قيمة الحضارة المصرية

هذا هو آخر حديثنا عن هذا الموضوع الذي يشغل بال المؤرخين ويقلب نظرياتهم ويجعل مصر مركزًا للحضارة البدائية الأولى، وحديثنا هذا هو أطيب الأحاديث يغذو عقولنا بما فيه من حقائق تبين لنا تطور الاجتماع ونشأة العادات التي لا نكاد نفهم لها أسبابًا معقولة لولا الرجوع إلى مصر، وهو يغذو قلوبنا لأنه يضع آباءنا الفراعنة على قمة لم تتطاول إليها أمة من الأمم إذ قد سجل فضل تحضيرهم للناس وإخراجهم من بداوة العصر الحجري إلى عصر الزراعة.

هؤلاء الفراعنة، هؤلاء الآباء هم فخر الإنسانية وسوف يُذْكَرُونَ بالإعجاب بعد آلاف السنين، وسوف تذكر مصر بأنها القطر الوحيد الذي نشأت فيه الحضارة الأولى وعلَّمَتِ الناس الدين والقوانين والفنون ومبادئ العلوم، وشعب مصر القديم الذي أسدى إلى الإنسانية هذا الفضل هو من السلالة الميديترانية؛ أي تلك التي عاشت حول البحر المتوسط بشواطئه الأربعة سواء في أفريقيا أم آسيا أم أوروبا، ولا يزال أبناؤها حول هذا البحر، وربما يزداد عددهم وتنساح سلالتهم حتى تبلغ الحبشة أو اليمن في الجنوب أو أوروبا الوسطى في الشمال.

وعرفت مصر أو اخترعت فن الملاحة من أزمنة قديمة قبل عهد الأسر، واستطاعت لهذا السبب أن تنشر الحضارة الأولى حول هذا البحر وفي جزره، ولم يكن المصريون يجدون في الأمم البدوية التي تعيش حوله ما يدل على أن هذه الأمم تخالفهم، إلا القليل من خفة اللون في الأمم الشمالية، بل الأرجح أن اللغات أو اللهجات التي كانت سائدة حول شواطئه كانت متقاربة، وهذه الوحدة في السلالة والتقارب في اللغة شجَّعَا المصريين على الهجرة فاستعمروا كريت وانتشروا منها يبحثون عن الذهب والعقاقير والجواهر لكي يحصلوا على المواد التي تتصل بالتحنيط والدفن.

ظروف متجمعة، شعب ذكي من سلالة قوية الأجسام قوية الأذهان إلى نهر يفيض بميعاد فينبت النبات كأنه يريد أن يعلِّم الناس، إلى بحر كأنه البحيرة التي يعيش حول شواطئها أفراد سلالة واحدة، والبحر بفضل اليابسة من حيث التنقل، لهذه الظروف ظهرت الحضارة في مصر وانتشرت حول البحر المتوسط وفي جزره، وإذا كانت هذه الحضارة الأولى لم تتوغل في أوروبا فلأنها لم تكن ملائمة للمناخ البارد، ولأن وسط أوروبا كانت تقطنه سلالة أخرى هي السلالة الألبية التي تستدير رءوس الأفراد فيها وهذا بخلاف السلالة الميديترانية التي تستطيل رءوس أفرادها.

•••

ويمكننا الآن أن نثق أن المؤسسات الاجتماعية الأولى إنما نشأت في مصر ونقلتها الأمم الأخرى عنها إما بهجرة المصريين إلى هذه الأقطار البعيدة وإما عن سبيل آخر لأن النقل يمكن أيضًا عن ناقل بعد ناقل، وليس ضروريًّا أن يكون المصري بالذات هو الذي علَّم الأمريكيين أو الأستراليين مبادئ التحنيط، وكذلك يجب ألَّا ننسى أن الفينيقيين حين استعمروا إسبانيا ووصلوا إلى إنجلترا إنما كانوا يبنون كلَّما حلُّوا أو رحلوا مبادئ الحضارة التي تعلموها من مصر.

