مقدمة المترجم

بقلم  عادل زعيتر

أُقَدِّم ترجَمَة «العَقْد الاجتماعيِّ أو مبادئ الحقوق السياسية» لجان جاك روسو …

في اليوم الثامن والعشرين من يونيو١ سنة ١٧١٢ وُلِد جان جاك روسو في جنيف.
وكان أبوه إسحقُ ساعيًا،٢ وكانت أمه سوزان برنارد ابنة قسيس، وكان جده الأعلى ديديه روسو قد هاجر من باريس إلى جنيف في سنة ١٥٥٠؛ أي أيام الحروب الدينية، وقد استقرت أسرته، التي هي من أصل فرنسي خالص، بهذه المدينة منذ ذلك الحين.

ولم يعرف روسو أمه سوزان برنارد؛ فقد ماتت بُعَيْدَ ولادته، ولم يكن ليجاوز اليوم الثامن من عمره حينما فقدها، فقام أبوه بشئون تربيته في البُداءة، ولكن من غير أن يُعنى بأمر تهذيبه كما يجب، ومع ذلك فقد تعلم القراءة ابنًا للسادسة، وطالع مع أبيه كتبًا كثيرة قبل بلوغه العاشرة من سِنيِه.

وكان أبوه إسحق نَزِقًا عاطفيًّا ذا أَثَرة، ومما حدث في سنة ١٧٢٢ أن تشاجر هو وضابط في جنيف قريب للقاضي الذي يحكم في الدعوى، ففر من جنيف؛ خشية القسوة عليه، وأقام بقرية نيون البعيدة حيث تزوج واستقر حتى آخر حياته، وقد ندر اجتماعه بابنه بعد ذلك.

ويقوم بشأن تربيته بعد فرار أبيه خاله برنارد الذي كان مهندسًا في مدينة جنيف، ويرسله خاله هذا إلى كاهن بواسِّي، لانبِرْسيه؛ ليتعهد أموره، فقضى عنده عامين، ويُكْسَر مشْط لأخت معلمه، ويعاقبه معلمه هذا على فعل لم يقترفه، فيألم كثيرًا، ويعود إلى منزل خاله سنة ١٧٢٤، وتحسن زوج خاله معاملته، وتعطف عليه.

ويبلغ الثالثة عشرة من سنيه، ويجعله خاله تلميذًا لدى مُوَثِّقٍ على الرغم منه، ويزدريه معلمه لعدم نجاحه، ويُعيده إلى خاله، فيرسله إلى نحات في سنة ١٧٢٥، ويحب فن النحت، ولكن النحات يقسو عليه، ويكثر ضربه ويجعله بائسًا مكارًا خبيثًا، وفي سنة ١٧٢٨ حين كان في السادس عشر من عمره، ذهب مع أصدقاء له للنزهة خارج جنيف، ولما عاد مساءً وجد أبواب هذه المدينة مقفلة، فتمثلت له غلظة أستاذه، ولم يرجع إليه، وصار يطوف حول جنيف أيامًا ويعيش مع الأشرار فانحط.

ويقصد روسو دير كونفنيون بمديرية سافوا الإيطالية، ويلقنه كاهن هذا الدير، بونفير، مبادئ الكثلكة، ويبعده عن البروتستانية التي كان يدين بها، ويرسله إلى مدام دوفارِنْز بمدينة أَنسي، وكانت هذه السيدة بالغة الجمال فحاولت أن تجعله كاثوليكيًّا مقبولًا في مدرسة كاتشو من بتورين حيث ارتد عن البروتستانية.

وجد روسو رجال دير تورين فاسدي السيرة، وود لو ينجو منه، فساعده على الخلاص كاهن عطوف قام بزيارة عابرة لذلك الدير، وهكذا هرب روسو منه ليعود إلى سابق فقره.

ظل روسو عاطلًا من العمل جائلًا في الطرق حتى نفذ جميع ما عنده من نقد، وكاد يموت جوعًا فرجع إلى ذلك الكاهن المحسن فأشركه في معيشته موصيًا إياه بالصبر واحتمال الألم … ومن هذا الكاهن اقتبس الإخلاص وحب الإنسانية ومقت النفاق.

