القاهرة: نوستالجيا مستقبلية

الموضوع الآتي رؤية ذاتية أسقطها من الماضي على المستقبل. كنت أود أن يكون العنوان «القاهرة التي كانت»، ولكن تراءى لي أن الخلاصة ستكون نظرة حزينة للواقع الذي نعايشه في قاهرتنا المحروسة المحبوبة للمصريين والكثير من أشقائنا في العروبة والإسلام، ومن ثم مزجت الماضي بالمستقبل، متخطيًا الواقع المؤلم الذي نعايشه. حنين جارف للماضي، وتشوق لما يمكن أن نعمله من أجل استعادة كلِّ شيء جميل كان يميز هذه المدينة الخالدة.

الماضي الجميل

ولدت ونشأت وعشت حتى الآن قاهريًّا أصيلًا. ربما كانت هناك جذور ممتدة إلى الشرقية، لكنني لم أعرفها إلا سردًا قليلًا من خلال قلة من أقرباء «شراقوه» مقيمين أيضًا بالقاهرة. حين شببت عن الطوق كانت تحدوني باستمرار رغبة في المشي الطويل؛ للتعرف على شوارع حي الجمالية، وبرغم لهفة الأهل، فإنني كنت أغامر طويلًا حتى انطبعت في الذاكرة خريطة من السيدة زينب إلى باب اللوق، وغربًا إلى كوبري قصر النيل، وشرقًا إلى عابدين والعتبة. وفي مرحلة الشباب اتسعت خريطة القاهرة لتشمل المدينة الفاطمية وبدايات شَبرا والعباسية، وفي مرحلة التعليم الثانوي تسلقت المقطم فجر أحد أيام شتاء ١٩٤٣ مع ثلاثة من زملاء الفصل في مغامرة خطرة حيث كانت هناك معسكرات للجيش الإنجليزي، وتُهنا عن عين موسى التي كانت مسجلة عندي في خريطة، وعند العصر وجدنا أنفسنا عند الجبل الأحمر، وتكررت رحلتي بمفردي إلى القناطر الخيرية بطريق إمبابة-المناشي، راكبًا دراجة أو ماشيًا على الأقدام مع العودة بالقطار. أما الذهاب إلى الأهرامات؛ فكان يسيرًا بواسطة الترام الذي كان يسير في منتصف الشارع بين خضرة وورود مما كان يشكل نزهةً ما بعدها متعة وجمال، وتمعن في أمجاد مصر دفعني إلى قراءات كثيرة في التاريخ المصري القديم. ولا أنسى فضلًا لأبي في مزيد من التعرف على خريطة القاهرة؛ فكل صلاة جمعة كنا نقضيها في مساجد بعيدة في المنيل وشبرا والجيزة، وعشرات المساجد من القلعة والسلطان حسن — الذي تعلقت به كثيرًا — والرفاعي، إلى الأزهر وغيره من التحف المعمارية الإسلامي التي تتميز بها القاهرة عن بعض المدن العربية الأخرى، وهذا ما زادني اتجاهًا إلى قراءات في تاريخ القاهرة، وشم عبق الزمان في الغورية والسكرية والخيامية والجمالية … إلخ.

أذكر هذه الخبرة الشخصية ليس لمجرد السرد، ولكن لنعرف كيف يحاول الشباب من جيلي أن يعرف مدينته إذا كانت كبيرة رحيبة مهيبة كالقاهرة.

قد ساعد على هذه الريادات بنية ملائمة للمشي والتنقل في شوارع القاهرة آنذاك، فقد كانت الشوارع كلها ظليلة بما زرع على الأرصفة من أشجار ظلٍّ كثيرة، وما كانت المحلات تفرده من ستائر معلَّقة أمام واجهاتها في الأحياء المتوسطة والشعبية؛ بل في أرجاء القاهرة القديمة كانت بعض الشوارع تظلها أسقف خشبية أو من قماش سميك لدرء أشعة الشمس عن السابلة أثناء حركتهم في الأسواق، وتتخلل هذه الأسقف منافذ عالية للتهوية والإنارة، وبمثل هذا التحوط البشري كان الناس تلقائيًّا وتاريخيًّا يتعايشون مع البيئة القاهرية الحارة خلال الصيف الطويل، بحيث إن مثل هذه الشوارع كانت تسري فيها نسمات منعشة أقل حرارة من الجو المفتوح.