وبذلك يمكننا أن نثق أن عادات «المتوحشين» وما يذكر عن الطبو والطوطم وما يعرفون من الزراعة أو العبادة ليس أصيلًا عندهم وإنما هو منقول عن المصريين، وليس هناك معنى لأن تُدَرَّسَ عادات المتوحشين في أنحاء مختلفة في العالم لكي تستخرج منها منطق الإنسان الأول؛ لأن الإنسان الأول ليس متوحشًا وإنما هو بدائي، رجل بسيط لا يعرف القتال ولا الزراعة ولا الرق، ولا يفهم معنى الأمة أو الجيش أو العبادة، بل يعيش في الغابة كما تعيش الآن القردة العليا، ولكي نفهم عادات المتوحشين وعقائدهم يجب أن نرجع إلى مصر، أما الطريقة التي اتبعها فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» — وهو جمع العادات والعقائد من الأمم المتوحشة المختلفة لكي يستخلص منها المنطق القديم للذهن البشري — فقد ثبت خطأها لأن هذه الأمم لم تخترع هذه العادات والعقائد بل تسلمتها من مصر وأبقتها على أصلها أو شوهتها.

•••

ولذوي المزاج الفلسفي أن يتساءلوا: هل أفادت مصر العالم بنشر الحضارة؟

والحق أن هذه مسألة تقبل الشك أو على الأقل تقبل المناقشة وخاصة في هذه السنين التي يحرق فيها المتحضرون القمح والبن واللحم، في حين يُعاني الجوعَ عدد كبير منهم!

وليس بيننا روسو لكي يتغنَّى بالبداوة وجمال السذاجة، ولكن هل من يشك في أن الإنسان البدائي كان ينعم بحياة قليلة الخيرات ولكنها كانت مع ذلك هانئة قانعة ليس فيها قتل أو اعتداء أو حرب أو رق أو عناء؟

ولكن المصريين قضوا على هذا الهناء، على هذه الجنة التي تذكرها الأساطير القديمة، وعلموا الناس الحضارة فعلَّموهم القسوة والرق والحرب، وهذا الذهب الذي لا تزال أمم كثيرة تتعامل على قاعدته لم يكتسب قيمته إلا من أساطيرهم الدينية، وأزمة العالم الحاضرة تُعزى في معظمها إلى التعامل بالذهب.

أنشأ المصريون الحضارة فعرفوا بذلك مبدأ التضحية البشرية لتوفير المحصولات الزراعية والصحة، وقتلوا ملوكهم الأولين من أجل هاتين الغايتين؛ فكان هذا القتل تدريبًا لهم على القسوة.

ثم خرجوا من مصر في البحث عن المعادن فجلبوا الرقيق وأنشأوا في العالم أسوأ عادة عرفها الإنسان وهي استعباد أخيه، ثم أدمنوا التفكير في العالم الآخر وفي إطالة العمر حتى ألَّفوا للعالم كشكولًا من الأساطير والجن والعفاريت والسحر والرقى والتعاويذ، وقد كانت هذه الأشياء ذريعة حسنة للاكتشاف العلمي فعُرفت منها مبادئ الكيمياء والفلك والجغرافيا والحساب، ولكنها كانت أيضًا سببًا لخلافات مذهبية بعثت الحروب والدمار بين الأمم.

كل هذا يجب أن يقال عن الحضارة عندما نقابلها بالبداوة الأولى، ولكن هذا الطور من الحضارة طور القسوة والقتل والأساطير والرق قد مضى أو أوشك.

ونحن مقبلون على طور آخر يقول بالسلم والعلم والحرية والمساواة، ولولا الطور الأول لما كان هذا الطور الثاني، فإذا كان المصريون قد أساءوا إلى العالم بإخراجه من البداوة في زعم روسو وأمثال روسو فإنهم هم السلم الذي ارتقى عليه الإنسان إلى هذا الطور الجديد أي الحضارة الحديثة.

