الفصل الثامن

الدِّين المدني

لم يكن للناس في البُداءة ملوكٌ غير الآلهة وحكومة غير الحكومة الإلهية، وقد أتوا مثل تَعَقُّلِ كاليغولا، وقد أصابوا في تعقلهم بذلك، وكان لا بد من تغيير طويل في المشاعر والأفكار حتى يمكن الناس أن يتخذوا أمثالهم سادة لهم راجين أن يلاقوا خيرًا من صنعهم ذلك.

ولذلك وحده وُضِعَ الرَّبُّ على رأس كل مجتمع سياسي، ومن ثم كان يوجد من الآلهة من هم بعدد الشعوب، وما كان الشعبان الغريب أحدهما عن الآخر، المتعاديان دائمًا تقريبًا، ليستطيعا أن يُسَلِّما بسيد واحد زمنًا طويلًا، وما كان الجيشان المتقاتلان ليستطيعا أن يطيعا رئيسًا واحدًا، وهكذا تؤدي التقسيمات القومية إلى تعدد الآلهة، ومن هنا نشأ عدم التسامح اللاهوتي والمدني الذي هو هو بحكم الطبيعة كما نرى ذلك فيما بعد.

وما كان من هوى الأغارقة في لقاء آلهتهم ثانية بين شعوب البرابرة نشأ عن أنهم كانوا يَعُدُّون أنفسَهم سادة طبيعيين لهذه الشعوب أيضًا، ولكنك لا تجد عبثًا كلوذعية أيامنا المضحكة التي تطابق بين آلهة مختلف الأمم، كما لو كان يمكن مولك وساتورن وكرونوس أن يكونوا عين الإله، وكما لو كان يمكن بعل الفنيقيين وزوس الأغارقة وجوبيتر اللاتين أن يكونوا ذات الإله، وكما لو كان يمكن أن يبقى شيء مشترك بين موجودات وهمية تحمل أسماء مختلفة!

وإذا ما سئل عن عدم وجود حروب دينية مطلقًا في أدوار الوثنية حين كان لكل دولة عبادتها وآلهتها، أجبتُ بأنه إذا كان لكل دولة عبادتها الخاصة، وحكومتها أيضًا، فإنه لم يُفَرَّقْ بين آلهتها وقوانينها قط، وكانت الحرب السياسية لاهوتية أيضًا، ولذلك كانت ولايات الآلهة معينة بحدود الأمم، ولم يكن لإله شعب أي حق على الشعوب الأخرى، ولم يكن آلهةُ الوثنيين آلهةً غُيُرًا فكانوا يقتسمون سلطان العالم فيما بينهم، حتى إن موسى والشعب العبري ذهبا إلى هذا الرأي أحيانًا عند كلامهما عن إله إسرائيل. أجل، كانا يعدان آلهة الكنعانيين عاجزين، آلهة هؤلاء القوم ذوي الدم الطليل، والمحكوم عليهم بالهلاك، والذين كان بنو إسرائيل يطمعون في الاستيلاء على بلدهم، ولكن انظروا كيف كانوا يتكلمون عن آلهة الشعوب المجاورة الذين مُنِعوا من من الهجوم عليهم، قال يَفْتَاحُ لبني عَمُّون: أليس أن ما يُمَلِّكك إياه كَمُوشُ إلهُك إياه تَمْلِك، وجميع الذين طردهم الرب إلهنا من أمامنا إياهم نملك؟١ فيظهر لي أن هذا اعتراف بأن حقوق كموش وحقوق إله إسرائيل متماثلة.
ولكن اليهود عندما خضعوا لملوك بابل، ثم لملوك سورية، أرادوا الإصرار على عدم الاعتراف بإله غير إلههم، فعُدَّ هذا الرفضُ تَمَرُّدًا على الغالب وأدى إلى ما نقرؤه في تاريخهم من اضطهادهم بما لا يُرَى له مثيلٌ قبل النصرانية.٢

