مصر والإغريق

الأستاذ برستد هو العالم الأثري الذي توسَّط بين المثري الأمريكي روكفلر وبين الحكومة المصرية لكي يهب الأول الثانية مليونين من الجنيهات لزيادة البحث عن الآثار المصرية وتنشيط العلماء إلى القدوم إلى مصر، وقد رفضت حكومتنا هذه الهبة مع أن الأمريكيين يقولون إنهم عرضوا على الحكومة أن تكتب أي شروط لقبول الهبة وما على معهد روكفلر سوى القبول.

والأستاذ برستد معروف بسعة ثقافته في الآثار القديمة في مصر وغير مصر، وكتابه «فتح الحضارة» من أبدع ما كُتِبَ في نشوء الحضارة الأولى، وهو لسعة ثقافته يدأب في المقابلات والمقارنات يقابل بين مصر ودنمركا أو بين مصر وبريطانيا أو بين مصر والأقطار الشرقية الأخرى، وهو لا يقول بعبارات صريحة إن مصر أصل الحضارة في العالم ولكن هذا هو ما يستنتج من العرض العظيم الذي يعرضه للقارئ من تاريخ الأمم المختلفة.

figure
باليسار خنجر مصري يليه خنجر إيطالي ثم خنجر وُجِدَ في جبال جورا ثم خنجر دنمركي وكلها منقولة عن المصري.

ونحن في هذا الفصل نعتمد عليه هو وحده وننقل من كتابه رسوم بعض الآثار القديمة التي تدل على أن المصريين هم الذين اخترعوا الحضارة، عرفوا الزراعة أولًا ثم اضطروا بحكم هذه الصناعة إلى اختراع سائر ملابسات الحضارة القديمة من دين وحكومة وآنية ومسكن وملابس وخبز وخمر … إلخ.

ولنبدأ بالخنجر المصري فنقول: إن المصريين كانوا قبل أن يعرفوا المعادن يشتركون مع سائر الشعوب في بداوتها في استعمال سكاكين الأحجار، يحفرون بها عن الجذور ويقتلون بها الوحوش، وهذه السكاكين توجد الآن مطمورة في جميع أنحاء العالم، ولكن لمَّا تَحَضَّرَ المصريون وعرفوا النحاس والبرونز صنعوا خناجرهم القديمة على مثال السكاكين الحجرية، ثم انتشرت هذه الصناعة وخرجت من مصر إلى أوروبا فصنع الأوروبيون خناجر هم على الطريقة المصرية، ثم اخترع الأوروبيون السيف وهو خنجر طويل.

واخترع المصريون حروف الهجاء وكانت تصويرية أولًا، ثم اختصرت الصور حتى صارت تؤدي ما تؤديه لنا حروف الهجاء، وقد اتجهت حضارة مصر نحو الشمال والشرق فشاعت الحروف المصرية؛ ولذلك نراها الآن في آثار جزيرة كريت بتعديل طفيف جدًّا لا ينكر أصلها المصري، وكما أخذ الكريتيون هذه الحروف من مصر كذلك أخذوا صناعة الفخار فنقلوا الطريقة المصرية في صنع الآنية حوالي سنة ٢٧٠٠ قبل الميلاد.

figure
حروف هيروغليفية مصرية «باليسار» نقلها سكان جزيرة كريت «باليمين» مع تنقيح طفيف.

وقد يمكن القارئ أن يعترض هنا فيقول بعكس ما يقوله الأستاذ برستد، وهو أن مصر نقلت صنع الخناجر المعدنية من أوروبا ونقلت حروف الهجاء وصنع الآنية من جزيرة كريت، ولكن هذا الاعتراض مردود؛ وذلك لأن للكتابة الهيروغليفية المصرية أصلًا مصريًّا واضحًا يتفق واللغة المصرية القديمة، ولكنه لا يتفق واللغات الأخرى التي استُعْمِلَتْ هذه الحروف، ثم إن تقدير الآثار يدل على السابق والمسبوق فيها دع عنك السذاجة التي نراها في المخترعات لأول اختراعها، ثم ما يطرأ عليها من تنقيح بالانتقال من قطر إلى آخر.

والإسفنكس الذي يسميه العامة «أبو الهول» من أقدم الآثار المصرية، وهو شيء مألوف في الكرنك، وهو حيوان له وجه إنسان، فعند أهرام الجيزة نرى الإسفنكس الكبير وأقدم الإسفنكسات وهو أسد له وجه إنسان، وفي الكرنك نرى كباشًا لها وجوه إنسانية وأحيانًا نجد للإسفنكس جناحًا فيجمع بين الدابة والطائر والإنسان، وقد أعجب القدماء بهذه الفكرة واعتقدوا أن الإسفنكس حقيقة لها وجود وقد دخل في ثقافة الإغريق، وكان هؤلاء يصنعونه بوجه امرأة وجسم حيوان، يعرض للناس ثم يلقي عليهم أحجية أي لغزًا شاقًّا فإذا لم يحلوه خنقهم، ولا بد أنه كان للإسفنكس المصري دلالة دينية؛ فإننا نجد للآن معبدًا حسنًا قريبًا منه عند الأهرام، وقد أخذه الفينيقيون والحيثيون والأشوريون وصاروا يزينون به الأثاث يصنعونه من العاج ويضعونه على طرف المائدة أو الكرسي.

figure
باليسار زهريات مصرية من الحجر وباليمين زهريات صُنِعَتْ في كريت نقلًا عن المصري.

