عاطفة

منذ فترة ليست ببعيدة، ذهبت جريس للبحث عن منزل آل ترافرس الصيفي بوادي أوتاوا. لم تأتِ لهذا الجزء من المدينة منذ عدة سنوات، وبالطبع كان هناك العديد من التغييرات؛ فأصبح الطريق السريع ٧ الآن لا يمر من خلال العديد من المدن التي كان يمر من خلالها مباشرة، وأضحى يقطع مباشرة الأماكن التي تذكر أنها كانت عبارة عن منعطفات. ويحتوي هذا الجزء من الدرع الكندي على العديد من البحيرات الصغيرة التي لا يوجد لها مكان على الخريطة ليحددها. وحتى عندما استطاعت تحديد بحيرة ليتل سابوت — أو هكذا اعتقدت — بدا أن هناك العديد من الطرق التي تؤدي إليها من خلال طريق المقاطعة، ثم عندما اختارت أحد هذه الطرق، كان هناك العديد من الطرق الممهدة التي تقطعه، وكلها تحمل أسماءً لا تستطيع تذكُّرها. في الواقع لم يكن هناك أي أسماء لشوارع عندما جاءت هنا منذ أربعين عامًا، ولا أي طرق ممهدة أيضًا. لم يكن هناك سوى طريق واحد غير ممهد يمتد باتجاه البحيرة، ثم طريق آخر غير ممهد يمر على نحو عشوائي على حافة البحيرة.

أما الآن فتوجد قرية، أو يمكن أن يُطلق عليها ضاحية؛ لأنها لم تلمح أي مكتب للبريد بها، أو حتى أي متجر من المتاجر المتواضعة. وتقع المستوطنة على بُعد أربعة أو خمسة شوارع للداخل بعيدًا عن البحيرة؛ حيث تضم بعض المنازل الصغيرة التي يصطفُّ بعضها بالقرب من بعض على قطع أرض صغيرة. كان بعضها بلا شك عبارة عن أماكن لقضاء فصل الصيف؛ فالنوافذ مغلقة ومغطاة بألواح خشبية، وهذا ما يفعله الناس في العادة قبل حلول فصل الشتاء. لكن ثَمَّةَ العديد من المنازل الأخرى التي دلَّ مظهرها على أن سكانها مقيمون بها طوال العام؛ حيث كان بعض الأشخاص يملئون أفنيتها بأجهزة الألعاب الرياضية البلاستيكية الملونة، وأدوات الشواء في الهواء الطلق، والدراجات الثابتة، والدراجات البخارية، وطاولات الرحلات التي جلس قبالتها البعض يتناولون الغداء أو يحتسون الجعة في هذا اليوم من أيام شهر سبتمبر حيث ما زال الطقس دافئًا. وكان يقطنها أيضًا أناس آخرون لا يراهم الناس كثيرًا؛ علَّهم كانوا طلبة أو بعض الهيبيز الذين يعيشون بمفردهم، وقد وضعوا الأعلام أو رقائق القصدير لتحل محل الستائر. كانت هذه البيوت صغيرة، ذات مستوًى لائق في أغلبها، زهيدة الثمن، وقد عولج بعضها لتحمُّل فصل الشتاء، بينما لم يعالج البعض الآخر.

كانت جريس ستقرر أن تعود أدراجها إن لم تجد المنزل ذا الثماني زوايا، المزين سقفه بالنقوش الشبكية، والذي يحتوي على أبواب في أربعة جدران، وهذا هو منزل آل وودز. كانت دومًا ما تذكر أنه كان يحتوي على ثمانية أبواب، لكن يبدو أنها كانت أربعة فقط. في الواقع هي لم تدلف إلى داخل المنزل قط لترى كيف كان ذلك أو ما إذا كانت مساحته مقسمة إلى حجرات. إنها لا تعتقد أيضًا بأن هناك أحدًا من عائلة ترافرس قد دخل إلى هذا المنزل من قبل كذلك. وكان المنزل محاطًا بكمٍّ كبير من الشجيرات التي تشكِّل سياجًا — كانت كذلك فيما مضى — وبشجرة الحور الرائعة التي كانت تُصدر حفيفًا عندما تهزها الرياح وقت هبوبها بطول الشاطئ. كان السيد والسيدة وودز متقدمَيْن في العمر — كما هو حالها الآن — ويبدو أنهما لم يكن يزورهما أيٌّ من الأصدقاء أو الأبناء، وقد بدا على منزلهم ذي الأصالة والطراز الغريب مظهرٌ بائس كأنه مهجور؛ فكان الجيران يراكمون حول أحد جوانب المنزل المسجلات الموسيقية الضخمة، وفي بعض الأحيان أجزاء مفككة من عرباتهم وألعابهم، وغسيلهم.

أصبح هذا هو الحال الآن مع منزل ترافرس أيضًا حينما عثرت عليه على مسافة ربع ميل أو نحو ذلك على طول هذا الطريق. أصبح الطريق يمر بجواره الآن، بعدما كان ينتهي عنده من قبل. أما المنازل التي تقع على جانبَيْه فتبعد أقدامًا قليلة عن الشرفة الواسعة الملتفة حول المنزل.

كان أول منزل تراه جريس مصممًا بهذه الطريقة؛ فهو يرتفع لطابق واحد، يمتد سقفه دون انفصال فوق الشرفة المحيطة به على كافة الجوانب، لكنها رأت فيما بعد مثل هذا التصميم في أستراليا، وهو تصميم يجعلك تفكر في شدة حرارة فصول الصيف.

وكان من الممكن في السابق الانتقال من الشرفة عبر النهاية المغبرة لطريق السيارات، ثم عبر رقعة من الأرض الرملية المليئة بالأعشاب والتوت البري — وهي أيضًا من ممتلكات آل ترافرس — ثم القفز — بل في الواقع الخوض — في البحيرة. أما الآن فيمكنك بالكاد رؤية البحيرة بسبب ذلك البيت الضخم؛ وهو واحد من بعض منازل الضواحي القليلة هنا، الذي يحوي مرأبًا للسيارات يسع سيارتين، وقد تم بناؤه عبر ذلك الطريق.

لكن ما الذي كانت تبحث عنه جريس عندما قررت أن تقوم بتلك الرحلة الاستكشافية؟ ربما الشيء الأسوأ هو أن تحصل على ما اعتقدت أنها تبحث عنه وتريده. بيت ذو سقف جميل يظلله، ونوافذ ذات ستائر، والبحيرة ممتدة أمامه، وخلفه تقف أشجار القيقب، والأرز، وبلسان جلعاد. أن تظل آثار الماضي محمية جيدًا، ويظل كما هو دون أن يمسه أحد بتغيير، بينما لا ينطبق ذلك عليها هي. أن تجد شيئًا قد تضاءل بشدة، فرغم أنه موجود فإنه استُبعد — كما هو الحال مع منزل ترافرس الآن، بنوافذه الإضافية الناتئة من السقف المائل، وطلائه الأزرق المفزع — أمر قد يقل إيلامه على المدى الطويل.

لكن ماذا لو اكتشفت أن كل شيء زال تمامًا؟ قد تُحدِث جلبةً وضجيجًا. وإذا ما أتى أحد وأنصت إليك، فستنوح باكيًا على الخسارة، لكن ألن يجتاحك شعور بالراحة؛ لأن أسباب الارتباك القديمة وبعضًا من جوانب الالتزام تلاشت؟

•••

كان السيد ترافرس قد شيَّد ذلك المنزل، أو بالأحرى أمر ببنائه كهدية زواجه من السيدة ترافرس، وجعله مفاجأة لها. وعندما رأته جريس لأول مرة، كان قد مر على بنائه نحو ثلاثين عامًا. كان ثمة تباعد بين أبناء السيدة ترافرس في أعمارهم على نحو كبير؛ جريتشن تبلغ الثامنة والعشرين أو التاسعة والعشرين من عمرها، وهي الآن متزوجة وصارت أمًّا، أما موري فيبلغ الحادية والعشرين، وهو يمضي آخر عام له بالجامعة. ثم هناك نيل وهو في منتصف الثلاثينيات، لكن نيل لا ينتمي لعائلة ترافرس. إنه يُدعى نيل بورو؛ إذ كانت السيدة ترافرس متزوجة من قبل، وتوفي زوجها، فعملت كمدرسة للغة الإنجليزية المختصة بأغراض التجارة في أحد معاهد السكرتارية؛ لتكسب عيشها وتتمكن من الإنفاق على طفلها. وكان السيد ترافرس عندما يشير إلى تلك الفترة من حياتها قبل أن يلتقي بها يصفها بأنها فترة من الكد والتعب تشبه عقوبة الأشغال الشاقة، وهي فترة يصعب التعويض عنها بالعيش في دعة وراحة لبقية العمر، وهي الراحة التي وفرها لها عن رضا منه وسعادة.

لكن السيدة ترافرس ذاتها لم تتحدث عنها على هذا النحو على الإطلاق؛ فلقد عاشت مع نيل في منزل كبير مقسم إلى شقق صغيرة لا يبعد كثيرًا عن خطوط السكك الحديدية في مدينة بِمبروك. أما القصص التي كانت ترويها على العشاء، فكانت تتناول بعض المواقف والأحداث التي مرت بها هناك؛ سواء عن جيرانها من المستأجرين، أو المالك الكندي ذي الأصول الفرنسية التي كانت تقوم بتقليد لهجته الفرنسية الحادة المتداخلة مع لغته الإنجليزية. وقد تحمِل هذه الأقاصيص بعض الأسماء؛ مثل قصص ثيربر التي قرأتها جريس في «مختارات من الفكاهة الأمريكية»، التي كانت موجودة دون سبب واضح على أحد أرفف المكتبة في نهاية فصلها بالصف العاشر (كان هناك أيضًا على ذلك الرف رواية «آخر البارونات»، ورواية «العامان الأخيران قبل تنكيس العلم»).

«الليلة التي خرجت فيها السيدة كرومارتي العجوز إلى سطح المنزل»، «كيف غازل ساعي البريد الآنسة فلاورز»، «والكلب الذي التهم السردين.»

أما السيد ترافرس فلم يكن يروي أي أقاصيص، ولم يكن لديه الكثير ليقوله على العشاء، لكن إن حدث وشاهدك على سبيل المثال وأنت تتطلع إلى المدفأة المصنوعة من الأحجار، فربما يقول لك: «هل أنت مهتم بالصخور؟» ثم يشرع في إخبارك عن المكان الذي أتت منه كل صخرة، وكيف أضناه البحث عن الجرانيت ذي اللون الوردي؛ لأن السيدة ترافرس قد تعجَّبت ذات مرة من صخرة تشبهها كانت لمحتها على جانب الطريق، أو قد يعرض عليك بعض السمات التي لا تعد غير اعتيادية والتي قام هو نفسه بإضافتها إلى تصميم المنزل؛ مثل أرفف الخزانة التي تتدلى للخارج في زاوية المطبخ، ومساحة التخزين التي أضافها أسفل المقاعد الموضوعة تحت النوافذ. كان السيد ترافرس رجلًا طويل القامة، به بعض التحدُّب، ذا صوت هادئ، وشعر خفيف ينسدل بنعومة فوق فروة رأسه. كان يرتدي حذاء الاستحمام عندما كان يذهب للسباحة، وبالرغم من أنه لم يكن يبدو ممتلئًا في ملابسه المعتادة، فكانت تظهر تراكمات من اللحم الأبيض متدلية أعلى سروال السباحة القصير.

•••

عملت جريس هذا الصيف في النُّزُل القابع في بيليز فولز شمال بحيرة ليتل سابوت. وكانت عائلة ترافرس قد ذهبت لتناول العشاء هناك ذات مرة في بداية فصل الصيف، لكنها لم تلحظ وجودهم؛ فلم يجلسوا على إحدى الطاولات التي تقع في نطاق خدمتها، وكانت تلك الليلة مزدحمة؛ فكانت تقوم بإعداد إحدى الموائد من أجل مجموعة جديدة عندما أدركت أن هناك شخصًا يريد التحدث إليها.

