مقدمة

ما يقدِّمه هذا الكتاب من مقالات١ هو تعبيرٌ عن موقفي من أوضاع سائدة لدينا في مجتمعاتنا العربية، تعطِّل نهضتنا وتمنعُنا من إطلاق طاقاتنا وقدراتنا الذاتية، هو كذلك دعوة لأن نُعِيد اكتشافَ ذاتنا وقدراتنا ومواردنا، وأن نفتح قلوبنا وأعيننا وعقولنا على كنوز نحوزها لكننا لا نراها؛ لأننا من فرط فقداننا لثقتنا في أنفسنا أصبحنا نرى بعيون غيرنا؛ فاغتربنا عن واقعنا وفَقَدْنا متعةَ الاكتشاف، ومن ثَمَّ القدرة على أن نقوم بدورنا وأمانتنا في النهوض بمجتمعاتنا.

في مقال «وَهْم نقل التكنولوجيا»، أحاوِلُ أن أزيل لَبسًا شديدًا وشائعًا بين فَهم التكنولوجيا كنشاط إبداعي وبين ناتج ممارسة هذا النشاط، الذي يتمثَّل في أساليبِ إنتاجٍ وعُدَدٍ وماكيناتٍ جديدة، كذلك أُنبِّه إلى خطورة وقوفنا موقف «الزبون» من دول الغرب، وإدماننا لاستيراد كل ما يحلو لنا من عُدَد وماكينات وأساليب إنتاج، متوهِّمين أننا بهذا قد نقلنا التكنولوجيا، كما أنبِّه إلى ضرورة بناء قدراتنا التكنولوجية الذاتية.

وفي مقال «الريف: منطلق لثورة صناعية خضراء»، أدعو إلى النظر إلى الريف لدينا كفرصة ذهبية للقيام بثورة صناعية صديقة للبيئة، تبدأ من الريف وتمتد إلى الحضر؛ وكفرصة لإطلاق إبداعنا الذاتي المبني على الفهم الشامل لمواردنا الزراعية، لاكتشاف مجالات جديدة لاستخدام هذه الموارد لتلبية احتياجات عصرية محليًّا وقوميًّا وعالميًّا، وبَلْوَرة الأساليب المناسبة لنا في الإنتاج.

وفي مقال «المعرفة التقليدية» أقدِّم تعريفًا لها؛ فالمعرفة التقليدية هي نتاج حضاري وحصيلة تاريخية لتفاعُل أبناء المجتمعات المحلية المختلفة لدينا مع بيئاتهم المحيطة ومع مواردهم المحلية، من أجل إشباع حاجاتهم الأساسية، وكذلك التعبير عن رؤاهم الحضارية وتلبية حاجاتهم الروحية. إنها معرفة حيَّة لأن النسيج الحضاري الحي للمجتمعات المحلية هو الذي يحوزها، وإنْ كان الوضعُ الراهن في مجتمعاتنا العربية يعمل على موت المعرفة التقليدية واختفائها؛ فإنني أراها كنزًا يتعيَّن علينا إعادةُ اكتشافه كشفرة حضارية Cultural code ولغة Software تعطينا توجُّهًا خاصًّا للفكر والخيال والإبداع الحضاري في اتجاهات مغايرة للنموذج الغربي السائد؛ وذلك من أجل بلورة/إبداع/اختيار مسارنا الخاص بنا في التنمية.

وفي مقال «لقاء تنمية المجتمعات الصحراوية»، حاولتُ أن أغطِّي — ممثلًا للمجتمعات الأهلية في مصر — ورشةَ العمل التي انعقدَتْ في الأردن في إطار برنامج دعم المشروعات القومية في دول الجزائر ومصر والأردن والمغرب وتونس، وهدف ورشة العمل: دَعْم علاقات التعاوُن عن طريق المشاركة في المعرفة والخبرات لتحسين الإدارة المستدامة للمجتمعات/الأنساق الحيوية الصحراوية؛ حيث تتعرَّض مناطق صحراوية عديدة لمخاطر التعدِّي البشرى والتغيُّر المناخي؛ مما يجعلها عاجزةً عن توفير المتطلبات الضرورية للتنمية الاجتماعية/الاقتصادية لسكانها، ولقد شمل اللقاءُ إدارةَ المراعي وزراعة النباتات الطبية والعطرية، وكذلك مشروعات الاستفادة من الطاقة الجوفية الحرارية.

