المرحلة الثانية

سياسة القديس وسياسة القائد

بدأت سنة ١٩١٥ بمرحلة جديدة في حياة جناح العامة كما أسلفنا في ختام فصل سابق، وهي المرحلة التي وضح فيها لجناح أن هيئة المؤتمر لا تكفي وحدها لخدمة القضية الهندية، وأن الاعتماد على هيئتين اثنتين أمر لا مناص منه في هذه المرحلة.

لكن رد الفعل الذي طرأ من جراء هذا التحول لم يتجه بتفكير القائد الأعظم أول الأمر إلى التباعد وتوسيع الشقة بين الهيئتين، بل كثيرًا ما كان رد فعله اجتهادًا في التوفيق والتقريب ومبالغة في الإغضاء والمسامحة رأبًا للصدع، ومنعًا للفتنة وتوتر الأعصاب من الجانبين، فاحتمل جناح في هذه المرحلة ما لم يكن يحتمله من قبل وفعل ما لم يكن يفعل، وأيد أشد الغلاة في موقفهم أمام الدولة البريطانية، ومنهم أتباع طيلاق الذي كان يجهر بأن الحركة القومية في الهند تحارب الدخلاء الهنود، ويعني بهم المسلمين، كما يحارب الدخلاء الإنجليز.

وظل البراهمة إلى سنة ١٩٢١ يهتفون باسم رسول الوحدة جناح، ويعترفون له بالفضل في التوفيق والتقريب، وأعربوا عن اعترافهم هذا ببناء قاعة في بومباي أطلقوا عليها اسم قاعة جناح، ونقشوا على حجر الأساس فيها عبارة فحواها أن هذه القاعة «بنيت تقديرًا للسيد جناح؛ اعترافًا بخدماته الخالدة لقضية الهند في سنة ١٩١٨.» وافتتحتها الشاعرة الهندية سروجيني نايدو، وأبرقت إليه وكان في باريس تقول: «لقد عرفت الأمة فضل الرسول في حياته.»

وقد لبث جناح سنوات طوالًا بعد سنة ١٩١٥ وهو يلخص وظيفة العصبة الإسلامية باقتداره المعهود على تحديد العبارات؛ فيقول لمن يناقشه في وجودها: إذا كان المؤتمر هو حكومة المستقبل؛ فالعصبة هي المعارضة الدستورية التي لا بد منها ولا ضير فيها.

غير أن الخلاف — كما ألمعنا في هذه الصفحات آنفًا — لم يكن مداره كله على الضمانات الإسلامية، بل كان مع هذا وأهم من هذا خلافًا بين عقليتين ومنهجين ومزاجين، كان خلافًا بين سياسة القديس النبي وسياسة القائد العامل، سواء في القضية الهندية العامة أو في قضيتي البرهميين والمسلمين منعزلتين.

كان غاندي يبشر بمقاطعة الصناعة العصرية ومقاطعة المدارس ومقاطعة الوظائف ويحارب الإنجليز «بالاهمسا»، ويفرضها جاهدًا على أتباعه وهم يعملون بها تارة وينقضونها تارة أخرى.

وكان جناح يؤمن بأن مقاطعة الصناعة ضربة للحياة الاقتصادية في الهند تصيبها كما تصيب بريطانيا العظمى، بل ربما كانت الإصابة الهندية أفدح وأخطر من الإصابة البريطانية.

وكان يقول: إن إقامة مصنع جديد إلى جانب المصنع القديم أنفع من ألف مغزل في المدينة والقرية، وإذا لاحظنا أن المصانع الهندية كانت، أو كان معظمها، ملكًا للبرهميين دون المسلمين، تبين أن الرجل إنما كان ينظر إلى مصلحة الجميع، ولا يقصر نظره في مناهضة غاندي على مصلحة المسلمين.

وكان يسأل: ماذا يصنع الطالب إذا لم يتعلم؟ وماذا يفيد الهند من إخلاء الدواوين من الوطنيين وتسليمها جملة واحدة للغاصبين؟

وقال غير مرة: إن الزعامة السياسية قدوة يأتم بها الأتباع والمتعلمون، فهل من الممكن المعقول أن يصبح الهنود كلهم أنبياء قديسين كالمهاتما غاندي؟ وهل ينفع الهند أن يصبح أبناؤها جميعًا على هذا الغرار في السياسة القومية والمعيشة اليومية؟

وصواب جناح في نظره كصواب غاندي في نظره: كلاهما مستمد من صميم وجدانه وصدق إيمانه، ولم يكن الرجل ممن يغالطون أنفسهم في الحقيقة التي تثبت في ضمائرهم، أو يستبيحون مجاراة التيار وكسب الرضى بالمجاراة والمداراة، ولو أجمع الناس ما عداه على مجاراته ومداراته.

وقد أجمع الناس فعلًا في إبان حركة المقاطعة وحركة الخلافة على مذهب في العمل السياسي لا يرتضيه فوقف وحده يُناضل ويقاوم حتى أعياه إقناع الرأي العام وثنيه عن جماحه، فهجر الهند وأقام في إنجلترا معولًا على الاشتغال فيها بالمحاماة والانقطاع عن السياسة؛ حتى يثوب المختلفون إلى رأي يقبله ويؤمن بجدواه.

رئاسته للعصبة الإسلامية

ولقيه الأستاذ البيروني صاحب كتاب «صانعي الباكستان» خلال هذه الفترة، وهو مقيم في إنجلترا سنة ١٩٣٢ فقال له: وهو يحاول أن يستعيده إلى ميدانه: «وما العمل؟ إن البرهميين قصار النظر، ولا أمل لي في إصلاح أخطائهم، والمعسكر الإسلامي ممتلئ بأولئك الخلائق التي لا عظام لها، والتي تقول لي ما تقول، ثم تبادر إلى صاحب السلطان لتسأله عما ينبغي أن تعمل.»

وطفق المسلمون يبحثون عن قائد، وطفقت الدعوات إليه تتوالى لاستعادته إلى نشاطه، حتى عنَّ له من أشتات المعلومات التي تبلغه أن العمل ممكن على منهاجه، وأن الأمة الإسلامية قطيع بغير راع، فاستخار عزمه وقفل إلى بلاده تلبية لصوت الواجب أو صوت التبعة الكبرى التي استقرت على كاهله دون غيره، فرجع على شيء من الأمل، ونفض عنه وساوس التردد والقنوط.