وهذه هي إحدى أسس البناء عند العبقري المصري العالميِّ المهندس البنَّاء حسن فتحي: درس حسن فتحي أشكال البناء المصري القديم والإسلامي في القاهرة والواحات والنوبة التي غرقت تحت مياه بحيرة السد أو بحيرة ناصر، مستخلصًا مبادئ بسيطة لكنها شديدة الفعالية في التغلب على حرارة صيف المناطق الصحراوية، ويمكن تلخيصها في أمرين؛ أولهما: محاولة الحصول على الظل والنسمة من خلال تقارب المباني بحيث يقلل مساحة الفراغات التي تتسلط منها أشعة الشمس، وثانيهما: الإكثار من القباب على أسطح البيوت التي تزيد من حجم الغرف والصالات مع نوافذ عليا تتسرب منها الحرارة المتجمعة المنبعثة من الأجسام والنشاط البشري داخل الغرف؛ فالهواء الدافئ يصعد إلى أعلى والبارد ينزل إلى أرضية الغرف. كما أن وظيفة الأقبية أنها تشتت أشعة الشمس الخارجية في زوايا عديدة على كل درجات الميل للقباب بدلًا من السطح المستوي للأسقف، وفي الممرات والدهاليز داخل البيوت تسري أهوية رطبة تخفض درجة الحرارة على أن يكون لها فتحات مواجهة للرياح الشمالية السائدة. ومن هنا كان بناء مساقط هواء «شخشيخة» ملونة الزجاج على أسطح البيوت، يمكن التحكم بواسطتها بفتح زجاج مواجه لتيار الهواء وإغلاق غيره. ومن هنا أيضًا كان استخدام المشربيات على النوافذ له مثل هذه الوظائف المبردة لزمتة الصيف وخنقة الرطوبة. كل هذه المبادئ البسيطة في البناء هي نتاج تاريخ طويل لممارسات سكان المناطق الحارة الجافة من إيران إلى مصر وشمال أفريقيا، وكلها كانت في انتظار توافق فكر مبدع يربطها معًا، وهكذا كانت عبقرية المعماري حسن فتحي، وما أحوجنا إلى الاحتفاء به هذه الأيام، ليس فقط بإقامة ندوَات علمية؛ بل أيضًا بمحاولة تطبيق توافقاته البيئية بصورة أعم مما هو عليه الوضع الآن.

القاهرة كما يعرفها من هم في سنِّي، منذ الأربعينيات والخمسينيات، ينكر أن القاهرة الآن هي التي كان يعرفها منذ نصف قرن لولا بعض الشواهد الباقية الباهتة. فكثير من الشوارع والميادين تغيرت أسماؤها وتدهورت أحوالها. من يقول: إن شارع فؤاد (٢٦ يوليو الآن) هو نفس الشارع الذي كان متنفسًا يذهب إليه الناس للترويج في ظلِّ إطار الأشجار التي كنت تحفُّ به، ولمشاهدة مجموعة المَحَالِّ شديدة الرقيِّ: شيكوريل وشملا وبيع المصنوعات، وعصافير زاهر شفيق — إن أسعفتني الذاكرة — وقهوتَيْ بول نور وبورفؤاد على ناصيتي سليمان باشا وشريف باشا، ومحلات «الأمريكين» والبن البرازيلي وحلواني أسدية والكازار وتسيبَّاس … إلخ. والشوارع المتقاطعة بما فيها من مقاهٍ ومطاعم وسينمات، مثل: البودجا والكورسال والباريزيانا، وسينما ديانا وكايرو وسان جيمس، ومسرح رتيبة وإنصاف رشدي في شارع الألفي، ومترو وميامي وكافيه ريش ومشرب الشاي الهندي في سليمان باشا. وعشرات المطاعم الفاخرة الغربية والشرقية، مثل: الشيمي وكورسال وسان جيمس واليونيان، وسوق التوفيقية الشهير بأصناف منتقاة من الخضر والفاكهة، وسوق الممر التجاري بصناعاته الجلدية المصرية التي كانت تلقى قبولًا حسنًا من المصريين والأجانب المقيمين والسياح.

هذا قليل من كثير لشارع واحد محوري في القاهرة، يبدأ بمنتزهٍ عظيم هو حديقة الأزبكية التي تقطعت أوصالها، ويحاولون الآن استعادتها بعد الخسارة! كان الشارع مسارًا للترام والأتوبيس والسيارات، وبقربه من عماد الدين بداية مترو مصر الجديدة، وبرغم ذلك كانت الضوضاء والجلبة قليلة وعادم السيارات قليل بحكم انضباط قواعد إصدار التراخيص. كانت فئات الشباب تجوب الشارع صيفًا بعيون مفتوحة على حركة الناس والتجارة، يتناولون وجباتٍ سريعةً وقطع الجاتو في مَحالَّ متعددةٍ، وكبار القوم يلتقون في البول نور في هدوء يحتسون القهوة، ورجال أعمال يختارون قهوة بورفؤاد مقرًّا للشاي وإجراء الصفقات.