ويبحث روسو عن عمل يعيش منه، ويُستخدم في حانوتِ حسناء إيطالية، ويطرده زوجها عن غَيْرة، ويعمل عند أرملة غنية، وتموت هذه السيدة، ثم يصير خادم مائدة في بيت إحدى الأسر النبيلة، ثم يزوره صديق من جنيف فيرافقه ويترك الخدمة مفضلًا الحرية على الاستقرار.

ويفرُغ كيسه، ويقصد ثانية منزل مدام دوفارِنْز بمدينة أنسي سنة ١٧٢٩ ابنًا للثامنة عشرة، فيرحَّب به، ويقضي في هذه المدينة حياةَ سعادة، يقضيها في القراءة والدراسة، وترسله مدام دوفارِنْز إلى إحدى المدارس لإتقان اللاتينية فيقرر أساتذته عدم صلاحه لهذا، ويسافر إلى ليون بعد شتاء يقضيه في منزل تلك السيدة، ويلقى حياة قاسية في ليون، ويعود إلى ذلك المنزل فيجد مدام دوفارِنْز مسافرة، ويسأل فلا يعرف أين تقيم، ولا متى تعود.

ومن المصادفات أن لاقى في أنسي خادمة جاءت للبحث عن مداد دوفارِنْز فلم تعلم أين هي أيضًا، ويسافر مع هذه الخادمة إلى قرية فريبُرغ حيث يقيم أبوها، ويمر في طريقه على أبيه في قرية نيون، ويتعانقان، ولا تحسن زوج أبيه قبوله، فيداوم على سفره إلى قرية فريبرغ، ولا يحسن أبو الخادمة استقباله، فيتوجه إلى مدينة لوزان معسرًا كسيرًا.

وفي لوزان يزعم أنه أهل لتعليم الموسيقا مدعيًا أنه تعلمها في باريس؛ مع أنه لم يرها حتى ذلك الحين، وهو على ما كان من كَلَفه بالموسيقا كان جاهلًا لها، فَيُمْنى بحبوط ذريع.

ويغلب الغموض على تاريخ تلك المغامرات التي حَدَّث عنها في «اعترافاته»، ولكنها وقعت في ثلاث سنين كما يظهر، فلما حَلَّت سنة ١٧٣١ ذهب إلى مدينة بودري فوجد في أحد فنادقها قسيسًا يحدِّث بلغة لا يعرفها غير روسو، فاتخذ روسو ترجمانًا له، وصار يجوب معه بلادًا كثيرة حتى انتهيا إلى سولور، فأعجب السفير الفرنسي فيها بروسو وجعله موضع رعايته، ويرسله إلى باريس مع ضابط صغير، ويعتريه سأم من باريس ومظاهرها، ويعلم نبأ عودة مدام دوفارِنْز إلى أنسي ويرجع إليها.

بلغ ليون خاوي الوفاض، فأخذ ينسخ قطعًا من الموسيقا، وظل يصنع هذا أيامًا حتى تلقى كتابًا من مدام دوفارِنْز تدعوه فيه إلى مدينة شانْبري، فلبى الدعوة غير آسف على ليون؛ لبعدها من الحياة الريفية، وقد بقي محل رعاية مدام دوفارِنْز، وقضى حياة هدوء عندها سنين كثيرة؛ سواء أفي شانْبري أم في شارمِت، وفي هاتين المدينتين أمعن روسو في دراسة شتى العلوم فكان لذلك أبلغ الأثر في كتابة رسائله وكتبه القادمة.

وفي سنة ١٧٣٨ يصاب روسو بمرض شديد، ويُرْسَل إلى كلية مونبليه للمعالجة، ولم تُحْسِن مدام دوفارِنْز استقباله بعد شفائه لاشتعال قلبها بغرام حبيب آخر، وما بذله روسو من جهود كثيرة لإقصاء هذا المنافس كان على غير جدوى.

وفي سنة ١٧٤٠ سافر إلى ليون حيث مكث عامًا، وحيث اتُّخِذَ مربيًا لأبناء حاكم ليون الأكبر دومابْلي، ثم عاد إلى شارمِت عن شوق إلى مدام دوفارِنْز، فكان قبولها له حسنًا على غير ما ينتظر، ولكن مع بقاء الحبيب المنافس محتلًّا للمكان الأول من فؤادها، فعزم على السفر إلى باريس.

