الصمت

أثناء الرحلة البحرية القصيرة بين خليج باكلي وجزيرة دينمان، نزلت جولييت من سيارتها ووقفت بمقدمة القارب، بينما يداعبها نسيم الصيف. تعرَّفت عليها امرأة تقف هناك، وشرعتا في التحدث؛ فقد اعتادت أن يحملق بها الناس قليلًا ويتساءلون أين رأوها، قبل أن يتذكروا، في بعض الأحيان؛ فهي تظهر دومًا على قناة بروفينشال تليفيجن؛ حيث تعقد مقابلات مع هؤلاء الذين حققوا إنجازات رائعة ومميزة في حياتهم، وتدير ببراعة نقاشات جماعية في برنامج يسمى قضايا العصر. كان شعرها قصيرًا الآن، أقصر ما يمكن أن يكون، واصطبغ بلون بني مائل إلى الحمرة، يلائم لون إطار نظارتها. وهي عادة ما ترتدي سراويل سوداء — مثلما تفعل اليوم — وقميصًا حريريًّا عاجيًّا، وفي بعض الأحيان سترة سوداء؛ فهي تطابق التشبيه الذي كانت والدتها تستخدمه: امرأة خاطفة للأبصار.

«أستميحكِ عذرًا. لا بد أن الناس يزعجونك دائمًا.»

قالت جولييت: «لا، مطلقًا، إلا إذا كنتُ قد وصلت لتوي لعيادة طبيب الأسنان أو شيء من هذا القبيل.»

كانت السيدة في نفس عمر جولييت تقريبًا؛ شعرها طويل وأسود يتخلله بعض الشعر الرمادي، ولا تضع مساحيق تجميل، وترتدي تنورة طويلة من قماش الدنيم القطني. كانت تعيش في دينمان؛ لذا سألتها جولييت عما تعرفه عن مركز الاتزان الروحي.

قالت جولييت للمرأة: «لأن ابنتي هناك. إنها معتكفة هناك أو تأخذ دورة دراسية، لا أعرف ماذا يسمون هذا. وهي هناك منذ ستة أشهر. إنها المرة الأولى التي أراها فيها منذ ستة أشهر.»

قالت السيدة: «هناك مكانان مثل هذا الذي تتحدثين عنه، وهما غير ثابتين. لا أقصد أن هناك أي شيء مريب بشأنهما؛ فكل ما في الأمر أنهما موجودان بالغابة، ومنفصلان عن المجتمع. حسنًا، فكيف كان يصبح اعتكافًا لو كان المكان متصلًا بالمجتمع المحيط به؟»

قالت لها السيدة إنها لا بد أن تكون متشوقة لرؤية ابنتها مرة ثانية، ووافقتها جولييت الرأي بشدة.

قالت السيدة: «أنا مدللة للغاية. إن ابنتي في العشرين من عمرها — في الواقع عيد ميلادها الحادي والعشرين في هذا الشهر — ونحن لا نفترق كثيرًا.»

قالت السيدة إن لديها ابنًا في العشرين من عمره، وابنة في الثامنة عشرة، وواحدة أخرى في الخامسة عشرة، وتمر بأيام ترغب فيها أن تغريهم بالمال مقابل أن يذهبوا للاعتكاف فرادى أو معًا.

ضحكت جولييت قائلة: «حسنًا، ليس لدي سوى ابنة واحدة. بالطبع، لن أستطيع أن أمنع نفسي من بذل قصارى جهدي لإعادتها معي، في غضون بضعة أسابيع.»

كان هذا النوع من أحاديث الأمهات الحنون المزعج في نفس الوقت هو ما تجد جولييت من السهل الانخراط به (فكانت جولييت خبيرة في الإدلاء بالإجابات المطمئنة)، ولكن الحقيقة هي أن بينيلوبي لم تفعل شيئًا تقريبًا يجعلها تشكو منها، وإن أرادت أن تكون صادقة للغاية في هذه اللحظة فإنها ستقول إنها لا تتحمل قضاء يوم واحد دون الاتصال بابنتها، ناهيك عن ستة أشهر. كانت بينيلوبي تعمل في بانف، كإحدى فتيات خدمة الغرف خلال الصيف، وذهبت في رحلات بالأتوبيس إلى المكسيك، وسافرت متطفلة إلى نيوفاوندلاند من خلال استيقاف السيارات، ولكنها ظلت تعيش دومًا مع جولييت، ولم يسبق أن انفصلا طيلة ستة أشهر.

«كان بإمكان جولييت أن تقول عنها: إنها تمدني بالبهجة؛ وليس هذا لأنها من تلك الشخصيات التي تنضح مرحًا وطربًا وتنظر دومًا للجانب المشرق من الأمور. فأتمنى أن أكون قد أنشأتها لتكون أفضل من هذا. إنها تتمتع باللباقة والعطف، وهي حكيمة كما لو كانت تعيش على هذا الكوكب منذ ثمانين عامًا. وهي شخصية تأملية وليست مشتتة مثلي. إنها كتومة بعض الشيء مثل أبيها، وهي أيضًا جميلة كالملائكة، إنها تشبه والدتي؛ فهي شقراء ولكنها ليست ضعيفة مثلها؛ إنها قوية ونبيلة. وهي منحوتة كتمثال المرأة الذي يقوم مقام عمود في مبنى. وعلى عكس المفاهيم الشائعة، أنا لا أشعر بالغيرة منها على الإطلاق؛ فطوال هذه الفترة التي قضيتها بعيدًا عنها — ودون أن أعرف عنها شيئًا؛ لأن الاتزان الروحي لا يسمح بإرسال خطابات أو إجراء مكالمات — أشعر وكأني في الصحراء، وعندما وصلتني رسالتها كنت مثل قطعة الأرض العطشى المشققة التي حصلت على جرعة ماء كاملة من المطر.»

•••

«أتمنى أن أراك في عصر يوم الأحد. لقد حان الوقت.»

كانت جولييت تتمنى أن يكون معنى هذا هو أنه قد حان وقت العودة للمنزل، ولكنها بالطبع ستترك هذا القرار لبينيلوبي.

•••

كانت بينيلوبي قد رسمت لها خريطة أولية، وسرعان ما أوقفت جولييت سيارتها أمام كنيسة قديمة. وقد كانت كنيسةً أُنشئت منذ خمسة وسبعين أو ثمانين عامًا، ومغطاة بجص الزخرفة، لم تكن في قدم أو إبهار الكنائس التي كانت موجودة في هذا الجزء من كندا الذي نشأت فيه جولييت. وخلفها كان يوجد مبنًى أحدث، ذو سقف منحدر ونوافذ تملأ الجزء الأمامي، وكانت مرفقةً به أيضًا منصة بسيطة ومقاعد خشبية للجلوس وما بدا أنه ملعب كرة طائرة يحتوي على شبكة متراخية. كان كل شيء رثًّا، وهذه الرقعة من الأرض التي كانت فيما سبق بلا حشائش وأشجار استعادتها أشجار الصنوبر والحور.

كان هناك شخصان — لم تستطع أن تميز ما إذا كانا رجلين أو امرأتين — يقومان ببعض أعمال النجارة فوق المنصة، وجلس آخرون على المقاعد الخشبية في مجموعات صغيرة منفصلة. كانوا جميعًا يرتدون ملابس عادية، وليس معاطف صفراء أو أي شيء من هذا القبيل. طوال بضع دقائق لم يلحظ أحد سيارة جولييت، ثم نهض شخص من الجالسين على المقاعد الخشبية وتوجه دون عجلة نحوها. كان رجلًا قصيرًا متوسط العمر يرتدي نظارة.

خرجت من سيارتها وحيَّته وسألت عن بينيلوبي. لم يتحدث — ربما كانت هناك قاعدة تلزمه بالصمت — ولكنه أومأ واستدار ودخل الكنيسة، وسرعان ما استطاعت أن ترى من مكانها، ليس بينيلوبي، ولكن سيدة بدينة تتحرك ببطء ذات شعر أبيض، ترتدي سروالًا من الجينز ومعطفًا فضفاضًا.

قالت: «شرفت بمقابلتك. تفضلي إلى الداخل. لقد طلبت من دوني إعداد بعض الشاي لنا.»

كان لها وجه عريض نضر، وابتسامة مرحة وحانية في الوقت ذاته، وما افترضت جولييت أنها لا بد وأن تكون عينين برَّاقتين. قالت: «اسمي جوان.» كانت جولييت تتوقع اسمًا مستعارًا مثل سيرينيتي (التي تعني سكينة بالإنجليزية)، أو اسمًا ذا طابع شرقي، وليس اسمًا بسيطًا ومألوفًا مثل جوان. ولاحقًا، بالطبع، تذكرت اسم البابا جوان.

قالت بنبرة لطيفة: «لقد جئتُ إلى المكان الصحيح، أليس كذلك؟ أنا غريبة عن دينمان. تعلمين أني جئتُ لمقابلة بينيلوبي؟»

«بالطبع، بينيلوبي.» أطالت جوان في نطق الاسم، مع تخلل صوتها نبرة احتفالية.

كان الجزء الداخلي من الكنيسة معتمًا بسبب القماش الأرجواني الذي غطَّى النوافذ العالية، وقد رُفعت المقاعد الخشبية الطويلة وأي أثاث آخر كان بالكنيسة، وكانت الستائر البيضاء البسيطة تتدلى لتشكل حجيرات خاصة، فيما يشبه أقسام المستشفيات. لكن الحجيرة التي دُلت جولييت إليها لم يكن بها فراش؛ فقط طاولة صغيرة ومقعدان من البلاستيك، وبعض الأرفف المفتوحة المكدس بها في غير نظام ورقٌ مبعثر.

قالت جوان: «أخشى أننا ما زلنا نُجري بعض الإصلاحات هنا يا جولييت. هل يمكنني أن أناديك جولييت؟»

«نعم بالطبع.»

«أنا لست معتادة على التحدث مع شخص مشهور.» عقدت جوان يديها أسفل ذقنها في وضعية تشبه وضعية الصلاة. «لا أعرف إذا ما كان ينبغي لي التعامل معك بطريقة رسمية أم لا.»

«لستُ شهيرة تمامًا.»

«بل أنت شهيرة. الآن لا تقولي أشياء كهذه. وسوف أعترف لك على الفور إلى أي مدًى أنا معجبة بأعمالك؛ إنها بمثابة الشعاع في الظلام. إن برنامجك هو البرنامج التليفزيوني الوحيد الذي يستحق المشاهدة.»

قالت جولييت: «شكرًا. وصلتني رسالة من بينيلوبي …»

«أعرف، ولكني آسفة لأني مضطرة أن أخبرك يا جولييت، ولا أريد منكِ أن تصابي بالإحباط … بينيلوبي ليست هنا.»

