نظرتها، حتى يحوِّلَ عينيه سريعًا في شيءٍ يُشبه الجفول. فما السر في تلك الجفوة التي اعترَته؟ أهي الشكوك التي أَدْخَلَتْ إليه كلَّ هذا التبدُّل؟ أم هو الذي انصرف عن مودته الأولى؟ وما تلك الْحُمْرة التي كانت تصبغ وجهه، ثم لا تلبث أن تنطفئ وتُخلِّف وراءها بقعة صغيرة وردية سقيمة؟ أكان عند ذلك يُضمر مفارقتها وقطيعتها التي مضى فيها سائرَ الصيف وصَدْرًا من الخريف؟

وطال انتظارها منذ ذهبَتْ إلى البهو في عصر اليوم حتى اقترب الليل، وكادت تذهب إلى مخدعها فلا تفارقه ما دام سيف مقيمًا في غُمْدان، حتى تجزيه على جفائه بمثله. لا شك أنها تستطيع أن تدله على أنها لا تقف ساعات في البهو في انتظاره، ولا تسعى إلى لقائه في لهفة. ولكن ألا يكون قد غادر غُمْدان؟ أم يكون قد ذهب إلى حجرته فلا يبارحها سائر اليوم ويبقى إلى الليل في عزلته، ثم يبكر في الصباح خارجًا إلى بعض ما يخرج إليه، فلا تراه بعد ذلك إلا اتفاقًا إذا لقيَته مصادفة عند عودته؟ وما يُدريها أنه إذا لقيَها بعد ذلك يومًا ألقى إليها تحية فاترة من بعيدٍ ثم يمضي إلى حيث يريد، فلا تصيب من وراء لهفتها إلا أقسى الآلام وأبشع الهوان.

ولكنها مع ذلك بقيَتْ في البهو كأنها في رحلة حوله، تقف عند كل صورة تتأمَّلها حينًا، ثم تنتقل إلى أخرى، وأنفاسها المضطربة تُساير دقَّات قلبها، كلما سمعت صوتًا تحسبه حفيف ثيابه أو وقع أقدامه. وكيف تلقاه فاترة هادئة وهذه الخفقات تُسرع بأنفاسها، ولا تستطيع معها أن تتحدث إليه هادئة؟ وعزمت على أن تلقاه إذا أقبل نحوَها وهي عابسة، كأنه لم يكن عندها شيئًا. ولكن ألا ينمُّ ذلك العبوس عن مقدار اهتمامها أو يكشف عن لهفتها؟ ألا يدله ذلك على أنها كانت تفكر فيه وأنها قد تعمدت أن تقف في البهو لِتَلْقاه؟ ولكن ما الذي يَحْمِلُها على كل هذا؟ وكانت قد بلغت في سيرها الركن الذي فيه الوعاء الْمَرْمَري الوردي، هناك كانا يجلسان جنبًا إلى جنب على الأريكة المجاورة له، ويعلقان فيه بصرهما ويتحدثان في حماسة عن بهاء لونه وبراعة صناعته. وكان سيف عند ذلك لا يُخفي عنها نأْمَة من صدره ولا يطوي عنها شيئًا من أفكاره. كان يتدفَّق في حديثه إليها مرحًا باسمًا سعيدًا، ويجعل الدنيا تبتسم أمامها مرحة سعيدة. فما الذي غيَّره وجعله يتنكَّر لمودتها؟ ألا يكون ما ذهبت إليه في قلقها من تهويل الخيال، وهو بريء من كل ما ذهبت إليه؟ ألا يكون في ضيقٍ أو حزن أو يأس لسبب من الأسباب التي تَعْرِض لمن كان مثله؟ لَيْتَه لم يكن سيف بن أَبْرَهَة، لَيْتَه لم يكن سوى شابٍّ تستطيع أن تلقاه عاطفة وتقول له: ها أنا ذا إلى جنبك، أقدر على أن أخففَ عنك وأن أواسيَك بنفسي. وما الذي يمنعها أن تقف إلى جنب سيف بن أَبْرَهَة فتخفف عنه همه وتواسيه بنفسها وعطفها؟ إن الرحمة والمودة والمواساة من هبة الله للقلوب الإنسانية، ولا ينبغي أن يقف شيء في سبيلها، فخير لها أن تُقبل عليه باسمة مُرحِّبة وتفتح له قلبها وتسأله عن نفسه، وتعتب عليه لأنه لم يُظهر لها الثقة التي كانت تنتظرها. خير لها أن تدسس إلى أعماق سره، ولا تجعل شيئًا من الأوهام يقف حائلًا بينهما، ولكن كيف ينظر هو إليها؟ أينظر إليها كما ينظر أمير إلى فتاة وحيدة، لا تعرف عن نفسها شيئًا سوى أن رَيْحانة الكريمة تضمها إلى جناحها؟ ألا يكون مثل يكسوم؟ ألا يكون كل ما ظهر منه نحوها نوعًا من إعجاب السيد بجارية حسناء؟ ألا يكون قد أحسَّ شيئًا جديدًا بعد أن تخطَّى حدود الصبا وأصبح كما تراه رجلًا؟ كأن تلك الشهور الأخيرة قد أضافت عشر سنوات إلى سنِّه وسلبَته تلك السذاجة الطيبة التي كانت تجعله زميلًا صديقًا … لمَ لا يكون …