من الناحية الوجدانية مثَّلَ لي لقاءُ عمَّان خبرةً ذاتية عميقة؛ فلقد شعرتُ بأنني بين أهلي من الأردن وتونس والمغرب وأننا — رغم اختلاف التخصُّصات، وأحيانًا لغة التعبير — ثقافة واحدة، وأن المياه على العمق واحدة وإنِ اختلفت على السطح! وأننا بلد واحد، وأن الحدود بيننا مُصطنَعة!

في مقال «استراتيجية للموارد المادية المتجددة»، أشير إلى تحوُّل عالمي في اتجاه الإبداع التكنولوجي، من الاتجاه لرفع إنتاجية العمالة إلى رفع كفاءة استخدام الموارد، ومن التحوُّل من الاعتماد على الموارد غير المتجددة إلى الاعتماد على الموارد المتجددة تمشيًا مع مبادئ الاستدامة، وأقصد بالموارد المادية المتجددة تلك الموارد ذات الأصل البيولوجي، التي تمثِّل مكوناتٍ لإحدى صور الحياة النباتية أو الحيوانية.

أقدِّم في هذا المقال تصنيفًا لهذه الموارد وميزاتها، كما أقدِّم منهجيةً للتعامُل معها من منطلق التنمية المستدامة، واختتم المقال بعرض تصوُّرٍ للملامح الأساسية للتعامل مع الموارد المادية المتجددة في المنطقة العربية.

في مقال «التصميم الواعي بيئيًّا وحضاريًّا واجتماعيًّا»، أتعرَّض للفهم الشائع للتصميم كعلاقةٍ بين طرفَيْن؛ المستهلك والمصمِّم، تبدو معزولة عن السياق البيئي/الحضاري/الاجتماعي وقصيرةَ الأمد جدًّا، وتنتهي في لحظة تسليم/بيع التصميم/المنتج. إنني أزعم أن التصميم — من الزاوية البيئية/الحضارية/الاجتماعية — أخطر من أن يُترَك للمصمِّمين وحدهم؛ لأن مسئولية التصميم تبدأ باختيار المواد وعمليات التصنيع ومَن سيقوم بالتصنيع وأين؟ وما الذي سوف يجري للمنتج/السلعة بعد انتهاء العمر الافتراضي؟ أي إن مسئولية التصميم تمتدُّ من المهد للَّحد عبر المراحل المختلفة لحياة المنتج/السلعة. واختُتِم المقال بتجربةٍ قمنا بها في التصميم الواعي بيئيًّا وحضاريًّا واجتماعيًّا لإنتاج أثاث عصري من جريد النخيل.

كتبتُ مقال «مستقبل الزراعة في الجنوب: رؤية مصرية» بعد أن أثارني جدًّا مقالُ الدكتور سمير أمين، بعنوان «مستقبل الزراعة في العالم»، الذي يتحدَّث فيه عن التوجُّهات المستقبلية لنمط الإنتاج الرأسمالي للزراعة في الدول المتقدمة، التي تسعى إلى احتكار النشاط الزراعي والتوسُّع والتخصُّص بلا حدود في إنتاج الحاصلات الزراعية، واللجوء للتعديل الوراثي للأصول النباتية لزيادة العائد الاقتصادي؛ مما سيؤدِّي إلى كارثةِ تصفيةِ الزراعة القروية في دول الجنوب، وخروج ٣ مليارات فلاح من المنافسة، فضلًا عمَّا يمثِّله ذلك من مخاطر على مستقبل الحضارة الإنسانية.

إنني أرى أننا بحاجةٍ إلى أن نبلور استجابة حضارية على ذلك التحدِّي، تبدأ باعتبار الريف (كما لدينا في مصر) وريثًا رئيسيًّا للقِيَم الحضارية على امتداد التاريخ المصري، وأنه يحمل تراثًا تقنيًّا يمثِّل ثروةً معرفية وتقنيةً هائلة لا تُقدَّر بثمن؛ نتميَّز بها ويمكن أن نوظِّفها في التنمية. إنني أدعو في هذا المقال إلى مقاومة تيار الزراعة الرأسمالية، من خلال إعادة اكتشاف موارد القرية والاستفادة من ميزاتها النسبية والتنافسية، وأن يكون لكل قرية منتجُها الذي تتميَّز به، وعلامتُها التجارية التي تحمل اسمها؛ هكذا نُعِيد انتماءَ أبناء القرية إليها، وتتحوَّل القرية إلى بؤرة إبداعٍ وجذبٍ لشبابها كقوة دينامية للنهوض بها.