قالت السيدة هذه الكلمات — بينيلوبي ليست هنا — بأكبر قدر ممكن من الاستخفاف؛ فقد تظن أن غياب بينيلوبي يمكن أن يتحول إلى موضوع للتسلية؛ لإثارة بهجتهما في حوارهما المتبادل.

اضطرت جولييت أن تأخذ نفسًا عميقًا، ولم تستطع التحدث لدقيقة. تسرَّب الفزع إلى نفسها، إنه الحدس، ثم شرعت في جمع شتات نفسها للتفكير بطريقة عقلانية في هذه الحقيقة، وأخذت تفتش في حقيبتها.

«قالت إنها تأمل …»

قالت جوان: «أعرف، أعرف، كانت تنوي أن تكون هنا، ولكن الحقيقة أنها لم تتمكن …»

«أين هي؟ إلى أين ذهبت؟»

«لا أستطيع أن أخبرك بهذا.»

«لا تستطيعين أم أنك لا تريدين أن تخبريني؟»

«لا أستطيع. لا أعرف، ولكني أستطيع أن أخبرك بشيء قد يريحك. أيًّا كان المكان الذي ذهبت إليه، ومهما كان القرار الذي اتخذته، فإنه الشيء الصحيح بالنسبة لها؛ سيكون الشيء الصحيح بالنسبة لروحانيتها ونموها.»

قررت جولييت ألا تعلق على ما سمعته. أوقفتها كلمة روحانية، والتي تبدو وكأنها تشمل — كما تقول عادة — كل شيء بدءًا من عجلات الصلاة (في الحضارة الصينية القديمة) إلى القداس الاحتفالي. فلم تتخيل قط أن فتاة في ذكاء بينيلوبي قد تشارك في شيء كهذا.

قالت: «أعتقد أنني لا بد أن أعلم أين هي، في حال ما أرادت أن أرسل لها أيًّا من أشيائها.»

«مقتنياتها؟» بدت جوان وكأنها عاجزة عن قمع ابتسامة عريضة، بالرغم من أنها عدَّلتها على الفور برسم تعبير حانٍ على وجهها. «بينيلوبي لا تكترث الآن كثيرًا بمقتنياتها.»

في بعض الأحيان كانت جولييت تشعر، في منتصف مقابلة ما، أن الشخص الذي تحاوره لديه مخزون من العدوانية لم يكن ظاهرًا قبل تشغيل الكاميرا؛ شخص ما قد أبخسته جولييت حقَّه — بأن تعتقد أنه غبي مثلًا — قد يمتلك قوة من هذا النوع؛ عدائية مازحة وإن كانت قاتلة. وما كان عليها فعله هو ألا تُظهر أبدًا أنها مندهشة أو مرتبكة، ولا تنتهج بدورها سلوكًا عدائيًّا من أي نوع.

قالت جوان: «ما أعنيه بالنمو هو نمونا الداخلي بالطبع.»

قالت جولييت وهي تنظر في عينيها: «أتفهَّم هذا.»

«لقد سنحت لبينيلوبي فرصة عظيمة في حياتها كي تقابل أشخاصًا رائعين. يا إلهي، إنها لم تكن بحاجة لمقابلة أناس رائعين؛ فقد نشأت مع شخص رائع؛ والدتها. ولكن كما تعلمين، هناك دومًا بعدٌ مفقود؛ فالأولاد البالغون يشعرون دومًا أن هناك شيئًا مفقودًا …»

قالت جولييت: «آه، نعم. أعلم أن الأطفال بعد أن ينضجوا قد يشْكون من كل شيء.»

قررت جوان أن تكون صريحة.

«عليَّ أن أصارحك؛ إنه البعد الروحي، ألم تكن حياة بينيلوبي تفتقر تمامًا إلى الروحانية؟ أعتقد أنها لم تنشأ في منزل يملؤه الإيمان.»

«لم يكن الدين من الموضوعات المحظور مناقشتها. كان يمكننا التحدث بشأنه.»

أضافت في عطف: «لكن ربما كانت المشكلة في طريقة تحدُّثك عنه. طريقتك العقلانية؟ هذا إن كنتِ تدركين ما أعنيه. أنت ذكية للغاية.»

«حسنًا، هذا هو رأيك.»

أدركت جولييت أن أي سيطرة لديها على المقابلة، وعلى نفسها، بدأت في الترنح، وربما تكون قد فُقدت تمامًا.

«إنه ليس رأيي يا جولييت، إنه رأي بينيلوبي؛ فهي فتاة محبَّبة إلى النفس وتتمتع بالفراسة، ولكنها أتت إلى هنا وهي تشعر بنهم بالغ؛ نهم للأشياء التي لم تكن متاحة لها في المنزل؛ فأنتِ كنت مشغولة بحياتك الرائعة الناجحة … ولكنني يجب أن أخبرك يا جولييت أن ابنتك كانت تشعر بالوحدة. لقد عرفت طريقها إلى التعاسة.»

«ألا يمر معظم الناس بهذه المشاعر في مرحلة ما من عمرهم؟ الوحدة والتعاسة؟»

«لستُ الشخص الذي يمكنه معرفة ذلك. آه يا جولييت، أنت امرأة تملك بصيرة نافذة؛ فلطالما شاهدتُكِ بالتليفزيون، وكنت أتساءل كيف يمكنك الوصول لجوهر الأمور بهذه الطريقة وتعاملين الناس في الوقت نفسه بكل هذا العطف والأدب؟ لم أظن قط أنني سأتحدث إليك يومًا وجهًا لوجه. والأكثر من هذا، أنني سأكون في وضع يمكنني من مساعدتك.»

«أعتقد أنكِ ربما تكونين مخطئة بهذا الشأن.»

«أنت تشعرين أنك مجروحة. من الطبيعي أن تشعري بالجرح.»

«هذا شأني وحدي أيضًا.»

«آه حسنًا. ربما ستهاتفك بالرغم من كل شيء.»

•••

وقد هاتفتْ بينيلوبي جولييت بالفعل، بعد بضعة أسابيع؛ فقد تسلَّمت بطاقة تهنئة في يوم ميلاد بينيلوبي، التاسع عشر من يونيو، كان عيد ميلادها الحادي والعشرين، كانت من نوعية البطاقات التي ترسلها لأحد معارفك ممن لا تعرف أذواقهم؛ فهي لم تكن بطاقة بسيطة مازحة، ولا بطاقة تعكس فطنة وذكاء، ولا عاطفية. ففي الجهة الأمامية منها كان هناك صورة لباقة من زهور الثالوث مربوطة بشريط أرجواني والذي يشكل ذيله عبارة عيد ميلاد سعيد. وكانت هذه الكلمات مكررة بالداخل مسبوقة بعبارة أتمنى لك.

ولم يكن هناك توقيع. ظنَّت جولييت في البداية أن شخصًا ما أرسل هذه البطاقة لبينيلوبي، ونسي أن يوقِّعها، وأنها — جولييت — فتحتها على سبيل الخطأ. شخص لديه اسم بينيلوبي وتاريخ ميلادها في ملف ما. ربما يكون طبيب أسنانها أو معلم القيادة. ولكنها عندما فحصت الكتابة على الظرف، رأت أنه لم يكن هناك خطأ … فاسمها كان منسوخًا بخط يد بينيلوبي نفسها.

وأختام البريد لم تعد تدلُّك على أي شيء؛ فجميعها يقول بريد كندا. تراءى لجولييت أنه لا بد وأن هناك طرقًا لمعرفة من أي مقاطعة ورد الخطاب على الأقل، ولكن كي تفعل هذا، عليك سؤال موظفي مكتب البريد، الذهاب إلى هناك ومعك الخطاب، وعلى الأرجح سوف يسألونك بجدية عن سبب الاستفسار؛ مدى أحقيتك في معرفة هذه المعلومات، وسوف يتعرف عليها أحد لا محالة هناك.

•••

ذهبتْ لرؤية صديقتها القديمة كريستا، والتي كانت تعيش في ويل باي، عندما كانت هي الأخرى تعيش هناك، حتى قبل مولد بينيلوبي. كانت كريستا في كيتسيلانو، في دار رعاية المعاقين؛ فكانت تعاني من تصلب الشرايين المتعدد. كانت غرفتها بالطابق السفلي، وملحق بها فناء خاص صغير، وقد جلست جولييت معها هناك، وأخذت تنظر إلى المرج الصغير المشمس، ونبات الحُلوة اليانع الذي يغطي السور والذي حجب صفائح القمامة.

قصّت جولييت على مسامع كريستا قصة الرحلة إلى جزيرة دينمان كاملة، ولم تخبرها لأحد آخر، وتمنَّت لو أنها لم تضطر أن تخبر بها أحدًا. في كل يوم في طريق عودتها للمنزل من العمل كانت تتساءل ما إذا كانت بينيلوبي تنتظرها في الشقة، أو يكون قد وردها على الأقل خطابٌ منها. وبعد ذلك لم تجد سوى هذه البطاقة غير الحانية والتي فتحتها بسرعة بينما ترتعد يداها.

قالت كريستا: «إنه يعني شيئًا ما، إنه يحيطك علمًا أنها على ما يرام، سوف يتبع ذلك حدوث شيء ما، سوف يحدث هذا، فقط تحلي بالصبر.»

تحدثت جولييت بمرارة عن الأم شيبتون. هكذا أطلقت عليها في النهاية، بعد أن كانت تسميها البابا جوان أصبحت غير راضية عن هذا الاسم بعد أن فكرت فيه جيدًا. قالت، يا لها من امرأة مخادعة! فهي تخفي وراء واجهة دينية معسولة عديمة القيمة قدرًا كبيرًا من البغض والدناءة. من المستحيل تخيُّل أن بينيلوبي قد افتتنت بها.

اقترحت كريستا أن بينيلوبي ربما زارت المكان لأنها فكرت في كتابة شيء ما عنه؛ أحد أنواع الصحافة الاستقصائية، عمل ميداني، الزاوية الشخصية — ذلك العمل الشخصي طويل النفس الذي أصبح شائعًا اليوم.

قالت جولييت: «تجري تحقيقات لمدة ستة أشهر؟ إن بإمكان بينيلوبي فهم شخصية الأم شيبتون في عشر دقائق.»

اعترفت كريستا: «إنه أمر غريب حقًّا.»

قالت جولييت: «أنت لا تعلمين سوى ما تفصحين به، أليس كذلك؟ أكره حتى أنْ أسأل هذا السؤال. أشعر بالارتباك، أشعر بالغباء. هذه المرأة قصدت أن تُشعرني بالغباء، أشعر وكأنني في مسرحية كشخصية أفشت شيئًا ويدير الجميع لها ظهورهم لأنهم يعرفون شيئًا لا تعرفه.»