ذهب إلى باريس سنة ١٧٤١ بالغًا التاسعة والعشرين من سنيه، ونزل بفندق سان كِنتان الوضيع، وقد كان ذا مزاعم في الموسيقا، وقد جَدَّ في كسب عيشه من هذا الفن، فعرض في سنة ١٧٤٢ على مجمع العلوم منهاجه فيها فلم يَجِدْه هذا المجمع جديدًا ولا نافعًا، فَرَدَّه، غير أن النجاح إذا لم يكن حليفه في هذا الحقل كانت له تعزية بما اتفق له من اتصال برجال العلم والأدب والفلسفة في باريس وانتفاعه بمعارفهم.

وفي ذلك الفندق وقع نظر روسو على فتاة ريفية اسمها تريز لوفاسُّور بالغة من العمر اثنتين وعشرين سنة، وكانت هذه الفتاة تعمل خادمة فيه، وكانت من أهل أورليان، وقد رق روسو لها؛ لما رأى من هزوء الناس بها؛ لبساطتها وبَلَهِها، فاتخذها رفيقة له عن حب وعاطفة، وغادرا الفندق، وقد دامت حياتهما معًا ستًّا وعشرين سنة.

والحق أن تريز كانت على جانب عظيم من الغباوة، وكانت لا تحسن شيئًا من القراءة والكتابة، وكانت كثيرة الشغب والنزاع، ومع ذلك كان روسو كثير الإعجاب بها، ناظرًا إليها بعين الحب، راضيًا بجمالها وحسن صوتها، متجاوزًا عن عيوبها وفقرها، مغضيًا عما يفصله عنها من عبقرية ونبوغ، وقد دامت حاله هذه نحوها اثنتي عشرة سنة.

وتغير حب تريز له مع الزمن، وصارت لا تبالي به ولا تفكر فيه، وطلبت منه الفراق قبل موته بتسع سنين؛ فقد ولدت له خمسة أولاد، وسلمهم إلى ملجأ اللقطاء على مضض من الأم، وذلك من غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل، ويعتذر عن ذلك بفقره واضطراره إلى كسب عيشه بكده، وإن كان يهدف في الحقيقة إلى الحياة الحرة الطليقة التي لا تشغل بالَه بولد، وفي ذلك من الابتعاد عن الإنسانية والمروءة وحس الواجب ما لا يخفى، وقد أراد روسو أن يكفر عن خطيئته هذه التي لا تغتفر بوضعه كتاب «إميل» العظيم الشأن فيما بعد، ومع ذلك فقد وُجد مَن شك في صحة حكاية أطفاله الخمسة تلك ذاهبًا إلى أنها دُسَّتْ في «اعترافاته» التي نشرت بعد موته.

وفي اعترافاته تلك يذكر روسو أنه صرح رسميًّا بزواجه بتريز بعد معاشرته إياها ربع قرن، وقد صرفها بذلك عن طلبها الفراق، فظلت رفيقة له إلى أن مات، وإن لازمها الغم والألم؛ حزنًا على أطفالها أولئك.

قلنا إن روسو ذهب إلى باريس، وفي هذه المدينة قضى حياة عسيرة ككُتَّاب ذلك العصر؛ فقد كان يتعيش من استنساخ القِطَع الموسيقية فيها مع قبوله في رداه المجتمع الراقي، ثم ذهب إلى البندقية سكرتيرًا لسفير فرنسة دو مونتيغ.

ويعود روسو إلى باريس حيث أصبح مستخدمًا لدى الملتزم العام دوبان سنة ١٧٤٨، وفي ذلك الحين يُقَدَّم إلى مدام ديبيناي، ويرتبط بأواصر الصداقة في ديدرو الذي كان من رجال الشعب أيضًا فيقضي حياةً شاقة مثله في باريس.

وبينا كان ذلك حال روسو في سنة ١٧٤٩، حين كان ابنًا للسابعة والثلاثين نشرت أكاديمية ديجون إعلان مسابقة في موضوع: «هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى إفساد الأخلاق، أو إلى إصلاحها؟» وكان صديقه ديدرو في سجن فنسن وقتئذٍ بسبب «رسالته عن العُمْي»، فاطلع على ذلك الإعلان حين ذهابه إلى زيارته، فَعنَّ له وهو في الطريق أن يشترك في المسابقة، ويكلم ديدرو في الأمر فيشير عليه بالتزام جانب إفساد العلوم والفنون للأخلاق؛ لما في هذا من طرافة وتوجيه نظر، ولما ينطوي التزام جانب إصلاحهما للأخلاق من ابتذال.