في مقال «في بلادنا العربية: مَن العشوائي؟ المدينة العصرية أم القرية التقليدية؟» أطرح تساؤلًا يحيِّرني ولا أجد إجابةً جاهزة عندي: فنحن سكان الحضر (القاهرة على سبيل المثال) قد تعوَّدْنا على النظر من عَلٍ إلى القرية باعتبارها كيانًا عشوائيًّا متخلفًا، لكن الخبرة التي خرجتُ بها من دراستي لنمط المسكن العرايشي في شمال سيناء، قد أكَّدَتْ لي وضوحَ المنطق الاجتماعي/الحضاري/البيئي الثاوي خلف هذا النمط من البناء؛ فتصميم المبنى تعبير عن الكيان الذي يقطنه؛ أي الأسرة الممتدة، وعملية البناء يقوم بها النسيج الاجتماعي/الحضاري الحي، ونمط المسكن — في المواد المستخدَمة في بنائه (الطين والتبن) وفي تصميمه — متناغِم مع البيئة المحيطة، إنني لا أفهم — في المقابل — المنطقَ الحضاري/الاجتماعي/البيئي وراء بناء العمارات (المدن الرأسية) التي نقطنها في القاهرة مثلًا. أين تراثنا الحضاري والتقني في بناء المساكن وتخطيط المدن؟ أخشى أننا لم نتوصَّل إلى صيغة (أو صِيَغ) مستدامة للمعاصَرَة، كما أننا لم ننجح في الحفاظ على أهم ما يميِّزنا كبلدان وحضارة؛ قِيَمنا الحضارية وتراثنا التقني.

وفيما يتعلَّق بمقال «الأغنياء: إنهم يقودوننا على طريق الاستيراد»، فإنني قد كتبتُه تحت تأثير الصدمة التي حَدَثَتْ لي عندما علمتُ من بيانٍ جاءني من غرفة صناعة الأخشاب، أننا — مصر — قد استوردنا أخشابًا ومنتجاتٍ خشبيةً عام ٢٠١٤ بقيمة ١٫٥ مليار دولار، والقيمة المتوقَّعة لهذا التقدير عام ٢٠٥٠ هي ٥٤٫٤ مليار دولار!