قالت كريستا: «مثل هذه الأنواع من المسرحيات لم يعد له وجود الآن. الآن ليس هناك من يعرف أي شيء، ولم تكن بينيلوبي لتأتمنني على شيء لم تأتمنك عليه؛ فلماذا تفعل وهي تعرف أنني سأخبرك بما أعرفه؟»

ظلَّت جولييت صامتة للحظات، ثم تمتمت في عبوس: «كانت هناك أمور لم تخبريني بها.»

قالت كريستا ولكن بدون إبداء أي عداء: «آه، يا إلهي! لا تفتحي هذا الموضوع مجددًا.»

وافقتها جولييت: «حسنًا، لن أفتح هذا الموضوع مجددًا. أنا في حالة مزاجية سيئة، هذا هو كل ما في الأمر.»

«فقط تماسكي. إن ذلك هو أحد اختبارات الأمومة. إنها لم تدعك تخوضين الكثير منها بالرغم من كل شيء. في خلال عام واحد ستكونين قد نسيتِ كل هذا.»

لم تخبرها جولييت أنها في النهاية لم تستطع أن ترحل بكرامة؛ فقد استدارت وصرخت في توسل وغضب.

«ما الذي أخبرتكِ به؟»

وقد وقفت الأم شيبتون ترقبها، كما لو أنها توقعت هذا، وارتسمت ابتسامةُ شفقة كبيرة على شفتيها المغلقتين وهي تهز رأسها.

•••

خلال العام التالي، كانت جولييت تتلقى مكالمات هاتفية، من حين لآخر، من معارف بينيلوبي، وإجابتها على استفساراتهم كانت واحدة دومًا؛ وهي أن بينيلوبي قررت أن تأخذ إجازة لمدة عام، لقد سافرت، وجدول سفرها كان غير محدد على الإطلاق، ولم تكن لدى جولييت وسيلة للاتصال بها، وليس لديها عنوان يمكنها إعطاؤه لأحد.

ولم يتصل بها أحد من أصدقائها المقربين؛ مما قد يعني أن المقربين لبينيلوبي كانوا يعرفون جيدًا أين هي، أو ربما هم أيضًا سافروا في رحلات لبلاد أجنبية، ووجدوا وظائف في مقاطعات أخرى، وبدءوا حيوات جديدة محمومة أو محفوفة بالمخاطر للغاية في الوقت الحاضر لدرجة لا تجعلهم يسألون عن الأصدقاء القدامى.

(والأصدقاء القدامى في هذه المرحلة من الحياة تعني شخصًا لم تَرَه منذ نصف عام.)

كلما دخلت جولييت المنزل، كان أول شيء تفعله هو تفقُّد الضوء الوامض على جهاز الرد الآلي — نفس الشيء الذي اعتادت تجنُّبه، معتقدة أنه سيكون هناك من يزعجها بشأن تصريحاتها العامة. كانت قد جرَّبت العديد من الحيل السخيفة، ذات الصلة بعدد الخطوات التي سارتها نحو الهاتف، وكيف رفعت السماعة، وكيف التقطت أنفاسها، وهي تقول في نفسها: «ليتها تكون هي.»

لم يُجدِ شيء نفعًا، وبعد فترة بدا العالم خاليًا ممن كانت بينيلوبي تعرفهم؛ الرفقاء الذين تركتهم وهؤلاء الذين تركوها، الفتيات اللاتي شاركتهن أحاديث النميمة وربما وثقت فيهن. كانت قد ارتادت مدرسة داخلية خاصة للبنات فقط تُدعى تورانس هاوس، ولم تذهب إلى مدرسة ثانوية حكومية، مما يعني أن معظم أصدقاء عمرها — حتى هؤلاء الذين ظلوا أصدقاءها في الجامعة — أتوا من خارج المدينة؛ فبعضهم من ألاسكا أو برينس جورج أو بيرو.

ولم تتلقَّ رسالة منها في الكريسماس، ولكن في يونيو، تسلَّمت بطاقة أخرى، تشبه كثيرًا سابقتها، بدون كلمة واحدة بالداخل. ارتشفت جولييت كأسًا من النبيذ قبل أن تفتحها، ثم ألقت بها بعيدًا على الفور. كانت تداهمها بين الحين والآخر نوبات من البكاء مع الارتجاف لا تستطيع أن تتحكم بها، ولكنها كانت تخرج من هذه الحالة إلى نوبات سريعة من الغضب؛ حيث تسير حول المنزل وهي تضرب بقبضة يدها على راحة اليد الأخرى. كان غضبها موجَّهًا إلى الأم شيبتون، ولكن صورة هذه السيدة ذوت في مخيلتها، وكان على جولييت أن تدرك في النهاية أنها المشجب الذي علَّقت عليه غضبها.

كل صور بينيلوبي كانت قد نقلت إلى غرفة نومها، بالإضافة إلى حزمٍ من رسوماتها ولوحاتها التي لوَّنتها بأقلام الشمع والفحم، والتي كانت قد رسمتها قبل مغادرة ويل باي، وكُتبها، وجهاز إعداد القهوة الأوروبي الذي يعد فنجانًا واحدًا والمزوَّد بكباس، والذي كانت قد اشترته كهدية لجولييت من أول راتب تقاضته من وظيفتها الصيفية في ماكدونالدز. وهناك مثل هذه الهدايا الغريبة التي وضعتها بالشقة؛ مثل المروحة البلاستيكية الصغيرة التي تلصق على الثلاجة، والجرار اللعبة ذي الزنبرك، والستارة من الخرز الزجاجي والمعلقة على نافذة دورة المياه. وقد ظل باب غرفة النوم مغلقًا، وبمرور الوقت أمكنها المرور من أمامه دون شعور بالانزعاج.

•••

فكَّرت جولييت كثيرًا في مسألة الرحيل من هذه الشقة؛ بحيث يعمل المحيط الجديد على تهدئة أعصابها، ولكنها قالت لكريستا إنه ليس في مقدورها القيام بهذا؛ لأنه هو العنوان الذي تعرفه بينيلوبي، ولا يمكن تحويل البريد إلا لثلاثة شهور فقط؛ لذا لن تستطيع ابنتها العثور عليها.

قالت كريستا: «يمكنها دومًا الذهاب إليك في العمل.»

قالت جولييت: «من يدري كم من الوقت سأظل هناك؟ إنها على الأرجح تعيش مع مجموعة غير مسموح لها بالتواصل مع الآخرين، وهم لديهم على الأحرى معلمٌ روحي يمارس الجنس مع كل النساء ويرسلهن إلى الشوارع كي يشحذن. لو كنت قد أرسلتها إلى فصول الآحاد الدينية وعلَّمتها كيف تتلو صلواتها، ما كان هذا ليحدث على الأرجح. كان يجب عليَّ القيام بهذا، كان يجب عليَّ. لربما كان هذا كاللقاح. لقد أهملت روحانيتها. الأم شيبتون هي من قالت هذا.»

•••

عندما كانت بينيلوبي بالكاد في الثالثة عشرة من عمرها، ذهبت إلى معسكر تخييم في جبال كوتيناي في بريتيش كولومبيا، مع صديقة لها من تورانس هاوس وأسرة الصديقة. راق هذا الأمر لجولييت؛ فلم تكن بينيلوبي قد أمضت سوى عام واحد في تورانس هاوس (التي قُبلت بها بتسهيلات مالية جيدة؛ لأن والدتها سبق لها التدريس هناك)، وقد سعدت جولييت بالرحلة؛ لأن بينيلوبي أنشأت بالفعل صداقة قوية مع صديقة وتقبَّلتها بسرعة أسرةُ صديقتها. كانت سعيدة أيضًا لأن ابنتها كانت ذاهبة إلى معسكر — وهو الشيء الذي كان الأطفال العاديون يفعلونه، ولكنها، أي جولييت، لم تُتَح لها الفرصة لفعله وهي طفلة. وليس معنى ذلك أنها كانت ترغب في هذا؛ حيث إنها كانت مدفونة وسط كتبها — ولكنها رحَّبت بأمارات تحوُّل بينيلوبي إلى فتاة طبيعية، بخلاف ما كانت هي عليه.

كان إيريك قلقًا من الفكرة برمتها، فظنَّ أن بينيلوبي كانت صغيرة على مثل هذه الرحلة. لم تَرُق له فكرة ذهاب بينيلوبي في رحلة مع أشخاص لا يعرف الكثير عنهم. وبما أنها تذهب إلى مدرسة داخلية فهما لا يرونها كثيرًا؛ فما الداعي لتقليص الوقت الذي يمضيانه معها؟

كان لدى جولييت سبب آخر؛ فقد أرادت إبعاد بينيلوبي في أول أسبوعين من الإجازة الصيفية؛ لأن الأمور لم تكن مستتبة بينها وبين إيريك؛ فأرادات أن تُحَل المشكلات بينها بين إيريك، ولكن ذلك لم يحدث. لم ترغب أن تدَّعي أن كل شيء كان على ما يرام؛ وذلك لأجل خاطر الطفلة.

أما إيريك على الجانب الآخر، فلم يكن يريد شيئًا سوى التلطيف من مشكلاتهما وإخفائها من الطريق. فوفقًا لطريقة إيريك في التفكير، فإن التحضُّر بوسعه إعادة المشاعر الطيبة، وأن التظاهر بالحب سيكون كافيًا للمضي قدمًا حتى يُعاد اكتشاف الحب نفسه. وإن لم يكن هناك أي شيء سوى مجرد التظاهر … حسنًا، فذلك سيفي بالغرض. يمكن لإيريك التعايش مع هذا.

فكَّرت جولييت في قنوط؛ نعم كان باستطاعته هذا.

ووجود بينيلوبي في المنزل كان سببًا يدفعهما لإحسان التصرف — يدفع جولييت لإحسان التصرف بما أنها هي من كانت، في رأيه، تستثير المشاحنات — كان هذا ليناسب إيريك تمامًا.

هكذا أخبرته جولييت، وخلقت مصدرًا جديدًا للمرارة واللوم؛ لأنه كان يفتقد بينيلوبي بشدة.