كان الزعيم محمد علي قد فارق الدنيا، وكذلك الزعيم محمد شافعي الذي طالت رعايته للعصبة وبذل ما بذل في حياته لاستبقائها ولمِّ شملها، وكان الزعيم «أقا خان» يلتفت إلى الهند مرة، ويلتفت إلى مصائف أوروبة وميادين السباق فيها مائة مرة، وكانت العصبة في غيبة الرءوس الصالحة على وشك الانحلال فأجمع أعضاؤها (في سنة ١٩٣٤) على اختيار جناح رئيسًا لها مدى الحياة وهو مقيم بإنجلترا، فاضطر إلى العودة وصفى أعماله وروابط معاملاته، وهي ليست بالقليل.

ولم تمض أيام على تسلمه مهام الرئاسة حتى شعر أعضاء العصبة ومن يعملون معها بدم جديد يسري في أوصالها، وتحرك الجواد الذي قيل قبل ذلك: إنه جواد ميت يلهبون جلده بالسياط، وعلم في أرجاء الهند أن هناك قوة جديدة يحسب لها حساب بعد أن لم يكن لها حساب.

إن هذه العصبة أنشئت بأموال الأغنياء، ولم يكن من ذلك بد في أول الأمر؛ لأنها أنشئت لتقابل دعوة المؤتمر الهندي بدعوة مثلها، وليست موارد المؤتمر باليسيرة لكثرة أعضائه وكثرة المشتركين فيه من أصحاب الملايين، فأصبح لزامًا على أعضاء العصبة أن يوفروا لها المال، وأن يضاعفوا رسوم اشتراكها ويعتمدوا على تبرعات المتفضلين من أنصارها، فنفعها هذا السخاء من حيث ضرها، نفعها بما وفر لها من الموارد، وضرها بالعزلة بينها وبين سواد الشعب من الفقراء وأصحاب الرزق المحدود، وأوشك أن يقوم بينها وبين الشعب سد من سوء الظن، وحاجز من الوحشة والجفاء لهذه العزلة التي كانت في مبدئها عزلة اضطرار لا عزلة اختيار.

وفطن جناح لهذا النقص فأسرع إلى تلافيه وأعانه على ذلك تقدم الشعب في فهم الهيئات السياسية وتنظيم العلاقة بها، فعدَّل دستورها وجعل الاشتراك فيها حقًّا مباحًا لكل من يؤدي رسمه الصغير ولا يزيد على عشرة مليمات، وبث الدعوة لها في الأقاليم ونشر فيها لجانها الفرعية والمركزية، وبذل غاية وسعه للتفاهم مع الجماعات التي طال العهد على تأسيسها وعز عليها أن تفاجئها العصبة في هذا الدور الجديد بمنافستها القوية، ولم يحجم عن التفاهم مع المؤتمر وتبادل المساعدة معه في الانتخابات التي يعول مرشحوه فيها على المسلمين، ولا يخشى من منازعتهم لأحد من المسلمين في دوائره.

واتبع في إدارة العصبة نهجًا ديمقراطيًّا يؤازره نهج دكتاتوري صارم عند اللزوم، فإذا أنس من بعض الأعضاء اعتراضًا أو سمع منه نقدًا جمع المجلس وبسط فيه موضوع الاعتراض أو النقد للمناقشة في صراحة وسماحة، وقد تطول المناقشة ساعات وتؤجل من جلسة إلى جلسة حتى تتقارب وجهات النظر أو يقر المعارضون رأي الموافقين.

فإذا لزمت الصرامة عمد إليها في حزم وسرعة كائنًا ما كان مقام الأعضاء أو غير الأعضاء الذين استوجبوا تلك الخطة الصارمة، ومن ذاك أنه أسرع إلى فصل كل وزير مسلم قبل الوزارة بغير إذن العصبة، وكلهم من أصحاب المقامات والأخطار الكبار، ولما نوقش في قراره قال: إن الشعب الإسلامي لم يطالب بحقوقه لتفرض عليه «السلطة» مرشحيها وتحسبهم عليه نوابًا يعملون بمشيئته ويستمتعون منه بالثقة والتأييد، ولكنه طالب بتلك الحقوق ليختار من يشاء، ولا يترفع أحد عن الرجوع إليه قبل ولاية الحكم الذي يستمده منه ويجريه عليه.

وقد ينصح وهو يعني الأمر المطاع إذا خولفت النصيحة. ويُروى عنه أن رجلًا من كبار المسلمين زاره بعد زيارة الأقاليم الإسلامية؛ فسمع غاندي بأخبار هذه الزيارة، وأرسل في دعوته للقائه وصرفه عن مقاطعة المؤتمر ومطاوعة العصبة في تنفيذ برامجها، فأطلع الرجل جناحًا على الدعوة وسأله رأيه فيها، فلم يصانع جناح ولم يداور في الجواب، بل قال له في كلمات موجزة: «خير لك ألا تذهب.»

قال الرجل: «أنصيحة هي أم أمر؟»

قال جناح: «إن لم يكن بد فليكن أمرًا، ولتعلم بعض المحظور الذي أخشى منه عليك منذ الخطوة الأولى … إنك ستذهب إلى غاندي فيتلقاك بتحية البراهمة مضموم الكفين، ويدعوك أدب المجاملة أن ترد تحيته بمثلها، فإذا بالصحف تنشر لك صورتك على هذا النحو ولا تنشر معها صورة غاندي، وإذا بهذه الصحف متداولة بين جماهير المسلمين ممن يفقهون ولا يفقهون، فيريبهم من رئيس مسلم أن يُحاكي البراهمة في تحياته، ولا يعلمون عنها أنها تحية مختارة ومحاكاة مقصودة، ولا تدري أنت ما يتهامس به الشعب، وما يضاف إليه من الحواشي والإشاعات حتى تهم بإصلاحه وتوضيحه، وقس على هذه المناورة مناورات مثلها لا حاجة بك أن تستهدف لها وتبتلى بسوء أثرها.»

قال جناح: «وأما وقد علمت الآن شيئًا من أسباب النصيحة التي حسبتها أمرًا؛ فارجع إليها واحسبها نصيحة وإن شئت قبلتها وإن شئت أعرضت عنها.»