أَعْمَل روسو ذهنه وجمع قُوَاه، وكتب في الموضوع فأقام الدليل على أن العلوم والفنون أفسدت الأخلاق، وأوجبت شقاء الإنسان، وادَّعَى أن الترف والحضارة من نتائج العلوم والفنون، وأنهما عِلَّة فساد الأخلاق؛ فقال بالرجوع إلى الحال الطبيعية، ومما ذهب إليه في تلك الرسالة كون الثقافة أقرب إلى الشر منها إلى الخير، وكون التفكير مناقضًا لطبيعة الإنسان، وكون الفضيلة والأمانة والصدق لا أثر لها في غير الحال الطبيعية؛ حيث لا علوم ولا فنون … وكتب روسو رسالته تلك بقلم حار وعاطفة جارفة، فجاءت مبتكرة في مجتمع بلغ الغاية في المدنية، مخالفة لما عليه الجمهور، فنال روسو بها الجائزة.

ويُعَدُّ روسو في رسالته تلك كالمحامي الذي يلتزم طرفًا واحدًا في المرافعات، فيصعب تصديق جديته في تمثيل دوره، ولذلك لا تتجلى أهمية رسالته تلك في اشتمالها على مذهب إيجابي، بل في كونها مفتاحًا لنشوء روسو الذهني، وفي كونها مرحلة مؤدية إلى «العقد الاجتماعي». فالواقع أن هذه الرسالة تحتوي أصل مذهب روسو وعقيدته، ومنها تُعلَم عداوته للترف والمدنية ونظام الطبقات، كما يُعلم منها دفاعه عن الحرية.

ويذيع صيت روسو بتلك الرسالة بعد خمول ذكر، ويعجب بها كتَّابٌ، ويحمل عليها آخرون، ويجيب روسو عن النقد الموجه إليه بأنه لم يرد الرجوع بالناس إلى الوراء، وإنما أراد العود إلى الفضائل، والابتعاد عن الترف والرذائل، وسيادة المساواة بين الأنام.

ويرى روسو بعد وضع تلك الرسالة أن يوفق بين سلوكه وما عرضه فيها من مبادئَ ويعيش مستقلًّا، فيترك مكانه مستخدمًا، ويجعل من نفسه ناسخًا للموسيقا.

وفي سنة ١٧٥٣ أعلنت أكاديمية ديجون مسابقة أخرى عنوانها «ما أصل التفاوت بين الناس؟ وهل أجازه القانون الطبيعي؟» ويشترك روسو في المسابقة؛ لما لاقى من نجاح في الأولى، ولكنه لم ينل الجائزة؛ لشدة حمله على الاستبداد، وينشرها في سنة ١٧٥٥ مقدَّمة إلى جمهورية جنيف، ويذهب إلى جنيف بعد إصدارها، ويعود إلى باريس منتحلًا البروتستانية، حاملًا لقبَ مواطنٍ بجنيف.

وتدل كلمة «الطبيعة» هنا على تطور كبير، فلا يعارض روسو بها شرور المجتمع معارضةً فارغة، بل تنطوي على أمور إيجابية، فترى نصف «أصل التفاوت» يشتمل على وصف خيالي لحال الطبيعة التي يكون الإنسان فيها محصورًا ضمن أضيق مجال مع قليل احتياج إلى أمثاله، وقليل اكتراث لما وراء احتياجات الساعة الحاضرة.

وفي هذه الرسالة يصرح روسو بأنه لا يفترض وجود الحال الطبيعية فعلًا، وإنما يستحسن حالًا من الهمجية متوسطة بين الحال الطبيعية والحال الاجتماعية يحافظ الناس بها على البساطة ومنافع الطبيعة … ويظهر من تعليقات روسو على متن الرسالة أنه لا يريد رجوع المجتمع الفاسد الحاضر إلى حال الطبيعة، وإنما يعد المجتمع أمرًا لا مفر منه مع فساده … وهو يعلل هذا الفساد بالتفاوت بين أفراد المجتمع في المعاملات والحقوق فيتغنى بالإنسان الطبيعي الطاهر، ويقول بتلك الحال المتوسطة؛ حيث تسود المساواة.