ولم تَقْوَ خَيْلاء على المضي في ذلك التفكير المظلم؛ فليس من الوفاء لسيف أن تَقْرِنَ صورته بصورة أخيه يكسوم القاسي، الذي تنطق كل جارحة فيه أنه فَظٌّ طاغية.

لِمَ لا يكونُ …

وسمعتْ عند ذلك حفيف أقدام على بُسُط البهو، فدقَّ قلبُها سريعًا، ولكنها لم تلتفت وبقيَتْ حيث هي تنظر إلى الوعاء الْمَرْمَري، وبدأت عند ذلك حقًّا تلتفت إلى لون الوعاء ونقوشه البديعة التي تُشبه الْوَشْيَ فوق ثوب الحرير. وكانت الصورة التي عليه تمثل جانبًا من بستان فيه شجر باسق، يظلل رقعة خضراء تتخلَّلها شجيرات تتدلَّى أغصانها مُحمَّلة بعناقيد مرسلة من الزهر، وكانت الطيور تَبْسُط أجنحتها، بعضها يسبح في الهواء وبعضها يهبط نحو الأرض، والقمر الكامل في أعلى الصورة يبعث أشعَّته على شابين، فتًى وفتاة، يسيران في الممشَى، وقد تعاقدت يُمناهُ بيُسراها وهما يبسمان نحو القمر.

هناك طالما وقفت مع سيف يتحدثان في إعجابٍ عن الصورة ونقشها، قبلَ أن يأتيَ الشيخ أبو عاصم إلى الدرس.

واقتربت الخُطا خفيفة، فخفق قلب خَيْلاء تأثُّرًا ولكنها لم تلتفت، هي هي خُطاه، فهي تعرفها من بعيد، وسمعتْه يُناديها باسمها في نغمة عَجِبَتْ لها، هي نغمته التي تعوَّدتْ أن تسمعَها من أمدٍ بعيد كلما أقبل نحوَها في أصائل الربيع، ولم تَدْرِ ألتفتت إليه آخرَ الأمر أم بقيَتْ جامدة في مكانها، فإنها وجدته مُمسكًا بيدها يتدفَّق في تحيَّته، وعيناه معلقتان في عينيها مُخْلِصتان كعهدها بهما، صريحتان تُشِعَّان مرحًا. وقال مُبادرًا: أنتِ هنا؟ لقد بحثتُ عنكِ في كل مكان، في البستان وفي جناح الملكة وفي حجرتكِ، وأنتِ هنا تخفين نفسَكِ عني وراءَ الآنية الْمَرْمَرية والفضية؟

فقالت في نغمة عتاب: كما أخفيتَ نفسك عني.

ونَسِيَتْ كلَّ العبارات المقدرة التي ردَّدتها في نفسها من قبل حتى حفظتها، كما نسيَتْ شكوكها التي كانت تتدافع في صدرها منذ لحظات. وازدحمت المشاعر على لسانها تريد أن تتدفَّق، ولكنها لم تنطلق فبقيَتْ صامتة، وقنعت بما نطقت به عيناها. ولكنه لم يقف ليقرأ ما على وجهها ولا ليستمع إلى ما تنطق به عيناها، بل أسرع غير مُتحفِّظ يقصُّ عليها ما كان بينه وبين أمه منذ فارقها في الصباح، وتنبَّه بعد أن قصَّ عليها ما أراد إلى الوعاء الْمَرْمَري الذي كانت خَيْلاء واقفة عنده، فقال لها: أتقفين وَحْدَكِ عند الوعاء؟ أليس هنا موقفنا معًا؟ ماذا تَرَيْنَ فيه يا خَيْلاء؟ حدِّثيني، فإني أخذت الوقت كله لنفسي، وأحب أن أروي سمعي من صوتكِ. ماذا تَرَيْنَ في هذا الوعاء؟ كنت أسمع منكِ عنه أحاديث طَلِيَّة، ولكنكِ تعرفين أنني أعجِز عن حفظ هذه الأقوال التي تُحسنين صياغتها.

