الباب الثاني

ابن رشد عند اليهود – الترجمات اللاتينية بواسطة الترجمات العبرية

لقد كان فتح الأندلس من قِبَل العرب المسلمين فرصة ذهبية لليهود للحصول على نوع من الاستقرار، فاندمجوا بالحضارة الإسلامية وتعلَّموا اللغة العربية وأتقنوها، إذ غدت لغة الضاد منذ القرن العاشر لسان المسلمين واليهود والنصارى المشترك، وقد كانت إسبانيا لهم وطنًا ثانيًا من زمن طويل، وذلك أنه التجأ إليها منذ سنة ١٢٥م، أي في عهد أدريان Adrien، عدد كبير من الأُسَر الفارَّة من الكارثة التي حلَّت بأمتها واضطهد القوط اليهود فاستقبل اليهود العرب مثل منقذين، فانسجموا بهم فرُئِي من اليهود من رأس أكاديمية قرطبة (رينان ص١٧٥ وما بعدها).
أما اتصال اليهود بالفلسفة فهو يرجع إلى اهتمام سعديا Saadia في الشرق، وقد استغل خسداي بن شفروت — الذي كان طبيب الحكم الثاني — ما كان يتمتع به من مكانة لدى الخليفة لإنعاش الدراسات الفلسفية عند بني دينه، وظهر ابن جبرول قبل ابن باجة بجيل، والواقع أن ابن جبرول كاد أن يكون وحيدًا بين بني دينه، فقد أساء إلى اللاهوتيين بجرأته فأراد أن يرضيهم على حساب الفلسفة، وسرعان ما سبقه في ميدان الفلسفة المشاءون الرشديون؛ ولذا كاد كتابه «منبع الحياة» بالعبرية يلحقه النسيان عندما تمتع هذا الكتاب بنفوذ كبير عند اللاتين.
ومع ذلك منذ النصف الثاني من القرن الحادي عشر نالت الأرسطية حظوة عظيمة لدى اليهود ونبذ مذهب متكلمي العرب المعارض لها نبذًا عامًّا، فاضطرب وخاف المتكلمون وحاولوا صد هذا التيار العقلي، ونرى ثمرة من هذه المقاومة في كتاب «الخوزاري» المشهور ليهودا هلليفي Juda Hallevi وقد كتب لابن ميمون أن يحاول مصالحة العقل والدين فاستحق أن يعدَّ اليهودية الفلسفية.
وقد ذكر خطأ ليون الإفريقي أن ابن ميمون كان تلميذًا لابن رشد، وقد أثبت مونك Munk أن كل ما حكاه ليون الإفريقي في هذا الصدد مستحيل، وذلك أن ابن رشد عندما نُفِيَ كان قد مضى على مغادرة ابن ميمون للأندلس — فرارًا من اضطهاد الموحدين — أكثر من ثلاثين عامًا، وقد قال ابن ميمون في كتابه الشهير «دلالة الحائرين»: إنه كان تلميذًا لأحد تلاميذ ابن باجة، ولكن من غير أن يتكلم في هذا الكتاب عن ابن رشد مطلقًا.

وقد سجَّل ابن ميمون في خطاب أرسله في سنة ٥٨٧ﻫ/١١٩٠-١١٩١م إلى تلميذه يوسف بن يهودا صلته بكتب ابن رشد، فهو يكتب: «لقد تناولت في هذه الأزمنة جميع ما ألَّف ابن رشد عن كتب أرسطو، خلا كتاب «الحس والمحسوس»، وقد رأيت أنه وُفِّق لإصابة وجه الحق، بَيْدَ أنني لم أجد حتى الآن متسعًا من الوقت لدراسة مؤلفاته» (رينان ص١٧٧).

غير أن ابن ميمون هو الذي أقام نفوذ ابن رشد بين بني دينه بطريقة غير مباشرة، وذلك باهتمامه بالدراسات العقلية وبخاصة بأرسطو، فابن ميمون وابن رشد استقيا من منبع واحد وهو التيار الأرسطي، فليس من المستغرب أنهما انتهيا إلى فلسفة متماثلة تقريبًا.

وبقيت جميع مدرسة ابن ميمون وفيَّة للأرسطية الرشدية؛ مما جعل غليوم دوفرنيي Guillaume d’Auvergne — أسقف باريس — يقول: إنه لم يبقَ بين اليهود الخاضعين للعرب واحد لم يترك دين إبراهيم ولم تفسده ضلالات العرب أو ضلالات الفلاسفة.
وقد أثارت هذه السيطرة الأرسطية والرشدية غضب رجال الدين اليهودي في أقاليم بروفانس Provance وكاتالونيا Catalogne وأراغون Aragon، وحكمت مونيبليه Montpellier وبرشلونة وطليطلة على مؤلفات ابن ميمون بالحرق، وتعاقبت الرسائل المدافعة عن ابن ميمون أو المهاجِمَة إياه عامًا بعد عام، وقد حرم تدريس الفلسفة سنة ١٣٠٥ في برشلونة لمن لم يبلغ العشرين من العمر، غير أن تمكن رجال مثل: داود قمحي وشمطوب بن يوسف بن فلقيرا Schem–Tob ben–Falaquera، ويدعيا بنيني Jedaia Penini من مدينة بييزيه Béziers في جنوب فرنسا ويوسف بن كاسبي Joseph ben–Caspi أن يحققوا انتصار الفلسفة المشائية والرشدية في صفوف العلماء اليهود.