ولذلك، وبما أن كل دين مرتبط في قوانين الدولة التي أمرت به، فإنه لم يكن قط وجهٌ آخرُ لهداية شعب غير استعباده، ولم يكن قط مبشرون آخرون غير الفاتحين، وبما أن وجوب تغيير العبادة قانون خضع له المغلوب فإنه كان من الضروري أن يُبْدَأَ بالانتصار قبل الحديث في ذلك التغيير، ومن البعيد أن يكون الناس قد قاتلوا في سبيل الآلهة. والآلهة، كما جاء في أوميرس، هم الذين قاتلوا في سبيل الناس، وكل كان يسأل إلهه أن ينصره فيقابله بهياكل جديدة، وكان الرومان قبل الاستيلاء على مكان ينذرون آلهته بمغادرته! وهم عندما تركوا لأهل تارانت آلهتهم الذين أُغضبوا كان ذلك لأنهم عدوا هؤلاء الآلهة، حينئذ، خاضعين لآلهتهم مُكرَهين على تقديم الولاء إليهم، وهم قد تركوا للمغلوبين آلهتهم كما تركوا لهم قوانينهم، وكان وضع إكليل على جوبيتر بالكابيتول في الغالب الضريبة الوحيدة التي يفرضونها.

ثم لما وسع الرومان عبادتهم وآلهتهم مع إمبراطوريتهم، ولما انتحلوا في الغالب آلهة المغلوبين بمنحهم حق المدينة، وجد شعوب هذه الإمبراطورية الواسعة أنفسَهم، على وجه غير محسوس، ذوي جُمُوعٍ من الآلهة والعبادات واحدة في كل مكان، وهكذا لم تعرف الوثنية في العالم المعروف غير دين واحد بعينه.

ففي هذه الأحوال أتى يسوع ليقيم على الأرض مملكة روحية، وهذا ما جعل الدولة، بفصله النظام اللاهوتي عن النظام السياسي، تكون غير واحدة فأوجب من الانقسامات الداخلية ما انفك يقلق الشعوب النصرانية، والواقع أن هذه الفكرة الجديدة لمملكة في العالم الآخر لم تستطع الدخول في رأس الوثنيين قط فعدوا النصارى عصاة حقيقيين، مع تظاهر هؤلاء بالخضوع، غير باحثين عن سوى الوقت الذي يكونون فيه سادة مستقلين فيغتصبون، بمهارةٍ، السلطة التي تظاهروا باحترامها في أثناء ضعفهم، فكان هذا سبب الاضطهادات.

ويحدث ما خافه الوثنيون، وهنالك يُغَيِّر كلُّ شيء منظرَه، ويغير النصارى الوُضَعَاءُ لهجتَهم، ولسرعان ما رئيت مملكة العالم الآخر المزعومة تتحول إلى أعنف استبداد في هذه الدنيا تحت قيادة رئيس منظور.

ومع ذلك، وبما أنه وُجِدَ أميرٌ وقوانينُ مدنيةٌ دائمًا، نشأ عن هذا السلطان المضاعف وتصادم الحاكمية في الدول النصرانية تَعَذُّرُ كلِّ سياسة صالحة، ولم يُوَفَّقِ الناس قط لمعرفة أي الرجلين يُلزَمون بإطاعته: آلسيد أم القسيس؟

ومع ذلك فإن كثيرًا من الشعوب، حتى في أوربة أو في جوارها، أراد حفظ النظام القديم أو إعادته، ولكن من غير نجاح؛ فقد سادت الروح النصرانية كلَّ شيء، وقد ظلت العبادة المقدسة دائمًا، أو صارت ثانية، مستقلَّةً عن السيد ومن غير ارتباط ضروري في كيان الدولة، وكانت لِمُحَمَّدٍ آراءٌ صائبةٌ جدًّا؛ فقد أحسن وصل نظامه السياسي، وذلك أن ظَلَّ شكلُ حكومته باقيًا في عهد خلفائه، فكانت هذه الحكومة واحدة تمامًا، وصالحة إلى هذا الحد، غير أن العرب أصبحوا مُوسِرين متعلمين مثقفين مُتْرَفين مرتخين فأخضعهم البرابرة، وهنالك بدأ الانقسام بين السلطتين، وهذا الانقسام، وإن كان أقلَّ ظهورًا بين المسلمين مما بين النصارى، موجودٌ على كل حال، ولا سيما في شيعة عَلِيٍّ، ويوجد من الدول كفارس، ما انفك يُشْعَرُ به فيها.