•••

وكذلك الأساطير التي فشت في العالم وما تعرفه العامة عن الجن والعفاريت والسحر قد نشأ كله في مصر، وأعظم الْمَرَدَةِ التي عرفها الأوروبيون هذا المارد القديم هركوليس الذي نُسِبَتْ إليه مآثر الجبابرة، وقد تعدد الأصل الذي ينسب إليه هذا المارد، إذ وصف بأنه ابن الرب زفس اليوناني، ولكن شيشرون الكاتب الروماني وصفه بأنه ابن النيل؛ فدل بذلك على أصله المصري، ويرى المستر ماسنجهام أن هركوليس هو نفسه «مولوك» الذي كان يُعْبَدُ في بيبلوس المدينة المصرية في فينيقيا وأنه كان ملكًا مدة حياته على الأرض ثم صار إلهًا بعد وفاته، وقد وُصِفَ هركوليس في إسبانيا بأنه ابن الشمس، وهذا هو وصف الفراعنة.

وكان المصريون يمزجون بين أجسام الحيوان والإنسان على ما نرى في الإسفنكس «أبي الهول» ومن هذا الخلط بين الأعضاء نشأت فكرة العفاريت التي لها وجوه إنسانية وحوافر بهيمية وأذناب ومخالب، وتُسَمَّى الصين بلاد «التنانين» وليس التنين عندها سوى جسم مؤلَّف من وجه إنسان وأعضاء إنسان له قدمين في أصابعهما مخالب سبع، وفي يده اليمنى طبرزين وفي اليسرى خنجر وعلى ظهره جناحان، ويرى المستر ماسنجهام أن التنين الصيني يمثل لنا فكرة العفاريت قبل أن يتم نشوءُها في الخيال البشري، وهذا التنين الصيني هو إسفنكس مصري قد ناله بعض التنقيح.

بل يمكن أن نزيد على ذلك بأن فكرة الإسفنكس هذه وهي فكرة مصرية بحتة هي الأصل في رسم الملائكة التي تُعطى وجوهَ الناس مع أجنحة الطير على نحو ما كان يتخيل أبناء القرون الوسطى في أوروبا.

•••

المصريون هم الذين أكسبوا الذهب قيمته التي تعد أساسًا أو أكبر حجر في أساس الأزمة الحاضرة، وهم الذين أوجدوا الحرب والرق والقوانين القاسية، وهم أخيرًا الذين اخترعوا هذه الأساطير التي لا يزال يعانيها الإنسان في صور مختلفة.

هذا كله صحيح، ولكن لولاه لما عرف الإنسان الحضارة ولما خرج من الغابة وتعلم الزراعة؛ لأن هذه المساوئ كلها جاءت في غضون حضارة تتألف وتنمو وتتفرع، وهي إلى الآن لم تبلغ آخر حدودها الطبيعية للنمو، وليس شك أنها كلما تقدمت ستتخلص رويدًا رويدًا من هذه الأشواك.

ويمكن أن تعد الحضارة بوجه ما مرضًا من الناحية السيكلوجية ففي كل متحضر «مركب حضارة» يجعله يكسب الأشياء والاعتبارات قيمة بعيدة أو غريبة عن القيم الطبيعية، ويكلف نفسه عناءً كبيرًا من أجل غايات تُعَدُّ في نظر الدعاة إلى الطبيعة سخيفة أو عقيمة، ولا بد أن روسو وكاربنتر وتولستوي وغاندي قد داخل أذهانهم شيء من هذه الأفكار عندما جحدوا الحضارة، ولكن غاية الإنسان بل غاية كل حيوان لم تكن قَطُّ السعادة التي تتوهمها في البداوة، وإنما كانت التسلط على الطبيعة، والحضارة من هذه الناحية تؤدي إلى هذا التسلط، وإن لم تؤدِّ إلى السعادة، فإذا شئنا أن نقدر خدمة مصر للإنسانية فإنما يكون ذلك بمقدار ما سلطت الإنسان على الطبيعة وزادت قدرته وسيطرته عليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