وكان موري. قال: «أتساءل إن كنتِ تودين أن نخرج معًا في وقت ما؟»

كانت جريس نادرًا ما ترفع بصرها وهي تقوم بوضع أدوات المائدة الفضية على المائدة. قالت: «أذلك رهان؟» فقد كان صوته عاليًا يشوبه بعض التوتر، وكان متسمِّرًا في مكانه دون حراك، وبدا وكأنه يجاهد ليجبر نفسه على ذلك. وكان من المعروف أنه في بعض الأحيان قد تقوم مجموعة من الشباب الذين يقطنون في بعض الأكواخ المجاورة بالمراهنة فيما بينهم على التجرؤ على دعوة إحدى النادلات للخروج معهم. ولا يكون الأمر مجرد مزحة؛ فالشخص الذي طلب إليها الخروج يأتي عادة في الموعد إذا ما وافقت هي على ذلك، لكنه قد يقصد في بعض الأحيان الجلوس معها في السيارة قليلًا، ولا يدعوها لمشاهدة أحد الأفلام أو حتى لتناول القهوة؛ لذا كان قبول هذه الدعوة أمرًا مخزيًا، بل وقاسيًا، لأي فتاة.

قال بألم: «ماذا؟» توقفت جريس عما تفعله، ونظرت نحوه. بدا لها أنها كشفت شخصيته في تلك اللحظة؛ شخصية موري الحقيقية؛ خائف، عنيف، ساذج، ذو عزم وتصميم.

ردت بسرعة: «حسنًا.» ربما كانت تعني حسنًا، اهدأ، أعلم أنه ليس رهانًا، أعلم أنك لا تفعل ذلك. أو ربما كانت حسنًا، سأذهب معك. هي نفسها كانت بالكاد تعرف مقصدها، لكنه اعتبر الكلمة موافقة على اللقاء، وعلى الفور رتَّب معها — دون أن يخفض من صوته، أو يلمح نظرات الجالسين على الطاولات المحيطة بهما — بأنه سيمر لاصطحابها في اليوم التالي بعد انتهاء عملها.

وبالفعل، اصطحبها إلى السينما، وشاهدا فيلم «أبو العروسة». وقد كرهته جريس؛ كرهت الفتيات أمثال إليزابيث تيلور في ذلك الفيلم؛ فقد كانت تكره الفتيات الغنيات المدللات، اللاتي لا يُطلب منهن شيء، لكنهن من يتدللن ويطلبن ما يشأن. فقال موري إنها فقط نوع من الكوميديا، فأجابته جريس إن ذلك ليس هو المقصد، لكنها لم توضح مقصدها. وقد يعتقد أي شخص أنها تقول ذلك لأنها تعمل نادلة، ولأنها فقيرة بدرجة منعتها من الالتحاق بالجامعة، وأنها إن أرادت أن تحظى بزفاف كهذا، فعليها أن تمضي سنواتٍ تدخر النقود حتى تتمكن من إقامة واحد مثله وتسدد هي ثمنه (وقد كان هذا أيضًا رأي موري، وغمره شعور بالاحترام تجاهها، بل ربما وصل شعوره إلى درجة التبجيل).

لم تستطع أن تشرح، أو تفهم تمامًا، أنه ليس الشعور بالغيرة الذي انتابها على الإطلاق، إنما هو الغضب الشديد. ولم يكن منبع ذلك الغضب عدم مقدرتها على التسوق بهذه الطريقة، أو أنها لا تستطيع أن ترتدي مثل ذلك، لكن لأن هذا ما يفترض الآخرون أن تكون عليه الفتيات؛ وهو ما يعتقد الرجال، والناس أجمعين، أنه ما ينبغي أن تكون عليه أي فتاة؛ جميلة، غنية، مدللة، مُحبَّة لذاتها، ولا تتسم بأي نوع من الذكاء. هذا ما يجب أن تتصف به الفتاة حتى تجد من يقع في حبها، ثم تصبح أمًّا فيما بعد وتكرِّس كل مشاعرها لأطفالها؛ وحينها لا تتسم بالأنانية، إنما بالحماقة والغباء، إلى الأبد.

كانت تستشيط غضبًا بسبب ذلك بينما تجلس بجانب صبي أحبَّها لأنه آمَن، على الفور، بتكامل عقلها وروحها وتفردهما، ورأى أن فقرها أضاف لمحة من الرومانسية على ذلك (لقد أدرك أنها فتاة فقيرة ليس فقط بسبب عملها كنادلة، وإنما لِلَهجة أهل وادي أوتاوا الواضحة التي تتحدث بها، والتي لم تنتبه إليها إلى الآن).

احترمَ مشاعرها تجاه الفيلم؛ والآن وبعد أن أصغى لمحاولاتها وهي غاضبة لتفسير وجهة نظرها، جاهد هو الآخر لأن يقول لها شيئًا في المقابل. قال إنه يرى الآن أن ما تشعر به ليس شيئًا بسيطًا، شيئًا أنثويًّا للغاية، كالغيرة. لقد رأى ذلك؛ رأى أنها ليست في موضع تنافس مع الأخريات، ولا ترضى بأن تكون مثلها مثل الأخريات. إنها مميزة.

ظلت جريس تذكر دومًا ما كانت ترتديه في تلك الليلة؛ تنورة مثل تنورات لاعبات الباليه ذات لون أزرق داكن، كنزة بيضاء تستطيع أن تلمح الجزء العلوي من صدرها من خلال عروات الأزرار ذات الكشكشة، وحزامًا مطاطيًّا عريضًا وردي اللون. كان هناك، بلا شك، تناقض شديد بين الأسلوب الذي قدَّمت به نفسها وبين الأسلوب الذي تريد أن يحكم به الآخرون من خلاله عليها. ولم يكُ ثَمَّةَ شيء جميل، أو لافت، أو مبهر بشأن طريقة ملبسها إذا ما قارناه بأسلوب ذلك الوقت؛ فكانت ملابسها المهترئة قليلًا عند أطرافها في الواقع قد أصبغت عليها مظهر الغجر، وهو ما أكَّده ذلك السوار الفضي الزهيد، وشعرها البربري الداكن الطويل المجعد، الذي كانت تعقصه بمشبك عند خدمتها للطاولات أثناء عملها.

كانت مميزة.

حكى عنها لأمه التي قالت: «عليكَ أن تدعو هذه الفتاة جريس إلى العشاء.»

•••

كان هذا الأمر جديدًا عليها تمامًا، بل إنه أشعرها بالبهجة والسرور على الفور. إنها في حقيقة الأمر، قد وقعت في حب السيدة ترافرس كما وقع موري في حبِّها، ولم يكن من طبيعتها أن تبدي دهشتها وإعجابها وحبها بسهولة كما كان الحال معه.

•••

تَرَبَّت جريس على يد عمها وعمتها، بل في الواقع عم والدها وعمته؛ فلقد تُوفيت والدتها عندما كانت في الثالثة من عمرها، وانتقل والدها إلى ساسكاتشيوان؛ حيث أصبح لديه عائلة جديدة. كانت أسرتها البديلة تعطف عليها، بل وتفخر بها، رغم شعورهم ببعض الحيرة تجاهها، لكنهم لم يكونوا معتادين على التحاور. كان العم يصنع الكراسي من الخيزران ليكسب قوت يومه، وقد علَّم جريس كيف تقوم بذلك؛ حتى تساعده في عمله، وقد حلَّت محله في النهاية بعد أن ضعف بصره بشدة، لكنها حصلت بعد ذلك على عمل في بيليز فولز أثناء فصل الصيف. وبالرغم من أنه كان من الصعب عليه، وعلى عمتها أيضًا، أن يدَعاها تذهب، فإنهما اعتقدا أنها تحتاج لتَذَوُّقِ بعضٍ من تجارب الحياة قبل أن يستقر بها المقام.

كانت تبلغ من العمر حينها عشرين عامًا، وقد أنهت لتوِّها مدرستها الثانوية. كان من المفترض أن تنهي دراستها منذ عام مضى، لكنها اختارت شيئًا غريبًا؛ ففي المدينة الصغيرة جدًّا التي كانت تعيش فيها — وهي لا تبعد كثيرًا عن بِمبروك حيث تعيش عائلة ترافرس — كان هناك مدرسة ثانوية بها خمسة صفوف تؤهلك لاجتياز الاختبارات الحكومية وللشهادة التي كانت تُسمَّى حينها الشهادة العليا لاجتياز مرحلة القبول بالجامعة. ولم يكن من الضروري دراسة كل المواد المتاحة بالمدرسة، وفي نهاية عامها الأول بالمدرسة — وهو من المفترض أنه عامها الأخير، وهو الصف الثالث عشر — اجتازت جريس اختبارات في مواد التاريخ وعلم النبات وعلم الحيوان، واللغات الإنجليزية واللاتينية والفرنسية، وحصلت على درجات عالية هي ليست بحاجة إليها. وعادت مرة أخرى إلى المدرسة في شهر سبتمبر لكي تدرس مواد الفيزياء والكيمياء وحساب المثلثات والجبر، برغم أن كل هذه المواد تعد شاقة وصعبة الفهم بالنسبة للفتيات. وعندما أنهت دراستها لهذا العام كان من المفترض أنها درست كل مواد الصف الثالث عشر فيما عدا اللغات اليونانية والإيطالية والإسبانية والألمانية، والتي لم يكن هناك أي مدرس في المدرسة يقوم بتدريسها. أبلت بلاءً حسنًا في كل فروع الرياضيات وفي المواد العلمية، لكن لم تكن درجاتها مبهرة مثل العام الذي قبله. وقد فكرت في أن تدرس هي بنفسها اللغات اليونانية والإسبانية والإيطالية والألمانية؛ وذلك حتى تجتاز اختبارات العام المقبل، لكن حدَث أن تحدَّث معها مدير المدرسة، وأخبرها بأنها لن تجني شيئًا من وراء ذلك طالما أنها لن تتمكن من الالتحاق بالجامعة، وعلى كلٍّ فإن أي دراسة جامعية لا تتطلب كل هذا الكم الهائل، فلِمَ تكلف نفسها مشقة ذلك؟ هل لديها خطط معينة؟

أجابت جريس بالنفي، وأنها فقط تريد أن تتعلم كل شيء طالما أنه متاح ومجاني. وذلك قبل أن تبدأ حياتها المهنية في صنع الخيزران.

كان مدير المدرسة هو من يعرف مدير النُّزُل، وقال إنه سيزكِّيها للعمل إن أرادت أن تجرب عمل الضيافة في الصيف. لقد ذكر هو الآخر مسألة تذوق خبرات الحياة.

لذا حتى الرجل المسئول عن شئون التعليم في هذا المكان لا يعتقد أن التعليم له علاقة بالحياة العملية، وكانت جريس عندما تخبر أيَّ أحد عما اجتازته في المدرسة — حيث كانت تتحدث عن ذلك لشرح سبب تأخرها في ترك المدرسة الثانوية — تسمع عبارات من قبيل: لا بد وأنكِ كنتِ مجنونة.

كلهم قالوا ذلك فيما عدا السيدة ترافرس التي أُرسِلَت إلى كلية الأعمال (التي تقتصر على دراسات السكرتارية والإدارة) بدلًا من أن تذهب لكلية حقيقية؛ لأن مَنْ حولها أخبروها أن عليها أن تكون مفيدة، وهي التي تقول الآن إنها تتمنى لو كانت قد حشت ذهنها بدلًا من هذا أو قبله بما ليس له فائدة على حد قولهم.

قالت: «ورغم ذلك كان يجب عليكِ بالفعل العمل لكسب قوت يومك. على العموم، فإن صنع مقاعد الخيزران يبدو أنه شيء مفيد على أي حال، وسنرى.»

نرى ماذا؟ لم تكن جريس ترغب في أن تفكر بالمستقبل على الإطلاق؛ كانت تريد أن تستمر الحياة كما هي عليه الآن، وقد استطاعت من خلال تبادل مناوبات العمل مع فتاة أخرى أن تحصل على إجازة أيام الآحاد بدءًا من وقت الإفطار إلى نهاية اليوم، وكان هذا يعني أن عليها أن تعمل حتى وقت متأخر في أيام السبت. وفي حقيقة الأمر فإن هذا معناه أن تستبدل الوقت الذي تمضيه مع موري بالوقت الذي تقضيه بصحبة عائلة موري. لم يكن باستطاعتها هي وموري أن يشاهدا أي فيلم معًا الآن، أو أن يتواعدا ويمضيا وقتًا معًا، لكنه كان يمر ليصحبها عندما ينتهي عملها في نحو الحادية عشرة مساءً، ويتنزها بالسيارة، ويتوقفا لتناول الآيس كريم أو الهامبورجر؛ فقد كان موري حريصًا على ألا يأخذها إلى أي من الحانات؛ لأنها لم تبلغ الحادية والعشرين بعد، ثم ينهيا رحلتهما بالتوقف بالسيارة في أي مكان.