وقد وُجِدَ من يؤاخذ روسو على سلوكه منهاج التاريخ في «أصل التفاوت»، مع أنه لم يحرص على إلباس هذه الرسالة ثوبًا تاريخيًّا، وانتحال المناحي التاريخية الزائفة من خصائص القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، وروسو لم يبالِ بهذه المناحي.

وفي سنة ١٧٥٥ نشر روسو رسالة «الاقتصاد السياسي»، وهنالك شكٌّ في كونها وضعت قبل رسالة «أصل التفاوت» أو بعدها، فالذي يظهر أول وهلة كون رسالة «الاقتصاد السياسي»، على نمط «العقد الاجتماعي»، وهذا يدل على أنها ألفت بعد «أصل التفاوت».

ومهما يكن من أمر فإن روسو بدأ هذه الرسالة بمناقشة حول طبيعة الدولة وإمكان التوفيق بين وجودها وحرية الإنسان، فرأى أن الدولة هيئة تهدف إلى سعادة جميع أعضائها، وجعل جميع وجهات نظره في الجباية تابعًا لهذا الهدف، وذهب إلى أن الكماليات وحدها هي ما يجب أن يكون تابعًا للضرائب، وإلى وجوب فرض ضرائبَ فادحةٍ على أمور الترف، وإلى عدم وضع ضريبة على الحاجيات كالقمح والملح.

ولم تشتمل رسالة «الاقتصاد السياسي»، على كثير من مباحث الاقتصاد المعروفة، بل تحتوي آراء روسو السياسية إجمالًا، وقد وضعها أيام عمت المجاعة فرنسة فكان الفقراء يموتون عن احتياج، على حين يتمتع الأغنياء بأطايب النعم وضروب الترف.

وقسم «الاقتصاد السياسي» الأول هو أكثر ما يستوقف النظر؛ فهو يَهْدِمُ ما يُبالَغُ فيه غالبًا من المقابلة بين الدولة والأسرة، فيذهب إلى أن الدولة ليست ذات طبيعة أبوية، وأنها تقوم على إرادة أعضائها العامة.

ومن مطالعة كتاب «الاقتصاد السياسي» يُرَى أن روسو كاد يبلغ به مرحلة النضج في آرائه السياسية، فكان هذا مُبَشِّرًا بكتاب «العقد الاجتماعي» في نهاية الأمر.

•••

ظهر «العقد الاجتماعي» مع كتاب «إميل» سنة ١٧٦٢، فدل بذلك على بلوغه الذروة من عمله، والواقع أن «العقد الاجتماعي» يشتمل عمليًّا على نظريته السياسية الإنشائية كلها، ويدل عنوانه على موضوعه، ويسمى هذا الكتاب «مبادئ الحقوق السياسية»، أيضًا، ويوضح هذا العنوانُ الثاني العنوانَ الأول.

وضع روسو هذا الكتاب، وكان من الخطر البالغ أن يجهر الإنسان بأي رأي حر حينما وضعه، وكان روسو جريئًا في كل ما أبداه فيه، وفي هذا الكتاب حمل روسو على الرق وعدم المساواة، وناضل عن حقوق الإنسان وأقامها على طبيعة الأمور، وقال إن هدف كل نظام اجتماعي وسياسي هو حفظ حقوق كل فرد، وإن الشعب وحده هو صاحب السيادة. وكان يهدف إلى النظام الجمهوري، فتحقق هذا النظام بالثورة الفرنسية بعد ثلاثين سنة حين اتُّخِذَ «العقد الاجتماعي» إنجيلَ هذه الثورة.

ولم يقل روسو بحكومات زمنه لمنافاتها للطبيعة، ويقوم مذهبه على كون الإنسان صالحًا بطبيعته، محبًّا للعدل والنظام، فأفسده المجتمع وجعله بائسًا، والمجتمع سيئ؛ لأنه لا يساوي بين الناس والمنافع، والتملك جائر؛ لأنه مُقْتَطَعٌ من المِلك الشائع الذي يجب أن يكون خاصًّا بالإنسانية وحدها، فيجب أن يُقضى على المجتمع إذن، وأن يُرجع إلى الطبيعة، وهنالك يتفق الناس بعقد اجتماعي على إقامة مجتمع يرضى به الجميع، فيقيمون بذلك حكومة تمنح الجميع ذات الحقوق، فتقوم سيادةُ الشعب مقام سيادة المِلك، ويتساوى فيها الناس وتُنَظَّم الثروة والتربية والديانة.