قال بلوتارك أستاذ التراجم والسير في الأدب الإغريقي القديم: «إن كلمة أو نكتة تُروى عن العظيم قد تنم على ملكات له وأخلاق لا تنكشف للناس من روايات الفتوح والخطوب الجسام.»

ونصيحة جناح تلك كافية لجلاء ما طُبع عليه من الحزم والدهاء والفطنة لحيل الخصوم وأطوار الجماهير.

ولقد ظهرت يد جناح في تنظيم العصبة وجذب الأنصار إليها ظهورًا مفحمًا في الانتخابات الثانوية التي أجريت ما بين سنة ١٩٣٨ وسنة ١٩٤٢، فإن العصبة نجحت في ست وأربعين دائرة من ست وخمسين، ولم ينجح من مرشحي المؤتمر المسلمين غير ثلاثة نواب، وبقية الناجحين من المستقلين.

وأذيع إحصاء عن عدد المشتركين في العصبة سنة ١٩٤١ فبلغوا مليونًا وتسعة وثمانين ألفًا، وهو عدد يقارب عدد المشتركين في المؤتمر على قدمه وضخامة موارده، ولم يكن أعضاء العصبة يزيدون في سنة ١٩٣٩ على ستمائة ألف من المشتركين، وهو مع هذا عدة أضعاف المشتركين قبل ذلك بأربع سنوات.

أما «المشروعات» والدساتير التي عرضت على العصبة لتسوية القضية الهندية في أيام رئاسة جناح فهي متعددة لا فائدة من الإسهاب هنا في تفصيلها، بيد أن المهم منها هو مشروع الحكومة الاتحادية «الفدرالية» الذي عرض للتنفيذ في سنة ١٩٣٥، وكان منذ فترة قريبًا إلى القبول مع تنقيح بعض نصوصه، فلما عرض في سنة ١٩٣٥ رفضه المؤتمر ورفضته العصبة، وعلة رفض العصبة له صلابة المؤتمر في مسألة المرشحين ورفضه لكل مرشح في الأقاليم لا ينتمي إلى المؤتمر، ثم حصر السلطة العليا في أمور الدفاع والسياسة الخارجية والخزانة بين يدي الحكومة المركزية، وأقوى من هذا وذاك سوء الظن الذي فشا بين المؤتمرين والعصبيين خلال السنوات الأخيرة، فإنه جعل استقلال الحكومتين حلًّا وحيدًا لا محيص منه ولا طاقة لأحد بتعديله، ومن البديهي أن المؤتمرين لم يتشبثوا بالوحدة إلى اللحظة الأخيرة عشقًا لطلاب الانفصال، وحرصًا على استبقائهم، ولكنهم تشبثوا بها؛ لأنهم أصحاب الكفة الراجحة فيها.

على أنه من الثابت أن العصبة لم تتبع خلال الفترة من المناداة بالتقسيم إلى تنفيذه خطة من الخطط في مسألة كبيرة أو صغيرة ترمي بها إلى إحباط الاستقلال وتغليب البريطان على البراهمة، فكل برامجها كانت تبدأ وتنتهي بطلب الاستقلال للحكومتين، أو كما قال جناح بأسلوبه الناصع الساخر: «إن استقلال البقرة رهين باستقلال الباكستان.»

قال المؤلف الكندي رالي باركن Raleigh Parkin في كتابه «الهند اليوم» وقد ظهر قبل نفاذ التقسيم:

لا يمكن يقينًا أن يقال عن العصبة: إنها جانحة إلى البريطان، وكثيرًا ما تعاونت فيما مضى مع المؤتمر أو كانت على استعداد لمعاونته في الحركة الوطنية، غير أنها في السنوات الأخيرة، وبخاصة منذ أواخر سنة ١٩٣٧ جعلت خطتها التي لا لبس فيها مقاومة المؤتمر ومقاومة البرهميين، ومهما يكن شأنها في الماضي؛ فاليوم لا ريب أنها أقوى الهيئات الإسلامية في الهند وأوسعها نفوذًا؛ وأنه ما من سياسي مسلم يستطيع الآن أن يغفل شأنها.

كذلك لا يجري في خلد إنسان عارف بتاريخ الهند الحديث أن يتخيل أن تقسيم الباكستان يخدم قصدًا أو على غير قصد سياسة بريطانيا العظمى التي تقوم على قاعدة «فرق تسد» … فمثل هذا الخاطر يقابله العارفون بتاريخ الهند الحديث بالسخرية والاستخفاف؛ لأن بريطانيا العظمى كانت تعرض على الهنود حلًّا بعد حل وتسوية بعد تسوية، وتصانع المسلمين حينًا والبرهميين حينًا آخر فرارًا من التسليم بالتقسيم، ولم يكن أنفع لها ولا أعون لحكامها وساستها أن يدخلوا بالتفرقة بين الأمتين من بقائهم في دولة واحدة يضربون فريقًا منها بفريق كلما شاءت لهم سياستهم أن يحصلوا على التأييد من الفريق الغالب، ولو كان خليطًا من الأمتين. وقد لمح بيفرلي نيكولاس صاحب كتاب «حكم في القضية الهندية» إلى تلك الفكرة، فأجابه جناح محتدًّا: «إن الرجل الذي يدور في خلده هذا الظن لضعيف الثقة حقًّا بذكاء البريطان، بله الثقة بسلامة مقاصدي، فإن الأمر الوحيد الذي يبقي البريطان في الهند هو الفكرة الزائفة التي تُدعى وحدة الهند كما يبشر بها غاندي، وأعود فأقول: إن الهند الواحدة اختراع بريطاني، أو هو أسطورة بل أسطورة جد خطرة، تجر إلى شقاق ليس له نهاية، وما دام هذا الشقاق قائمًا فهناك عذر يعتذر به البريطان للبقاء، وهذا هو الشذوذ في قاعدة فرق تسد …»

قال بيفرلي: «إذن أنت تقول لهم: «قسموا واخرجوا؟»

قال جناح: «لقد أصبت محزها.»