وقد اتضح أن ذكرياتها عن الأوقات التي كانا يتوقفان فيها بالسيارة — والتي كانت تستمر حتى الواحدة أو الثانية صباحًا — أكثر تشويشًا من ذكرياتها عن الأوقات التي كانت تجلس فيها حول مائدة الطعام المستديرة في منزل عائلة ترافرس، أو عندما ينهض الجميع من أمام المائدة — حاملين في أيديهم أقداح القهوة أو العصائر الطازجة — ويجلسون على الأريكة المصنوعة من الجلد بلونها الداكن، أو الكراسي الهزازة ومقاعد الخيزران ذات الوسائد الوثيرة في طرف الغرفة (لم يكن هناك أي ضجة بشأن غسل الصحون أو تنظيف المطبخ؛ فهناك امرأة، تُلقِّبها السيدة ترافرس «بصديقتي البارعة السيدة آبل»، تأتي في الصباح لتقوم بذلك).

وكان موري يجذب عادة بعض الوسائد ويضعها على السجادة ليجلس عليها، أما جريتشن — التي لم تكن ترتدي شيئًا على العشاء سوى بنطالها الجينز أو سروال الجيش — فعادة ما كانت تجلس القرفصاء على أحد المقاعد العريضة. كانت هي وموري ذوَي أكتاف عريضة، وقد ورثا بعضًا من ملاحة أمهما؛ بشعرها المموج بلون الكراميل، وعينيها البنيتين اللتين يطل منهما الدفء. أما موري فاختُصَّ بغمازتين في وجنتيه، جعلته «وسيمًا» كما أطلقت عليه بعض النادلات الأخريات، وكن يُطلقن صفيرًا خافتًا مبدين إعجابهن به. ورغم جمال السيدة ترافرس فإن طولها كان خمسة أقدام بالكاد، ولم تبدُ سمينةً أسفل ردائها الطويل الفضفاض، وإنما ممتلئة الجسم مثل الطفل الصغير الذي لم يشبَّ عن الطوق بعد. أما ذلك البريق ونظرات العزم والتصميم التي تطل من عينيها فلا يستطيع أحد أن يقلِّدها ولا يمكن توارثها، ولا حالة التفاؤل والبهجة التي تغمرها طوال الوقت. ولم يزيِّن وجنتيها سوى ذلك الاحمرار الشديد الذي يشبه الالتهاب، والذي يحتمل أن يكون ناتجًا عن خروجها مهما كانت حالة الطقس دون التفكير في حماية بشرتها. وكقوامها الممتلئ، وفستانها الفضفاض كانت بشرتها تعكس مدى شخصيتها المستقلة.

وفي بعض الأحيان يأتي بعض الضيوف، بجانب العائلة، في أمسيات الآحاد هذه. ربما يأتي زوجان، وربما شخص واحد، وفي الغالب يقاربون السيد والسيدة ترافرس في العمر وفي الشخصية؛ حيث تجد النساء تتسم بالذكاء والتحمس، بينما تجد الرجال أهدأ وأبطأ، وأكثر تسامحًا. وكانوا يقصُّون حكايات مسلية؛ حيث كانوا يتندَّرون في الغالب على أنفسهم (أصبحت جريس تنهمك في الحديث لفترات طويلة الآن لدرجة أنها قد تسأم من ذاتها في بعض الأحيان، وأصبح من الصعب أن تتذكر كيف كانت تبدو تلك الحوارات على العشاء شيئًا جديدًا بالنسبة لها في أول الأمر. ومن حيث أتت من مدينتها الصغيرة، كانت معظم الحوارات المرحة التي تدور هناك أساسها النكات الخارجة، والتي لم يكن ليشترك فيها بالطبع عمها أو عمتها. وفي مناسبات نادرة، عندما يكون لديهم صحبة، كان الحوار يأخذ شكل إطراء على الطعام أو اعتذار عنه، أو مناقشة بشأن أحوال الطقس تصاحبها رغبة شديدة في أن تنتهي الوجبة بأسرع وقت ممكن).

وإذا ما كان الطقس باردًا بعد انتهاء العشاء في منزل عائلة ترافرس، فإن السيد ترافرس يقوم بإشعال المدفأة، وكانوا يلعبون ما أسمته السيدة ترافرس «لعبة الكلمات البلهاء»، وينبغي أن يكون الأشخاص الذين يلعبونها على قدرٍ من الذكاء، حتى لو كانوا يفكرون في تعريفات سخيفة. وأثناء اللعبة تجد الشخص الذي كان هادئًا وقت العشاء وقد بدأ يشارك ويتألق، وتتولد وتبنى المناقشات الساخرة حول بعض المزاعم السخيفة اللامعقولة. كان وات زوج جريتشن يقوم بذلك، ثم أصبحت جريس تشارك أيضًا، الأمر الذي أسعد السيدة ترافرس وموري (فيهتف موري مثيرًا بهجة الجميع فيما عدا جريس: «أرأيتم؟ ألم أقل لكم إنها تتسم بالذكاء؟») وكانت السيدة ترافرس نفسها هي التي تقود اللعبة بتكوين الكلمات وتدافع عنها بشدة، مؤكِّدة على أنه لا ينبغي أن تتحول اللعبة إلى الجد، أو أن يشعر أي لاعب بالتوتر الزائد.

والمرة الوحيدة التي لم يسعد فيها أي شخص باللعبة كانت عند حضور ميفيس — زوجة نيل ابن السيدة ترافرس — لتناول العشاء. وكانت ميفيس وطفلاها لا يقطنون بعيدًا؛ بل كانوا يقيمون في منزل والديها بالقرب من البحيرة. ولم يكن موجودًا في تلك الليلة سوى العائلة وجريس، وكان من المتوقع أن يصطحب كلٌّ من ميفيس ونيل طفليهما الصغيرين معهما، لكن ميفيس أتت بمفردها؛ لأن نيل — الذي يعمل طبيبًا — كان مشغولًا في عمله في نهاية هذا الأسبوع في أوتاوا. وشعرت السيدة ترافرس بخيبة أمل، لكنها استعادت بهجتها وقالت في حيرة مرحة: «لكن الطفلين ليسا في أوتاوا بالتأكيد؟»

«لا، للأسف، ولكنهما ليسا لطيفين، وأنا على ثقة من أنهما سيصيحان طوال العشاء؛ فقد أصيب الرضيع بحرارة شديدة، والله وحده يعلم ماذا ألمَّ بمايكي.»

كانت امرأة نحيفة القوام أكسبتها الشمس لونًا برونزيًّا، ترتدي فستانًا أرجوانيًّا، وقد عقصت شعرها الأسود الداكن للخلف بشريط أرجواني يتناغم مع ردائها. كانت جميلة، لكن تعلو جوانب فمها علامات الضجر والاستياء. تركت معظم طعامها في الصحن، موضِّحة أنها مصابة بالحساسية ضد الكاري.

قالت السيدة ترافرس: «يا للأسف! أهذا شيء جديد؟»

«أوه، لا، إنني مصابة به منذ سنوات، لكنني لم أكن أرفض الطعام أدبًا، لكني سئمت من التقيؤ طوال الليل.»

«لو أنَّك فقط أخبرتِني بذلك، ماذا يمكنني أن أحضر لك؟»

«لا تشغلي بالك، إنني على ما يرام، وليس لديَّ شهية للطعام على أي حال، يكفيني حرارة الأمومة ومتعتها.»

ثم أشعلت سيجارة.

وبعد فترة، وأثناء اللعبة، دخلت في نقاش مع وات بشأن أحد التعريفات التي استخدمها، وعندما أثبت المعجم أنها مقبولة قالت: «أوه، إنني جد آسفة، يبدو أنكم هزمتموني في اللعب.» وعندما حان الوقت لكي يقدِّم الجميع كلماتهم على قطعة من الورق للجولة القادمة، ابتسمت وهزت رأسها قائلة:

«ليس لدي واحدة.»

قالت السيدة ترافرس: «أوه، ميفيس.» وقال السيد ترافرس: «هيا يا ميفيس، أي كلمة قديمة ستفي بالغرض.»

«لكن ليس لديَّ أي كلمة قديمة، إنني آسفة، إنني أشعر بالغباء الليلة. يمكنكم أنتم اللعب وسوف أشاهدكم.»

كان هذا هو ما قاموا به بالفعل، وتظاهر الجميع أنه ليس ثَمَّةَ مشكلة، بينما راحت ميفيس تنفث سيجارتها، واستمرت ترسم ابتسامتها التي تشي بإصرارٍ عن عدم سعادتها وضيقها. وخلال فترة وجيزة، نهضت وقالت إنها تشعر بتعب شديد، وإنها لا يمكن أن تترك طفليها في رعاية أبويها لفترة أطول من ذلك، وإنها حظيت عن جد بزيارة هادفة ولطيفة وعليها أن تعود للمنزل الآن.

قالت وهي في طريقها للخروج ولا توجِّه حديثها لشخص بعينه وتضحك ضحكة لها رنة مرارة: «سأحضر لكم معجم أكسفورد هدية عيد الميلاد القادم.»

كان معجم عائلة ترافرس الذي استخدمه وات من المعاجم الأمريكية.

عندما غادرت المنزل، لم ينظر أيٌّ منهم إلى الآخر، وقالت السيدة ترافرس: «جريتشن، هل تستطيعين إعداد قدر من القهوة لنا جميعًا؟» ذهبت جريتشن إلى المطبخ وهي تتمتم قائلة: «يا لها من تسلية! لقد بكى المسيح.»

قالت السيدة ترافرس: «إن حياتها مليئة بالمتاعب بسبب الصغيرَيْن.»

•••

وخلال الأسبوع، حصلت جريس ليوم واحد على فترة للراحة، ما بين انتهاء الفطار، والإعداد للعشاء، وعندما علمت السيدة ترافرس بذلك، استقلَّت سيارتها إلى بيليز فولز لكي تصحبها إلى البحيرة لهذه الساعات الثلاث، وحينها سيكون موري في عمله — حيث يعمل فترة الصيف في إصلاح الطريق السريع ٧ مع بعض العاملين المكلفين بإصلاح الطرق — أما وات ففي مكتبه في أوتاوا، وجريتشن في البحيرة تسبح أو تجدف مع أطفالها هناك. عادة ما كانت السيدة ترافرس تخبر جريس بأنها ستذهب للتسوق، أو أنها ستقوم ببعض الترتيبات من أجل العشاء، أو أن عليها كتابة بعض الخطابات، وعندئذ تترك جريس بمفردها في غرفة المعيشة الكبيرة الباردة الظليلة، وأريكتها الجلدية المنبعجة دائمًا، وأرفف المكتبة المكتظة بالكتب.

قالت لها السيدة ترافرس: «يمكنكِ قراءة أي شيء تفضلينه، أو بمقدورك أن تستريحي وتأخذي قسطًا من النوم إن كان هذا ما تريدين. إنها لوظيفة شاقة، ولا بد أنكِ متعبة، وسوف أنتبه إلى إعادتك في الوقت المناسب.»

لم تنَم جريس قط، لكنها كانت تقرأ. كانت نادرًا ما تتحرك، ومن أسفل سروالها القصير، كانت تَظهر ساقاها العاريتان وقد كساهما العرق والتصقتا بالأريكة. ربما كان هذا بسبب متعة القراءة الشديدة. وكانت في العادة لا تلمح أي أثر للسيدة ترافرس حتى يحين موعد عودتها إلى عملها حيث تقوم بتوصيلها مرة أخرى.

لم تكن السيدة ترافرس لتبدأ أي نوع من المحادثة حتى يمر وقت كافٍ تتحرر خلاله جريس من أفكار الكتاب الذي كانت منهمكة في قراءته، ثم تذكر أنها هي نفسها قرأته من قبل، وتفصح عن رأيها فيه، لكن بأسلوب يحترم الرأي المخالف ويتسم بالمرح في الوقت نفسه؛ فقد قالت على سبيل المثال بشأن رواية «آنا كارنينا»: «لا أذكر عدد المرات التي قرأت فيها هذه الرواية، لكني في البداية تعاطفت مع كيتي، ثم مع آنا. أوه لقد كان الأمر فظيعًا مع آنا، والآن أتدرين لقد وجدتُ نفسي في المرة الأخيرة أتعاطف طوال الوقت مع دوللي، عندما ذهبت إلى الريف بصحبة كل هؤلاء الأطفال، وكان عليها أن تعرف كيف تقوم بالتنظيف، وكانت ثَمَّةَ مشكلة في أحواض الغسيل. أترين كيف تتغير درجات تعاطفك كلما تقدمتِ في العمر؟ فالعواطف قد تتوارى خلف أحواض الغسيل. لا تنتبهي إلى كلامي على أي حال. إنك لا تنصتين إليَّ، أليس كذلك؟»

«لا أدري إن كنتُ أنصت لأحد على الإطلاق.» شعرت جريس بالدهشة من ردها، وتساءلت إن كانت بدت متغطرسة أم ساذجة، وأردفت قائلة: «لكني أحب الإنصات لحديثك.»