فقالت خَيْلاء باسمة: قطعة من الْمَرْمَر الوردي الجميل.

فقال سيف: أهذا كل ما عندكِ؟ إنك اليوم متحفظة، كأنكِ تعرفين أنني أحب أن أتكلم. نعم، قطعة من الْمَرْمَر الوردي الجميل كانت يومًا في جوف صخرة، قد يتخذها حَجَّار ليضعَها في جدار بيت، أو تتخذها عجوز فقيرة لتصنع منها رحًى، أو تربط بها حبل عنزها.

ولكن انظري يا خَيْلاء كيف حوَّلها صانعها إلى تحفة حيَّة، بل هي أكثر حياة من كثير من الأحياء.

هكذا هي تمثل أمامَنا دليلًا على ما يستطيع الإنسان أن يصنع من الحجارة. وهكذا هي تنطق قائلة: «أيها الأشقياء الذين تُفسدون الحياة على أنفسكم بالغباوة والحماقة، إنكم تستطيعون أن تصنعوا حياتكم بأيديكم. تستطيعون أن تجعلوا منها وعاءً مرمريًّا بديعًا بدلًا من تركها قطعة صمَّاء من الحياة.»

وكانت خَيْلاء تستمع إليه في نشوة، وتَعْجَب أن يكونَ هذا الذي يتكلم هو سيف الذي رأتْه في الصباح. بل لكأنها كانت تستمع إلى شخصٍ آخر غير الشاب المرِح الذي كان يجلس معها إلى الشيخ أبي عاصم، ويكاد يضيق بما يُفِيض فيه الشيخ من المعاني. لم يسبق لها أن سمعت منه مثل هذا، لئن كان تبدَّل فما أسعد هذا التبدُّل. ومضى سيف يقول: كنتُ كلما وقفتُ هنا إلى جنبكِ يا خَيْلاء أحسُّ شيئًا غامضًا لم أكن أفهمه، وإن كنت أُحِسُّه. انظري إليه يا خَيْلاء من بعيد.

وجذبها من يدها خطوة إلى الوراء وضغط على كفِّها وهو يجذبها، وأغضتْ خَيْلاء وعلَتْ ابتسامتها حُمرة.

وقال سيف: كأنها قصيدة، كأنها من تلك القصائد التي كان الشيخ يُمليها علينا مُترنِّمًا في إنشادها، وأنا أُداري وجهي حتى لا أُظهرَ ضحكي. لم أكن أفهم من قوله شيئًا، وكنت أعجب لكِ كيف كنتِ تستمعين إليه في استغراق، كأنها قصيدة. ألا ترين ذلك يا خَيْلاء؟

فقالت خَيْلاء باسمة: هي كذلك إذا شئت، أو هي كما أسميها أنا فيما بيني وبين نفسي.

فقال سيف مبادرًا: ألها عندكِ اسم؟ لقد حسبت أنني أول من قرأها.

وضحك معتذرًا.

فقالت في صوتٍ خافت: أسميها لحظة مسحورة. لحظة من اللحظات التي تمرُّ بالأحياء فتهزهم وتأخذ بمشاعرهم وتنقش على قلوبهم، ثم يثبتها الفنان على قطعةٍ جامدة من الحجر، فإذا هي مثل هذه الصورة التي تسميها قصيدة أو تحفة حية.