وقد كان المصريون أول من عرفوا صناعة الزجاج وعنهم نقلته الأمم الأخرى، وما تزال آنيتهم تشهد بعبقريتهم في الصناعة، وقد كانوا يصنعون الآنية من الفخار النيئ أو المصهور، أو كانوا ينقرونها نقرًا في الحجر إذا كانت من المرمر العادي أو المرمر الشفاف «الألبستر» أو كانوا يصنعونها من الزجاج، وقد شاعت الآنية على الطراز المصري عند الأمم الأخرى لأنها نقلت عنه.

figure
إسفنكس صنع في أشور على الطريقة المصرية.
figure
قماقم للعطور من الزجاج، باليسار قمقم مصري وبالوسط قمقم بابلي وباليمين قمقم وجد في إيطاليا الشمالية، وكلها منقولة عن الطراز المصري.

وإذا شئنا أن نقول في أي شيء برع المصريون وتفوَّقوا على غيرهم من الأمم، فالجواب أنهم برعوا في الصناعة عامة وفي صناعة البناء والنحت خاصة، وقد أخذت الأمم ذلك عنهم، وقد وجد المصريون من وثنيتهم وتعدد آلهتهم أعظم ما يغري على بناء المعابد ونحت التماثيل، ولم يمت النحت ولم ينقرض المثالون إلا بعد التوحيد المسيحي والتوحيد الإسلامي، وكلاهما جعل من التمثال صنمًا يجب هدمه. وقد استطاع الأثريون أن يجدوا في تاريخ النحت الإغريقي ذلك الأساس المصري الذي قام عليه؛ فإن التماثيل الأولى صنعت على غرار التماثيل المصرية فكانت نقلًا صريحًا لم تتخلص من الفن المصري إلا بعد تنقيحات كبيرة، فمصر ألهمت العالم صناعة النحت وألهمت الإغريق هذه الصناعة الفريدة التي تفوقوا فيها وتَوَخَّوْا منها الجمال، بينما المصري كان يتوخى الحقيقة والعظمة الإلهية والهدوء الروحي، وقد ثبت أن الفن الهندي يرجع إلى إيحاء الإغريق الذين زرعوا بذرته في حملة الإسكندر المقدوني على الهند، وانتشرت هذه الصناعة من الهند إلى أنحاء آسيا بل انتقلت بعد ذلك إلى القارة الأمريكية.

figure
باليمين تمثال مصري قديم وباليسار تمثال إغريقي صنع على غرار المصري يحاكي وضعه في جميع الأعضاء.
figure
باليسار عمود مصري من الخشب وقد حلي بورق اللوتس، وبالوسط جزء من حائط في قصر نبوخذنصر في بابل وبه رسم اللوتس المنقول من مصر، وبأسفل رأسان لأعمدة إغريقية بها حلية اللوتس المصرية، وباليمين عمود إغريقي حدث به تنقيح كبير فلا يرى ورق اللوتس إلا في أعلاه وقد استحال إلى حلية جميلة.

وما حدث في النحت حدث أيضًا في البناء؛ فالمصريون هم الذين اخترعوا العمود ونقله الإغريق عنهم، والبرهان على هذا النقل أن المصريين استعملوا أوراق اللوتس المصري في تزيين الأعمدة، ولهذه الأوراق دلالة فنية ودينية عندهم، فنقل الإغريق هذه الحلية وليس لها هذه الدلالة.

فإذا تأمل القارئ هذه الرسوم وجد مصداق ما يقوله العلماء الآن، وهو أن المصريين أشاعوا الحضارة الأولى في العالم.

وقد ذكرنا الأدلة الحسية على نقل الحضارة المصرية إلى الشمال والشرق، ولسنا في حاجة لأن نذكر أن السودان الآن يحتوى على أهرام مثل الأهرام المصرية نقلها ملوك إثيوبيا عن مصر كما نقلوا معها العقائد والشعائر الدينية.

وأكبر تمثال للربة هاتور يوجد الآن في السودان، وملوك القبائل في إفريقيا قد تسربت إليهم الحضارة المصرية فمارسوا منها ما استطاعوا وما وافق مناخهم الحار، فالملك يعتبر إلى الآن عندهم من الآلهة كما كان الفراعنة عند أسلافنا.

وكذلك انتشرت عبادة رع «الشمس» عند أمم الشرق، وما يزال أثرها واضحًا في حفلة التتويج لإمبراطور اليابان، ومن الأقطار والجزر الواقعة في جنوب آسيا الشرقي انتقلت الحضارة إلى أمريكا الغربية فشملت القارة، والبراهين على ذلك كثيرة منها أن شعائر مصرية دينية كانت تُمَارَسُ في أمريكا الوسطى، ومنها تمثال لرأس فيل وُجِد في الشاطئ الغربي وليس في القارة الأمريكية فيلة، ومنها أن لفظة معزقة التي استعملت في أمريكا الجنوبية هي نفسها اللفظة التي استعملت في شرق آسيا الجنوبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