ضحكت السيدة ترافرس قائلة: «إنني أحب الإنصات لنفسي.»

•••

في تلك الفترة بدأ موري يتحدث بطريقة ما عن زواجهما، وأنه لن يكون ذلك إلا بعد فترة؛ حتى يصبح مؤهَّلًا تمامًا ويعمل مهندسًا، ولكنه كان يتكلم عن ذلك الأمر وكأنه يتكلم عن شيء تأخذه هي أيضًا — مثله — كأمرٍ مسلم به. وعندما كان يقول «حينما نتزوج» كانت جريس تنصت إليه بفضول بدلًا من التشكيك في ذلك أو معارضته.

بعد الزواج سيكون لهما منزل بالقرب من بحيرة ليتل سابوت، ولن يكون شديد القرب من منزل والديه، ولن يبعد عنه كثيرًا في نفس الوقت، وسيكون بالطبع مكانًا لقضاء فصل الصيف فقط. أما أغلب الوقت فسيعيشان في المكان الذي يتطلبه عمله كمهندس. وقد يكون هذا في أي مكان؛ في بيرو، أو العراق، أو الأقاليم الشمالية الغربية. وسعدت جريس بفكرة السفر هذه أكثر من سعادتها بالفكرة التي يتحدث عنها بفخر وهو يتحدث عن «منزلنا الخاص معًا». لم يبدُ أيٌّ من هذا واقعيًّا بالنسبة لها، إلا أنها وجدت أيضًا أن فكرة مساعدة عمها والعمل في صناعة كراسي من الخيزران في المدينة والمنزل الذي نشأت فيه لم تكن واقعية هي الأخرى.

ألحَّ موري في سؤالها عما أخبرت به عمها وعمتها عنه، ومتى ستصحبه لمنزلها حتى يلتقي بهما. حتى استخدامه المبسط لتلك الكلمة «منزلها» بدا غريبًا بعض الشيء بالنسبة لها، بالرغم من أنها هي نفسها كانت تستخدمها. بدا من الأنسب أن تقول بيت عمي وعمتي.

لم تذكر لهما شيئًا بخصوصه في الواقع في رسائلها الأسبوعية المقتضبة، فيما عدا أنها ذكرت أنها «تخرج مع شاب يعمل هنا في فترة الصيف.» ربما أعطتهم الانطباع بأنه يعمل في أحد الفنادق.

لا تكمن المسألة في أنها لا تفكر في الزواج مطلقًا؛ إذ كانت تلك الاحتمالية، شبه المؤكدة، تَرِد إلى ذهنها دومًا حينما تفكر في حياتها وهي تعمل في صناعة مقاعد الخيزران. وبالرغم من أن أحدًا لم يحاول أن يخطب ودها، فإنها كانت تعتقد أن ذلك قد يحدث في يوم من الأيام وبهذه الطريقة تمامًا، ومع رجل يتخذ قراره على الفور — قد يأتي ربما لإصلاح أحد المقاعد — وبمجرد رؤيتها يقع في حبها على الفور. سيكون وسيمًا مثل موري، متأجج العواطف مثل موري، وسيعقب ذلك تلك اللقاءات الحميمية الجسدية الممتعة.

وكان هذا هو الشيء الذي لم يحدث بينهما. كانت هي راغبة في ذلك سواء في سيارة موري، أو بالخارج فوق الحشائش أسفل ضوء النجوم. وكان موري مستعدًّا، لكنه لم يكن راغبًا؛ فقد كان يشعر أن من مسئوليته أن يحميها. وكذلك فإن السهولة التي عرضت بها نفسها عليه قد أفقدته توازنه. وربما شعر أن العرض جاء ببرود؛ عرضًا متعمدًا لم يستطع أن يفهمه، ولا يتناسب تمامًا مع أفكاره عنها. هي ذاتها لم تفهم كيف كانت تتسم بالبرود هكذا؛ فقد كانت تعتقد أن إظهار مدى شغفها لا بد أن يقودها إلى المتعة التي عرفتها في عزلتها وفي خيالها، وقد شعرت أنه دور موري أن يتولى زمام الأمور، لكنه لم يفعل.

وقد جعلهما هذا الحصار الفكري مشوشين، يشعران ببعض الغضب أو الخزي؛ لذا لم يتوقفا عن التقبيل، والعناق، واستخدام كلمات الغزل؛ ليعوض أحدهما الآخر عند وداعهما متمنيًا كلٌّ منهما للآخر ليلة سعيدة. كان من المريح لجريس أن تكون وحيدة، وأن تأوي إلى فراشها في المهجع، وتطرد من ذهنها أفكارها عن آخر ساعتين أمضتهما. وقد اعتقدت أنه من المريح أيضًا بالنسبة لموري أن يقطع الطريق السريع بمفرده، ويعيد ترتيب انطباعاته عن جريس التي يعرفها، حتى يظل غارقًا في حبها بكل إخلاص وصدق.

•••

غادرت معظم النادلات المكان بعد عيد العمال، وعدن إلى مدارسهن أو كلياتهن، إلا أن الفندق ظل مفتوحًا حتى عيد الشكر، ولكن بفريق عملٍ أقل عددًا؛ كانت جريس من بينه. وقد ترددت أقاويل — هذا العام — بأن الفندق سيفتح أبوابه ثانية في بداية ديسمبر من أجل موسم الشتاء — أو على الأقل خلال فترة أعياد الميلاد — إلا أن أحدًا من عمال المطبخ أو فريق صالة الطعام لم يعرف إن كان هذا صحيحًا أم لا. وقد كاتبت جريس عمها وعمتها بشأن هذا كما لو أن الأخبار بشأن فترة عيد الميلاد كانت أكيدة، بل في الواقع لم تذكر أي شيء عن إغلاق الفندق مطلقًا، إلا أن يكون هناك احتمالية بعد بداية العام الجديد؛ لذا فعليهم إذن ألا يتوقعوا مجيئها في تلك الفترة.

لماذا فعلت ذلك؟ لم يكن الأمر وكأن لديها خططًا أخرى. كانت قد أخبرت موري أنها تعتقد أن عليها أن تمضي هذا العام في مساعدة عمها، وربما تحاول أن تجد شخصًا ليتعلم صناعة المقاعد ويأخذ مكانها، بينما يجتاز هو — موري — السنة النهائية بالكلية. وقد وعدته بأن ترتب لزيارته لهم أثناء فترة عيد الميلاد؛ حتى يمكنه مقابلة عائلتها. وأجابها بأن عيد الميلاد وقت مناسب لإعلان خطوبتهما رسميًّا. لقد كان يدخر راتب عمله الصيفي كي يشتري لها خاتمًا من الألماس.

وكانت هي الأخرى تدخر راتبها؛ وذلك حتى تتمكن من أن تستقل الحافلة إلى كنجستون لزيارته أثناء الفصل الدراسي.

كانت تتحدث عن ذلك، وتقطع وعودًا هكذا ببساطة، لكن هل تعتقد، أو تتمنى، أن يحدث هذا؟

قالت السيدة ترافرس: «إن موري شخصية رائعة، تستطيعين أن تلمسي ذلك بنفسك. سيكون رجلًا محبًّا لا يتسم بالتعقيد؛ فهو يشبه والده، لكنه ليس كأخيه؛ فنيل رجل متقد الذكاء. لا أعني أن موري ليس كذلك؛ فإن المرء لا يمكن أن يصبح مهندسًا دون أن يكون له عقل ذكي، بل ذكي جدًّا، لكن نيل … شخصية عميقة.» ضحكت من نفسها … ««الكهوف المبهمة العميقة لدب المحيط»، عمَّ أتحدث؟ ظللت أنا ونيل لفترة طويلة ليس لأحدنا سوى الآخر؛ لذا أعتقد أنه مميز بعض الشيء. لا أعني أنه لا يمكن أن يكون شخصًا مرحًا، لكن في بعض الأحيان قد يكون أكثر الناس مرحًا هم أكثر مَن يشعرون بالحزن في داخلهم. أليس كذلك؟ تتعجبين منهم، لكن ما جدوى القلق بشأن أبنائك الناضجين؟ بالنسبة لنيل أنا أشعر حياله ببعض القلق، وموري لا أشعر نحوه بالكثير من القلق. أما فيما يتعلق بجريتشن فأنا لست قلقة بشأنها على الإطلاق؛ وذلك لأن النساء دائمًا ما يكون لديهن شيء يعينهن على الاستمرار، أليس كذلك؟ الرجال لا يملكون هذا الشيء.»

•••

لم يغلق المنزل الذي يطل على البحيرة أبوابه حتى عيد الشكر، وعادت جريتشن وأطفالها إلى أوتاوا بالطبع بسبب الدراسة. وكان على موري الذي أنهى عمله الصيفي أن يعود إلى كنجستون. وكان السيد ترافرس لا يخرج إلا في عطلات نهاية الأسبوع. وقد أخبرت السيدة ترافرس جريس أنها عادة ما كانت تمكث بصحبة بعض الضيوف أو تجلس بمفردها.

ثم تغيَّرت خططها؛ فقد عادت إلى أوتاوا مع السيد ترافرس في سبتمبر. حدث هذا بصورة غير متوقعة، وبالتالي أُلغيت دعوة العشاء في عطلة نهاية الأسبوع.

أخبرها موري أنها كانت تعاني من بعض اضطرابات الأعصاب بين الحين والآخر. قال: «ينبغي أن تأخذ قسطًا من الراحة، وكان عليها أن تذهب إلى المستشفى وتمكث هناك لنحو أسبوعين، وهم يعملون على استقرار حالتها، وهي دائمًا ما تغادرها في حالة جيدة.»

قالت جريس إن أمه هي آخر شخص يمكن أن تتخيله يعاني من مثل هذه الاضطرابات.

«لكن ما سبب ذلك؟»

قال موري: «لا أعتقد أنهم يعرفون السبب.»

لكنه أردف بعد دقيقة: «حسنًا، يمكن أن يكون السبب هو زوجها؛ أعني زوجها الأول، والد نيل، وما حدث معه إلى آخره.»

وما حدث هو أن والد نيل قد انتحر.

«أعتقد أنه كان مضطربًا.»

استمر قائلًا: «لكن ربما لا يكون الأمر كذلك، ربما هي أسباب أخرى؛ فقد تكون تلك المشكلات التي تعاني منها بعض السيدات ممن هن في مثل عمرها. وعلى الرغم من ذلك فالأمور على ما يرام؛ فهم يستطيعون إعادتها لحالتها الطبيعية بمساعدة الأدوية الآن. لديهم بعض الأدوية الرائعة. لا تقلقي.»

•••

وكما توقع موري؛ فبحلول عيد الشكر كانت السيدة ترافرس قد غادرت المستشفى وتحسنت حالتها. وأُقيم عشاء عيد الشكر على البحيرة كما هي العادة، وأقيم يوم الأحد كالمعتاد أيضًا؛ وذلك حتى تكون هناك فرصة لحزم الأمتعة وغلق المنزل يوم الاثنين. وكان هذا من حسن حظ جريس أيضًا؛ لأن إجازتها بقيت يوم الأحد.

تجتمع العائلة بأسرها هناك دون وجود أي ضيوف، إلا إذا اعتبرت جريس من بين الضيوف. وسيكون نيل وميفيس وطفلاهما في منزل والدَي ميفيس، وسيتناولون العشاء هناك يوم الاثنين، لكنهم سيمضون يوم الأحد في منزل عائلة ترافرس.

وفي الوقت الذي أحضر فيه موري جريس إلى البحيرة في صباح يوم الأحد، كان الديك الرومي في الفرن بالفعل. وسيكون العشاء مبكرًا في نحو الخامسة بسبب وجود الأطفال. وكانت الفطائر معدَّة فوق مائدة المطبخ؛ حيث أُعدت فطائر القرع، والتفاح، والتوت البري. كانت جريتشن هي المسئولة عن المطبخ، بوصفها طاهية كما كانت رياضية. كانت السيدة ترافرس تجلس قبالة المائدة تحتسي القهوة ومنهمكة في لعبة تركيب الصور المقطعة مع ابنة جريتشن الصغرى دانا.