فقال سيف في حماسةٍ وإعجاب: صدقتِ يا خَيْلاء، وما أبرعها من تسمية. حقًّا إنها لحظة مسحورة، جعلها الفنان تتحدَّى الزمان والتغيُّر والفناء، وتبقى خالدة ثابتة وإن تبدَّل كل ما حولها. ذهب الفنان الرومي الذي صنعها، وذهب هذان الشابان اللذان كانا يقفان يومًا في ظلال البستان المزدهر، ودار القمر دورات لا يُحصى عددها، ولكن هذه الصورة بقيَتْ خالدة على وعائها. البستان مزدهر أبدًا، والطير لا يهبط من سمائه، والشابان يقفان باسمَين ويشيران إلى البدر الذي لا يعتريه مَحاق. السعادة التي تغمرها في مأمنٍ من صُروف الدهر. ذهب الجزء الفاني من هؤلاء جميعًا وبقيَتِ الصورة تتضمن الجانب الخالد الذي لا يَفْنَى، هما هناك شابَّان لا يَعْتَرِيهما كبر ولا ضعف، ولا يداخِلُهما حزن ولا هَمٌّ، هو لا يتغير، وهي لا تشك، هما هناك دائمًا سعيدَين، يُشيران إلى البدر ويتمتَّعان بالشباب، بل إن الغصون هناك دائمة النضرة تجري فيها مياه الحياة، وذلك الطير لا يسفُّ ولا تنقطع أغنيته.

وعلى فجأةٍ منها رفع يدها إلى فمه فاختطفَ منها قُبلة، وتمنَّعَتْ خَيْلاء في رفقٍ، فأرسلها وقال في شيء يُشبه الاعتذار: لو كنتُ فنانًا لخلَّدتُ موقفنا هذا.

فقالت باسمة: أيستحق عندك الخلود؟

فقال سيف: وهل تشُكِّين يا خَيْلاء؟ لو كنت فنانًا لأبدعت صورة لا نكبر فيها ولا نفترق، نكون فيها مثل هذَين. لحظة مسحورة حقًّا. وأخذ يدَها في شيءٍ من الْقَسْر، فرفعها مرة أخرى إلى فمه فلمسها بشفتيه. وسَمِعا من ورائهما صوتًا يقول في رفق: لحظة مسحورة حقًّا.

والتفتا إلى الوجه الباسم الذي طلع عليهما، وقالت خَيْلاء في صيحةٍ مكبوتة: مولاتي!

فقالت رَيْحانة في مرح: أشرِكاني في حديثكما، فإنه يَجْلو قلبي. ماذا سمعت منك يا سيف؟ لحظة مسحورة؟

فقال سيف: نعم، لحظة مسحورة يا أماه.

وكان ينظر إليها باسمًا هادئًا وهو واقف، ومضى قائلًا في هدوء: كنا نتحدث عن هذا الوعاء الْمَرْمَري. انظري إليه يا أُمَّاه.

ولمعت عينا الملكة في رفقٍ وقالت باسمة: صورة طالما استرعَتْ نظري.

وقالت في سرِّها: صورة قديمة تتجدَّد، وحديث يُعيد نفسه دائمًا.

ووقفت تتأمَّل الصورة وهي لا تكاد تلتقط لفظًا مما كان يقوله ولدها وهو يُبيِّن لها دقائقها، ويعيد عليها ما قاله لخَيْلاء.

وقالت في سرِّها مرة أخرى: أهذه أول مرة يرفع سيف يد خَيْلاء إلى شفتيه؟

ثم قالت لهما: ألا نقضي ساعة في البستان؟ هلُمَّا فإن الليلة مُقمرة.

وقضوا ثلاثتهم ساعة طويلة، حتى سطع القمر وراء الظلال ولفَّ الليل بأشعَّته الهامسة، وكانوا يتناجَوْنَ بحديثٍ ذي شجون.

ولمَّا عادت خَيْلاء إلى وَحْدَتها كانت تُحِسُّ أن الهواء يتنفس عطرًا، وأن الحياة يغشاها جمال باهر، وأن الفضاء يردد أنغامًا سعيدة. وبقيَتْ صورة سيف مائلة أمام عينيها مع صورة الوعاء الْمَرْمَري، وكانت حرارة شفتيه ما تزال مطبوعة على أناملها، ورفعت يدها إلى شفتيها في رفق كأنها تريد أن تستوثق من تلك الحرارة الرفيقة. وتمنَّتْ لو كانت مع سيف صورة كصورة الوعاء الْمَرْمَري، لا تَبْلَى ولا يُدركها ما يُدرك الأجساد من الفناء، ولا يعتريها ما يعتري قلوب البشر من تقلُّب أو هموم أو شكوك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