كانت أمسيات الصيف القاهريِّ أكثر من رائعة تتخللها نسمات رقيقة نقية الهواء، والكثير من العائلات تذهب لحفلات السينما في أبهى حلة من السادسة إلى التاسعة، مع القليل من محبي النظر إلى الجمال، والقليل جدًّا من المعاكسات الشبابية؛ لأن رجال الشرطة يؤدون واجبهم وسط طاعة واحترام الجميع وتقديرهم لما تؤديه الشرطة لأمن الناس. أما في الشتاء يغلق مبكرًا إلا من بعض الذين يشوون أبو فروة في الأمسيات الباردة، وينسحب روَّاد المقاهي إلى داخل المقهى والطلبة في بيوتهم يستذكرون بانضباط نحسدهم عليه الآن؛ لأن المدرسة كانت حازمة بالنسبة لمن يتكرر رسوبهم.

ويمكن أن نتابع القول بالنسبة لشوارع المدينة الأخرى: سليمان وشريف وقصر النيل، وميدان الأوبرا وميدان الإسماعيلية «التحرير»، وميدان الأزهار في باب اللوق وميدان الحسين والسيدة زينب … كلٌّ له طابع ورواد، والكل سعيد بما لديه، ابتساماته أكثر من تعقيد الوجوه، وعلى كوبري قصر النيل وكورنيش النيل في الجزيرة وأمام فندق سِميراميس القديم حتى سور السفارة البريطانية، زرافات من الناس صغارًا وكبارًا يتنسمون الهواء، ويأكلون السميط والجبنة والبيض، ويسمرون حتى ساعات متأخرة من أمسيات ليالي الصيف بنسماتها الناعمة. كل ذلك دون جلبة وضوضاء، فقد كان الناس حريصون ألَّا تطغى حريتهم على حرية الجماعات الأخرى الجالسة إلى جوارهم في الصوت والحركة. كانت كل مجموعة تتحدث بصوت خفيض فيما بينها، وتتخلص من بقايا أطعمتهم في صناديق النفايات التي تعلقها بلدية القاهرة على أعمدة فوانيس الإنارة!

وميدان العتبة الخضراء كان اسمه في العصر العثماني العتبة الزرقاء، وتحوَّل إلى اسم: ميدان الملكة فريدة، ثم عاد مرة أخرى إلى اسمه القديم. هذا الميدان العتيد كان تحفةً فنيةً؛ حديقة وسطى معني بها أشد العناية، تدور حولها خطوط ترام الأزهر والعباسية والسيدة والقلعة وشبرا وبولاق والزمالك والعجوزة والجيزة. وبنايات البريد المركزي بساعته الدقاقة الشهيرة كانت مركز التوقيت القاهري، قبل أن ينتقل إلى ساعة جامعة القاهرة التي هي في الجيزة. والمطافئ المركزية إلى جوار البريد يقوم رجالها بالتدريبات المستمرة التي يتجمع حولها الناظرون للمشاهدة، ومسرح الأزبكية العتيد الذي شهد عشراتٍ من الحفلات الشهرية لسيدة الغناء والطرب أم كلثوم، ومقاهي البواكي الواسعة في غرب الميدان الذي كان فعلًا سرَّةَ القاهرة. وعند أول شارع فاروق (الجيش حاليًّا) مقهى ذو تراس كبير يسمى: قهوة رضوان الكبرى، هو ملتقى كثير من تجار الموسكي والأزهر، وأمامه مطعم العجاتي الكبابجي الشهير. ماذا أصاب هذا الميدان المركزي؟ رفع الترام وأعيد ورفع مرة أخرى. بُنى فوقه طريق الأزهر العلوي، فأصابه بضربه قاضية، وعمارة البواكي غرب الميدان أزيلت جزئيًّا منذ عشرات السنين، وظلَّت طويلًا منظرًا فريدًا في التشويه العمراني إلى أن أزالها مشروع نفق الأزهر. أزيلت الحديقة الوسطى، ثم أعيد بناؤها في الطرف البحري، وأصبح المرور في اتجاهين يسير حولها في قوس متعاكس مما يسبب إشكاليات مرورية كثيرة، ولا نعرف كيف سيكون تخطيط المرور بعد إتمام النفق، ومن الجليِّ أنه لا يمكن تخصيص الميدان للمرور في اتجاه واحد؛ لأنه ما زال حيويًّا، فهو مركز الارتباط الأساسي بين شرق القاهرة: الأزهر والدرَّاسة وصلاح سالم ومدينة نصر والعباسية، وجنوب القاهرة: عابدين والسيدة زينب والقلعة، وغرب القاهرة: الأوبرا ووسط البلد والإسعاف وبولاق وكورنيش النيل بمراكزه التجارية الشاهقة، وشمال القاهرة: كلوتْ بك وباب الحديد والفجالة والسبتية وشَبرا. مسكين حقًّا ميدان العتبة؛ أصيب بكل الأمراض التخطيطية والتدهور العمراني لكن موقعه الفريد يجعله يتحدى الشيخوخة حتى الآن. فماذا سيفعل به نفق السيارات المقرر تعسفًا من الأزهر إلى الأوبرا؟ أم أن النفق لن يزيده مما حاق به من آلام، ويتجه إلى حديقة الأزبكية وميدان الأوبرا، ويفعل بهما ما لم يفعله الزمان؟