قالت: «أوه، جريس!» وهبَّت من مكانها لتعانقها — وهي المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك — وبحركة غير محسوبة بيدها نثرت قطع اللعبة.

صاحت دانا: «أوه، جدتي!» وراحت جيني، أختها الكبرى التي كانت تشاهد باهتمام، تجمع قطع اللعبة.

قالت: «يمكننا أن نعيد ترتيبها ثانية، فجدتك لم تقصد ذلك.»

قالت جريتشن: «أين تضعين صلصة التوت البري؟»

قالت السيدة ترافرس وهي لا تزال ضاغطة على ذراع جريس، ومتجاهلة قطع اللعبة المتناثرة: «إنها في الخزانة.»

«في أي مكان بالخزانة؟»

قالت السيدة ترافرس: «أوه، صلصة التوت البري، إنني أصنعها بنفسي، إنني أضع التوت البري في القليل من المياه أولًا، ثم أضعه فوق نار هادئة، لا، أعتقد أنني أقوم بنقعه أولًا.»

قالت جريتشن: «ليس لديَّ وقت لكل هذا. أتعنين أنه ليس لديك زجاجة معلَّبة منها؟»

«لا أعتقد أن لدي منها، فأنا أصنعها.»

«عليَّ أن أرسل أحدًا ليبتاع لي بعضًا منها.»

«بإمكانك أن تسألي السيدة وودز.»

«لا، بالكاد تحدثت معها من قبل. ليس لديَّ الجرأة لأطلب منها شيئًا. يجب أن يذهب أحدهم إلى المتجر.»

قالت السيدة ترافرس بهدوء: «عزيزتي، إنه عيد الشكر، ولن تجدي متجرًا مفتوحًا.»

«هناك ذاك المتجر بالقرب من الطريق السريع دائمًا ما يكون مفتوحًا.» ثم علا صوتها وهي تقول: «أين وات؟»

ردَّت عليها ميفيس من غرفة النوم الخلفية: «إنه في الخارج، في زورق التجديف.» وقد بدا صوتها يحمل بعض التحذير؛ لأنها كانت تحاول أن تحمل رضيعها على النوم. أردفت: «لقد اصطحب مايكي في الزورق.»

كانت ميفيس قد قدمت بسيارتها مع مايكي والرضيع، وسيلحق بهم نيل فيما بعد؛ فقد كان لديه بعض المكالمات ليجريها.

وقد ذهب السيد ترافرس للعب الجولف.

قالت جريتشن: «كل ما أحتاجه هو شخص يذهب إلى المتجر.» وقد انتظرتْ ولم يأتِ أي عرض من غرفة النوم، ثم رفعت حاجبَيْها وهي تنظر نحو جريس.

«لا تستطيعين القيادة، أليس كذلك؟»

وأجابتها جريس بالإيجاب.

نظرت السيدة ترافرس حولها لترى موضع مقعدها، وجلست وقد تنهَّدت تنهيدة تنمُّ عن شكر.

قالت جريتشن: «حسنًا، موري يمكنه القيادة. أين موري؟»

كان موري في غرفة النوم الأمامية يبحث عن لباس البحر الخاص به، بالرغم من أن الجميع أخبروه بأن المياه ستكون شديدة البرودة ويصعب السباحة فيها؛ فقال إن المتجر لن يكون مفتوحًا.

قالت جريتشن: «بل سيكون مفتوحًا؛ فهم يبيعون البنزين، وإذا لم تجده مفتوحًا، فهناك ذلك المتجر الآخر قبالة بيرث؛ ذلك الذي يضع مخروط الآيس كريم.»

أراد موري أن تصحبه جريس، لكن كانت الطفلتان، جيني ودانا، تحثَّانها على أن تأتي معهما لرؤية الأرجوحة التي وضعها جدُّهما أسفل شجرة القيقب النرويجي بجانب المنزل.

وأثناء هبوطها على الدرج شعرت بأن رباط فردة من حذاءَيْها قد قطع، فخلعت فردتَي الحذاء، وسارت دون صعوبة فوق الرمال الناعمة، ونبات موز الجنة الناعم، والعديد من أوراق الشجر الملتوية التي سقطت بالفعل من فوق الأغصان.

قامت أولًا بدفع الأطفال على الأرجوحة، ثم قاموا هم بدفعها بعد ذلك. وحدث عندما قفزت، وهي عارية القدمين، أن شعرت بإحدى ساقَيْها قد انقبضت، وصرخت من الألم وهي لا تدري ماذا حدث.

لقد كانت قدمها، وليست ساقها، وقد نتج الألم من باطن قدمها اليسرى؛ حيث قطعتها الحواف الحادة لصدفة محار.

قالت جيني: «لقد أحضرتْ دانا ذلك المحار؛ فقد أرادت أن تصنع منزلًا للحلزون.»

قالت دانا: «لقد ذهب بعيدًا.»

أسرعت كلٌّ من السيدة ترافرس وجريتشن، وحتى ميفيس، خارج المنزل، فقد اعتقدن أن الصراخ قد صدر من إحدى الطفلتين.

قالت دانا: «إن قدمها ملطخة بالدماء؛ فالدم يغطي الأرض كلها.»

قالت جيني: «لقد جرح المحار قدمها. تركت دانا صدفات المحار هنا. لقد أرادت أن تصنع منزلًا من أجل إيفان؛ إيفان الحلزون.»

قاموا بإحضار طست للغسيل، وبعض المياه لغسل الجرح، ومنشفة، والجميع يسألها إلى أي مدًى يؤلمها ذلك.

قالت جريس وهي تصعد الدرج بعرج، والفتاتان تتنافسان لمعاونتها في الصعود وقد كانتا تعرقلان مسيرها.

قالت جريتشن: «أوه، هذا شيء فظيع، ولكن لماذا لم ترتدي حذاءَكِ؟»

قالت دانا وجيني معًا: «لقد قطع رباطه»، بينما تدور سيارة مكشوفة بلون النبيذ تصدر صوتًا خافتًا في المساحة المخصصة لانتظار السيارات.

قالت السيدة ترافرس: «هذا ما أُطلق عليه الوقت المناسب، ها هو الرجل الذي نحتاجه تمامًا؛ الطبيب.»

كان هذا هو نيل، وكانت تلك المرة الأولى التي تراه فيها جريس. كان طويل القامة، نحيفًا، وسريع الحركة.

قالت السيدة ترافرس بمرح: «أين حقيبتك؛ فلدينا حالة نريدك أن تراها.»

قالت جريتشن: «ها قد جئت بقطعة من الخردة؛ أهي جديدة؟»

قال: «إنها قطعة من الحماقة.»

«لقد استيقظ الرضيع.» أطلقت ميفيس تنهيدة تحمل بعض الاتهام غير الموجَّه لأحد بعينه، ثم هرعت إلى داخل المنزل.

قالت جيني بحدة: «إنك لا تستطيع أن تفعل أي شيء في المنزل دون أن يستيقظ ذلك الرضيع.»

قالت جريتشن: «من الأفضل أن تصمتي.»

قالت السيدة ترافرس: «لا تَقُل إنك لم تحضرها معك.» لكن نيل التقط حقيبة الطبيب من المقعد الخلفي، فقالت: «أوه، إنها معك، هذا جيد، احتياطيًّا … لا تدري ما قد يحدث.»

قال نيل لدانا: «هل أنتِ المريضة؟ ما الأمر؟ هل ابتلعت ضفدعًا؟»

قالت دانا بكبرياء: «إنها هي، جريس.»

«أوه فهمت، إنها هي من ابتلعت الضفدع.»

«لقد جرحت قدمها، إنها تنزف بشدة.»

قالت جيني: «بسبب صدفة المحار.»

وهنا قال نيل لأبناء أخته: «أفسحا المكان.» ثم جلس على الدرج أسفل جريس، ثم رفع قدمها بحرص وقال: «أحضروا لي قطعة من القماش أو ما شابه.» ثم مسح الدماء بحذر حتى يرى الجرح. وعندما أصبح قريبًا منها، لاحظت جريس رائحةً عرفتها أثناء عملها هذا الصيف بالفندق؛ وهي رائحة الخمر الممتزجة بالنعناع.

قال: «من المؤكد أنها تنزف بشدة. هذا شيء جيد؛ فهو يطهرها. هل تؤلمك؟»

قالت جريس: «إلى حدٍّ ما.»

نظر إلى وجهها نظرة فاحصة ولكنها سريعة. ربما تساءل إن كانت قد تعرَّفت على الرائحة، وماذا تظن به الآن.

«أراهن أنها تؤلمك فعلًا. أترين ذلك الجزء المقطوع، علينا أن ندلف أسفل منه ونتأكد من أنه نظيف تمامًا، ثم أخيطه بغرزة أو غرزتين. لديَّ دواء يمكن دهان الجرح به حتى لا يؤلمك بشدة كما تظنين.» نظر نحو جريتشن وقال: «دعونا نقوم بإبعاد جمهور المشاهدين عن الطريق الآن.»

لم يوجِّه أي كلمة لأمِّه بعد؛ ومع ذلك فقد راحت تكرِّر أنه من حسن الحظ حضوره في ذلك الوقت بالتحديد.

قال: «صبي الكشافة دائمًا على استعداد.»

لم تبدُ يده مختلة إثر الشراب، وكذا لم يتضح أثره في عينيه، كما لم يبدُ أنه ذلك العم المرح الذي يتقمص شخصيته حينما يتحدث إلى الأطفال، أو ذلك الشخص الذي يردد الكلام المطَمئِن كما اختار أن يكون مع جريس. كان ذا جبهة عالية شاحبة، وخصلات من الشعر الأسود المجعد المائل للون الرمادي، وعينين رماديتَي اللون لامعتَين، وفم عريض ذي شفاهٍ رفيعة تبدو ملتوية عند نفاد الصبر، أو الشهوة، أو الألم.

عندما ضمَّد الجرح بالخارج فوق الدرج، كانت جريتشن قد عادت إلى المطبخ واصطحبت الأطفال معها، وظلت السيدة ترافرس تشاهد باهتمام وهي تطبق على شفتيها وكأنما تتعهد بأنها لن تُحدِث أي مقاطعة. قال نيل إنه من الأفضل أن تؤخذ جريس إلى المدينة من أجل الذهاب إلى المستشفى هناك.

«من أجل حقنة مضادة للتيتانوس.»

قالت جريس: «إن الأمر ليس بهذا السوء.»

قال نيل: «ليس هذا هو المقصد.»

قالت السيدة ترافرس: «أوافقه الرأي، التيتانوس، هذا شيء فظيع.»

قال: «علينا ألا ننتظر طويلًا. جريس، سأصحبكِ للسيارة.» ثم أمسكها من أسفل ذراعها. ربطت فردة حذائها، ونجحت في أن تضع أصابع قدمها المصابة في الفردة الأخرى حتى تحاول جذبها وهي تسير. وكانت الضمادة نظيفة ومحكمة.

قال حينما كانت تتخذ مقعدها في السيارة: «سأنطلق الآن، وبلِّغيهم اعتذاري.»

إلى جريتشن؟ بل إلى ميفيس.

هبطت السيدة ترافرس من الشرفة، يلفُّها ذلك الحماس المبهم الذي بدا طبيعيًّا، والذي لا تستطيع كبح جماحه في ذلك اليوم. وضعت يدها على باب السيارة.

قالت: «هذا شيء جيد. جيد تمامًا جريس. لقد أرسلكِ الله اليوم. ستحاولين أن تبعديه عن الشراب اليوم، أليس كذلك؟ تعرفين كيف تفعلين ذلك.»

سمعت جريس هذه الكلمات، لكنها لم تُعِرْها أي تفكير؛ فقد كانت تشعر بالحيرة الشديدة إزاء ذلك التغير الذي طرأ على السيدة ترافرس، وما بدا وكأنه زيادة في حجمها، تيبَّس في جميع حركاتها، بل نوبة محمومة من التعاطف، سعادة غامرة تنهال من عينيها. وقد بدت على جانبَي فمها طبقة رقيقة كحبات السكر.

•••

كان المستشفى يقع في كارلتون على بعد نحو ثلاثة أميال. كان هناك طريق سريع يقطع طريق السكة الحديدية، وقد قطعوا ذلك الطريق بسرعة شديدة شعرت معها كريس بأن السيارة في أعلى سرعتها قد ارتفعت عن سطح الطريق الممهد، وكأنما يحلِّقان بها. لم يكن هناك أي إشارات للمرور، ولم تكن خائفة، وعلى أي حال لم يكن في وسعها أن تفعل أي شيء حيال ذلك.

