النقد الخامس والثلاثون

٢٥ / ٢ / ١٩٥٣

تحدث الأستاذ راجي الراعي عن «عالم أفضل»، والأستاذ الراعي هو الكاتب الذي لم يزل يوشح الواقع ببرفير خياله المجنح، فتختال عبارته فيه، الراعي قاضٍ ملهم شغفته المثل العليا فاستلهم الحوادث التي يلمسها، وتخرج الأخلاق من معركتها ثخينة الجراح، يميل الأستاذ إلى الفلسفة ولكنه لا يحاول أن يفهم أو يُفهِّم إلا ما يمكن وقوعه، ومما يسلم به المنطق السليم، تسمع حديثه فتخاله جالسًا على القوس حيث يشجب ويبرر، وبعد أن يصول ويجول في موضوعه هذا يخلص إلى القول أن العالم الأفضل الذي تنشده الناس هو في نفوسنا، وقديما قيل: ابدأ بنفسك، أما الإلقاء، فجليل مفخم.

وتحدثت ندوة الشرق الأدنى عن المدرسة قديمًا وحديثًا، فشارك فيها الأستاذ بيبي بوصفه من المحاربين القدماء … هنا يحارب الأستاذ بإعلان، أما في غير هذا المقام فكان يشنها غارة شعواء، وبعدما رسم المتحدثون للمدرسة القديمة صورتها المعهودة راحوا يقابلون بين عقابها البدني وعقاب المدرسة الحديثة اللطيف، فخلصوا إلى القول أن التلميذ القديم كان يكره المدرسة ويأتيها مرغمًا، أما اليوم فهو يقبل عليها طائعًا مختارًا.

هذا صحيح؛ لأن تلاميذ اليوم يساسون برفق، ولكنه رفق على حساب العلم، إني أرى مدارس اليوم أمست محتاجة إلى الشدة، فللرفق حد معلوم، والحرية صارت فاضلة على الكفاية، فيجب أن يؤخذ الكثير منها، لقد أمسينا نحن التلاميذ والمعلمين نلقن التلاميذ دروسهم تلقينا، وهيهات أن يعوا ما سمعوا؛ لأن أفكارهم مشغولة بالمباريات الرياضية، والتظاهرات، والإضرابات …

وفي ركن روضة الشاعر سمعت قصائد الأستاذ عوض الوكيل، فكان خيرها قصيدته التي يقول فيها:

أَبُني تلك ملاعبي
وأنا كمثلكم صغير

ألم يكن الأفضل القول: وأنا نظيركم صغير؟ فيخلص من إدخال الشيء على مثله؟ أما القصيدة النونية فيغلب فيها النثر على الشعر، ناهيك أن عراف نجد وغيره من الصور القديمة البالية.

وتحدث الأستاذ عبد الحليم عباس عن «الأدب العربي الحديث» فظننا أنه سيجول في صميمه، فإذا به يطوف حواليه ولا يمسه، إن الأستاذ عبد الحليم لا يحسب للجيل الطالع حسابًا، فيذكرني بقول القدماء: فلان خاتم الشعراء، والحمد لله لم يختموا بعد! فلينعم الأستاذ عباس بالًا؛ فسوف يكون لكل فترة من فترات عصورنا الأدبية أدباء وشعراء، فالأدب والجمال لا نهاية لهما ما دامت النساء تحبل وتلد.

وبعد، فإن جل الأحاديث الأدبية صارت من عمل العادة لا الإرادة، العادة لا تأتي بالطريف، فليت من يعنيهم الأمر يسألون الكتاب التفكير قليلًا قبل التحبير، لقد أمسى البحث والإخراج في هذه الأحاديث مبتذلًا، كما لاحظت أنها أمست قليلة جدًّا ترجح عليها كفة البرامج … قد يكون هذا ناتجًا عن رغبة المستمعين الذين يفضلون الغناء البلدي على الحديث الرفيع والقصيدة الرائعة، ولكن لا يجوز أن ننسى الخاصة، فهم أيضًا من المستمعين الكرام.

وكان حديث مع طلبة الصيدلة المصريين الذين زاروا قبرص، فأنشدنا شاعرهم بيوتًا مكسرة لا يجوز أن تلقى في جلسة خاصة، فكيف يصح أن تلقى من محطة يصغي إلى صوتها الناطقون بالضاد في كل زاوية من زوايا المسكونة؟

وأمام الميكروفون قدمت السيدة مديحة نجيب السيدة عواطف هانم والي، كانت مقدمة الحديث فصيحة، ولما توغلت السيدتان فيه نهضت العامية من كل مجثم، الأفضل عندي أن نتكلم اللغة الوسط لتفهم عنا جميع الأوساط، وإلا فيكون الحديث لقطر دون سواه.

كانت أحاديث ليبيا طاغية على البرنامج، فقد غذته رحلة الأستاذ موسى دجاني أيما تغذية، فمن شخصية أسبوع ليبية إلى وصف جو وأرض، لقد كانت رحلة موسى بطوطية حقًّا حافلة بالمعلومات عن هذا القطر الشقيق. كانت مواد هذه الرحلة سريعة الهضم، وما ينقصها إلا شيء من مقبلات ابن بطوطة، فعسى أن يتحف الأستاذ مستمعيه بالطريف منها.

وفي ركن الأدب تحدث الأستاذ حسين مكي عن كتب ظهرت حديثًا، فكان يلف ويدور في حديثه، لا أكاد أقول: ها هو قد وصل حتى أراه ينثني ويعود أدراجه. نعم، إن للزمالة حقوقًا، ولكن للنقد حقوقًا أيضًا، وعندما تحدث عن ديوان للشاعر شفيق معلوف استحال راوية، والنقد غير الرواية.

أما القصتان، فكانتا مترجمتين، وما أخال الأستاذ نجاتي صدقي إلا أنه يريد أن يخلف طانيوس عبده في ترجمة الروايات، وحسنًا يصنع، كانت قصة البقرة كورديرا خيرًا من قصة الوارث، وإن كان هذا بشرًا وتلك بقرة. لقد شعرت بحيوية البقرة ومحبة أهلها لها أكثر من إحساسي بذاك، والفضل في هذا للكاتب الذي يخلع على شخوصه عواطف تحببها إلى القلوب، فتمسي البقرة خيرًا من البشر متى شاء المؤلف، أما أسلوب الترجمة فيحتاج إلى شد «البراغي» قليلًا.

إن طلاب اليوم يكتبون خيرًا مما يقرءون، هذا ما لحظته حين أصغيت إلى ركن الطلبة، قد يعذر من يقف أمام الميكروفون أول مرة؛ لأن لهذه الآلة هيبتها، ولكن على من يجول في معمعة أن يعد لها عدتها.

أما أغلاط هذين الأسبوعين فغير كثيرة، نلفت النظر إلى «حيث» فهي دائمًا مبنية على الضم، والاسم الذي يليها يكون دائمًا مرفوعًا؛ لأنها لا تضاف إلا إلى الجملة، أما «أمَّا» فربط جوابها بالفاء واجب، وقال أحدهم: موادٌ وهي موادُ لأنها ممنوعة من الصرف، وقال آخر: يهِب وهي يهَب بفتح الهاء، أما كلما فتنصب متى كانت ظرفًا، وتكتب ما متصلة، وإذا كانت «ما» التي تلي «كل» موصولية، فتكتب منفصلة، وتحرك كما يطلبها العامل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