رُشِّحتُ للقيام بدور الباحث الرئيسي لمشروع الاستفادة من مياه الصرف الصحي المعالَجَة (٥٫٥ مليار م٣) لزراعة ١٫٥ مليون فدان بالغابات الشجرية. اعتبرتُ هذا المشروعَ فرصةً لنا لإعادة الاعتبار للأخشاب المصرية — سواء أكانت مزروعةً بمياه الصرف الصحي أم مزروعةً بأي مياه أخرى — ولإتاحة الأثاث لغالبية المصريين بأسعار منخفضة؛ ومن ثَمَّ الحد من استيراد الأخشاب، إلا أنني صُدِمْتُ مرَّةً أخرى عندما أكَّدَ ممثِّلو الصناعات الخشبية أن الثقافة السائدة لدينا حاليًّا تُعلي من قيمة الأخشاب المستوردة مثل الأرو والزان، وتنظر بازدراءٍ إلى السلالات الخشبية المحلية، كالكازوارينا والكافور، باعتبارها «خامات الفقراء»؛ أدركتُ ساعتَها أننا أمام مشكلة حضارية تتمثَّل في تقليد الأغنياء لدينا للنموذج الغربي في الاستهلاك، ثم تحوُّل هذا النموذج إلى رمزٍ للتمايُز الاجتماعي، وتبنِّيه من قِبَل الشرائح الاجتماعية الأدنى. إن انبهارنا بالنموذج الغربي قد جعلنا نفقد الشعور بقيمتنا وقيمة كل ما نحوزه من تراث تقني وموارد محلية. هكذا بَدَا لي أن رحلتنا مع جريد النخيل من الزاوية الاجتماعية/الحضارية، تتمثَّل في أننا فتحنا مجالات لاستخدامه — كما في الأثاث العصري والباركيه — لشرائح اجتماعية أعلى، وأننا بذلك قد أزلنا «الوصمة» التي علقت به «كخامة للفقراء»؛ إنتاجًا وتصنيعًا واستهلاكًا.
كتبتُ مقال «الإبداع من أجل الفقراء» في سياق حصولنا كجمعية أهلية على منحة من وكالة التنمية السويدية في إطار برنامجها: «الإبداع في مواجهة الفقر». شعرتُ ساعتَها بأننا نمثِّل نشازًا في معزوفة البحث العلمي في مصر الذي يستجيب لقُوَى الشد، التي تمثِّلها الشرائح الاجتماعية الأعلى في بلادنا، وأن هناك طلبًا صامتًا على سلع وخدمات خاصة بشرائح اجتماعية أكثر احتياجًا، وغيرَ قادرٍ على التعبير عن نفسه سوقيًّا. إنني أزعم أن هناك حاجة ماسَّة لقُوَى دفعٍ تكنولوجي، تستطيع الوصول لذوي الحاجات من الشرائح الاجتماعية الأكثر احتياجًا، ومساعدتهم على ترجمة طلبهم الصامت إلى طلب فعَّال يستجيب له السوق؛ هنا يمثِّل الإبداع التكنولوجي ضرورةً لبناء جسر بين ذلك الطلب الصامت والسوق؛ وذلك وفقًا للقول الشائع «الضرورةُ أمُّ الاختراع»، ومن الأمثلة المعبِّرة عن ذلك التوجُّهِ الحاسبُ البسيط Simputer الرخيصُ الثمن، الذي تمَّ اختراعه في الهند ليناسب الإنسان العادي، المزوَّد ببرامج تسمح باستخدام اللغات المحلية في الهند (٢٢ لغة)، وتسمح بالتعرُّف على الخطوط اليدوية وبالتشغيل باللغة الشفاهية، كما أنه مصمَّم كي يعمل بنظام الكارت، ممَّا يسمح بمشاركة العديد من الأفراد وتأجيره؛ مما يجعله مناسبًا لقطاعات واسعة في المدن الصغيرة والقرى. أعود إلى المنحة التي حصلنا عليها لإقامة مشروع في واحدةٍ من أفقر ١١ قرية في محافظة المنيا، لتصنيع أثاث وباركيه وكارينة وعلف دواجن من جريد النخيل. لقد وجدنا أنفسنا في ثغرة إبداعية؛ ليس لأننا أكثر ذكاءً من غيرنا، بل لأننا وجَّهْنا اهتمامنا العلمي والتقني لأهل الريف والفقراء وعامة الناس، فدَفَعَنا هذا دفعًا للاهتمام بما يحوزونه من موارد — كجريد النخيل — في أيديهم، وأحيانًا تحت أرجلهم.