•••

كان نيل يعرف الممرضة المناوبة في قسم الطوارئ، وبعد أن قام بملء استمارة الدخول وجعلها تُلقي نظرة على قدم جريس (وقد قالت دون اهتمام: «عمل جيد»)، تمكن بعدها من أن يعطي حقنة التيتانوس لجريس بنفسه: «إنها لن تؤلمك الآن، ولكن ربما فيما بعد.» وبمجرد أن انتهى، عادت الممرضة إلى غرفة التغيير وقالت: «هناك شاب في غرفة الانتظار لكي يصحبها إلى المنزل.»

ثم وجَّهت حديثها لجريس قائلة: «إنه يقول إنه خطيبك.»

قال نيل: «أخبريه أنها لم تنتهِ بعد، بل أخبريه أننا قد ذهبنا بالفعل.»

«لكني أخبرته بأنكم موجودون بالفعل.»

قال نيل: «لكنكِ عندما رجعتِ اكتشفتِ أننا ذهبنا.»

«لكنه يقول إنه أخوك، ألن يشاهد سيارتك في المرأب؟»

«لقد أوقفتُ السيارة بالخلف؛ في المرأب الخاص بالأطباء.»

قالت الممرضة وهي ذاهبة: «يا لها من خدعة!»

قال نيل لجريس: «إنك لا تريدين العودة إلى المنزل بعد، أليس كذلك؟»

قالت جريس: «بلى.» قالتها وكأن الكلمة مكتوبة أمامها على الحائط، كما لو أنها تُجري اختبارًا على بصرها.

ومرة أخرى ساعدها لكي تدلف إلى السيارة، وقد تدلَّت فردة الحذاء من خلال الرباط الملفوف حول أصابع قدمها، واستقرَّت جريس فوق فرش السيارة ذي اللون الكريمي، وقطعوا طريقًا خلفيًّا عندما غادروا المرأب؛ وهو طريق غير مألوف خارج المدينة. كانت تعرف أنها لن ترى موري، ولم يكن عليها أن تفكر به، أو تفكر كثيرًا في ميفيس.

وإذا ما وصفت جريس تلك الفترة؛ ذلك التغيُّر في حياتها فيما بعد، فإنها ستقول — أو قالت بالفعل — إنه كان أشبه بالبوابة التي أُغلقت خلفها مُحدِثة صوتًا عاليًا، لكنه لم يكن صوتًا عاليًا في وقته؛ بل هو خضوع غمرها بأكملها، وتلاشت أحقية الذين خلَّفتهم وراءها في أي شيء.

ظلَّت ذكرياتها عن ذلك اليوم واضحة ومليئة بالتفاصيل، بالرغم من أنها أدخلت بعض الاختلافات على أجزاء منها حينما كانت ترويها.

وحتى في بعض هذه التفاصيل، ولا بد وأنها كانت مخطئة.

•••

قاد أولًا باتجاه الغرب على الطريق السريع ٧، وحسبما تذكر جريس، فلم يكن هناك أي سيارة أخرى تسير على الطريق السريع، وقد اقتربت سرعتهم من الطيران عند اجتيازهم الطريق السريع، ولكن لا يمكن أن يكون ذلك حقيقيًّا؛ فلا بد وأنه كان هناك بعض الأشخاص على الطريق؛ أشخاص في طريقهم للعودة إلى منازلهم في صباح ذلك الأحد؛ في طريقهم لكي يمضوا عيد الشكر مع عائلاتهم؛ في طريقهم إلى الكنيسة، أو عودتهم إلى منازلهم من الكنيسة. ولا بد أن نيل قد أبطأ من سرعته حينما كان يمر من خلال القُرى، أو عند أطراف المدينة، أو عند اجتياز أيٍّ من المنعطفات على الطريق السريع القديم. لم تكن معتادة على ركوب السيارات المكشوفة، والرياح تغشِّي عينيها، وتداعب خصلات شعرها. هذا في حد ذاته منحها الشعور الزائف بالسرعة الشديدة، بل بالتحليق عاليًا؛ بالطمأنينة التي تشبه المعجزة وليست المحمومة.

وبالرغم من أن موري وميفيس والعائلة قد سقطوا جميعًا من ذهنها، إلا أن السيدة ترافرس ظلت باقية تحلِّق، وتوصِّل في همس، وبضحكة غريبة مخزية، رسالتها الأخيرة.

«تعرفين كيف تفعلين ذلك.»

بالطبع لم يتحدَّث نيل وجريس، وكما تتذكر، كان على المرء أن يصرخ لكي يسمعه الآخر. وما تتذكره، في حقيقة الأمر، لا يختلف كثيرًا عما كان في مخيلتها في ذلك الوقت عما عساه الجنس أن يكون؛ المقابلة التي حدثت مصادفة، الإشارات الصامتة وإن كانت قوية، الرحلة الصامتة تقريبًا والتي كانت ترى نفسها فيها أسيرة على نحو أو آخر، الاستسلام الحالم الخيالي؛ فجسمها الآن ما هو إلا تيار من الرغبة الجارفة التي تجتاحها.

توقفا أخيرًا في كالادر، ودخلا إلى أحد الفنادق؛ الفندق القديم الذي لا يزال موجودًا حتى الآن. أمسك بيدها، وتخللت أصابعه أصابعها، وأبطأ من سرعة خطاه حتى تتماشى مع خطواتها الوئيدة. قادها نيل إلى البار، ولقد أدركت أنه كذلك، بالرغم من أنها لم تطأ واحدًا من قبل (لم يكن فندق بيليز فولز لديه تصريح بذلك؛ فقد كان الأفراد يحتسون الخمر في غرفهم، أو في أحد الملاهي الليلية المتداعية على الطريق). كان كما توقعته تمامًا؛ غرفة كبيرة مظلمة تكاد تكون خالية من الهواء؛ حيث المقاعد والموائد تصطفُّ في الخلف بلا اعتناء بعد عملية تنظيف سريعة، ولم تستطع رائحة منظف الليسول القوية أن تغطِّي على رائحة الجعة، والويسكي، والسيجار، والغليون، والرجال أيضًا.

لم يكن ثَمَّةَ أحد هناك، ربما لا يفتح أبوابه حتى فترة ما بعد الظهيرة. ولكن ألا يحتمل أن يكون الوقت الآن بعد الظهيرة؟ بدا تقديرها للوقت خاطئًا.

ظهر رجل الآن من غرفة أخرى، وتحدَّث مع نيل. قال: «مرحبًا دكتور.» ثم وقف خلف البار.

اعتقدت جريس أن الأمر سيسير هكذا؛ فكل مكان سيذهبان إليه سيجدان به شخصًا يعرفه نيل بالفعل.

قال الرجل بصوت عالٍ تشوبه بعض الحدة، بل يكاد يصل إلى حدِّ الصراخ، كما لو أنه أراد أن يسمعه مَن بالمرأب: «تعلم أنه يوم الأحد، لا أستطيع أن أبيع لك شيئًا هنا اليوم، ولا أستطيع أن أبيع لها شيئًا على الإطلاق. إنها لا ينبغي حتى أنْ تكون هنا. أتفهم ذلك؟»

قال نيل: «نعم سيدي، حقًّا سيدي، أتفق معك بشدة.»

وأثناء حديث الرجلين، قام الرجل الواقف خلف البار بجذب زجاجة من الويسكي من فوق رفٍّ خفي، ثم صَبَّ بعضًا منها في كأس وأعطاه لنيل عبر النضد.

قال لجريس: «هل تشعرين بالعطش؟» وكان قد فتح بالفعل زجاجة من المياه الغازية وأعطاها إياها دون أن يصبَّها في كأس.

قام نيل بوضع ورقة نقدية على النضد؛ بَيْدَ أن الرجل أزاحها بعيدًا.

قال لنيل: «لقد أخبرتك بأني لا أستطيع البيع.»

قال نيل: «وماذا عن المياه الغازية؟»

«لا أستطيع البيع.»

قام الرجل بإزاحة الزجاجة بعيدًا، وتجرَّع نيل ما تبقَّى في الكأس سريعًا، وقال: «إنك رجل طيب، إنها روح القانون.»

«خذ معك علبة المياه الغازية، كلما غادرَتَ سريعًا ازدادت سعادتي.»

قال نيل: «بالطبع؛ إنها فتاة لطيفة، إنها زوجة أخي؛ زوجة أخي المستقبلية، كما فهمت.»

«هل هذه هي الحقيقة؟»

لم يعودا إلى الطريق السريع رقم ٧؛ إذ سلكا بدلًا منه الطريق المتجه شمالًا، والذي لم يكن ممهدًا، ولكنه كان واسعًا كفاية ومتدرجًا على نحو مقبول. بدا أن للشراب تأثيرًا معاكسًا لما يُفترض أن تُحدِثه المشروبات على قيادة نيل؛ فقد أبطأ للحد الذي يتناسب مع هذا الطريق، بل إنه كان حذرًا أيضًا.

قال: «أتمانعين؟»

قالت جريس: «أمانع في ماذا؟»

«الذهاب إلى أي مكان قديم.»

«لا.»

«أحتاج إلى صحبتك. كيف حال قدمك؟»

«إنها بخير.»

«لا بد أنها تؤلمك نوعًا ما.»

«ليس كثيرًا. كل شيء على ما يرام.»

أمسك يدها التي لم تكن تحمل علبة الكولا، وألصق راحة يدها على فمه ثم تركها تسقط.

«هل تعتقدين أنني اختطفتك لأغراض شريرة؟»

كذبت عليه جريس حين قالت: «كلا» وهي تفكر كيف بدت هذه الكلمة «شريرة» مثل كلام أمه.

قال، كما لو أنها أجابته بنعم: «ربما تكونين على صواب في أي وقت آخر، ولكن ليس اليوم. لا أعتقد هذا. أنت اليوم في مأمن تمامًا مثل الكنيسة.»

وكان للتغير في نبرة صوته، التي غلبت عليها الحميمية والصراحة والهدوء، وتذكُّرها لحركة شفتيه على يدها، أثر على جريس، حتى إنها صارت تسمع كلماته ولكنها لم تفهم معناها. كان بوسعها أن تستشعر مائة لمسة، بل مئات اللمسات من شفتيه، رقصة من التضرع، على جسدها بالكامل، ولكنها استطاعت أن تقول: «الكنائس ليست آمنة دومًا.»

«هذا صحيح. معكِ حق.»

«وأنا لست زوجة شقيقك.»

«المستقبلية. ألم أقل المستقبلية؟»

«أنا لست هذه أيضًا.»

«آه، حسنًا. أعتقد أنني لست مندهشًا. لا. لست مندهشًا.»

ثم تغيَّرت نبرة صوته ثانية لتصبح عملية.

«أبحث عن طريق فرعي هنا، ناحية اليمين. هناك طريق عليَّ التعرف عليه. هل تعرفين هذه البلدة على الإطلاق؟»

«لا، ليس هذا المكان.»

«ألا تعرفين فلاور ستيشن؟ أومباه، بولاند؟ سنو رود؟»

لم يسبق لها أن سمعت بهذه الأماكن.

«هناك شخص أود رؤيته.»

انعطف لليمين وهو يتمتم في تشكُّك. لم تكن هناك أي لافتات. هذا الطريق كان أضيق وأكثر وعورة، ويضم جسرًا من حارة واحدة ذا أرضية من الألواح الخشبية، وظلَّلتهما أغصان أشجار الغابة ذات الخشب الصلب التي تشابكت فوقهما. وقد تأخر اصفرار الأوراق في هذا العام بسبب المناخ الدافئ الغريب؛ لذا احتفظت هذه الفروع بلونها الأخضر، فيما عدا الشاذة منها، والتي برزت كالرايات. عمَّ المكان شعور بالقدسية. ظل نيل وجريس صامتَيْن لعدة أميال، وكانت الأفرع لا تزال تغطيهما وتبدو الغابة بلا نهاية، ولكن نيل قطع هذه السكينة.

قال: «هل تستطيعين القيادة؟» وعندما أجابت جريس بالنفي، قال: «أعتقد أنه لا بد لك أن تتعلمي القيادة.»

وكان يعني الآن. أوقف السيارة وخرج منها واستدار إلى الجانب الذي كانت تجلس فيه، وكان عليها الجلوس وراء المقود.

«ليس هناك مكان للتعلم أفضل من هذا.»

«ماذا لو اعترض طريقي شيء ما؟»

«لن يعترض طريقك شيء، وسوف نتولى الأمر إن حدث هذا. وهذا هو السبب الذي جعلني أختار طريقًا مستقيمًا. ولا تخافي، سوف تفعلين كل شيء بقدمك اليمنى.»