وكان السبب وراء شجارهما قديمًا وعاديًّا؛ ففي الربيع، ومن خلال تصريح تافه — والصراحة أو ربما تعمُّد الأذى من قِبَل إلو التي كانت تقطن بجوارهما منذ وقت طويل، والتي كانت تشعر بولاء تجاه زوجة إيريك المتوفاة ولديها بعض التحفظات إزاء جولييت — اكتشفت جولييت أن إيريك مارس علاقة مع كريستا. لطالما كانت كريستا صديقتها المقربة، ولكنها كانت قبل ذلك صديقة إيريك، وعشيقته (بالرغم من أن أيًّا منهم لم يعد يذكر هذا الأمر الآن)، وكان قد تركها عندما طلب من جولييت الانتقال لتعيش معه. كانت تعرف كل شيء عن كريستا في ذلك الحين، ولم يكن بوسعها الاعتراض على ما حدث في الوقت السابق لعلاقتها بإيريك. لم تفعل، لكن ما عارضته — وما ادعت أنه كسر فؤادها — هو ما حدث بعد ذلك (ولكنه حدث أيضًا منذ فترة طويلة كما قال إيريك)؛ فعندما كانت بينيلوبي تبلغ من العمر عامًا واحدًا، وكانت جولييت قد أخذتها وعادت بها إلى أونتاريو لزيارة والديها؛ كي تزور — كما كانت تشير دومًا الآن — والدتها التي كانت تحتضر، وعندما كانت بعيدة، وتشعر بالحب وبافتقاد إيريك من كل قلبها (فهي الآن تعتقد هذا)، عاود إيريك الانخراط في عاداته القديمة.

في البداية اعترف أنه فعل هذا مرة واحدة (لأنه كان ثملًا)، ولكن من خلال مزيد من الضغط، وبشرب الخمر والإلحاح بالمصارحة في التوِّ واللحظة، قال إنه ربما يكون قد فعل هذا أكثر من مرة.

ربما؟ ألا يستطيع التذكر؟ هل تكرَّر هذا الأمر كثيرًا حتى إنه لا يتذكر عدد المرات؟

كان يستطيع التذكر.

•••

أتت كريستا لزيارة جولييت كي تطمئنها أنه ليس ثمة شيء جاد بينهما (كانت تلك هي لازمة إيريك أيضًا)، فطلبت منها جولييت الرحيل وعدم الحضور لزيارتها مجددًا. قررت كريستا أن هذا هو الوقت المناسب للذهاب لزيارة شقيقها في كاليفورنيا.

وهذا الغضب الذي سلَّطته جولييت على كريستا كان في الواقع نوعًا من أنواع التصرفات الشكلية؛ فكانت تتفهم أن بعض اللقاءات الجنسية العابرة الخالية من المشاعر مع صديقة قديمة (على حد وصف إيريك الكارثي، ضمن محاولته غير الحصيفة للتقليل من شأن الأمور) لا تُعد ذات بالٍ على الإطلاق، ولا تشكل تهديدًا، كعناق دافئ لامرأة تعرَّفت عليها للتو. كذلك، كان غضبها من إيريك شرسًا، ولم تستطع كبته، ولم يترك مجالًا كبيرًا لإلقاء اللوم على أي أحد آخر.

وتمثَّلت ذريعتها في أنه لا يحبها، ولم يحبها قط، وأنه استهزأ بها، مع كريستا، من وراء ظهرها؛ فقد جعل منها أضحوكة أمام أشخاص مثل إلو (التي طالما كرهتها). لقد عاملها بازدراء، ونظر لحبها له (عندما كانت تحبه) بازدراء، وعاش معها كذبة. فلم يكن الجنس يعني أي شيء له، أو لم يعنِ بأي شكل من الأشكال ما يعنيه (أو ما كان يعنيه) لها، وأنه كان على استعداد لممارسته مع أي امرأة متاحة.

فقط الزعم الأخير من هذه المزاعم هو ما كان ينطوي على ذرة من الحقيقة، وكانت هي تدرك ذلك في فترات هدوئها، ولكن حتى هذه الحقيقة الصغيرة كانت كافية لتدمير كل شيء حولها. ما كان ينبغي لها أن تتسبَّب في هذا، ولكن هذا هو ما فعلته. ولم يكن إيريك قادرًا — بالفعل لم يكن قادرًا — على رؤية السبب في هذا. لم يكن مندهشًا من اعتراضها، وإثارتها للجلبة، بل وحتى بكائها (بالرغم من أن امرأة مثل كريستا لم تكن لتفعل هذا أبدًا)، ولكنه اندهش من شعورها بأنها قد دُمِّرت، ومن اعتقادها أنها حُرمت من كل ما كانت تستند إليه، ومن غضبها من شيء حدث منذ اثني عشر عامًا؛ فهذه الأمور لم يستطع فهمها.

في بعض الأحيان كان يعتقد أنها تتصنَّع كل هذا، أو أنها تبالغ وتستغل هذا الأمر، وفي أحيان أخرى يشعر بأسف حقيقي؛ لأنه جعلها تعاني بهذا الشكل. كان حزنهما يثيرهما، فكانا يستمتعان كثيرًا بممارسة الجنس. وفي كل مرة يعتقد أن المشكلة انتهت، وأن تعاستهما ولَّت لحال سبيلها. وفي كل مرة يكون مخطئًا.

في الفراش، كانت جولييت تضحك وتحكي له عن السيد والسيدة بيبس، اللذين كان يشتعل الحب بينهما في ظل ظروف مشابهة (منذ أن هجرت دراستها الكلاسيكية على نحو ما، كانت تقرأ بنَهَم، وفي هذه الأيام كان كل شيء تقرؤه يبدو أن له علاقةً بالزنا). قال بيبس إن ممارستهما الجنس لم تكن قط بمثل هذه الكثرة وبكل هذه الحرارة، بالرغم من أنه ذكر أن زوجته فكَّرت في قتله وهو نائم. ضحكت جولييت من هذا الأمر، ولكن بعد نصف ساعة عندما أتى إريك لتوديعها قبل أن يذهب إلى قاربه ليتفقد شراك القريدس، بدت متجهمة وقبَّلته في خنوع، كما لو كان ذاهبًا لمقابلة امرأة في منتصف الخليج وتحت السماء الممطرة.

•••

وكان هناك أكثر من مجرد المطر. ورغم أن الأمواج لم تكن متلاطمة عندما خرج إيريك للبحر، ولكن لاحقًا في فترة العصر هبَّت عاصفة فجائية من الناحية الجنوبية الشرقية وجعلت مياه ممر ديزوليشن ساوند المائي ومضيق مالاسبينا تموج. واستمرت حتى حلول الظلام تقريبًا — والذي لم يحلَّ حتى حوالى الساعة الحادية عشرة في هذا الأسبوع الأخير من يونيو. في ذلك الحين ثَمَّةَ مركب شراعي من كامبل ريفر كان مفقودًا، يحمل ثلاثة بالغين وطفلَيْن على متنه، وقاربا صيد آخران مفقودان؛ أحدهما يحمل رجلين والآخر لا يحمل سوى رجل واحد هو إيريك.

كان صباح اليوم التالي هادئًا ومشمسًا؛ فالجبال والمياه والشواطئ كانت جميعًا لامعة ومتلألئة.

وكان هناك احتمال بالطبع ألا يكون هؤلاء الأشخاص مفقودين، ربما قد وجدوا ملاذًا يحتمون به وأمضوا الليلة على أيٍّ من الخلجان الصغيرة التي لا حصر لها. ويمكن أن يكون هذا هو ما حدث مع الصيادين، ولكن ليس مع الأسرة في المركب الشراعي؛ لأن أفرادها لم يكونوا من السكان المحليين، ولكن جاءوا من سياتل لقضاء إجازة. خرجت القوارب على الفور، في ذلك الصباح، للبحث في البر الرئيسي وشواطئ الجزيرة والمياه.

كان أول ما عُثر عليه هما جثتَي الطفلين اللذين ماتا غرقًا، يرتديان سترات النجاة، وفي نهاية اليوم عُثر على جثتَي الوالدين أيضًا، ولم يُعثر على جثة الجد الذي كان بصحبتهما حتى اليوم التالي. ولم تظهر قط جثتا الرجلين اللذين كانا يصطادان معًا، بالرغم من أن بقايا قاربهما ظهرت بالقرب من ريفيودج كوف.

بينما عُثر على جثة إيريك في اليوم الثالث، غير أنه لم يُسمح لجولييت برؤيتها؛ فقالوا إن حيوانًا ما نهش جثته، بعد أن جرفتها المياه إلى الشاطئ.

وربما لهذا السبب — لأنه لم يكن بوسع أحد رؤية الجثة ولم تكن هناك حاجة لحانوتي — راودت فكرة حرق جثة إيريك على الشاطئ أذهانَ أصدقائه القدامى وزملائه من الصيادين. لم تعترض جولييت على هذا. كان لا بد من استخراج شهادة وفاة؛ لذا اتصل أحدهم بالطبيب الذي يأتي إلى ويل باي مرة في الأسبوع في عيادته في باول ريفر، وهو بدوره خوَّل إلو، مساعِدته الأسبوعية وممرضته المعتمدة، بفعل هذا.

ثَمة الكثير من الأخشاب المجروفة إلى الشاطئ، والعديد من اللحاء المتشرب بملح البحر، والذي يمكن إضرام نار ضخمة فيه. وفي خلال بضع ساعات كان كل شيء جاهزًا؛ فانتشرت الأخبار على نحو ما، وحتى دون أن يتاح لهن وقت كافٍ شرعت النساء بالقدوم وبحوزتهن الطعام. وكانت إلو هي من تتولى إدارة الأمور — فدماؤها الإسكندنافية، وقامتها المنتصبة، وشعرها الأبيض المنسدل، بدت جميعًا وكأنها تتلاءم طبيعيًّا مع دور أرملة البحر. كان الأطفال يركضون على الأخشاب، وكانوا يُبعدون عن الخشب المعد للمحرقة، وعن الكتلة النحيلة المكفنة التي كانت في أحد الأيام إيريك. قدَّمت النساء من إحدى الكنائس لهذا المرسم شبه الوثني القهوةَ، وتُركت صناديق البيرة وزجاجات المشروبات من كل نوع بحرص، في الوقت الحالي، في صناديق السيارات وكبائن الشاحنات.