«جاردن سيتي» مدينة الحدائق بقصورها وفيلاتها وشوارعها الدائرية، كانت حيًّا من الأحياء صمم لهذا الغرض المعماري: أبنية موسرة المعمار والزخرف، وسط حدائق ظليلة فلا يطغى بناء على الآخر، ولا تسمع من الخارج سوى إيقاعات البيانو وموسيقى حالمة. الآن هي خليط من بقايا الزمن اللطيف وعمارات وأبراج لا تنتمي أصلًا إلى مخطط الشوارع ذات الأقواس. تدخل إحدى الفيلات القديمة تشم الماضي، وتتصوره حيًّا كما كان، ولكنك تفتح عينيك على زحمة المكاتب، وتسمع طنينًا مخدرًا لأجهزة التكييف في مركز لبنك أو إدارة لشركة أو فرع لإدارة حكومية.

والضواحي الجميلة الغنَّاء بأشجارها وخضرتها وبلابلها، في مصر الجديدة والمعادي والدقي، طغت عليها أكداس الإسمنت والزجاج في صورة العمائر عُلَبية الشكل، تعلو فوق أراضي الفيلات السابقة، وتحجب الضوء والهواء، وتنفث غازات آلاف أجهزة التكييف بدلًا من المسرى الطبيعي للهواء النقي، فضلًا عن هدير وغازات مئات الآلاف من السيارات التي تجري في شأن وغير ما شأن!

المستقبل … إلى أين؟

أين ذهبت القاهرة بصيفها الناعم، وشتائها المعتدل؟ لا شك في أننا لا نبكي رومانسية الماضي، فإن ما ذكرناه إنما هو لنتذكر ما كان. فماذا نفعل الآن في ظل المتغيرات الكثيرة البشرية، وأولها الزحف البشري، وحلول المخططين بالتوسع العمراني في الصحراء الشرقية والحقول الشمالية والغربية؟

من هنا أردت أن أضع بين يدي القراء المهتمين كتابًا حديثًا مقتصد الصفحات، يرصد بموضوعية — قدر الإمكان — أحوال القاهرة في المكان والزمان، وأعداد الناس وأعمالهم، ومصادر رزقهم، ومشكلات المدينة الخانقة من حيث كونها عاصمةً سياسيةً واقتصاديةً وتجاريةً وثقافيةً، والجهد المبذول للإصلاح، لكنه عادةً إصلاحٌ جزئيٌّ دون نظرات شمولية لمعالجة شيخوخة المدينة العريقة. فكان هذا الكتاب الذي أرجو أن يكون إسهامًا في معرفة حقيقة أوضاع المدينة التي نعيش فيها، وكيف نترفق بها في معايشتنا لها، ولنكوِّن رأيًا عامًّا يشجِّع على المزيد من الاهتمام بها وترقيتها بمشاركته الرأي مع الأجهزة المختصة في بلديات القاهرة الكبرى؛ لكي تكون القرارات الإصلاحية مستندةً إلى مشورة الناس جنبًا إلى جنب مع التخطيط الفيزيقي الذي يتولاه المهندسون المخططون. وبعبارة أخرى: فالمطلب هو أن يكون التخطيط غير أحادي كما هو حاله الراهن؛ بل شركةً بين مختلف التخصصات البشرية المجتمعية والاقتصادية والصحية والجغرافية، بغرض حسن اختيار المواقع من أجل نشر التنمية وتنويعها بشمولية على الكثير من الأراضي المصرية قدر إمكاناتها الطبيعية، وقدر قدراتنا المادية والتكنولوجية. ومن خلال هذا المنظور الشامل سوف تجد القاهرةُ وغيرُها من المدن المصرية بعضًا من الحلِّ لمشكلاتها المعاصرة؛ فإن تطور اقتصاديات الريف سوف تقل معه الفوارق في الخِدمات وفرص العمل، وتقلُّ تيارات الهجرة إلى المدن مما يثبِّت عدد سكان المدن على نسب نمو ذات قيمة أقل من الأوضاع الحالية، وهذا هو ما يسمح للمدينة أن تنمو طبيعيًّا، وأن تجد أحياءها القديمة، وأن يتحسَّن أداء بنيتها الأساسية، وبالتالي تقل إشكالياتها لتتناظر مع حجم الحياة في كل مدينة على حدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