وخرج الصحفي من هذه المحادثة وهو يقول: إن القاعدة التي تصدق على قضية الهند هي «وحِّد واحكم وفرِّق واخرج …»

وقد أكد جناح له في هذا الحديث أن الفهم الصحيح لهذه الفكرة سهل الورود على ذهن الرجل المخلص، ولو كان من البريطان، فإن جون برايت خطيب الحرية في عهد غلادستون (والوزير الذي استقال من وزارة غلادستون احتجاجًا على ضرب الإسكندرية) قال في إحدى خطبه: «إلى كم من الزمن تريد إنجلترا أن تحكم الهند؟ ليست الإجابة على هذا السؤال في وسع أحد، ولكن لتكن دولة الإنجليز في الهند خمسين سنة أو مائة أو خمسمائة، فهل يحسب إنسان له ذرة من الإدراك السليم أن بلادًا شاسعة بما فيها من أمم تبلغ العشرين، ولغات لا تقل عن العشرين يتأتى أن تضم وتنحاز في حدود قطر واحد متماسك تدوم فيه إمبراطورية واحدة؟ أعتقد أن شيئًا كهذا مستحيل.»

وقد أعاد المؤلف خطب برايت إلى جناح وهو مؤمن بوجهة نظره، وجاء الواقع بعد قليل فأقر هذه الوجهة ببرهان ضخم يحسم كل جدل ويفند كل منطق، وهو نجاح الباكستان.

قوة البيان

مهما تكن عناصر القوة في الزعماء الذين ينشئون الدول بغير السيف فالبيان قوة لا غنى لهم عنها، وبخاصة في هذا العصر عصر المؤتمرات والمناقشات والأحاديث الصحفية والردود عليها.

لا غنى للزعيم عن قوة البيان …

ولكن أي بيان …؟

ليس من المفارقات أن نقول: إن كلمة «البيان» لا تبين وحدها في هذا الصدد، فإن البيان أساليب، ولكل خطيب أو كاتب بيَّن أسلوبه الذي يكاد يخصه بملامحه وبسماته، وكذلك كان بيان جناح في دعوته السياسية، بيانًا خاصًّا به لا يشبه بيان أحد من زعماء الأمم في عصره.

كانت خاصة هذا البيان أنه يحسن تلخيص المسائل المعقدة في كلمات موجزة تعلق بالذهن لما فيها من المفاجأة النافذة: تلك المفاجأة التي يشعر السامع لأول وهلة أنها حلت له العقدة بمجرد التعبير عنها في وجازة وصفاء.

وكانت له مع هذه الخاصة خاصة الجواب المسكت والعرض المقنع، أو خاصة الضربة السريعة التي يتلقاها المهاجم وقد ظن أنه أصاب الرجل في المقتل، فإذا هو المصاب.

خطر لي حينًا أن جناحًا قد استفاد هذا البيان من صناعة المحاماة على نظام المحاكم الإنجليزية؛ لأن قضاتها يتدربون على تلخيص الأقوال المتناقضة للمحلفين أو لأعضاء المحكمة الآخرين، ويطلب من القاضي في المحاكم العسكرية على الخصوص أن يجمل الكلام من جميع أطرافه لتبسيطه من الوجهة القانونية.

كذلك يحتاج الدفاع في هذه المحاكم إلى القدرة على المساجلة التي يسمونها Cross examination وقوامه كله على الاستدراج، وعلى السؤال المفاجئ والجواب السريع.
إلى أن قرأت في كتاب «صوت آسيا» حديثًا دار بين مؤلفه جيمس ميشنر Michener والآنسة فاطمة جناح شقيقة القائد الأعظم، فوقع في نفسي من أسلوب الرد والإقناع في هذا الحديث أن الملكة التي امتاز بها جناح أقرب إلى الطبع الموروث منها إلى التعليم المكتسب؛ لأن أسلوب الآنسة شقيقته كان نسخة مطابقة لأسلوبه، مع اختلاف كاختلاف الرجل والمرأة في ملامح الأسرة الواحدة.

قال المؤلف: «شعرت بوخز نقدها حين لاحظت أنه من المستغرب أن جناحًا الذي لم يكن من رجال الدين المتعبدين ينشئ دولة ثيوقراطية، فانفجرت قائلة: ماذا تعني بدولة ثيوقراطية؟ إننا دولة مسلمة، وهذا لا يعني أنها حكومة دينية، إنما تعني أنها حكومة مسلمين، فماذا تريدنا أن نكون؟ أحكومة مسيحيين؟ أحكومة براهمة؟ إننا لسنا حكومة يديرها قسيسون ولسنا حكومة كهانة، وإنما نحن حكومة قائمة على مبادئ الإسلام، وأقول لك: إنها مبادئ جميلة في إقامة الحكومات.»

قال المؤلف: «وأردت أن أستعيد موقفي فقلت: إن الذي عنيته أن حكومتكم تعلن أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي! فما فهت بها حتى تلقيت طوفانًا كانت حملة السؤال السابق مطرة صيف بالقياس إليه، وتكلمت الآنسة جناح بأسلوب السخرية والإصماء الذي تعوده الناس من جناح في دفاعه عن الباكستان، وضحكت وهي تقول: «لا تقل هذا … فالحكومات جميعًا تعترف بدين رسمي هو الغالب عليها، والمسيحية هي الدين الرسمي في البلاد الأمريكية.»

وحاولت أن أقول: إن هذا غير صحيح كل الصحة، ولكنها ضحكت مرة أخرى، وقالت: لعلك تعثر على تفسير ماهر يساعدك على إنكار الصبغة المسيحية في حكومة أمريكا، ولكن ماذا عسى أن تزعم عن ألوف الجماعات المبشرة التي ترسلونها إلى أنحاء العالم؟ ولماذا تحاول أمريكا أن تحولنا من ديانة حكومتنا إلى ديانتكم؟ ولماذا تتدخل حكوماتكم بالقوة حماية للمبشرين إذا لم نصبأ باختيارنا؟

قلت: «ليس هذا هو الواقع، وعلى فرض وقوعه فحكومتنا لا تؤيد أولئك المبشرين.»

فقاطعتني الآنسة جناح قائلة: «حكاية مليحة! فمن أين إذن تأتي الأموال التي ينفقها المبشرون لتحويل أهل الهند والباكستان عن دينهم؟ تقول: إنها تأتي من الموارد الخاصة، حسن! فلماذا تبذل الموارد الخاصة تلك الأموال؟ إنها تبذل؛ لأن أصحابها يؤثرون دين بلادهم، ولا اعتراض لي على ذلك، وليس لكم كذلك أن تعترضوا على إيثار أهل الباكستان لدينهم، فإنما هي بواعث متشابهة في نفوسنا ونفوسكم.»