تساءل الحاضرون من سيلقي كلمة ومن سيشعل المحرقة. سألوا جولييت: هل ستقومين بهذا؟ قالت جولييت — المكسورة والمشغولة في توزيع أقداح القهوة — إنهم لا يستوعبون الأمر؛ حيث إنها، بوصفها الأرملة، لا بد وأن تلقي بنفسها في ألسنة اللهب. ضحكت في الواقع وهي تقول هذا، وهؤلاء الذين طرحوا عليها السؤال تراجعوا؛ خوفًا من أن تصاب بحالة هستيرية. وافق الرجل الذي كان يصاحب إيريك في معظم رحلاته بالقارب أن يشعل النار، ولكنه قال إنه ليس خطيبًا جيدًا. خطر للبعض أنه لم يكن اختيارًا جيدًا بأي حال من الأحوال، بما أن زوجته كانت أنجليكانية إنجيلية، وربما شعر بضرورة قول أشياء كانت تثير استياء إيريك لو كان بإمكانه سماعها. ثم عرض زوج إلو أن يلقي الكلمة — وكان رجلًا قصيرًا شوَّه وجهَه حريقٌ اندلع في قارب منذ عدة سنوات، وهو اشتراكي كثير الشكوى وملحد — وفي أثناء خطبته انفلت منه خيط الحديث عن إيريك، فيما عدا أنه وصفه بالأخ في المعركة. ألقى خطبة طويلة على نحو أثار الدهشة، وفسَّر السبب وراء هذا بعد ذلك في حياة الكبت التي يعيشها في ظل تسلُّط إلو. ربما ظهر بعض التململ في الحشد قبل توقف سرده لشكاويه، شعورٌ ما بأن الحدث لم يكن عظيمًا أو مهيبًا أو مفجعًا كما كان متوقعًا، ولكن عندما أُضرمت النيران، ذوى هذا الشعور، وحدَّق الجميع بها، حتى الأطفال — أو هم على وجه التحديد — إلى تلك اللحظة التي صاح فيها أحد الرجال: «أخرجوا الأطفال من هنا.» كان هذا عندما وصلت ألسنة اللهب للجثة، وأدرك الجميع، إدراكًا متأخرًا بعض الشيء، أن احتراق الدهون والقلب والكليتين والكبد قد ينتج عنه أصوات فرقعة أو أزيز تتأذى الأذن من سماعها؛ لذا أبعدت الأمهات الكثيرَ من الأطفال، ومضى البعض بإرادته والبعض الآخر سيقوا على غير رغبتهم. وهكذا أصبح الجزء الأخير من عملية الإحراق طقسًا ذكوريًّا، ومخزيًا بعض الشيء، حتى إن كان في هذه الحالة قانونيًّا.

بقيت جولييت في مكانها وهي مذهولة من المشهد، تهتز في جلستها، بينما يواجه وجهها الحرارة. لم تكن حاضرة معهم بذهنها؛ فكانت تفكر في شخصية ما، أيا تُرى هي شخصية الروائي إدوارد جون تريلوني الذي انتزع قلب شيلي من ألسنة اللهب؟ القلب، وما يحمله من معنًى قديم. إنه لغريب حقًّا أنه حتى في هذا الوقت، ليس منذ فترة بعيدة للغاية، كان هذا العضو من الجسم يُعد ثمينًا للغاية، موضع الشجاعة والحب. لقد كان مجرد لحم يحترق. ليس هناك ما يربط كل ذلك بإيريك.

•••

لم تعرف بينيلوبي شيئًا مما كان يحدث. نُشر فقط خبر قصير في صحيفة فانكوفر — ليس عن إحراق الجثة على الشاطئ بالطبع، وإنما فقط عن الغرق — ولكن لم تكن تصلها أي صحف أو محطات إذاعية في أعماق جبال كوتيناي. وعندما عادت إلى فانكوفر، اتصلت بالمنزل، من بيت صديقتها هيذر. ردت عليها كريستا — التي كانت قد وصلت إلى المراسم متأخرة للغاية ولكنها بقيت مع جولييت وحاولت تقديم المساعدة قدر استطاعتها. أخبرتها كريستا أن جولييت ليست بالمنزل — كانت تكذب — وطلبت التحدث إلى والدة هيذر. أخبرتها بما حدث، وقالت إنها ستصطحب جولييت إلى فانكوفر، وإنهما سترحلان على الفور، وسوف تحادث جولييت بينيلوبي بنفسها عندما تصلان إلى هناك.

أوصلت كريستا جولييت إلى المنزل الذي تقيم فيه بينيلوبي، ودخلت جولييت وحدها. تركتها والدة هيذر في الغرفة المشمسة حيث كانت بينيلوبي تنتظرها. تلقَّت بينيلوبي الخبر في فزع ثم شعرت — عندما طوَّقتها جولييت بذراعيها بطريقة رسمية بعض الشيء — بالإحراج. فربما لا يمكنها استيعاب مثل هذا الخبر الرهيب في منزل هيذر، في الحجرة المشمسة المطلية باللون الأبيض والأخضر والبرتقالي، أثناء ممارسة أشقاء هيذر كرة السلة في الفناء الخلفي. ولم تأتِ على ذكر عملية الحرق — فسيكون مثل هذا الأمر غير متحضر وغريب في هذا المنزل وفي هذا الحي. في هذا المنزل أيضًا اتصف سلوك جولييت بالخفة والنشاط دون عمد — وكاد أن يكون سلوكًا مرحًا.

دخلت والدة هيذر بعد أن طرقت الباب طرقة صغيرة وهي تحمل أكوابًا من الشاي المثلج. ارتشفت بينيلوبي مشروبها وذهبت لتنضم لهيذر التي كانت تنتظر في الردهة.

تحدَّثت والدة هيذر بعدها مع جولييت، اعتذرت لاضطرارها التدخل في أمور عملية، ولكنها قالت إن الوقت محدود؛ فهي ووالد هيذر سيسافران في غضون أيام قليلة شرقًا لرؤية بعض الأقارب، وسيتغيبان لمدة شهر، وقد خططا لاصطحاب هيذر معهما (بينما سيذهب الفتيان إلى معسكر). ولكن هيذر قررت الآن أنها لا تريد الذهاب، وتوسَّلت لهما كي يتركاها في المنزل مع بينيلوبي. ولا ينبغي ترك فتاتين، إحداهما في الرابعة عشرة من عمرها والأخرى في الثالثة عشرة، وحدهما في المنزل، وقد خطر لها أن جولييت ربما تود قضاء بعض الوقت بعيدًا عن منزلها؛ فترة استرخاء، بعد كل ما مرت به، وبعد فقدانها لزوجها وهذه المأساة التي عاشتها.

وهكذا وجدت جولييت نفسها تعيش لفترة وجيزة في عالم مختلف، في منزل ضخم لا عيب فيه، ومطلي بعناية وبألوان براقة، لديها كل ما يُسمى بوسائل راحة — التي كانت وسائل ترف بالنسبة لها — في كل مكان. كان المنزل يقبع بشارع متعرج تصطف على جانبَيْه المنازل المتشابهة، وتوجد أمامه شجيرات مشذبة وأحواض كثيرة لزهور رائعة. حتى الطقس، في هذا الشهر، كان جميلًا — دافئًا وعليلًا ومشرقًا. كانت هيذر وبينيلوبي تذهبان للسباحة، وتلعبان تنس الريشة في الفناء الخلفي، وتذهبان للسينما، وتخبزان الكعك، وتأكلان الطعام بنَهَم، وتتبعان حميات غذائية، وتكتسبان سمرة، وتملآن المنزل بموسيقى بدت كلماتها لجولييت حمقاء ومزعجة، وفي بعض الأحيان كانتا تدعوان صديقاتهما إلى المنزل، ولم تدعوا الفتيان، ولكنهما كانتا تخوضان محادثات طويلة تهكمية غير هادفة مع بعض الفتيان ممن يمرون بالمنزل أو يجتمعون في المنازل المجاورة. ومن قبيل المصادفة، سمعت جولييت بينيلوبي تقول لواحدة من صديقاتها التي كانت تزورها: «حسنًا، لم أكن أعرفه جيدًا في الواقع.»

كانت تتحدث عن أبيها.

يا له من أمر غريب!

وهي التي لم تخشَ قط الذهاب في رحلة بالقارب، كما كانت جولييت، عندما تكون الأمواج متلاطمة. كانت تضغط عليه كي يأخذها معه، وعادة ما كانت تلاقي محاولاتها النجاح. وعندما كانت تتبع إيريك، وهي ترتدي معطف النجاة البرتقالي الذي يشبه معاطف العمل، حاملة ما تستطيع حمله من أدوات، كانت ترسم على وجهها دومًا تعبيرًا بالجدية والتفاني. كانت تلاحظ بعناية أماكن الأشراك وصارت ماهرة وسريعة وجريئة في فصل رأس القريدس وتعبئته في أكياس. وفي مرحلة معينة من مراحل طفولتها — من الثامنة إلى الحادية عشرة تقريبًا — كانت تقول طوال الوقت إنها ستذهب لصيد الأسماك عندما تكبر، وأخبرها إيريك أن هناك فتيات يفعلن هذا في أيامنا هذه. فكَّرت جولييت أن هذا ممكن، بما أن بينيلوبي كانت ذكية وليست مولعة بالكتب، بالإضافة إلى أنها تتمتع بلياقة جسدية وشجاعة. ولكن إيريك كان يقول، من وراء بينيلوبي، إنه يتمنى أن تنسى هذا الأمر بمضي الوقت؛ لأنه لا يتمنى مثل هذه الحياة لأحد؛ فكان يتحدث دومًا عن صعوبات ومخاطر العمل الذي اختاره، ولكنه كان يفتخر، كما ظنَّت جولييت، بنفس هذه الأمور.

والآن نسيت بينيلوبي والدها الذي ملأ حياتها؛ فها هي قد طلت أظافر قدميها مؤخرًا باللون الأرجواني، ورسمت وشمًا غير حقيقي على بطنها. لقد أخرجته تمامًا من حياتها.

ولكن جولييت شعرت وكأنها تفعل الشيء نفسه. بالطبع؛ فهي مشغولة في البحث عن وظيفة ومكان تسكن فيه. فقد عرضت بالفعل منزلهم في ويل باي للبيع — فلم تتخيل بقاءها هناك — وقد باعت الشاحنة وتبرعت بأدوات إيريك، والشراك التي استُعيدت، وزورقه. وقد أتى ابن إيريك البالغ من ساسكاتشيوان وأخذ الكلب.

تقدَّمت لوظيفة بقسم المراجع في مكتبة الجامعة، ووظيفة في المكتبة العامة، وراودها شعور أنها ستحصل على إحداهما. بحثت عن شقة في كيتسيلانو أو دنبار أو بوينت جراي. وقد ظلت نظافة ونظام ومرونة المدينة تبهرها؛ ففي المدينة يعيش الناس دون أن يضطر الرجل للعمل في الأماكن المفتوحة، وحيث لا يضطر أن يقوم بالمهام العديدة المتعلقة بعمله داخل منزله، وحيث يكون الطقس عاملًا يؤثر ربما على حالتك المزاجية ولكن ليس على حياتك بأكملها، وحيث لا تعد موضوعات رهيبة مثل العادات المتغيرة للقريدس والسلمون وتوافرهما من الموضوعات المثيرة، أو حتى من الموضوعات التي تُثار على الإطلاق؛ فالحياة التي كانت تعيشها في ويل باي، منذ فترة ليست ببعيدة، بدت عشوائية وفوضوية ومرهقة مقارنة بالحياة في المدينة. وقد تخلصت هي أيضًا من الحالة المزاجية التي لازمتها في الشهور الماضية؛ فكانت مفعمة بالحيوية وبدت أقوى وأكثر جمالًا.