وهذا يسمح لنا أن نفهم حركة الترجمة التي وضعت في أيدي علماء اليهود مؤلفات أرسطو المصحوبة بشروح ابن رشد مترجمة إلى العبرية ومنها فيما بعد إلى اللاتينية.

ويجدر بنا هنا أن نُبْدِيَ ملاحظتين: الأولى هي أن اضطهاد دولة الموحدين للفلسفة أكره الحضارة اليهودية في إسبانيا أن تنزح إلى الشمال المسيحي ثم إلى جنوب فرنسا، فصارت البروفانس Provence واللنغدوك Languedoc وبرشلونة Barcelone وسرقطسة Saragosse وأربونة Narbonne ومونبيليه Montpellier ولونل Lunel وبيزييه Béziers ولارجانتير L’Argentière ومرسيليا Marseille مراكز للحركة الجديدة، والملاحظة الثانية هي أن أصبحت الفلسفة اليهودية — بنوع ما — صورة طبق الأصل للفلسفة العربية المائلة إلى الأرسطية والرشدية، وكما يقول رينان (ص١٨٤) يذكر سعديا وابن جبيرول ويهودا هلليفي بالسكولائية الأولى مثل أبيلار Abélard وروسلان Roscelin التي هي أقدم من ترجمة المجموعة الكاملة الأرسطية، وعلى العكس يذكر موسى بن ميمون وليڨي بن جرشون Lévi Ben–Gerson السكولائية الثانية (ألبرت الكبير وتوما الأكويني) عن إحاطة بالموسوعة المشائية، ومنذ هذا الحين ستصبح كتب أرسطو مع شرح ابن رشد أساس الفلسفة اليهودية، وقد شاع اسم فيلسوف قرطبة لدى علماء اليهود كالمفسر الأصيل لأرسطو، بل نال من اليهود لقب «روح أرسطو وعقله» الذي أيدته جامعة بادوا Padoa بعد ذلك رسميًّا.

ولما هاجرت فلسفة اليهود من الأندلس إلى جنوب فرنسا أصبحت اللغة العربية التي كانت لغتهم الدارجة والعلمية غير مألوفة عندهم، وشعروا بضرورة نقلهم إلى العبرية جميع الكتب المهمة في العلوم والفلسفة، وقد عاشت هذه الترجمات أطول من أصلها في الغالب، ومخطوطاتها وافرة في المكتبات.

والذي هو جدير بالذكر أن الطريقة التي نهجها المترجمون العبريون هي من أبسط ما يكون، فقد نقلوا المتن حرفيًّا، محتفظين بكثير من الألفاظ العربية، وجعلوا لكل أصل عربي أصلًا عبريًّا مقابلًا وإن كان المعنى مختلفًا باللغتين، كما أنهم حاولوا أن يحتفظوا بالصيغ النحوية العربية ولم يسمحوا لأنفسهم التصرف أو إدخال ملاحظات شخصية إلا في بعض الرسائل، كشرح فن الخطابة وفن الشعر وجمهورية أفلاطون وكتهافت الفلاسفة، وهذا إما لتوضيح بعض التعبيرات الغامضة وإما لتحميل المؤلف لسانًا أميل إلى العقيدة الدينية.