وقد صدق المؤلف حين شبه أسلوب الآنسة في الرد والمناقشة بأسلوب شقيقها، فهما في الحق متشابهان كما تتشابه ملامح الأخ والأخت في الأسرة الواحدة.

كان جناح لا يتلجلج ولا يتلعثم إذا فوجئ بالسؤال المحرج، أو السؤال الذي يريد به السائل الحرج، بل يلاحق السائل بالجواب المسكت الذي يقطع اللجاجة قطع الموسى الرميضة لخيوط الشباك.

قال له صحفي إنجليزي مرة في مقام الاعتراض: ولكنك يا سيد جناح كنت يومًا عضوًا بالمؤتمر، قال: «نعم، وكنت يومًا تلميذًا بالمدرسة الابتدائية.»

وقال له زعيم هندي يحارب اقتراح الباكستان: «إننا لا نفهم ما هذه الباكستان التي تدعو إليها؟»

فقال: «ولماذا إذن تحاربها قبل أن تفهمها؟» ولما قيل له: «إنك عجزت عن تأليف وزارة، فما بالك تطمح إلى إنشاء الباكستان؟» قال: «لكيلا نعجز عن تأليف وزارة!»

وافتخر عليه «ضحايا» الوطنية بأنهم سجنوا وهو لم يُسجن، فقال: «إن دخول السجن أسهل من العمل السياسي.»

وأطال في هذا المعنى فقال: «إنني لا أؤمن بالبدء في حركة سياسية سعيًّا وراء الاعتقال، وصدقوني أنه لا يصعب عليَّ أن أذهب إلى السجن لأقضي ثمة ستة شهور أو نحو ذلك، وما أصاب السيد غاندي بعد ضرر من سجنه، فقد كان في أمان بين جدران قصر أغاخان، وكان معه كاتبه، بل كان معه كل أسرته، ولكن من ذا يتلقى الرصاص وأنا في معتقلي؟ إنهم إخواني.»

وقال في مناسبة أخرى: «يعيبوننا بأننا لم نضح في سبيل غايتنا، وأخشى أن أقول: إننا لا نستطيع أن نساهم في تلك التضحية التي تدرب عليها ساسة المؤتمر: أن نتصدى للزعامة، أن نجلس صابرين تحت سياط الشرطة، أن نذهب إلى السجن، أن نشكو بعد ذلك من نقصان الوزن، أن ندبر حينئذ وسيلة الفرج والانطلاق … كلا، لست أؤمن بهذا الفن من الكفاح، ولكنني إذا وجب أن أواجه الخطر فلست أبالي يومئذ أن أكون أول من يصمد للنار.»

ومن تلخيصاته السهلة قوله عن الوحدة والتقسيم: «إن الوحدة التي خلقها مدفع المستعمر لا تصلح بعد جلائه.»

ومنها: «إن الآفة في سياسة المؤتمر أنها تشكو من مركب الزيادة أو الرجحان Superiority complex لا من مركب النقص.»

وأشهر تلخيصاته التي جمع فيها مزايا التقسيم: «إن استقلال الباكستان ضمان لاستقلال البقرة المعبودة.» ومثله في الشهرة تلك الكلمة التي جمع فيها موانع الوحدة: «إنهم يعبدون البقرة ونحن نأكلها، فكيف يحكمنا نظام واحد؟»

•••

أما بلاغته في الخطب والرسائل والبيانات فهي من هذه البلاغة الخاصة التي هي على ما رأينا أقرب إلى الطبع الموروث منها إلى التعليم المكتسب: بلاغة ليست من بلاغة التفخيم أو التجميل، وليست من بلاغة التحليق إلى الأعالي أو الغوص إلى الأعماق، ولكنها بلاغة تمتاز بالبساطة والنفاذ السريع، تلم بأطراف المسألة وتنفذ إلى محورها وتترك السامع أو القارئ وهو يحس أنه قد ألم بأطرافها، ونفذ من محورها إلى الصميم.

قال عن الديمقراطية في الإسلام: «إن الديمقراطية غريبة عن المجتمع البرهمي، وليس من غرضي أن أتناول مجتمعًا كائنًا ما كان بغير الاحترام، ولكن الواقع أن المجتمع البرهمي مقيد بالطائفية منهوك بقيود هذه الطائفية، وليس للمنبوذين فيه مكان اجتماعي أو اقتصادي أو مكان ما يسكنون إليه.

على أن الديمقراطية في دم المسلم الذي يدين بالمساواة بين جميع الناس، وهاكم مثلًا من أمثال، وهو أنني كثيرًا ما أذهب إلى المسجد ومعي سائقي يصلي إلى جانبي، وما زال المسلمون يدينون بالإخاء والمساواة والحرية.

وبعدُ فكيف يكون في مقدور قلة أن تصد كثرة؟ هذه جرأة في الادعاء، ونحن من ثم لا نصد الكثرة، ولكننا أهل لأن نستقل بحكم أنفسنا.»

وقال في ذكرى الشاعر إقبال (سنة ١٩٤٤):

إنني أحيي في هذا اليوم ذكرى عزيزة؛ هي ذكرى شاعرنا القومي إقبال: هذه الذكرى التي نحيي فيها اسم الشاعر الحكيم الفيلسوف المفكر العظيم، سلام على روحه في ساحة الخلود.

إننا لا نراه بيننا الآن، ولكن شعره المقتبس من معدن الخلود يقيم على الدوام معنا ليهدينا ويوحي إلينا، وهو بجمال نظمه وحلاوة لفظه يصور لنا عقل الشاعر العظيم وقلبه؛ فنرى في هذه الصورة مبلغ إخلاصه لآداب الإسلام.