لا بد أن يراها إيريك الآن.

كانت تفكر في إيريك على هذا النحو طوال الوقت؛ لم يكن الأمر أنها فشلت في أن تدرك أنه مات، فهذا لم يحدث للحظة واحدة، ولكنها ظلت تشير إليه طوال الوقت في عقلها وكأنه لا يزال الشخص الذي يهمه وجودها أكثر من أي شخص آخر، كما لو أنه لا يزال الشخص الذي تمنَّت أن تلمع دومًا في عينيه، وأيضًا الشخص الذي تجادله وتقدم له المعلومات والمفاجآت. كانت تلك هي إحدى عاداتها التي كانت تحدث تلقائيًّا … فحقيقة موته لم تبدُ وكأنها لها دخل في الأمر.

كما أن خلافهما الأخير لم يُحلَّ على نحو كامل؛ فهي لا تزال تلومه لخيانته. وعندما كانت تتباهى بنفسها الآن؛ فذلك لأنه فعل هذا بها.

العاصفة، العثور على الجثة، المحرقة على الشاطئ؛ كل هذه الأمور كانت شبيهة بالموكب الذي كانت مضطرة لمشاهدته وتصديقه، والذي لا يزال لا صلة له بها أو بإيريك.

•••

حصلت على الوظيفة بقسم المراجع بالمكتبة، ووجدت شقة مكونة من حجرتين تستطيع دفع إيجارها، وعادت بينيلوبي إلى تورانس هاوس كطالبة نهارية. جميع شئونهما في ويل باي كانت متوترة، وقد انتهت حياتهما هناك. حتى كريستا كانت ستنتقل إلى مكان آخر، وسوف تأتي إلى فانكوفر في الربيع.

في يوم ما قبل هذا، في أحد أيام شهر فبراير، كانت جولييت تقف تحت المظلة في محطة الحرم الجامعي بعد انتهائها من عملها بعد الظهيرة. كان المطر قد توقف ذلك النهار، وكانت هناك رقعة من السماء الصافية ناحية الغرب، والتي كانت حمراء حيث غربت الشمس فوق مضيق جورجيا. وقد كان لهذه الإشارة على زيادة طول النهار، وأمارات تبدُّل الموسم، تأثير غير متوقع ومدمر عليها.

لقد أدركت أن إيريك قد مات.

طيلة تلك المدة عندما كانت في فانكوفر بدا الأمر كما لو أنه كان ينتظر في مكان ما؛ ينتظر ليرى ما إذا كانت ستواصل حياتها معه، كما لو أن البقاء معه كان خيارًا لا يزال متاحًا؛ فهي تعيش حياتها منذ أن أتت إلى هنا دون أن تسدل الستار على إيريك، دون أن تتفهم تمامًا أن إيريك لم يعد له وجود، لم يعد متبقيًا منه شيء؛ فقد ذوت ذكراه في العالم اليومي والعادي.

إذن هذا هو الحزن. فشعرت كما لو أن جوالًا من الأسمنت قد سُكب فوقها وسرعان ما تحجَّر. استطاعت الحركة بالكاد. صعدت إلى الحافلة ثم هبطت منها، وقطعت مسافة قصيرة حتى منزلها (لماذا تقطن هنا؟) تشبه تسلُّق جرف. والآن لا بد وأن تخفي هذه المشاعر عن بينيلوبي.

وعلى طاولة العشاء بدأت ترتعد، ولكنها لم تستطع فتح أصابعها لإسقاط السكين والشوكة. استدارت بينيلوبي حول الطاولة وفتحت يديها بصعوبة. قالت: «إن لهذا علاقة بأبي، أليس كذلك؟»

قالت جولييت بعد ذلك لعدد قليل من الناس — مثل كريستا — إن تلك الكلمات كانت الأكثر تحريرًا من شعورها بالذنب والأكثر عطفًا، والتي سبق وأن سمعتها من أي شخص.

راحت بينيلوبي تدلِّك ذراعَي جولييت من الداخل لأعلى وأسفل، واتصلت بالمكتبة في اليوم التالي وأخبرتهم أن والدتها مريضة، وظلت تعتني بها لبضعة أيام؛ حيث تغيبت عن المدرسة حتى تعافت جولييت، أو حتى انتهى، على الأقل، الجزء الأسوأ من الأمر.

وخلال هذه الأيام أخبرت جولييت بينيلوبي بكل شيء؛ أخبرتها عن كريستا، والشجار، والمحرقة على الشاطئ (وهو الأمر الذي استطاعت أن تخفيه عنها، بما يشبه المعجزة). أخبرتها بكل شيء.

«ما كان يجب أن أُثقل كاهلك بكل هذا.»

قالت بينيلوبي: «آه، حسنًا، ربما لا.» ولكنها أضافت برباطة جأش: «أسامحك. أعتقد أنني لست طفلة.»

عادت جولييت إلى العالم، وتكررت ثانية هذه النوبة التي داهمتها في محطة الحافلة، ولكن ليس بمثل هذه القوة.

أثناء عملها البحثي في المكتبة، قابلت بعض العاملين في قناة بروفينشال تليفيجن، وقبلت بالوظيفة التي عرضوها عليها. ظلت تعمل هناك قرابة العام قبل أن تبدأ في عقد مقابلات؛ فكل هذه الكتب العشوائية التي قرأتها طوال سنوات (والتي لم تكن تحظى بإعجاب إلو في الأيام التي قضتها في ويل باي)، وكل هذه المعلومات التي اكتسبتها، وذوقها العشوائي واستيعابها السريع، باتت أمورًا أسدتها كثيرًا من النفع الآن. كذلك فإنها نمَّت لديها شعورًا بالتواضع وأسلوبًا استفزازيًّا بعض الشيء بدا أنه يساعدها في عملها. وأمام الكاميرا، لم يكن يقلقها أي شيء تقريبًا. بالرغم من أنها عندما تعود للمنزل، فإنها تذرعه جيئة وذهابًا، منفِّسة عن تشنجاتها أو سبابها عندما تتذكر خطأً أو ارتباكًا ما أو ما هو أسوأ؛ خطأً في النطق.

•••

وبعد خمس سنوات، لم تعد تتلقى بطاقات التهنئة بعيد الميلاد.

قالت كريستا: «إنها لم تكن تعني شيئًا؛ إذ كان الغرض من كل البطاقات السابقة هو إخبارك بأنها على قيد الحياة في مكان ما، وهي تتصور الآن أنكِ فهمت المقصود، وتثق في أنك لن ترسلي أحدًا للبحث عنها. هذا هو كل ما في الأمر.»

«هل أثقلت كاهلها بالكثير؟»

«يا إلهي يا جولييت.»

«لا أقصد وفاة إيريك فحسب؛ أعني الرجال الآخرين الذين عرفتهم لاحقًا. لقد جعلتها تشهد الكثير من التعاسة. تعاستي الحمقاء.»

كانت جولييت قد دخلت في علاقتين عاطفيتين خلال ست سنوات منذ أن كانت بينيلوبي في الرابعة عشرة من عمرها وحتى أصبحت في الحادية والعشرين، وقد استطاعت في كلٍّ منهما أن تقع في الحب بجنون، بالرغم من أنها كانت تشعر بالخزي بعد ذلك. أحد الرجلين كان يكبرها بسنوات عدة، وكان متزوجًا وينعم بالاستقرار في زواجه، والآخر كان يصغرها كثيرًا، وأفزعته مشاعرها المتأججة. وقد أدهشتها حقًّا هذه المشاعر التي راودتها عندما فكرت فيها لاحقًا. قالت إنها لم تكن تكترث لأمره كثيرًا.

قالت كريستا التي كانت متعبة: «لا أعتقد أنك اهتممت لأمره، لا أعرف في الواقع.»

«يا إلهي، كم كنت حمقاء! لم تعد تراودني مثل تلك المشاعر إزاء الرجال، أليس كذلك؟»

لم تُشِر كريستا إلى أن ذلك ربما يكون بسبب عدم تودد الكثيرين لها.

«بلى يا جولييت.»

قالت جولييت بعدما صارت أكثر ابتهاجًا: «في الواقع لم أفعل شيئًا سيئًا للغاية. لماذا أنتحب طوال الوقت معتقدة أنه خطئي؟ إنها فتاة غامضة ملغزة، هذا هو كل ما في الأمر. لا بد أن أواجه هذه الحقيقة.»

ثم أضافت في تصميم: «غامضة وملغزة وباردة المشاعر.»

قالت كريستا: «لا.»

قالت جولييت: «لا، ليس صحيحًا.»

وبعد أن مرَّ شهر يونيو الثاني دون أن يَرِدها شيء من ابنتها، قررت جولييت أن ترحل؛ فطوال الخمس سنوات الأولى ظلت تخبر كريستا أنها تنتظر مجيء شهر يونيو، متسائلة ما الذي قد يحدث في ذلك الحين؟ فكان عليها التفكير كل يوم بالنظر إلى ما آلت إليه الأمور الآن. ولا يتغير شعورها بالإحباط كل يوم.

انتقلت إلى مبنًى متعدد الطوابق في ويست إند. أرادت أن تتخلص من محتويات غرفة بينيلوبي، ولكنها في النهاية جمعتها كلها في أكياس القمامة وأخذتها معها. لم يكن لديها سوى غرفة نوم واحدة الآن، ولكن كان هناك مكان للتخزين في القبو.

بدأت تمارس الركض في متنزه ستانلي. والآن لم تعد تأتي تقريبًا على ذكر بينيلوبي، حتى لكريستا. وقد أصبح لديها صديق حميم — هكذا يسمونهم الآن — والذي لم يسبق له أن سمع شيئًا قط عن ابنتها.

صارت كريستا أكثر نحافة ومتقلبة الحالة المزاجية؛ وفجأة، في يناير، ماتت.

•••

لا يستمر الظهور على التليفزيون للأبد؛ فمهما راق وجهك للمشاهدين، يأتي وقت يفضلون فيه شخصًا مختلفًا. عُرضت وظائف أخرى على جولييت؛ منها إجراء أبحاث، أو كتابة التعليق الصوتي للبرامج التي تهتم بالطبيعة، ولكنها رفضتها وهي مبتهجة، واصفة حالها بأنها في حاجة لتغيير جذري. عادت إلى دراستها الكلاسيكية، وقد تراجع حجم القسم عما كان عليه، ورغبت في كتابة رسالة الدكتوراه. ثم انتقلت من شقتها في المبنى متعدد الطوابق إلى شقة مكونة من غرفة واحدة لتوفير المال.

بينما حصل صديقها على وظيفة مدرس في الصين.