كانا في بداية نفق طويل تظلله الأشجار، بينما فرشت أشعة الشمس خيوطها على الأرض. لم يعبأ بشرح أي شيء حول كيفية قيادة السيارات، بل أراها ببساطة أين تضع قدمها، وجعلها تتمرس على تغيير السرعات، ثم قال: «الآن انطلقي وافعلي ما أُمليه عليكِ.»

أفزعتها القفزة الأولى للسيارة. أمسكت بناقل الحركة وظنت أنه سينهي الدرس على الفور، ولكنه ضحك. قال «تمهلي، تمهلي، استمري في القيادة.» وكان هذا هو ما فعلته. لم يعلِّق على توجيهها للسيارة أو كيف أنساها توجيه المقود الضغط على دواسة البنزين، فكل ما قاله: «استمري في القيادة للأمام، هيا، ابقي على الطريق، لا تدعي المحرك ينطفئ.»

قالت: «متى أستطيع التوقف؟»

«ليس قبل أن أخبرك.»

جعلها تواصل القيادة حتى خرجا من النفق، ثم أرشدها عن كيفية استخدام المكبح، وبمجرد أن توقفت فتحت الباب حتى يمكنهما تبادل الأماكن، ولكنه قال: «لا، إن تلك هي مجرد استراحة قصيرة. سرعان ما سيروق لك الأمر.» وعندما بدأت القيادة مجددًا وجدت أنه ربما يكون محقًّا، وكادت هذه الدفقة اللحظية من الثقة بالنفس أن تسقطهما في قناة؛ ومع ذلك، فقد ضحك عندما اضطر أن يمسك بعجلة القيادة واستمر الدرس.

لم يدعها تتوقف حتى قطعا ما يقرب من عدة أميال، بل وانعطفا — ببطء — مرات عديدة، ثم قال لها إنه من الأفضل أن يتبادلا الأماكن؛ لأنه لا يملك الحس بالاتجاهات إلا عندما يقود.

سألها عن شعورها الآن، وبالرغم من أنها كانت ترتعد، إلا أنها قالت: «لا بأس.»

دلَّك ذراعها من الكتف إلى المرفق وقال: «يا لكِ من كاذبة!» ولكنه لم يمسسها أكثر من هذا، ولم يجعل أي جزء من جسدها يستشعر شفتيه ثانية.

ولا بد أنه استعاد حس الاتجاهات بعدما قطعا عدة أميال عند بلوغهما تقاطع طرق؛ حيث إنه انعطف يسارًا وتضاءلت الأشجار وصعدا طريقًا وعرًا على تل طويل، وبعد بضعة أميال وصلا إلى قرية، أو على الأقل مجموعة من المباني على جانب الطريق. كانت هناك كنيسة ومتجر، وكلاهما لم يفتحا أبوابهما ليخدما الغرض الذي أُسِّسا من أجله؛ حيث كان يوجد على الأرجح من يعيش فيهما، وقد استدلت على ذلك من خلال السيارات الواقفة حولهما والستائر الرثة المعلقة على النوافذ. ثَمَّةَ بضعة منازل في نفس الحالة وخلف واحد منها حظيرة متداعية، مع بروز قش قديم داكن بين عوارضها المتصدعة مثل الأحشاء المنتفخة.

بدت على نيل أمارات السعادة عندما رأى هذا المكان، ولكنه لم يتوقف عنده.

قال: «كم هدأ بالي الآن … كم هدأ بالي الآن. الآن أعرف. شكرًا لكِ.»

«أنا؟»

«لأنكِ سمحتِ لي بتعليمك القيادة. لقد أراحني هذا.»

قالت جريس: «أراحكَ؟ حقًّا؟»

«نعم. حقيقي تمامًا.» كان نيل يبتسم ولكنه لم ينظر إليها، كان منشغلًا في النظر من جانب لآخر عبر الحقول التي امتدت بطول الطريق بعد أن تجاوز القرية. كان يبدو وكأنه يتحدث إلى نفسه.

«هذه هي. لا بد أن تكون كذلك. الآن نعرف.»

واستمر على هذا الحال حتى انعطف في حارة لم تمتد على نحو مستقيم، وإنما ملتوٍ عبر حقل، متجنبًا الصخور ورقع الأرض المزروعة بنبات العرعر. وفي نهاية الحارة كان ثمة منزل لا يبدو بحال أفضل من حال المنازل في القرية.

قال: «الآن، لن أصطحبك إلى داخل هذا المكان، لن أتأخر أكثر من خمس دقائق.»

•••

ولكنه تأخر أكثر من هذا.

جلست في السيارة، التي كانت تربض في ظل المنزل. كان باب المنزل مفتوحًا، ولكن الباب الشبكي كان مغلقًا. كان السلك ينطوي على رُقع تم إصلاحها؛ سلك جديد مشبوك بالقديم. لم يأتِ أحد لإلقاء نظرة عليها، ولا أي مخلوق. والآن بعد أن توقفت السيارة، امتلأ النهار بهدوء غير طبيعي. كان غير طبيعي لأنك قد تتوقع أن عصرًا حارًّا كهذا سيكون مليئًا بأزيز حشرات العشب وطنينها وصريرها وسط شجيرات العرعر. حتى وإن لم تستطع رؤيتها في أي مكان، فينبغي أن يعلو ضجيجها من كل شيء ينمو على الأرض، وتمتد بامتداد الأفق، ولكنه كان وقتًا متأخرًا من العام، متأخرًا للغاية بحيث لا يمكنك حتى سماع صيحات الأوز وهو يحلِّق صوب الجنوب. بأي حال من الأحوال، هي لم تسمع شيئًا.

بدَوَا وكأنهما على قمة العالم هنا، أو فوق واحدة من أعلى بقع العالم؛ فكان الحقل يمتد أسفلهما من جميع الجوانب، والأشجار من حولهما لم ترَ منها سوى أجزاء صغيرة فقط؛ لأنها نمت على أرض أكثر انخفاضًا.

مَن الذي يعرفه هنا؟ من يعيش في هذا المنزل؟ سيدة؟ لم يبدُ ممكنًا أن نوعه المفضل من النساء يمكن أن يكون في مكان كهذا، ولكن لم يكن هناك حدٌّ للأمور الغريبة التي يمكن أن تتعرض لها جريس في هذا اليوم. ليس لها حد.

ذات يوم كان هذا منزلًا من الطوب، ولكن أحدهم قد شرع في هدم جدران الطوب، فبدت الجدران الخشبية البسيطة عارية من تحتها، وقد تم تكديس الطوب الذي كان يغطيها في الفناء، ربما انتظارًا لبيعه. والطوب الذي تُرك على هذا الجدار من المنزل شكَّل خطًّا مائلًا، وكأنه درجات سلم، ولأنه لم يكن هناك شيء تفعله جريس، فقد اتكأت للخلف دافعة مقعدها للوراء كي تَعُدَّها. كانت تفعل هذا بغباء وجدية في نفس الوقت، بالطريقة التي تنتزع بها بتلات الزهرة، ولكنها لم تكن تقول شيئًا صارخًا مثل: يحبني، لا يحبني.

«محظوظة. غير محظوظة. محظوظة. غير محظوظة.» هذا هو كل ما واتتها الجرأة لتقوله.

وجدت أنه يصعب عليها تتبع الطوب؛ لأنه جاء على نحو متعرِّج، وخاصة أن الخط أصبح مستويًا فوق الباب.

كانت تعرف. ماذا عساه يمكن أن يكون هذا غير منزل أحد مهربي الخمور؟ فكَّرت في شكل هذا المهرب في المنزل؛ رجل عجوز نحيف متعب، نكد المزاج ومتشكك، يجلس على العتبة الأمامية لمنزله بينما يمسك ببندقية في ليلة الهالوين، وقد حفر أرقامًا على أعواد الخشب التي يشعل بها المدفأة ورصَّها بجوار منزله حتى يعرف إذا ما سُرق أيٌّ منها. تخيلت هذا الرجل وهو نائم مستدفئ في حجرته القذرة وإن كانت مرتبة (عرفت أنها ستكون على هذا النحو من خلال الرقع التي تم إصلاحها على الباب الشبكي)، وتخيَّلته وهو ينهض من فوق سريره الصغير أو أريكته التي تُصدِر صريرًا، والتي يغطيها لحاف مليء بالبقع صنعته له قبل وقت طويل إحدى قريباته أو سيدة ليست على قيد الحياة الآن.

وليس الأمر أنه سبق لها دخول منزل أحد مهربي الخمور، ولكن الفوارق — في بلدتها — بين طرق الحياة المحترمة التي غلب عليها الفقر وغير المحترمة كانت دقيقة. كانت تعرف مثل هذه الأمور.

كم كان أمرًا غريبًا حقًّا أنها فكرت في الزواج من موري. كانت هذه ستكون بمثابة خيانة؛ خيانة لنفسها، ولكن استقلالها السيارة مع نيل ليس خيانة؛ لأنه يعرف أنها فعلت أمورًا من هذا القبيل قبل ذلك، وهي عرفت الكثير والكثير عنه.

والآن، بدا لها أنها تستطيع رؤية عمها في المدخل، منحنيًا ومتحيرًا، وقد أخذ ينظر لها وكأنها غائبة منذ سنوات وسنوات، كما لو أنها وعدت بالعودة إلى المنزل ونسيت هذا الأمر، وطوال ذلك الوقت كان من المفترض أن يموت، ولكنه لم يفعل.

صارعت كي تتحدث معه، ولكنه كان تائهًا. استيقظت لتجد أنها تتحرك. كانت في السيارة مع نيل، على الطريق مجددًا، كانت نائمة وفمها مفتوح؛ لذا شعرت بالعطش. استدار ناحيتها للحظات، ولاحظت، بالرغم من الرياح التي كانت تلفحهما، أن ثَمَّةَ رائحة ويسكي جديدة تفوح منه.

كان ما توقَّعته صحيحًا.

قال: «أَستيقظتِ؟ لقد كنتِ مستغرِقة في النوم عندما عدتُ. آسف … اضطررتُ أن أتحدث معهم لفترة. ألا ترغبين في دخول الحمام؟»

في الواقع، كانت هذه مشكلة تفكر فيها أثناء توقفهما عند المنزل. كانت قد رأت دورة مياه خلف المنزل، ولكنها خجلت من الترجل من السيارة والتوجه نحوها.

قال: «يبدو هذا مكانًا مناسبًا.» وأوقف السيارة. ترجلت من السيارة وسارت بين زهور القضبان الذهبية اليانعة والخلة الشيطانية ونبات زهرة النجمة، ثم جلست القرفصاء، بينما وقف هو بين هذه الزهور على الجانب الآخر من الطريق، وهو يدير وجهه للناحية الأخرى. وعندما عادت إلى السيارة رأت الزجاجة على الأرض بجوار قدميها، وقد بدا أن أكثر من ثلثها قد شُرب.

رآها وهي تحدق بالزجاجة.

قال: «آه، لا تقلقي؛ لقد صببت بعضًا منها هنا.» كان ممسكًا بقارورة صغيرة، ثم استطرد: «هكذا أسهل أثناء القيادة.»

كانت هناك زجاجة كوكاكولا على الأرض أيضًا. طلب منها البحث في درج تخزين القفازات أمامها عن فتَّاحة الزجاجات.

قالت متفاجئة: «إنها باردة.»

«بفعل الثلج. إنهم يقتطعون الجليد من البحيرات في الشتاء ويخزنونه في نشارة الخشب، وهم يحتفظون به أسفل المنزل.»

قالت: «ظننت أنني رأيت عمي في مدخل هذا المنزل، ولكني كنت أحلم.»

«يمكنكِ أن تخبريني عن عمك. أخبريني عن مكان إقامتك، وظيفتك، أي شيء. أحب فقط أن أسمعك تتحدثين.»

كانت هناك قوة جديدة في صوته، وتغيُّرٌ في وجهه، ولكنه لم يكن توهُّج الثمالة الجنوني؛ فيبدو الأمر كما لو أنه كان مريضًا … ليس مريضًا للغاية، ولكنه متوعك بعض الشيء بسبب هذا الطقس ويريد الآن طمأنتها أنه أفضل. أعاد غطاء القارورة مكانه ووضعها جانبًا وأمسك يدها. أمسكها بخفة، وكأنه يصافح رفيقه.

قالت جريس: «إنه عجوز للغاية، إنه عم والدي في الواقع، إنه يصنع مقاعد الخيزران. لا أستطيع شرح هذا لك، ولكن يمكنني أن أريك إن كان لدينا مقعد من الخيزران.»