وما كان إقبال بالواعظ أو الفيلسوف وكفى، بل كانت تتمثل فيه مع التفكير والإلهام مزايا الشجاعة والعمل والثبات والاعتماد على النفس والإيمان قبل كل شيء بالله والإخلاص للدين، وكانت تتلاقى في نفسه آمال الشاعر المثالية وسليقة الرجل الذي ينظر إلى وقائع الأمور، وبهذا يتجلى لنا مسلم حق الإسلام …

وقال عن دعوة السلام من خطاب في أغسطس سنة ١٩٣٨:

… في كل بلد مخرفون يقولون: إنهم وقوف إلى جانب قضية السلام … وما من شيء أريده كما أريد أن يعم السلام الشامل أرجاء الكرة الأرضية، فلا يكن في الدنيا حرب ولا يكن هناك غير الرخاء والأمان، وليس من ناحيتي اعتراض على إلغاء الحروب جميعًا في كل مكان، غير أننا فيما نحن بصدده لا نناقش أولئك السادة الموقرين أنصار السلام، فليست المسألة في رأيي مسألة إيمان بالسلام أو كفر بالسلام؛ لأن المطلوب منا أن ننقذ رقابنا حين يحيق بنا الخطر، وما يدور في نفسي لحظة أن أصيب أحد بأذى، وما أريد إلا أن أكون إنسان خير مفرطًا في الخير، ولكنني لا أضمن من أجل هذا أن يكون الناس جميعًا خيرين، وألا يكون فيهم أحد يؤذيني أو يطوي النية على إيذائي، فليست المسألة سلامًا أو لا سلام، وإنما هي دفاع أو لا دفاع، هذه هي مسألة اليوم، وجوابي أنا عليها الدفاع …

واقترح عليه غاندي أن يجتمعا للبحث في مشكلة الوحدة والانفصال، فقال غاندي في أول لقاء: إنه ينوب عن نفسه ولا ينوب عن هيئة سياسية، ولم ير جناح نفعًا في مباحثة يتقيد بها ويقيد العصبة الإسلامية معه ولا يتقيد بها غاندي ولا المؤتمر، وعلق على ذلك في خطاب ألقاه بمدينة بومباي (١٩٤٥) قال فيه:

إنه لا يقنع بمهمة المستشار للمؤتمر ولجنته العاملة، بل يقيم نفسه مستشارًا ناصحًا للحاكم العام ومن ورائه الأمة البريطانية، وتنعقد اللجنة العاملة صباحًا ومساءً وهو الروح الملهمة وراءها، وهو مع هذا يروقه أحيانًا ألا يمثل أحدًا فلا يمثل أحدًا، ويصبح فردًا لا صفة له غير صفته الفردية، ولا يعتبر في هذه الحالة عضوًا كأولئك الأعضاء الذين يمثلون المؤتمر بحق الدريهمات التي تخولهم الاشتراك فيه، وينزل بنفسه إلى مرتبة الصفر ليستلهم صوته الباطن … أما إذا راقه أن يكون غير ذلك فهو السيد المطلق في المؤتمر، وهو بهذه المثابة ينوب عن الهند بأسرها.

وعاد إلى هذه الدعوى في اجتماع مجلس العصبة (٢٨ يوليو سنة ١٩٤٦) فقال:

إن مستر غاندي يتخذ من نفسه اليوم مستشارًا ناصحًا للجميع، يقول: إن المؤتمر يمثل الهند بأسرها، وإن المؤتمر هو الوصي الأمين على أبناء الهند قاطبة، وإنها لمرتبة هائلة تلك التي يبتغيها، ولقد كفانا ما ابتليناه من الوصي الأمين الذي تسلط علينا مائة وخمسين سنة، فما نحب أن نستبدل به وصايا المؤتمر، لقد كبرنا وبلغنا رشدنا، فلا وصاية على الأمة الإسلامية لغير الأمة الإسلامية.

ولم يكن أسلوبه أن يقابل التهديد بالمزايدة في التهديد مرضاة لسورة النفوس التي يعجبها هذا الأسلوب، فلما عرض عليه الصحفيون خطاب السردار باتل وسألوه رأيه فيه قال: «إن السردار باتل رجل قوي كما وصفوه فلا جرم يعمد إلى اللغة القوية، إلا أن الكلمات لا تكسر عظمًا، فإذا كان يعني بقوله له: «إننا أعددنا السيف للسيف» أن الكثرة ستذبح القلة في أرجاء الهند فتلك طلعة بشعة. وغاية ما أقوله إنه على ما يظهر لا يدرك أن كل من يحرض هذا التحريض فهو أعدى الأعداء لكل طائفة …»

وتصدى له الشيوعيون ليكرهوه على قبول مطالبهم باسم القومية فقال:

يلوح لي أن أمهر طائفة تبث دعوتها هي معشر الشيوعيين. إنهم قد أكثروا من الرايات التي يستظلون بها وأخالهم يحسبون أن البركة في الكثرة (ضحك) … إنهم يرفعون الراية الحمراء، ويرفعون الراية الروسية، ويرفعون راية الجماعات السوفيتية، ويرفعون راية المؤتمر، ويتفضلون الآن فيستعيرون منا رايتنا راية العصبة الإسلامية، وإذا جمعت فئة كل هذه الرايات معًا فمن حقنا أن نتوجس ونحذر، إنهم يصيحون يطلبون اتفاقًا بين العصبة والمؤتمر فسامحهم الله من الذي يطلب غير ذلك؟ إنما السؤال هو: على أي أساس يكون الاتفاق؟

وخطب في جماعة النساء المسلمات (في سنة ١٩٤٢) فقال:

يسرني أن أرى أن النساء المسلمات يفهمن رسالة الباكستان كما يفهمها الرجال المسلمون، وما من أمة تثابر على طريق التقدم بغير معاونة من نسائها، فإذا كانت المسلمات يعاونَّ رجالهن كما صنعت المسلمات في عهد نبي الإسلام فقد وصلنا إلى غايتنا.

وقال عن رسالة القرآن:

وُصف الإنسان في القرآن الكريم بأنه خليفة الله، فإذا أردنا أن نحقق هذه الصفة فأولى ما توجبه علينا أن نتبع مع غيرنا سنة الله مع بني آدم في أوسع معانيها، سنة الحب والصبر، وكونوا على يقين أنها سنة عاملة وليست سنة مانعة وكفى.

وإذا كنا نؤمن حقًّا إيمان اليقين والحب في معاملة خلائق الله من كل قبيل فعلينا أن نتبع هذه السنة في معيشتنا اليومية وفرائض تقوانا وعبادتنا، ولسنا نرى في هذا اليوم المبارك — يوم العيد — علامة على الروح التي أذكاها في قلوبنا شهر الصيام أظهر من العزم الوثيق على نشر السلام والوفاق في ديارنا بين أنفسنا وبين أصحاب العقائد جميعًا في أوطاننا، وأن نعمل في حياتنا الخاصة وحياتنا العامة عملًا يتنزه عن الأثرة، ويتوخى الخير الأعظم لقومنا ولأبناء آدم أجمعين.