وبيننا جعل ملوك إنكلترة أنفسهم رؤساء للكنيسة، ومِثْلُ هذا ما صنعه قياصرة روسية، غير أنهم بَدَوْا بهذا اللقب سادةً لها أقل مما بَدَوْا قساوسة لها، وأنهم نالوا حق تغييرها أقل مما نالوا سلطة في حفظها، وهم ليسوا مشترعين لها، بل أمراؤها، والإكليروس، حيث يكون هيئة،٣ يظهر سيدًا ومشترعًا في وطنه، ولذلك يوجد سلطتان وسيدان في إنكلترة وروسية كما في غيرهما.
والفيلسوف هُوبْز، من بين جميع مؤلفي النصارى، هو الذي أبصر الشر جيدًا وعالجه، وهو الذي جرؤ على اقتراح جمع رأسي النَّسْر ورد كل شيء إلى الوحدة السياسية التي لا تكون الدولة، ولا الحكومة، حسنة التنظيم بغيرها، غير أنه وجب عليه أن يرى مناقضة الروح السائدة للنصرانية لنظامها وكون مصلحة القسيس أقوى من مصلحة الدولة دائمًا، وما اشتملت عليه نظريته السياسية من فظاعةٍ وخطأٍ لم يجعلها ممقوتة٤ أكثر مما جعلها ما انطوت عليه من صواب وصحة.

وأرى أنه إذا ما فُصِّلَت الوقائع التاريخية وفق وجهة النظر هذه سَهُلَ رفضُ آراء بيل وواربورتن المتناقضة، فزعم أحدهما أنه لا يوجد من الأديان ما هو مفيد للكيان السياسي، وذهب الآخر إلى العكس فقرر أن النصرانية أقوى دعامة له، فللأول نثبت أنه لم تقم دولة من غير أن يُنتفع بالدين أساسًا لها، وللثاني نثبت أن ضرر الدستور النصراني في الأساس أكثر من نفعه لنظام الدولة المكين، وليس عليَّ للإفصاح عما في نفسي أن أصنع غير إنعامي دقة أكثر قليلًا في مبادئ الدين المبهمة الخاصة بموضوعي.

إذا نُظِرَ إلى الدين من حيث المجتمع، الذي يكون عامًّا أو خاصًّا أمكن أن يُقَسَّمَ إلى نوعين: دين الإنسان ودين المواطن؛ فالأول، العاطل من معبدٍ وهياكلَ وطقوس والمقصور على عبادة الرب الأعلى الباطنية وعلى واجبات الأخلاق الأزلية، هو دين الإنجيل البسيط والتوحيد الحقيقي مع إنكار الوحي، وهو ما يمكن أن يُسَمَّى الحقَّ الإلهي الطبيعي. والآخر، المسنون في بلد واحد، ينعم عليه بآلهته وحماته الحافظين، وله عقائده وطقوسه وعبادته الظاهرية المفروضة بقوانين، فإذا عدوت الأمة الوحيدة التي تتبعه عُدَّ جميع العالم في نظره كافرًا غريبًا بربريًّا، وهو لا يجعل واجبات الإنسان وحقوقه شاملة لما وراء هياكله، فهذا هو شأن جميع أديان الشعوب الأولى، وهي ما يمكن أن يطلق عليها اسم الحقوق الإلهية المدنية أو الوضعية.

ويوجد للدين نوع ثالث أكثر غرابة؛ فهو يمنح الناس اشتراعين ورئيسين ووطنين، ويجعلهم خاضعين لواجبات متناقضة، ويحول دون كونهم عابدين ومواطنين معًا، شأن دين اللاما ودين اليابان، والنصرانية الرومانية، وهي ما يمكن أن تسمى دين الكاهن، وينشأ عن هذا ضرب من الشرائع المختلطة النافرة التي لا اسم لها مطلقًا.

وإذا ما نُظر إلى هذه الأنواع الثلاثة للأديان من الناحية السياسية وجدت معايب لجميعها، ويبلغ الدين الثالث من السوء الواضح ما يعد من ضياع الوقت معه أن يُتلهَّى بإثباته، فلا قيمة لكل ما يقضي على الوحدة الاجتماعية، ولا تساوي شيئًا جميع النظم التي تجعل الإنسان مناقضًا لنفسه.

ويكون الدين الثاني صالحًا من حيث كونه يجمع بين العبادة الإلهية وحب القوانين، وهو، إذ يجعل من الوطن موضع عبادة المواطنين، يعلِّمهم أن خدمة الدولة تعني خدمة الإله الحافظ، وهذا ضرب من الحكومة الإلهية التي لا يمكن أن يكون فيها حَبْرٌ غير الأمير، ولا كهنة غير الحكام، وهنالك يكون موت الإنسان في سبيل بلده شهادة، ويكون انتهاك القوانين إلحادًا، ويكون تعريض المذنب للَّعنة العامة هدفًا لغضب الآلهة، (فَكُنْ صالحًا).