وفي كتاب «إميل» ظهر روسو الفيلسوف المربي بجانب روسو الفيلسوف الاجتماعي، وقد حاول روسو أن يكفر بكتاب «إميل» عن خطيئته تجاه أولاده — كما قلنا — ويعد روسو بهذا الكتاب مؤسس التربية الحديثة، ففيه ألقى دروسًا ممتعة في تربية الأطفال، ومذاهب التربية، والفضيلة والحياة الزوجية، وقد نال كتاب «إميل» من بعد الصيت والأثر ما أصبح معه مُعَوَّل علماء التربية، حتى إن الفيلسوف الألماني الكبير كَنْت تأثر به كثيرًا، وكَنْت حينما أخذ يطالعه أبى مغادرة منزله إلى نزهته اليومية قبل الفراغ من قراءته، وكَنْت مَنْ تَعْلَمُ تمسكَه بنزهته تلك، وعدم عدوله عنها إلا لأمر جَلَل.

وقد ألَّف روسو قصة حياته الخاصة في «اعترافاته»، فوضع الجزء الأول منها سنة ١٧٦٦، وقد ظهر روسو في هذا الكتاب مثالَ القاضي المؤرخ العادل النزيه، فلم يكتم شيئًا من خطيئاته، ولم يَزِد في حسناته، ولم تُنْشَرْ هذه «الاعترافات» إلا بعد موته، وعليها يُعْتَمَدُ في ترجمة حياته.

قلنا إن روسو عاد من جنيف إلى باريس منتحلًا البروتستانية، وتعرض عليه صديقته مدام ديبناي في سنة ١٧٥٦ ملجًا في وادي مونمورنسي بالإرميتاج، فيقبله، وهنالك كتب رواية إلوئيز عن حب كان يشعر به نحو بنت أخت مدام ديبيناي، مدام دو ديتو، التي كانت ذات صلة بالشاعر لَنْبِر، وقد كان لهذا الغرام المحزن أثر سيئ في نفس روسو؛ فقد أصبح قاتم الطبع، فقطع اتصاله بمدام ديبيناي، وغادر الإرميتاج ليأوي إلى مونلويس بالقرب من مونمورنسي، إلى هذا المأوى الذي قدمه إليه مريشال لوكسنبرغ، وإلى هذا الدَّوْر ترجع نظرياته الاجتماعية وأفكاره الإصلاحية التي أدرجها في «العقد الاجتماعي» و«إميل» وفي رسالته إلى دالنبر عن المسارح، فباعدت هذه الرسالة بينه وبين فولتير، وألقت بينهما بذور البغضاء، وفي «إميل» هاجم عقيدة الوحي منكرًا له مع قوله بوجود الإله، فحكمت عليه جنيف وباريس والبرلمان، فهاجر إلى مونته ترافير في حكومة نوشاتل؛ حيث قضى حياة غريبة وتزيا بزي الأرمن، وحيث وضع في سنة ١٧٦٤ دفاعًا عن «إميل»، ويُحمل على مغادرة سويسرة، ويستقر بإنكلترة، بفونُّون، عند الفيلسوف الإنكليزي هيوم، ويكتب القسم الأول من «اعترافاته»، ولكنه لم يَلبث أن ترك هذا الفيلسوف الإنكليزي متهمًا إياه بالائتمار به مع أعدائه.

ويعود روسو إلى باريس في سنة ١٧٧٠ بعد طواف في عدة مدن بدوفينه، متنكرًا؛ خشية الاعتقال، ويقيم بباريس سبع سنين غير واثق بأحد متمتعًا بجمال الطبيعة في ضواحيها، ويكسب عيشه من نسخ قطع من الموسيقا، ويبتعد عن الناس والأصدقاء، ثم يترك استنساخ القطع الموسيقية عن ضعف وعجز فيغدو مُعْوِزًا إلى الغاية.