«لا يوجد واحد هنا.»

ضحكتْ وقالت: «إنه أمرٌ ممل في الواقع.»

«أخبريني عن اهتماماتك إذن. ما الذي يثير اهتمامك؟»

قالت: «أنت.»

سحب يده من فوق يدها: «وما الذي يثير اهتمامك فيَّ؟»

قالت جريس في حسم: «ما تفعله الآن، وسببه.»

«أتعنين شرب الخمر؟ لماذا أشرب؟» أزاح الغطاء ثانية: «لماذا لا تسألينني؟»

«لأنني أعرف ما الذي ستقوله.»

«ماذا؟ ما الذي سأقوله؟»

«ستقول: وما عساني أفعل غير ذلك؟ أو شيئًا من هذا القبيل.»

قال: «هذا صحيح، هذا يشبه ما كنت سأقوله. حسنًا، إذن ستحاولين أن تخبريني سبب خطئي.»

قالت جريس: «لا، لن أفعل هذا.»

وعندما قالت ذلك، شعرت بالبرود. ظنَّت أنها جادة أكثر من اللازم، ولكنها رأت الآن أنها كانت تحاول إبهاره بهذه الإجابات؛ لتثبت له أنها خبيرة بالناس والحياة مثله، وفي خضم هذا توصلت لهذه الحقيقة المطلقة. هذا الافتقار للأمل … الحقيقي والعقلاني والدائم.

قال نيل: «ألن تفعلي؟ لا، لن تفعلي. كم ارتحت. أنت باعثة على الراحة حقًّا يا جريس.»

بعد برهة قال: «أتعلمين؟ أشعر بالنعاس. بمجرد أن أجد مكانًا مناسبًا، سوف أوقف السيارة وأنام، لفترة وجيزة. أتمانعين في ذلك؟»

«لا أمانع. أظن أن عليك القيام بهذا.»

«سوف تحرسينني؟»

«نعم.»

«حسن.»

كانت البقعة التي وجدها تقع في قرية صغيرة تُدعى فورتشن، كان هناك متنزه على أطرافها إلى جوار نهر، ومكان مكسو بالحصى لإيقاف السيارات. دفع المقعد للوراء وغطَّ في النوم على الفور. حلَّ الليل كما اعتاد أن يفعل في هذا الوقت، في وقت العَشاء، مما يثبت أنه لم يكن يومًا من أيام الصيف بأي حال. بدا أنه كان هنا أناس في نزهة يحتفلون بعيد الشكر منذ فترة قصيرة؛ فلا زال هناك دخان ينبعث من أخشاب أُشعلت للتدفئة في الهواء الطلق، وانتشرت رائحة هامبورجر في الهواء. لم تجعل الرائحة جريس تشعر بالجوع، بل جعلتها تتذكر شعورها بالجوع في ظروف أخرى.

استغرق في النوم على الفور وخرجت هي من السيارة. كان بعض الغبار قد علق بها نتيجة وقفاتهما العديدة ودرس القيادة الذي خاضته. غسلت ذراعيها ويديها ووجهها جيدًا بقدر استطاعتها في صنبور خارجي وجدته. بعد ذلك، سارت ببطء — بسبب قدمها المصابة — حتى حافة النهر، ولاحظت كم هو ضحل، مع اختراق الأعشاب لسطحه. وكانت هناك لافتة تقول إنه يحظر ممارسة الفحشاء أو القيام بأفعال تخدش الحياء أو استخدام الألفاظ النابية في هذا المكان، وأنه سوف يتم معاقبة من يفعل هذا.

جرَّبت الأرجوحات، التي كانت تواجه جهة الغرب. دفعت نفسها لأعلى، ونظرت للسماء الصافية؛ كان لونها أخضر باهتًا ممزوجًا بلون ذهبي شاحب، وكان هناك حدٌّ وردي كبير في الأفق. أصبح الجو باردًا بالفعل.

ظنت أنهما سيتلامسان؛ شفتاهما، لساناهما، جسداهما، احتكاك العظام بعضها ببعض؛ التأجج، الشغف، ولكن لم يكن هذا هو ما يخبئه لهما القدر على الإطلاق. كان هذا أشبه بلعب الأطفال مقارنة بمدى معرفتها به، مدى اكتشافها لمكنوناته، الآن.

ما رأته كان نهائيًّا، كما لو كانت على حافة مياه داكنة مستوية امتدت على مد البصر؛ مياه باردة مستوية، وبينما تنظر إلى هذه المياه الداكنة الباردة المستوية عرفت أنها كل ما كان هناك.

ولم تكن مسألة معاقرته الخمر هي التي جعلتها تفكر على هذا النحو، ولم يكن الانتظار كذلك، أيًّا كان هذا الانتظار، وطوال الوقت. شرب الخمر، أو الحاجة إلى الشرب؛ كان هذا مجرد نوع من الإلهاء، شأنه شأن أي شيء آخر.

عادت إلى السيارة وحاولت إيقاظه. تقلَّب ولكنه لم يستيقظ؛ لذا سارت في الأرجاء مجددًا كي تبقى دافئة، ولكن على مهل كي لا تؤذي قدمها. أدركت الآن أنها ستعود لعملها مجددًا؛ لخدمة الزبائن وتقديم الإفطار، في الصباح.

حاولت ثانية، متحدثة معه بإلحاح، فأجابها بالعديد من الوعود والتمتمات، وغطَّ في النوم ثانية. وعندما حلَّ الظلام كانت قد استسلمت. والآن بعد مداهمة برد الليل لها اتضحت لها حقائق أخرى؛ أنهما لن يظلا هنا، وأنهما ما زالا في هذا العالم، وأن عليها العودة إلى بيليز فولز.

وبصعوبةٍ نقلته إلى المقعد المجاور لقائد السيارة. وإن لم يوقظه هذا، فيبدو أنه ما من شيء آخر سيفعل. استغرق منها الأمر بعض الوقت لتعرف كيف تضيء المصابيح الأمامية، ثم بدأت تحرِّك السيارة وهي تهتز وتسير ببطء نحو الطريق.

لم يكن لديها أدنى فكرة عن الاتجاهات، ولم يكن هناك أحد على الطريق لتسأله. ظلت فقط تقود حتى الجانب الآخر من البلدة، وهناك، لحسن الحظ، وجدت لافتةً تشير إلى الطريق المؤدي إلى بيليز فولز، من بين أماكن أخرى. إنها على بعد تسعة أميال فقط.

قادت السيارة على الطريق السريع الذي انقسم إلى حارتين بسرعة لا تزيد عن ثلاثين ميلًا في الساعة. لم يكن هناك ازدحام مروري. مرة أو مرتان تجاوزتها سيارة وهي تطلق البوق، والسيارات القليلة التي واجهتها كانت تطلق النفير أيضًا. ربما كان هذا لأنها تقود ببطء شديد، وربما في المرات الأخرى لأنها لم تكن تعرف كيفية تخفيف الضوء الساطع. لا بأس، ليس بوسعها التوقف، فلن تستطيع أن تستجمع شجاعتها ثانية في منتصف الطريق. لم يكن بإمكانها شيء سوى مواصلة القيادة، كما قال لها: «واصلي القيادة.»

في البداية لم تتعرف على بيليز فولز؛ لأنها وصلتها بهذه الطريقة غير المعتادة. وعندما وصلت، أصبحت أكثر فزعًا مما كانت خلال التسعة أميال السابقة. كان السبب الأول لذلك هو القيادة في مكان لا تعرفه، وكان السبب الآخر هو أنه كان عليها التوقف أمام بوابات الفندق.

كان مستيقظًا عندما توقفت في ساحة الانتظار. لم يبدُ متفاجئًا لأنه استيقظ في مكان آخر، ولم يفاجأ حتى مما فعلته، بل أخبرها أن أصوات النفير أيقظته في الواقع قبل عدة أميال، ولكنه تظاهر بأنه لا يزال نائمًا؛ لأنه رأى أن المهم ألا يفزعها، ولكنه لم يكن قلقًا؛ فقد عرف أن بوسعها القيام بهذا.

سألته إن كان متيقظًا كفاية الآن ليقود.

«متيقظ للغاية، وألمع مثل الدولار.»

طلب منها خلع حذائها، واستشعرها وضغط عليها هنا وهناك قبل أن يقول: «جيد، ليس بها سخونة وليست متورمة. هل تؤلمك ذراعك؟ إنه لن تؤلمك في الغالب.» اصطحبها حتى الباب وشكرها على صحبتها. كانت لا تزال مندهشة لأنها عادت بأمان. لم تدرك تقريبًا أنه حان وقت الوداع.

في الحقيقة، إنها لا تعرف حتى يومنا هذا إن كانا ردَّدا كلمات الوداع أم لا، أم أنه فقط لفَّ ذراعيه حولها وعانقها بقوة وبضغط متغير ومستمر حتى إنه بدا وكأنه يحتاج أكثر من ذراعين، وأنه احتواها، كان جسده قويًّا وخفيفًا، يطلبها ويتخلى عنها في نفس الوقت، كما لو أنه يخبرها أنها كانت مخطئة في تركه؛ فكل شيء محتمل، ولكن مرة أخرى كأنه يقول إنها لم تكن مخطئة في ذلك الحين، لقد أراد أن يترك عليها أثرًا ثم يرحل.

•••

وفي وقت مبكر من الصباح، طرق المدير على باب المهجع مناديًا على جريس.

قال: «مكالمة هاتفية لك. لا تنهضي، إنهم فقط يريدون معرفة هل أنت هنا أم لا. قلت إنني سآتي وأتأكد. حسنًا الآن.»

قالت في نفسها لا بد أنه موري. واحد منهم، على أي حال، ولكنه على الأحرى موري. الآن عليها مواجهة موري.

وعندما هبطت الدرجات لتقديم الإفطار — مرتدية نعليها المصنوعين من القماش — سمعت عن الحادث. ارتطمت سيارة بدعامة جسر في منتصف الطريق المؤدي إلى ليتل سابوت ليك، وقد تحطمت على الفور واحترقت. لم تتحطم سيارات أخرى في الحادث، ولم يُصب ركاب آخرون، وسيتم التعرف على هوية السائق من خلال أسنانه، أو ربما تم التعرف عليه بالفعل.

قال المدير: «يا لها من طريقة للموت! الأفضل أن ينحر المرء عنقه.»

قال الطاهي ذو الطبيعة المتفائلة: «يمكن أن يكون مجرد حادث، ربما غطَّ في النوم.»

«نعم، بالطبع.»

آلمتها ذراعها الآن كما لو كانت قد تلقَّت لطمة قوية. لم تستطع الحفاظ على توازن يدها وهي تحمل صينيتها، ولكنها اضطرت أن تحملها أمامها مستخدمة كلتا يديها.

•••

لم تضطر أن تواجه موري وجهًا لوجه؛ فقد كتب لها رسالة:

فقط أخبريني أنه أرغمك على فعل هذا. فقط أخبريني أنك لم ترغبي في الذهاب.

ردت على الرسالة بثلاث كلمات: «لقد أردتُ الذهاب.» وكانت ستضيف عبارة «أنا آسفة»، ولكنها منعت نفسها من هذا.

•••

جاء السيد ترافرز إلى الفندق لرؤيتها. كان مهذبًا وعمليًّا وحاسمًا ولطيفًا وليس قاسيًا. رأته الآن في ظروف جعلته يبدو مستقلًّا وقويًّا؛ رجلًا يستطيع تولي المسئولية، يمكنه ترتيب الأمور. قال إنه كان حزينًا للغاية، إنهم جميعهم تعساء، ولكن إدمان المسكرات هو شيء بشع حقًّا. وعندما تتحسن حالة السيدة ترافرز سوف يأخذها في رحلة؛ ربما في إجازة إلى مكان دافئ.

ثم قال إن عليه الذهاب؛ فلديه الكثير من الأمور ليفعلها. وعندما كان يصافحها مودِّعًا إياها وضع ظرفًا في يدها.

قال: «كلانا يتمنى أن تستفيدي من هذا.»

كان شيكًا بألف دولار. فكَّرت على الفور أن تعيده إليه أو تمزقه، وحتى وقتنا هذا ما زالت تظن أحيانًا أن ذلك كان سيمثِّل أمرًا جللًا، ولكنها بالطبع لم تستطع في النهاية القيام بذلك؛ ففي تلك الأيام، كان هذا مبلغًا كافيًا يضمن لها أن تبدأ بداية جيدة في الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