بَيْدَ أنه سيئ من حيث قيامه على الخطأ والكذب فيخادع الناس ويجعلهم وابصات٥ سمع وخرافيين، ويغرق عبادة الألوهية الصحيحة في طقوس فارغة، وهو يكون سيئًا أيضًا عندما يصبح مانعًا لسواه باغيًا فيجعل الشعب سَفَّاكًا متعصبًا لا يتنفَّسُ بغير الذبح والقتل، ويرى أنه يقوم بعمل مقدس بقتله كل من لا يؤمن بآلهته، وهذا ما يضع مثل هذا الشعب في حال طبيعية للحرب تجاه جميع الشعوب الأخرى فيجعل سلامته الخاصة في خطر عظيم.

ولذلك لا يبقى غير دين الإنسان أو النصرانية، لا نصرانية اليوم، بل نصرانية الإنجيل التي تختلف عنها اختلافًا تامًّا، فبهذا الدين المقدس الرفيع الصحيح يعترف الناس، الذين هم أبناء رب واحد، بأنهم إخوةٌ جميعًا، ولا ينحلُّ المجتمع الذي يوحِّد بينهم حتى القتل.

ولكن بما أنه لا يوجد لهذا الدين أي صلة خاصة بالهيئة السياسية فإنه يترك للقوانين ما تستخرجه من نفسها من قوة، وذلك من غير إضافة شيء إليها، ومن ثم تَظَلُّ إحدى روابط المجتمع الخاص العظيمة بلا عمل، ثم يبعد ذلك الدين من ربط أفئدة المواطنين بالدولة، وهو يفصلها عنها كما يفصلها عن جميع أمور الأرض، فلا أعرف ما هو أكثر مخالفة منه للروح الاجتماعية.

ويقال لنا: إن شعبًا مؤلفًا من نصارى صادقين يؤلِّف أكملَ مجتمع يمكن تصورُه، ولا أجد في هذا الافتراض غير صعوبة كبيرة، وذلك أن مجتمعًا مؤلَّفًا من نصارى يعود غير مجتمع من الناس.

حتى إنني أقول: إن هذا المجتمع المفترض لا يكون عند كماله أقوى المجتمعات ولا أكثرها دوامًا، فبكماله يفقد الارتباط، ويكون عيبُه الهدَّام في نفس كماله.

أجل، يقوم كل واحد بواجبه، ويخضع الشعب للقوانين، ويكون الرؤساء عادلين معتدلين، ويكون الحكام صالحين عفيفين، ويستخف الجند بالموت، ولا يكون هنالك زهو ولا ترف، وجميع هذا جميل جدًّا ولكن دعنا نرى ما هو أبعد من هذا.

فالنصرانية ديانةٌ روحانية تمامًا، وهي تُعْنَى بأمور السماء، وليس هذا العالم وطن النصراني، ولا ريب في أن النصراني يقوم بواجبه، ولكنه يقوم به بعدم اكثراث بالغ لحسن نجاح جهوده أو سوئه، وهو إذا لم يجد ما يلوم به نفسه لم يبالِ بسير الأمور سيرًا حسنًا أو سيئًا في هذه الدنيا، وإذا ما ازدهرت الدولة لم يكد يجرؤ على التمتع بالبهجة العامة، وخشي الاختيال بمجد بلده، وإذا ما بادت الدولة بارك يدَ الله التي ثَقُلَت على أمته.