وفي السنة الأخيرة من حياته يُقَدِّم إليه صديقه دو جيراردن ملجًا في إرمنونفيل البعيدة من باريس نحو عشرين كيلومترًا فيقبله، ويموت فجأة بعد ستة أسابيع من انزوائه في هذا الكوخ، وكان ذلك في ٣ من يوليو٣ سنة ١٧٧٨، تاركًا هذه الحياة وما فيها من أحزان وآلام — ويُظن على غير حق أنه مات مسمومًا أو منتحرًا بطلقة فَرْدٍ — ويدفن بجزيرة الحَوَر في إرمنونفيل.
ويرقد في هذه الجزيرة حتى سنة ١٧٩٤، وفي ٢٠ من فنديمور من السنة الثالثة (١١ من أكتوبر٤ سنة ١٧٩٤) ينقل رفاته باحتفال عظيم إلى مدفن العظماء بباريس (البانتيون) وفق مرسوم أصدره مجلس العهد، وذلك مع بقاء ضريحه قائمًا في تلك الجزيرة حيث مكث مدفونًا ستة عشر عامًا.

•••

كان روسو سيئ الحظ فعاش شريدًا بائسًا، ولعله كان لهذا أثرٌ في عبقريته ووضع مبادئه، وعاش روسو في بيئة فاسدة قاسية، وكان لهذا عمل عظيم في نضج آرائه والكشف عن كثير مما يحيط به من المفاسد والشرور، والجهر بآرائه في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.

وكان روسو عليلًا فآثر الحياة الهادئة على غيرها، فكان هذا عاملًا في عمق تفكيره، وحمل روسو على العقل، ورفع من شأن الشعور؛ فقال: إن العقل إذا ما استطاع أن ينقض العقيدة بالله، وأن ينكر الخلود؛ فإن الشعور يؤيدهما، فلماذا لا نصدق الشعور بدلًا من الشك الجامح الذي يؤدي إليه العقل؟ وقد أراد «كَنْت» أن ينقذ الدين من العقل كذلك، فقامت رسالته على ذلك أيضًا.

ويعد روسو من أعظم من أنجبتهم فرنسة من الكتاب، غير أن آراءه تقبل أو ترفض على حسب الأمزجة، وهو يُحَبُّ أو يكره ككاتبٍ أوحى بالثورة الفرنسية قبل كل شيء.

والآن يوجد لكتبه معنيان، فبها يُنْفَذُ إلى الذهنية التي كانت سائدة للقرن الثامن عشر، وهي ذات أثر بالغ في حوادث أوربة التي وقعت فيما بعد، وبهذه الكتب يمثل روسو في عالم الفكر السياسي مرحلة الانتقال من النظرية التقليدية للدولة في القرون الوسطى إلى الفلسفة الحديثة حول الدولة.

ولم يعالج روسو نظم الدول الموجودة، خلافًا لما صنع مونتسكيو وفولتير، فبينما كان مونتسكيو وفولتير، اللذان هما من أبناء الطبقة العليا، يقتصران على المطالبة بالإصلاح السياسي والديني وثَلْم شوكة الاستبداد، كان ابن الساعي روسو، كان ابن الشعب روسو، الذي قضى شبابًا قاسيًا، ينتهي بآلامه إلى ضرورة تجديد الدولة والمجتمع تجديدًا كليًّا، ومن قول روسو: «لم يهدف مونتسكيو إلى معالجة مبادئ الحق السياسي، وإنما كان يكتفي بمعالجة الحق الوضعي (القانون) للحكومة القائمة، فلا يمكن أن يبدو اختلافٌ بين دراستين أكثر من هذا.» ومن ثم يكون روسو قد تمثل موضوعه مختلفًا عن موضوع «روح الشرائع» كلَّ الاختلاف.

وعن روسو وما كتب يقول المؤرخ الاسكتلندي المشهور توماس كارليل: «لقد قَدَر العالَم على إلجاء ذلك البطل إلى الأسطحة، وعلى اتخاذه أضحوكة يُسخر منها كما يُسخر من البُلْه والمجانين، وعلى إجاعته وتركه يتضور جوعًا كالوحش المسجون، فهل قدر العالم على منعه من إضرام الثورة وإشعال الأرض نارًا تلظَّى؟ لقد وجدت الثورة الفرنسية إنجيلَها في كتابات روسو، وقد أحدثت آراؤه الشبيهة بالجنون في آفات المدنية وتفضيلُه عيش المتوحشين على عيش المتمدنين جنونًا فاض في أنحاء فرنسة وغمرها.»

نابلس
١  حزيران.
٢  Horloger.
٣  تموز.
٤  تشرين الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