كانت شقتها تقع في قبو أحد المنازل، ولكن الأبواب المنزلقة في الخلف كانت تؤدي إلى الطابق الأرضي. وهناك كان لديها فناء ممهد بالحجارة، وتعريشة تضم البازلاء الحلوة وياسمين البر، وأعشاب وزهور في أصص. وللمرة الأولى في حياتها، وعلى نحو محدود للغاية، اهتمت بالبستنة كما فعل والدها.

في بعض الأحيان، يستوقفها الناس — في المتاجر أو في حافلة الحرم الجامعي — «عذرًا ولكن وجهك مألوف.» أو «أوَلستِ السيدة التي كانت تظهر في التليفزيون؟» ولكن بعد عام تقريبًا لم تعد تمر بهذه المواقف. أمضت كثيرًا من الوقت في الجلوس والقراءة وشرب القهوة على طاولات المقاهي على جوانب الطرقات، ولم يكن أحد يلاحظها. تركت شعرها ينمو؛ فخلال السنوات التي ظلت تصبغه فيها باللون الأحمر فقد الحيوية التي كان يستمدها من لونه البني الطبيعي؛ كان بنيًّا مشوبًا بالفضي الآن، جميلًا ومتموجًا. لقد ذكَّرها بوالدتها سارة. شعر سارة الناعم الجميل المتطاير والذي صار رماديًّا ثم أبيضَ.

لم تعد لديها مساحة كافية كي تدعو الناس للعشاء، وكذلك فقدت اهتمامها بوصفات الطبخ. كانت تتناول الوجبات المغذية بالقدر الذي يكفي ولكنها مملة. ودون أن تتعمد هذا، فقدت اتصالها بمعظم أصدقائها.

لم يكن هذا مستغربًا؛ حيث إنها تعيش الآن حياة مختلفة تمامًا عن حياة المرأة الشهيرة كشخصية عامة مفعمة بالحيوية وتمتلئ بالمشاغل وعلى قدر عالٍ من المعرفة والاطلاع. أصبحت تعيش بين الكتب، وتقرأ طوال معظم ساعات يقظتها، وأُرغمت على تغيير أي فرضيات كانت تملكها قبل ذلك أو التعمق فيها. وعادة ما كانت تفوتها أخبار العالم لمدة أسبوع في المرة.

تخلَّت عن فكرة كتابة رسالة الدكتوراه، ووجهت اهتمامها للروائيين الإغريق، الذين كتبوا في وقت متأخر من تاريخ الأدب الإغريقي (بدءًا من القرن الأول قبل الميلاد وحتى بداية العصور الوسطى)؛ أريستيدس، لونجس، هليودورس، أخيل تاتيوس. وقد فُقدت معظم أعمالهم أو وجدت غير كاملة، وقد اتصفت بالفحش. ولكن هناك رواية رومانسية كتبها هليودورس وتسمى إثيوبيكا أو (الإثيوبية) كانت توجد في الأصل في مكتبة خاصة واستعيدت في حصار بوذا، وكانت قد عُرفت في أوروبا منذ أن طُبعت في بازل في ١٥٣٤.

في هذه القصة أنجبت ملكة إثيوبيا طفلة بيضاء، وخشيت أن تُتهم بالزنا؛ لذا وهبتها ليرعاها طائفة الفلاسفة العراه الذين كانوا نسَّاكًا وصوفيين. أُخذت الفتاة التي كانت تدعى خاريكليا في النهاية إلى دلفي؛ حيث أصبحت واحدة من كاهنات أرتيمس. وهناك قابلت نبيلًا من ثيساليا يُدعى تياجنيس، والذي وقع في حبِّها، وبمساعدة رجل مصري ذكي تمكن من اختطافها. واتضح أن الملكة الإثيوبية لم تنسَ قط ابنتها، وكانت قد استعانت بهذا المصري كي يبحث عنها. وتواصلت الأحداث المأساوية والمغامرات حتى التقت كل الشخصيات الرئيسية في مِروي (المدينة القديمة على الضفة الشرقية من نهر النيل)، وتُنقَذ خاريكليا — مرة ثانية — عندما كان أبوها على وشك التضحية بها.

كانت القصة حافلة بالأفكار المثيرة، وقد أبهرت جولييت حقًّا على نحو مستمر؛ وخاصة هذا الجزء الخاص بطائفة الفلاسفة العراة. حاولت أن تعرف أكبر قدر من المعلومات عن هؤلاء الأشخاص، الذين عُرفوا باسم فلاسفة الهندوس. هل ساد اعتقاد وقتها بأن الهند قريبة من إثيوبيا؟ لا، لقد أتى هليودورس متأخرًا كفاية ليعلم جغرافية عصره أفضل من هذا؛ فكان الفلاسفة العراة يهيمون على وجوههم في كل مكان، وينتشرون في مناطق بعيدة، جاذبين ومنفرين هؤلاء الذين كانوا يعيشون بينهم بتفانيهم الشديد لطهارة الحياة والفكر، وازدرائهم للمقتنيات، بل وحتى الملابس والطعام. ونشأة فتاة جميلة بينهم قد يخلِّف اشتياقًا لاأخلاقيًّا إلى حياة الفجور الماجنة.

تعرَّفت جولييت على صديق جديد يُدعى لاري. كان يدرِّس اليونانية، وسمح لجولييت بتخزين صناديقها في قبو منزله. كان يحب أن يتخيل كيف يمكن تحويل رواية إثيوبيكا إلى مسرحية غنائية، شاركته جولييت خياله هذا، لدرجة أنها ألَّفت الأغاني السخيفة للمسرحية ومؤثرات المسرح التي تبدو مستحيلة، ولكنها كانت تنزع سرًّا لوضع نهاية مختلفة، نهاية تنطوي على نكران للذات، وتنقيب في الماضي؛ حيث تحرص الفتاة على مقابلة بعض المحتالين والمشعوذين والدجالين ومحاكاة رثَّة لما كانت تبحث عنه حقًّا. إنها النهاية التي تنطوي على تصالح، في النهاية، مع ملكة إثيوبيا الآثمة والنادمة ذات القلب الكبير.

•••

كانت جولييت شبه واثقة أنها رأت الأم شيبتون هنا في فانكوفر. كانت قد أخذت بعض الملابس التي لن ترتديها ثانية أبدًا (فأصبحت خزانة ملابسها مليئة فقط بالملابس العملية) إلى متجر جماعة جيش الخلاص المسيحية، وبينما كانت تضع الحقيبة في غرفة الاستقبال، رأت امرأة بدينة عجوزًا ترتدي ثوبًا فضفاضًا. كانت السيدة تتحدث مع العاملين الآخرين في المتجر. بدت وكأنها مشرفة عليهم؛ إذ كانت مرحة ولكنها متيقظة — أو ربما كانت تنتحل هذا الدور سواء أكانت تتقلده رسميًّا أم لا.

فإن كانت الأم شيبتون في الحقيقة فعلًا، فقد ساءت أحوالها في الحياة، ولكن ليس كثيرًا؛ فإن كانت هي، ألن يكون لديها مخزون كافٍ من الرضا عن الذات ومما ينقذها لتجعل مثل هذا الانحدار مستحيلًا؟

ومخزون من النصائح، النصائح الخبيثة، أيضًا.

تذكرت قولها: «ولكنها أتت إلى هنا وهي تشعر بنهم بالغ.»

•••

أخبرت جولييت لاري عن بينيلوبي؛ فكان لا بد أن يكون هناك من يعرف عن الأمر في حياتها. قالت: «أكان ينبغي لي التحدث معها عن الحياة النبيلة؟ التضحية؟ تكريس حياتك لاحتياجات الآخرين؟ لم يسبق لي التفكير في هذا. لا بد وأنني تصرفت كما لو أنه كان ينبغي لها أن تصبح مثلي. هل أثار هذا سقمها؟»

•••

كان لاري رجلًا لا يرغب في أي شيء من جولييت سوى صداقتها وحسها المرح. كان ما اعتاد الناس أن يسموه العازب عتيق الطراز، لاجنسيًّا بقدر معرفتها (ولكنها على الأرجح لا يمكنها التأكد من هذا)، شديد الحساسية تجاه البوح بالأسرار الشخصية، ومسليًا إلى أقصى حد.

ظهر في حياتها رجلان آخران كانا يريدانها رفيقة. قابلت أحدهما بينما كانت تجلس على طاولة المقهى التي اعتادت الجلوس عليها. كانت زوجته قد توفيت مؤخرًا. راق لها، ولكن وحدته كانت فجَّة، وكان يطاردها في يأس حتى إنها انزعجت منه.

كان الرجل الآخر هو شقيق كريستا، الذي كانت قد قابلته عدة مرات في حياة كريستا. كانت تحب صحبته — فكان يشبه كريستا في مناحٍ عديدة. انتهى زواجه قبل فترة طويلة، ولم يكن يائسًا — فعلمت من كريستا أن ثَمَّةَ سيدات كن يرغبن في الزواج منه، ولكنه كان يتجنبهن. بَيْدَ أنه كان متعقلًا للغاية، واختياره لها دنا من أن يكون متعمدًا ومدروسًا، فكان ينطوي على شيء مخزٍ.

ولكن لماذا يكون مخزيًا؟ فهي لا تحبه أو شيء من هذا القبيل.

وفي حين كانت لا تزال تربطها علاقة بشقيق كريستا — كان اسمه جاري لامب — قابلت هيذر مصادفة، في أحد شوارع وسط المدينة في فانكوفر. كانت جولييت وجاري خارجين لتوهما من السينما بعد أن شاهدا فيلمًا عُرض في حفلة المساء المبكرة، وكانا يتفقان حول المكان الذي سيذهبان إليه لتناول العشاء. كانت ليلة دافئة من ليالي الصيف، ولم يكن ضوء النهار قد ذوى تمامًا من السماء.

انفصلت سيدة عن مجموعة كانت تقف معها على الرصيف وتوجهت مباشرة صوب جولييت. كانت امرأة نحيفة، في أواخر الثلاثينيات تقريبًا، ترتدي ملابس مسايرة للموضة ويتخلل شعرها الداكن خصلات ملونة.

«سيدة بورتيوس. سيدة بورتيوس.»

تعرَّفت جولييت على الصوت، ولكنها لم تتعرف قط على الوجه. إنها هيذر.

قالت هيذر: «لا أصدق. أنا هنا لثلاثة أيام وسوف أغادر غدًا، وزوجي في مؤتمر. كنت أظن أنني لم أعد أعرف أي أحد هنا ثم استدرتُ ورأيتُك أمامي.»

سألتها جولييت أين تعيش الآن، وأخبرتها أنها تقطن في كونيتيكت.