ولا بُدَّ، لهدوء المجتمع وبقاء الانسجام، من أن يكون جميع المواطنين بلا استثناء نصارى صالحين على السواء، ولكن إذا ما وجد لسوء الحظ طامعٌ واحدٌ، مداجٍ واحدٌ، كاتيلينا واحد، كرومويل واحد، مثلًا، كانت له سوق رخيصة من مواطنيه الأتقياء، فلا يُبِيح البرُّ النصراني بسهولة أن يَظُنَّ الإنسانُ سوءًا بجاره، فعندما يجد بحيلةٍ فنَّ الاحتيال عليهم وفن القبض على قسم من السلطة العامة يلج باب الوجاهة، فالرب يريد احترامه، ولَسرعان ما تواجهون صاحب سلطان، والرب يريد إطاعته، وإذا ما أساء استعمال سلطان عُدَّ العصا التي يعاقِب الربُّ بها أبناءه، وقد تدور في الرءوس هواجسُ لطرد الغاصب، فلا بد لذلك من إقلاق الراحة العامة واستعمال العنف وسفك الدم، وهذا كله يلائم حِلم النصراني ملاءمة سيئة، وبعد هذا كله: ما أهمية كوننا أحرارًا أو عبيدًا في وادي البؤس هذا؟ فالأصل أن يُذْهَبَ إلى الفردوس، وليس التسليم غير وسيلة إضافية لبلوغ هذا.

وإذا ما اشتعلت حرب خارجية سار المواطنون إلى القتال بلا مشقة، ولم يُفَكِّرْ أحد منهم في الفرار، وهم يقومون بواجبهم، ولكن من غير ولع بالنصر، وهم يعرفون كيف يموتون أحسن من أن يعرفوا كيف يَغلبون، وما أهمية كونهم غالبين أو مغلوبين؟ ألا تعلم العناية الإلهية ما يلائمهم أحسن مما يعلمون؟ ولنتصور ما يمكن عدوًّا مختالًا صائلًا ذا حُمَيَّا أن ينال من عزمهم! قابِلوهم بتلك الشعوب السخية التي يأكل قلبها حُبٌّ متأججٌ للمجد والوطن، وافترضوا مواجهةَ جمهوريتكم النصرانية لإسبارطة أو رومة تَرَوْا قهر النصارى الأتقياء وسحقهم وإبادتهم قبل أن يكون عندهم من الوقت ما يتعارفون فيه، أو أنهم يكونون مدينين بسلامتهم لما يحمله عدوهم من ازدرائهم، وعندي أن قَسَمَ جنود فابيوس الذين حلفوا أن يعودوا منصورين، لا أن يَغْلِبوا أو يموتوا، فبرُّوا به، هو قسم رائع، وما كان النصارى ليأتوا بمثله مطلقًا لما يرون أن يطلبوا إلى الرب إظهار قدرته.

ولكنني أُخدَع إذ أتكلم عن جمهورية نصرانية، فكل واحدة من هاتين الكلمتين تنافي الأخرى، فالنصرانية تُبَشِّرُ بالعبودية والطاعة، وتبلغ روحُها من ملاءمة الطغيان ما تنتفع به من هذا النظام دائمًا، وقد خُلِقَ النصارى الحقيقيون ليكونوا عبيدًا، وهم يعلمون هذا من غير أن يَهُزَّهم مطلقًا، فقيمة هذه الحياة القصيرة قليلةٌ في أعينهم.

ويقال لنا: إن الكتائب النصرانية باسلة. وأنكر هذا، ولِأُدَلَّ على مثلها، وأما أنا فلا أعرف كتائب نصرانية مطلقًا، وستذكر الحروب الصليبية لي، وإني من غير أن أناقش في قيمة الصليبيين أقول: إنهم بعيدون من أن يكونوا نصارى، وإنهم كانوا جنودَ قساوسةٍ ومواطني الكنيسة، فهم قد قاتلوا في سبيل بلدهم الروحي الذي جعلته الكنيسة زمنيًّا بما لا يُعرف كيف، وإذا ما أخذ هذا على وجهه الصحيح رُدَّ إلى الوثنية، فبما أن الإنجيل لا يقيم دينًا قوميًّا فإن كلَّ حرب مقدسة أمرٌ مستحيلٌ بين النصارى.

وفي عهد الأباطرة كان جنود النصارى شجعانًا، وهذا ما يؤكده جميع مؤلفي النصارى، وهذا الذي أعتقده، وكان هذا منافسة شرف تجاه الكتائب الوثنية، وعادت هذه المنافسة لا توجد منذ صار الأباطرة نصارى، وعندما طَرَدَ الصليبُ النَّسْر زالت القيمة الرومانية.