إنه مطمح سام عظيم يتقاضانا الجهد والإيثار والفداء، واحسبوا حساب الشكوك التي تساوركم فينة بعد فينة، شكوك لا تنحصر في النزاع المادي الذي يوزع قلوبكم وقد يسهل عليكم أن تغلبوه بشجاعتكم، ولكنها شكوك روحية لا مناص لنا من مواجهتها، وليس في وسعنا أن نروضها غدًا إذا أعيتنا رياضتها في هذا اليوم الذي تخشع فيه نفوسنا لخالقها.

… واعلموا أنه لا غنى في كل نشأة اجتماعية أو حرية سياسية من الاعتماد آخر الأمر على سر عميق في حياة الإنسان، وأرجو أن تعلموا أن هذا السر العميق هو روح الإسلام، فليست الخطب العظيمة ولا المؤتمرات الكبرى هي التي تصنع سياسة الأمم، وأقول للشبان الكثيرين الذين تعودوا أن يسألوني كيف يقدرون على خدمة بلادهم هلموا يا أصدقائي الفتيان، واعذروني إذا عرضت للسياسة في هذا المقام، فإنما أعرض لها لأقول لكم: إننا جميعًا نطالب بالحقوق وندعي الدعاوى في الهند المقبلة، فينبغي ألا نركب مركب العناد في السعي إليها، فإن العناد نقيض ما يوحيه إلينا هذا العيد من الحب والمسامحة والبركة التي يأمرنا النبي عليه السلام أن نبسطها لغيرنا، وفي وسع كل منا أن يخدم هذا الوطن برياضة النفس وأنها لجوهر كل قداسة نحييها في هذا الموسم. فليسأل كل نفسه: أهو على نظام في معيشته؟ أينام في موعده؟ أيسير في الطريق على جادته؟ أيصون الطريق عن منبوذاته ومطروحاته؟ أيخلص في عمله ويلتزم الأمانة في شغله؟ أيعين غيره بما في وسعه؟ أيعامل غيره بالصبر والسماحة …؟ هذه أمور قد تبدو صغارًا، وهي على هذا نواة كل نظام كبير القيمة فيما تتضافر الطوائف جميعًا على ادخاره لخدمة وطنها، خدمة هند أعظم وأعلى، وربما كانت خدمات لا تبرز صاحبها في أضواء السياسة، ولكنها تكفل لكم سلامًا باقيًا في قلوبكم كلما شعرتم أنكم قد أديتم حصتكم لتيسير السياسة كلها …

وكان من دأبه أن يذكر سامعيه وتلاميذه بحكمة هولندية هذه ترجمتها:
ضاع المال … لم يضع شيء.
ضاعت الشجاعة … ضاع شيء نفيس.
ضاع الشرف … ضاع أنفس ما نملك.
ضاعت الروح … كل شيء ضاع.

هذه نتف متفرقة من كلمات جناح في معارض شتى، نحسبها نموذجية في التعريف بخصائص بيانه، وهو وسيلة من وسائل نجاحه في زعامته، وفيها كذلك تعريف بمناحي تفكيره، وهو على جملته تفكير صريح سهل مستقيم.

على الحاشية

العزيمة والفصاحة والقدرة على التنظيم عناصر ملموسة في كيان القائد الأعظم، ولكنها لا تحصر جميع الخصائص التي تتألف منها معالم هذه الشخصية، تلك هي عناصر نجاحه في الزعامة، ولكنها تقترن بصفات أخرى على حاشيتها ترسم لنا سائر معالمها، وقد تكون أيضًا من عناصر النجاح أو العناصر الفعالة في ولايته لأمور الدولة الجديدة.

من تلك الصفات خليقة المسالمة.

ويدهش كثير من الناس إذا سمعوا أن هذا الرجل الصارم مسالم؛ لأن الصرامة في الأذهان عامة مرادفة للشدة في معاملة الآخرين والتحفز لمخاشنتهم والجور عليهم، ولعلهم لا يخطئون في الجمع بين الصرامة والجور في خلة واحدة، إلا أن الصرامة في صميمها صرامتان: إحداهما صرامة في دفاعنا عن حدودنا، والأخرى صرامة في الجور على حدود غيرنا، وشتان ما بين الخليقتين.

إن الرجل الذي يشتد في الذود عن حدود حقه قد يكون مثلًا للمسالمة إذا أمن على تلك الحدود، وقد يصوره للناس في صورة الجائر المعتدي أن تضعه الحوادث في مقام الدفاع أبدًا فلا يتخيلونه إلا مشتدًّا محتدًّا متحفزًا متوفزًا، لا يؤمن جواره ولا تهدأ ثورته، ومن استغرب وصف جناح بالمسالمة لعله يتصوره دائمًا في تلك الصورة الثائرة دفاعًا عن موقف أو كشفًا للعدوان في موقف خصومة، بيد أن المتابعة والاستقصاء تنتهي بكل ثورة من تلك الثورات الصارمة إلى حد تقف عنده ولا تتخطاه، وليست كذلك ثورة الجور والعدوان.

تجلى خلق المسالمة فيه يوم سالت الدماء في الهند وتوالت الأنباء عن مقاتل المسلمين في مساكنهم أو في طريقهم إلى الباكستان، وغلت الدماء في العروق وأوشك الزمام أن يفلت من الأيدي، وخيف في كل مكان أن يتغلب الغيظ على الحكمة والرحمة، وأن يطيش الثأر فيؤخذ الأبرياء بذنوب المجرمين، ويقع العدوان على قوم من البراهمة انتقامًا للمسلمين الذين قتلهم البراهمة في غير الباكستان.

في تلك الأيام لم ينم جناح ولم يغفل لحظة عن مواطن القلق والخوف، وطفق يرسل النداء بعد النداء، ويطلق الوعاظ في الحواضر والقرى ليبصر الناس بأوامر دينهم، وما يجب عليهم لإخوانهم في وطنهم، حتى حفظت الباكستان مسلمها وبرهميها كلمته التي كان يرددها: إن ظلم البريء انتقامًا من الظالم مجاراة للظلم وإجرام فوق إجرام.

