مقدمة المؤلف

كتبت عن القائد الأعظم كلمة تقدير يوم سمعت بنعيه منذ ثلاث سنوات، اعتمدت فيها على المعلومات المتفرقة التي تناثرت إلينا من أخبار الصحافة والإذاعة، وكلها نتف قصيرة لا تجتمع منها سيرة وافية تكفي للتعريف بالرجل العظيم.

ولكن هذه المعلومات كانت كافية للتنويه بعظمة الرجل، وإن لم تكن كافية لتأليف كتاب في سيرته، وقد كان تأليف كتاب عن «جناح» من الموضوعات التي أعقد النية عليها في سياق متابعتي للحوادث العصرية، ثم أترك تحقيقها لحينه كلما استطعت التفرغ لموضوع بعد موضوع.

وقد كان محمد علي جناح وفاق شرط العظمة عندي بين زعماء الأمم ودعاة الأمم المغلوبة إلى الاستقلال.

وشرط العظمة عندي في هؤلاء الزعماء: همة الجبابرة من رجال العمل، وطموح المثاليين من المؤمنين بالفكرة … وهما خلصتان لا تخفيان من أقل الأخبار التي تُروى عن جناح في إبان جهاده، فإنه رجل تصدى بهمته العالية لتحقيق فكرة مثالية، سمع بها «الخبراء» فأجمعوا — أو كادوا يجمعون — على أنها مستحيلة، وأن جناحًا يتخبط في الظلام وراء خيال لا يطلع عليه النور.

وطلع النور على الخيال، فإذا هو «خيال» ثابت كالجبال: كان جناح وفاق شرط العظمة بهذا وبما يزيد عليه، وهو الخلق المكين الذي يقاوم كل إغراء ولا يتخاذل أمام الوعيد.

والتمست المراجع الوافية عنه فلم أجدها، ثم تتبعت هذه المراجع سنة بعد سنة، واطلعت منها على الكتب وعلى الفصول، ومنها ما كتبه أبناء الباكستان، وما كتبه المنصفون من الغربيين في عرض الكلام على السياسة الشرقية، ومنها ما كتبه من أبناء الغرب والشرق أناس غير منصفين، ولكنهم يروون على الرغم منهم أخبار الرجل فتعليه وتزكيه من حيث يريدون انتقاصه والقدح فيه، ورب واقعة يسوقها العدو فيسجل بها شهادة لا تتهم؛ لأنها تكشف من مواطن للثناء لا يقصدها الأعداء.

وتجمعت المراجع التي تكفي لتأليف كتاب عن القائد الأعظم فألفت هذا الكتاب.

•••

قال لي بعض أصحابي حين علموا أنني أكتب كتابًا عن جناح: «لا جرم وقد كتبت عن غاندي ألا تفوتك الكتابة عن جناح!»

خاطر طبيعي لا غرابة في سبقه إلى الأذهان؛ لأن السبب الذي تخيلوه للكتابة عن محمد علي جناح سبب وجيه، فمن حق الباكستان علينا ألا نسكت عن زعيمها وقد أعطينا الهند حقها في زعيمها، ومقام القائد الأعظم في الشرق قرين لمقام «المهاتما» الذي سميناه بالروح العظيم.

على أن هذا السبب «الوجيه» لم يكن هو في الواقع سبب تأليف الكتاب.

لأنني «أولًا» لم أؤلف كتابي عن غاندي رعاية لدولة الهند، ولا لمرجع من مراجع السياسة، ففي الكتاب ما لا يوافق الهند ولا يوافق الباكستان.

إنما ألفت الكتاب عن غاندي «بحقه الشخصي» أو بحق عظمته، ومغزى هذه العظمة في تاريخ الإنسان.

ولأنني «ثانيًا» قد نويت الكتابة عن جناح وعن غاندي في وقت واحد، ولكنني وجدت المراجع لكتاب غاندي متوافرة متكاثرة، ولم أجد المراجع لكتاب القائد الأعظم كاملة أو قريبة من الكاملة، إلا منذ بضعة أشهر.

وكتبت عن جناح كذلك «بحقه الشخصي» وحق عظمته ومغزاها الخالد في تاريخ الإنسان.

فالكتابة عن القائد الأعظم واجبة؛ لأنها تجلو للناس، وللشرقيين خاصة، صورة من صور العظمة الإنسانية.

وهي عدا هذا واجبة لدلالتها في تفسير أطوار الأمم وأسرار التاريخ، والزاد الذي يتزوده الدارسون من سيرة جناح في هذا الباب أوفر من زادهم في سير عشرة من العظماء.

وهذا الذي عنينا به عناية خاصة في وصف عظمة الرجل، ووصف العظات التي يخرج بها نقاد التاريخ من نشأة الباكستان.

وبين يدي القارئ صورة من صور العظمة الإنسانية، ودرس لا نظير له في فلسفة التاريخ، أو فيما نسميه العوامل التي نتطلع إليها من وراء حركات التاريخ.

عباس محمود العقاد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