ولكن لندع الاعتبارات السياسية جانبًا، ولنعد إلى الحق، ولنقم المبادئ على هذه النقطة المهمة، وقد قلنا: إن الحق الذي يجعله الميثاق الاجتماعي للسيد على الرعايا لا يجاوز النفع العام٦ مطلقًا، ولذلك لا يُلزَم الرعايا بتقديم حساب إلى السيد عن آرائهم إلا بالمقدار الذي تُهِمُّ به المجتمع، والواقع أن مما يُهِمُّ الدولة أن يكون لكل مواطن دين يُحبِّب إليه واجباتِه، غير أن عقائد هذا الدين لا تهم الدولةَ ولا أعضاءها إلا بالمقدار الذي تناط معه هذه العقائد بالأخلاق والواجبات التي يُلزَم من يُعَلِّمُها باتباعها نحو الآخرين، ثم إنه يمكن كل واحد أن يكون له من الآراء ما يروقه من غير أن يكون من شأن السيد أن يعلمها، وذلك بما أنه ليس للسيد سلطانٌ في العالم الآخر مهما كان نصيب رعاياه في الحياة الآتية فإن هذا لا يكون من شئونه، وذلك على أن يكون هؤلاء الرعايا صالحين في هذه الحياة الدنيا.
إذن، يوجد اعترافٌ بعقائد ديانة مدنية خالصة يجب على السيد أن يُعَيِّن موادَّها، لا كعقائد الدين بالضبط، بل كمشاعر اجتماعية يتعذر على الواحد أن يكون بغيرها مواطنًا صالحًا أو تابعًا صادقًا،٧ ويقدر السيد، من غير أن يستطيع إكراه أحد على اعتقادها، أن يُبْعِدَ من الدولة كلَّ مَنْ لا يعتقدها، لا كملحد، بل كنافر، كعاجز عن أن يُحِبَّ القوانين والعدل بإخلاص وعن التضحية بحياته في سبيل واجبه عند الضرورة، وإذا سار أحد كغير مؤمن بهذه العقائد بعد أن أقر بها جهرًا فدعه يعاقَب بالموت؛ فقد اقترف أعظمَ الجرائم؛ فقد كذب أمام القوانين.

ويجب أن تكون عقائد الدين المدني بسيطة قليلة العدد، وأن يُعَبَّرَ عنها بضبط ومن غير إيضاح ولا تفسير، فوجود الألوهية القادرة العاقلة الكريمة البصيرة المدبِّرة، والحياة الآتية، وسعادة الصالحين، ومعاقبة الأشرار، وقدسية العقد الاجتماعي والقوانين، أمورٌ يعبَّرُ عنها بالعقائد الإيجابية، وأما العقائد السلبية فإنني أقْصِرُها على واحدة: أقْصِرُها على عدم التسامح، وهي من فصيلة العبادات التي رفضناها.

وعندي أن من يُفَرِّقون بين عدم التسامح المدني وعدم التسامح اللاهوتي يكونون مخطئين، فلا يمكن فصل ما بين عدم التسامحين هذين، ومن المتعذر أن تُقْضَى حياةُ سَلْمٍ مع أناس يُعْتَقَدُ أنهم مدينون، ويعني حبهم مقتًا لله الذي يعاقبهم، ولذا يجب أن يُرَدُّوا أو يُعَذَّبوا، وفي كل مكان يُسَلَّم فيه بعدم التسامح اللاهوتي يستحيل ألا يكون عدم التسامح هذا ذا أثر مدني٨ ومتى كان له مثل هذا الأثر عاد السيد لا يكون سيدًا، حتى ضمن الدائرة الزمنية، وهنالك يكون القساوسةُ السادةَ الحقيقيين، ولا يكون الملوك غيرَ عُمَّالٍ لهم.

والآن عاد لا يوجد دين قومي حصرًا، فيجب أن يقع تسامح مع جميع الأديان التي تتسامح مع الأخرى، ما دامت عقائدُها غيرَ مناقضة لواجبات المواطن، ولكن يجب أن يُطْرَدَ من الدولة من يجرؤ أن يقول: «لا سلامةَ خارجَ الكنيسة»، ما لم تكن الدولة هي الكنيسة، وما لم يكن الأمير هو الحَبْر، وعقيدةٌ مثلُ هذه لا تكون صالحةً في غير حكومة إلهية، وهي تكون ضارة في كل حكومة أخرى، ويجب أن يَحْفِزَ السببُ الذي من أجله اعتنق هنري الرابعُ الدِّيانةَ الرومانية، كما قيل، إلى تركها من قِبَلِ كلِّ رجلٍ صالحٍ، ولا سيما كل أميرٍ يَعْرِف كيف يَعْقِل.