وتجلى هذا الخلق في معاملته للحكومات المجاورة كما تجلى في معاملته لرعاياه، فكانت أوامره المتلاحقة لجنوده أن تسالم ولا تهاجم، وأن الدفاع إذا وجب فهناك يسمعون منه أمر الدفاع إلى أن يبيد آخر رجل، بل آخر امرأة وآخر طفل قبل أن يفرطوا في قيراط من حوزتهم، أما قبل ذلك فلا محل للحرب ما دام في السياسة متسع للسلام.

وقد شهدت الهند والباكستان صفحة أخرى لهذه الصرامة عند نشأة الدولة، وإلحاح المشكلات الخارجية عليها في إبان التقسيم.

في تلك الفترة كانت صرامة جناح شدة تتلوها شدة، وإصرار على هذه الشدة لا يعرف الهوادة أو المساومة.

في تلك الفترة صادر كثيرًا من الدعوات، واعتقل كثيرًا من القائمين بها، وأنكر أن يكون هناك غرض سليم وراء المقاومة التي يقدم عليها معارضوه.

وانتقد المنتقدون، واعتذر المعتذرون.

أما المنتقدون فقد استندوا إلى مبادئ الحرية والديمقراطية، وأما المعتذرون فقد شبهوا الحالة يومئذ بحالة الحرب، بل بحالة الخطر على سلامة الأمة، وقالوا: إن في حياة الأمم أيامًا يُباح فيها للحاكم الموثوق بإخلاصه ما لا يُباح له في كل يوم.

حجتان سمعتا في أقطار كثيرة غير الباكستان، وانتقاد واعتذار لم ينقطعا فيما مضى ولا ينقطعان في هذا الزمان، وأقل ما يكون ذلك الانتقاد وذلك الاعتذار أحسن ما يكون، فما من أحد يزعم للسلطان المطلق أو للحرية المقيدة أنهما أكثر من ضرورة مكروهة في جميع الأحيان.

وقد سبقت الإشارة إلى مخالفة جناح لزعماء الهند من المسلمين والبراهمة في مسلكهم، أو مسالكهم المتلاحقة، في مسألة الخلافة، ويجوز أن يقع في الخاطر أن جناحًا لا يُعنى بالأمم الإسلامية أو الأمم الشرقية خارج بلاده، وأنه لا يشعر بالعطف لغير وطنه وأمته، وهو خاطر يجوز أن يقع في الخاطر كما أسلفنا قبل الاطلاع على آراء الطرفين في كل مرحلة من مراحل هذه المسألة المعقدة المفعمة بالنقائض بين ظواهرها وبواطنها، وحسبنا منها في الهند قيادة غاندي لحركتها وإحجام جناح وإقبال في بعض المواقف عن مجاراتها.

أما الحقيقة التي يُسفر عنها الاطلاع عن الآراء المتقابلة في المراحل المتعاقبة؛ فهي أن جناحًا كان يعترض على العبث ولا يعترض على الجد في هذه الحركة وما يماثلها.

كان ينكر تضييع الجهود حيث يكون تضييعها خسارة على الهند ولا يرجى منه نفع للخلافة، وكان بثاقب نظره يرى النزاع بين السلطان العثماني والرعايا المطالبين بالحقوق الوطنية والحرية الدستورية فيفصل بين المسألتين، ولا يحب أن يكون مؤيدًا «للخليفة» وخاذلًا لرعاياه.

وفيما عدا ذلك لم يتوانَ يومًا عن تعقب أخبار الشرق من اليابان إلى أقصى المغرب، ولم يسكت قط عن كلمة نافعة تُقال في قضية من قضايا الأقطار الإسلامية على الخصوص، فصرح للحاكم العام في إبان الحرب العظمى بأن معاونة المسلمين معلقة على ضمان الوطن الإسلامي في فلسطين، وخرج على المعهود من اتزانه في عباراته الرسمية فحذر الغرب يومًا من تلك السياسة التي ترمي إلى استئصال السيادة الإسلامية في جميع بلادها، واحتج على خطط هولندة في «إندونيسيا» واستعدى هيئة الأمم عليها، وتابع الاطلاع على أطوار القضية المصرية حتى قيل له مرة: لماذا لا تنال القضية الهندية مثل هذا الاهتمام من بريطانيا العظمى؟ فقال: وهل عندكم هنا «جامع أزهر» تخرج جموعه بالرايات السود كلما حزب الأمة المصرية حازب، فلا تبلغ نهاية الطريق حتى يكون الخبر في دوننج ستريت؟

وتداول القوم عن جناح أنه الزعيم «الأرستقراط»، تداولها الإنجليز كما تداولها الهنود، وسلمها الأصدقاء كما سلمها الخصوم، ونظن أنه هو لا ينفي من هذه الشهرة أنه رجل محافظ على سمعته معتكف لا يستكثر من العشراء في جميع علاقاته، فمما يزكيه مع هذا أن العناية بالطبقة الفقيرة كان على رأس القائمة في جميع برامجه، وأنه لم يكن يفعل ذلك جريًا وراء الجماهير؛ فإنه من المفروغ منه أن الجري وراءها مظنة لم تخامر نفوس القادحين فيه فضلًا عن مادحيه، وقد جاءته الأصوات إلى عقر داره وألح عليه علية القوم أن يتولى الرياسة مدى الحياة، بل هتفوا له باسم الشاهنشاه فاعتذر وقال لمن عرضوا عليه رياسة الدولة طول حياته: «دعوني أزوركم من حين إلى حين فأسمع منكم وتسمعون مني، وأسألكم أصواتكم وتسألونني ما في نفوسكم …»

وأصدق ما نشبه به جناحًا في مناقبه وخصائصه التي أجملناها أنه صاحب «شخصية» غير مطلقة، ولكنها غير موصدة: شخصية كالخزانة التي لا تعرض نفائسها في واجهة بلورية، ولكنها لا تحفها بالشوك أو تحيطها بالحراس والأرصاد، وتنفق مما تحتويه إنفاق الكريم السخي الذي لا يمتن على أحد بعطائه، ولكنه لا يقبل فيه السوم والمساومة، وإليه المرجع حين يعطى وحين يكف عن العطاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