كتبتُ مقال «قُرَى الظهير الصحراوي كنموذج للهجرة المخططة» بعد أن شاركتُ في أول مشروع جديد لتطوير قُرَى الظهير الصحراوي؛ تلك القرى اﻟ ٣٩ التي ولدت فكرتها عام ٢٠٠٥ كفكرة مكانية صِرف، كما لو كان المطلوب مجرد إيجاد سكنٍ لأبناء الفلاحين في الصحراء، بديلٍ للبناء على الأرض الزراعية، أو مجرد إنشاء «قرى نوم» لهم! إنني أرى أن المشكلة أكبر بكثير من موضوع السُّكْنَى؛ فالقرى تضيق بأحلام وتطلُّعات الشباب الذين يتطلَّعون لأن يعيشوا حياةً أفضل من تلك التي عاشها أو يعيشها آباؤهم، ممَّا يدفعهم للهجرة عشوائيًّا إلى المدن التي تنمو أيضًا بشكل عشوائي تختلط فيه «مظاهر الحياة الحديثة» — المنقولة كما هي دون أي تعديل — مع العادات والتقاليد الموروثة دون أي تجديد، في مزيج غير متجانس وغير متوافق؛ أَلَا يدفعنا هذا إلى التفكير في نموذج جديد للهجرة المخطَّط لها من القرى؟ إنني أقترح أن نتعامل مع فكرة قرى الظهير الصحراوي تنمويًّا وليس جغرافيًّا/مكانيًّا، وأن نعطي اعتبارًا هامًّا لشباب الريف الذين يمثِّلون القوى الدينامية الحقيقية لقيادة تنمية القرية؛ القائمة والجديدة، وأن نسعى لبلورة نموذج جديد للتعايش مع الصحراء — وليس غزوها — متجاوزين نموذجَ وادي النيل. إننا بحاجة كذلك لتجاوُز النظرة القطاعية الضيقة في التعامُل مع الزراعة كنشاط أساسي للقرية، المطلوب هو تبني رؤية لأنشطة اقتصادية تتعامل مع الموارد الزراعية ككلٍّ وتتشابك حلقاتها — زراعة وصناعة وتجارة — محليًّا قدر الإمكان؛ مما يرفع القيمة المضافة والعائد التنموي إلى الحد الأعلى، ويسمح باكتشاف الميزات النسبية والتنافسية، واختيار المنتجات التي تتميَّز بها كلُّ قرية والعلامات التجارية التي يمكن أن تحوزها. إنني أدعو إلى بلورة نموذج تشارُكي للهجرة المخطَّط لها للقرية الجديدة، يضمن ملكيةَ أبناء القريةِ الأمِّ لمشروع إقامة القرية الجديدة، ومشاركتَهم الفعَّالة فيه بدءًا من بلورة الفكرة وحتى تنفيذ المخطَّط على الأرض، مع حَفْزِ إقامة كياناتٍ أهليةٍ تعبِّر عن القرية الأم وتمثِّلها، يتزامن نشوءُها ونموُّها مع ميلادِ ونموِّ القرية الجديدة، ممَّا يوفر أعلى ضمان لاستدامتها.

في مقال «التنمية الذاتية» أقدِّم تعريفًا للتنمية الذاتية بأنها عملية التحوُّل المستمرة للمجتمع المحلي، التي قد تبدأ بعوامل مساعِدة من خارج المجتمع، أو تكون نابعةً بالكامل من داخله، والتي تؤدِّي إلى إطلاق الطاقات الكامنة داخلَ المجتمع المحلي، وتنمِّي قدرته على التجدُّد الذاتي والنهضة؛ ومن ثَمَّ يتمكَّن من التعبير عن قِيَمه الحضارية المميزة، حتى لو اتخذت تلك القِيَم تعبيراتٍ جديدةً تتمشَّى مع ضرورات الحاضر ومتطلَّبات المستقبل؛ إنها دعوة للتخطيط من أسفل لأعلى، لمشاركة عامة الناس في التنمية، وإطلاقِ طاقات الناس وقدراتهم على التفكير والخيال والتعاون والعمل، ممَّا يفتح المجالَ للإبداع المحلي في كل مجالات الفعالية الإنسانية والنهوض الحضاري في كل مكان.

التنمية الذاتية تعني صناعة المناخ الذي يساعد كل إنسان وييسِّر عليه اكتشافَ أو إعادة اكتشاف ذاته، في سياقات اجتماعية متزايدة الاتساع، تبدأ من أصغر وحدة اجتماعية ينتمي إليها، فالمجتمع المحلي، فالقومي، فالإقليمي، وصولًا للعالَم أجمع. إنها دعوةٌ للخروج بالناس من حالة الغيبوبة والعجز والسلبية وانتظار الحلول الجاهزة، إلى المشاركة الفعَّالة في صنع واقعهم واستعادة دورهم كفاعلين ومعاصرين في سياق مجتمعاتهم المحلية؛ إنها تعني الاعترافَ بالتنوُّع في الظروف الإيكولوجية والخبرات التاريخية والثقافية والبِنَى الاجتماعية الحضارية للمجتمعات المحلية، وتوظيفَ ذلك التنوُّع والاستفادةَ منه؛ أولًا: لاكتشاف الميزات النسبية والتنافسية التي يتميَّز بها المجتمعُ المحلي كمنطلق لإقامة أنشطة اقتصادية ناجحة، وثانيًا: لإثراء التجربة التنموية على المستويات؛ القومي، والإقليمي، والعالمي.

١  تم نشر نسخة محرَّرة من هذه المقالات على موقع http://www.scidev.net/mena/.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