١  “None ea quoe possidet chamos deus tuus tibi jure debentur?” هذه عبارة لافولغات، فترجمها الأب دوكاريير هكذا: «ألا ترى أنك تملك ما يملك كموش إلهك؟» وأجهل قوة النص العبري، ولكني أرى في لافولغات أن يفتاح يعترف اعترافًا مؤكدًا بحق الإله كموش فأضعف المترجم الفرنسي هذا الاعتراف بكلمة «كما ترى» التي هي غير موجودة في اللاتينية.
٢  من الواضح أن الحرب الفوشية، التي سميت الحرب المقدسة، لم تكن حربًا دينية؛ فقد كانت تهدف إلى العقاب على تدنيس القدسيات لا إلى إخضاع الكافرين.
٣  يجب أن يلاحظ جيدًا كون المجالس الرسمية الكثيرة، كمجالس فرنسة، ليست ما يربط الإكليروس بهيئة بمقدار ما تربطه صحبة الكنائس، فالصحبة والحرمان هما ميثاق الإكليروس الاجتماعي، ميثاق يكون به سيد الشعوب والملوك، ويكون جميع القساوسة الذين يشتركون معًا مواطنين، ولو كانوا في طرفي العالم، ويعد هذا من أروع مبتكرات السياسة، ولا تجد مثل هذا بين الكهنة الوثنيين الذين لم يؤلفوا هيئة إكليريكية قط.
٤  انظر مثلًا، في كتاب لغروسيوس.
٥  وابصة سمع، إذا كان يسمع كلامًا فيثق به.
٦  قال المركيز دارجنسون: «إن كل واحد في الجمهورية حر تمامًا على ألا يؤذي الآخرين.» فهذا هو الحد الثابت الذي يتعذر تعيينه بأدقَّ من هذا، ولم أستطع منع نفسي من لذة الاستشهاد أحيانًا بهذا المخطوط وإن كان غير معروف لدى الجمهور؛ وذلك لتكريم ذكرى رجل جليل ومحترم حافَظَ حتى في الوزارة على قلب مواطن صادق ووجهات نظر مستقيمة سليمة حول حكومة بلده.
٧  حاول قيصر حين دفاعه عن كاتيلينا أن يضع عقيدة فناء الروح، ولم ينله كاتون وشيشرون بالتفلسف حينما رداها، وإنما اكتفيا بإثباتهما كون قيصر يتكلم كمواطن سيئ ويعرض مذهبًا ضارًّا بالدولة، والواقع أنه كان لسنات رومة أن يقضي في هذا، لا أن يقضي في مسألة لاهوتية.
٨  خذ الزواج مثلًا تجده عقدًا مدنيًّا ذا آثار مدنية يتعذر حتى بقاء المجتمع بغيرها، ولنفترض أن هيئة إكليريكية انتحلت لنفسها حق إجازة هذا العقد، هذا الحق الذي يجب أن نغتصبه بحكم الضرورة في كل ديانة غير متسامحة، أليس من الواضح أن إقامة سلطان الكنيسة من هذه الناحية تقضي على سلطة الأمير الذي لا يبقى له من الرعية غير من يتركهم الإكليروس له؟ وبما أن الكنيسة تكون مسيطرة على زواج الناس أو عدم زواجهم على حسب ما ينتسبون إلى هذا المذهب أو ذلك، وعلى حسب قبولهم أو رفضهم هذا الدستور أو ذلك، وعلى حسب كثرة تدينهم أو قلته، فإنها وحدها تتصرف، بما تتذرع به من حذر وحزم، في جميع المواريث والوظائف والمواطنين، حتى في الدولة التي لا يمكن أن تبقى إذا ما كانت مؤلفة من أبناء زِنًا فقط، ولكن يقال: إنه تكون هنالك استئنافات على أساس سوء الاستعمال والتأجيلات والأوامر، وإنه يقبض على الزمنى، فيا للرحمة! ولا أقول عن جسارة، بل عن حسن ذوق، كون الإكليروس لا يلاحظ ذلك ويمضي في سبيله، وهو يدع الاستئناف والتأجيل والأمر والقبض هادئًا ويظل سيدًا في نهاية الأمر، فأرى أنه لا يعد تضحيةً كبيرة ترْكُ قسم عند الاطمئنان إلى نيل الكل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