«ومنذ ثلاثة أسابيع فقط كنت أزور جوش — أتذكرين أخي جوش؟ — كنت أزور أخي جوش وأسرته في إدمنتون وقابلت بينيلوبي مصادفة، في الشارع تمامًا هكذا. لا … في الواقع كان هذا في المركز التجاري؛ ذلك المركز التجاري الضخم لديهم هناك. كان معها أطفالها، فقد أخذتهم لشراء الزي الرسمي للمدرسة التي يذهبون إليها. الأولاد. كنا مذهولتَيْن حقًّا. لم أعرفها على الفور ولكنها عرفتني. لقد انتقلت جنوبًا لتعيش هناك بالطبع، بعد أن كانت في الشمال، ولكنها قالت إنه مكان راقٍ للغاية في الواقع، وأخبرتني أنكِ ما زلت تعيشين هنا، ولكني بصحبة هؤلاء الأشخاص — إنهم أصدقاء زوجي — ولم يسنح لي وقت للاتصال بك.»

أشارت جولييت إلى أنه بالطبع لن يكون لديها متسعٌ من الوقت، وأنها لم تكن تتوقع منها الاتصال.

سألت هيذر عن عدد أطفالها.

«ثلاثة. إنهم جميعًا وحوش. أتمنى لو يكبروا سريعًا. ولكن حياتي هي مجرد نزهة مقارنة بحياة بينيلوبي؛ فلديها خمسة.»

«نعم.»

«عليَّ الذهاب الآن، فنحن ذاهبون لمشاهدة فيلم لا أعرف شيئًا عنه، ولا أحب حتى الأفلام الفرنسية، ولكني سعيدة للغاية لمقابلتك بهذه الطريقة. لقد انتقل أبي وأمي ليعيشا في وايت روك، وقد اعتادا مشاهدتك طوال الوقت على التليفزيون، وكانا يتفاخران أمام أصدقائهما أنكِ عشت في منزلنا. يقولان إنك لا تظهرين بعد الآن على التليفزيون، هل مللتِ من هذا العمل؟»

«شيء من هذا القبيل.»

«أنا آتية، أنا آتية.» عانقتْ جولييت وقبَّلتتها بالطريقة التي يتبعها الجميع الآن، وركضت للِّحاق برفاقها.

•••

إذن، بينيلوبي لم تكن تعيش في إدمنتون، بل انتقلت من الشمال إلى إدمنتون. انتقلت من الشمال؛ وهذا يعني أنها كانت تعيش إما في وايت هورس أو يلو نايف. فأيُّ مكان آخر يمكن وصفه بأنه راقٍ للغاية؟ ربما كانت تستخدم أسلوبًا ساخرًا، قاصدة خداع هيذر قليلًا بقولها هذا.

كان لديها خمسة أطفال، وكان اثنان منهم على الأقل صبيانًا. كانت تبتاع لهم زي المدرسة؛ وهذا يعني أنهم في مدرسة خاصة، وهذا يعني أنها ميسورة الحال.

قالت هيذر إنها لم تعرفها في البداية. هل يعني هذا أن علامات التقدم في العمر ظهرت على وجهها؟ وأنها فقدت رشاقتها بعد إنجابها خمسة أطفال؟ وأنها لم تعد تهتم بمظهرها كما كان حال هيذر، وكما هو حال جولييت، إلى حد ما؟ أكانت واحدة من هؤلاء النساء اللاتي بدت لهن فكرة مثل هذه المعاناة سخيفة وأنها بمثابة اعتراف بالشعور بعدم الأمان؟ أو أنه مجرد شيء ليس لديها وقت له — بعيد كل البعد عن تفكيرها؟

ظنت جولييت أن بينيلوبي تعتنق الفلسفة الخارقة للطبيعة، أو صارت صوفية وتقضي حياتها في التأمل، أو أنها — وهو النقيض ولكنه ما زال أمرًا بسيطًا وشجاعًا إلى حدٍّ متطرف — تكسب عيشها من خلال خوض حياة صعبة ومحفوفة بالمخاطر، ربما من خلال الصيد مع زوجها، وربما أيضًا مع بعض الأطفال الصغار أقوياء البنية، في المياه الباردة في إنسايد باسيدج عند ساحل بريتيش كولومبيا.

ربما كل هذه مجرد أوهام. يحتمل أنها تعيش حياة عملية ومزدهرة كامرأة متزوجة؛ فربما تكون متزوجة من طبيب أو من أحد هؤلاء الموظفين المدنيين الذين يديرون الأجزاء الشمالية من البلاد خلال الوقت الذي يتم فيه نقل سلطاتهم، تدريجيًّا وبحذر، لأهل البلد دون أن يخلو الأمر من بعض الجلبة. إن قُدِّر لها مقابلة بينيلوبي ثانية فسوف تضحكان من الأفكار الخاطئة التي راودت جولييت. وعندما تحكيان عن مقابلتهما لهيذر، ومدى غرابة هذا، فسوف تضحكان.

لا، لا. الحقيقة أنها ضحكت بالفعل على كثير من الأمور المتعلقة ببينيلوبي؛ فالعديد من الأشياء كانت مجرد مزحة، تمامًا كما كانت أشياء أخرى عديدة — أمور شخصية، حكايات عاطفية لا تعدو كونها مجرد نزوات — مجرد مآسٍ. لقد كانت تفتقر إلى ضوابط الأمهات والكياسة وضبط النفس.

قالت بينيلوبي إنها — جولييت — ما زالت تعيش في فانكوفر. إنها لم تخبر هيذر أي شيء عن انقطاع علاقتهما. بالطبع لا؛ فإن أخبرتها بهذا، لما تحدثت معها هيذر بهذه السلاسة.

كيف عرفت بينيلوبي أنها لا تزال تقيم هنا، إلا إذا كانت قد تفقَّدت دليل الهاتف؟ وإن كانت قد فعلت، ما الذي يعنيه هذا؟

لا شيء. لا تجعليه يعني أي شيء.

سارت وهي تكبح زمام نفسها لتنضم إلى جاري، الذي ابتعد بلباقة عن مشهد لم الشمل.

وايت هورس، يلو نايف. كان مؤلمًا معرفة أسماء هذه الأماكن؛ فهي أماكن يمكنها السفر إليها؛ أماكن يمكنها التسكع في شوارعها، ووضع خطط لتُلقي نظرات خاطفة على ابنتها.

ولكنها لم تكن معتوهة إلى هذا الحد. يجب ألا تكون معتوهة إلى هذا الحد.

وعلى العشاء، ظنت أن الخبر الذي استوعبته لتوِّها وضعها في موقف أفضل للزواج من جاري، أو الانتقال لتعيش معه — حسبما يريد. لم يكن هناك شيء تقلق بشأنه، أو تنتظره، فيما يتعلق ببينيلوبي؛ فلم تكن بينيلوبي شبحًا، كانت آمنة، مثلها مثل أي شخص آخر، وسعيدة مثل أي شخص آخر. لقد فصلت نفسها عن جولييت، ويحتمل أيضًا عن ذكراها، ولم يكن على جولييت سوى أن تفصل نفسها عنها هي الأخرى.

ولكنها أخبرت هيذر أن جولييت كانت تعيش في فانكوفر. هل قالت جولييت؟ أم أمي؟

أخبرت جولييت جاري أن هيذر كانت ابنة أصدقاء قدامى. لم يسبق لها التحدث معه قط عن بينيلوبي، ولم تكن ثمة إشارة تدل على معرفته بوجود بينيلوبي من الأساس. ربما تكون كريستا قد أخبرته، وظل هو صامتًا معتبرًا أن هذا ليس من شأنه، أو ربما تكون كريستا قد أخبرته، ونسي الأمر، أو أن كريستا لم تخبره بأي شيء عن بينيلوبي، ولا حتى اسمها.

إن انتقلت جولييت لتعيش معه، فلن تأتي على ذكر بينيلوبي أبدًا، ولن يصبح لها وجود.

وبينيلوبي لم يكن لها وجود؛ فالابنة التي عرفتها جولييت رحلت، والمرأة التي رأتها هيذر في إدمنتون، الأم التي اصطحبت أطفالها لتشتري لهم زي المدرسة، والتي تغير وجهها وجسدها حتى إن هيذر لم تعرفها، لم تكن شخصًا تعرفه جولييت.

هل تصدق جولييت هذا؟

إن كان جاري قد لاحظ أنها غاضبة فقد تظاهر بأنه لا يلاحظ شيئًا، ولكن في هذه الليلة على الأرجح أدرك كلاهما أنهما لن يظلا معًا؛ فلو كان هناك أمل في استمرار علاقتهما، لكانت أخبرته: «رحلتْ ابنتي دون أن تودعني، حقيقة هي لم تكن تعلم في الغالب حينئذ أنها راحلة. لم تعلم وقتها أنها كانت سترحل للأبد، وأعتقد أنها بدأت تدرك تدريجيًّا أنها تريد أن تظل بعيدة. إنها مجرد طريقة وجدتها لتتولى أمور حياتها.»

«ربما لا تستطيع مواجهتي وتفسير الأمر لي، أو لم يكن لديها وقت لذلك. كما تعلم نحن عادة ما نعتقد أن هناك هذا السبب أو ذاك ولا نتوقف عن محاولة إيجاد أسباب، ويمكنني أن أخبرك الكثير عن الأخطاء التي ارتكبتُها، ولكني أعتقد أن السبب ربما يكون شيئًا من السهل معرفته. شيء من قبيل طبيعتها النقية. نعم؛ فهي تتمتع بالنقاء والصرامة والطهارة والصدق الشديد. اعتاد أبي أن يقول عن شخص يبغضه إنه لا يحتاجه ولا يحبه. ألا يمكن أن تعني هذه الكلمات ببساطة معناها الظاهري؟ نعم، بينيلوبي لا تحتاجني ولا تحبني، وربما لا تطيقني. هذا محتمل.»

•••

كان لدى جولييت أصدقاء، ورغم أنها ليس لديها الكثير منهم الآن، ولكنهم يظلون أصدقاء. واصل لاري زيارتها والمزاح معها، وواصلت هي دراساتها. وكلمة دراسات لا تبدو أنها تصف بدقة ما تفعله؛ فاستقصاءات هي الكلمة الأفضل.

ولأنها كانت بحاجة للمال؛ فقد كانت تعمل بضع ساعات كل أسبوع في المقهى الذي اعتادت الجلوس على طاولته على جانب الشارع. وجدت أن هذا العمل يحقق توازنًا جيدًا مع انخراطها مع الإغريق القدماء — إلى حد كبير — حتى إنها اعتقدت أنها لن تتركه حتى لو تحسَّنت أوضاعها المالية.

ظلت تأمل أن تتصل بها بينيلوبي، ولكن ليس بأي جهد من جانبها؛ فهي تتمنى كما يتمنى الناس الأكثر حكمة أن ينالوا نعمًا لا يستحقونها، وغفرانًا عفويًّا، وأشياء من هذا القبيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