ويرجع فضل هذا العمل العظيم في الترجمة — الذي شغل جميع القرن الثالث عشر والنصف الأول من القرن الرابع عشر — إلى آل ابن طيبون الذين هم من أصل أندلسي فاستقروا بلونيل Lunel، وقد أثبت رينان (ص١٨٦) أن اليد العليا لترجمة مؤلفات ابن رشد (شروحه على الطبيعيات) ترجع إلى الطيبوني الثالث موسى بن تيبون، ومع ذلك فإن شموئيل (أوائل القرن الثالث عشر) يمكن أن يُعَدَّ — بنوع ما — أول مترجم لكتاب ابن رشد في الطبيعيات وما بعد الطبيعة، إذ كتابه الكبير المسمى «آراء الفلاسفة» يحوي مقتطفات عديدة حرفية لابن رشد، وهو يصرح أن ابن رشد أكثر شُرَّاح أرسطو أمانة، وقد كان شموئيل يستعين بالنص العربي لابن رشد، ولكن عندما نُقِلَت شروح ابن رشد إلى العبرية أُهمل كتاب شموئيل.
والذي قام بالقسم الأكبر من الترجمات العبرية هو موسى بن طبون (حوالي سنة ١٢٦٠م) الذي ترجم أكثر شروح ابن رشد وبعض كتبه الطبية و«دلالة الحائرين» لابن ميمون، وفي حقبة من الزمن كان فرديريك الثاني شديد الشوق بإدخال العلوم والفلسفة العربية إلى الغرب، فنراه يراعي يعقوب بن أبا ماري Jacob ben Abba Mari وهو صهر صموئيل بن طبون في نابولي، وقد نقل يعقوب إلى العبرية شروح ابن رشد على الأورغانون.
وفي القرن الثالث عشر نرى سلسلة من علماء يهود يهتمون بتحضير ملخصات ومجموعات للنصوص الرشدية أو يترجمون النص كاملًا، ففي حوالي سنة ١٢٤٧ ألَّف يهودا بن شلومو كوهين Jehuda ben Salomo Cohen الطليطلي كتابًا بالعبرية عنوانه «البحث عن الحكمة» هو عبارة عن دائرة معارف للفلسفة الأرسطية مبنية بخاصة على التعاليم الرشدية، وقليلًا بعده نقل العالم شمطوب بن يوسف بن فلقيرا Shemtob b. Yusuf b. Falaquera مذهب ابن رشد في كتاباته، وبعده في أواخر القرن الثالث عشر ألَّف جيرشون بن شلومو Gerson b. Salomo كتابه «باب السموات» ذات الصبغة الرشدية.
وحوالي ١٢٥٧ ترجم شلومو بن يوسف بن أيوب — وهو مهاجر من غرناطة إلى بلدة بيزيه Béziers في جنوب فرنسا — تلخيص كتاب السماء والعالم لابن رشد، وفي آخر القرن أَخَذَتْ ترجمة النص الرشدي نفسه تحتل محل الملخصات والمجموعات، وحوالي ١٢٨٤ ترجم زرحيا بن إسحاق من برشلونة شروح ابن رشد للطبيعيات والميتافيزيقا وكتاب السماء والعالم، وقد ترجم يعقوب بن ماخير تلخيص المنطق في سنة ١٣٩٣ وشروح الأجزاء ١١–١٩ من تاريخ الحيوان في سنة ١٣٠٠.

وقد أشار رينان (ص١٨٩) إلى أن — منذ القرن الثالث عشر — نفس النصوص الرشدية كانت قد تُتَرْجم مرتين أو ثلاثة أحيانًا على يد مترجمين مختلفين، ومع ذلك فإننا نرى في النصف الأول من القرن الرابع عشر عددًا من المترجمين الجدد يقومون بنفس العمل، وليس هذا مما يثير العجب، إذ كان في القرون الوسطى نقل المخطوط من جديد إلى العبرية أسهل من الحصول على ترجمة جديدة، وعدد من هذه الترجمات كانت تُعمل لأشخاص معينة، فكانت لا تخرج من الإقليم الذي تمَّت فيه.

وكان من أكثر المترجمين نشاطًا في هذه السلسلة الجديدة كالونيموس ابن كالونيموس بن ميئير Calonymos المولود في أرل Arles سنة ١٢٨٧، ففي سنة ١٣١٤ ترجم الشروح على الجدل والبرهان والسوفسطيقا، وفي سنة ١٣١٧ ترجم شروح ما بعد الطبيعة والطبيعيات وكتاب «السماء والعالم» وكتاب «الكون والفساد» و«الآثار العلوية»، ونجد تحت اسمه أيضًا ترجمات شرح «كتاب النفس» وشرح رسالة «اتصال العقل المفارق بالإنسان»، وكان كالونيموس يعرف اللاتينية، فترجم إلى هذه اللغة في سنة ١٣٢٨ «تهافت التهافت».
وحوالي ذات الزمان قام كالونيموس آخر وهو كالونيموس بن داود بن تودروس Todros بترجمة كتاب «تهافت التهافت» من العربية إلى العبرية، ويجب ألا تخلط بينه وبين الطبيب المقيم بنابولي Naples كالونيموس بن داود الذي ترجم في أثناء إقامته بالبندقية في القرن السادس عشر «كتاب التهافت» ورسالة «اتصال العقل المفارق بالإنسان» من العبرية إلى اللاتينية، وقد سبَّب هذا التشابه بين الأسماء إلى كثير من الإضراب، (انظر رينان ص١٩١).
وفي سنة ١٣٢١م ترجم ربى شموئيل بن يهودا مشولام المرسيلي Rabbi Samuel ben–Juda ben–Maschullam الذي كان أبوه يسمى ميلس (إميل) بنغوداس Miles Bongudas شرح كتاب «الأخلاق النيقوماخية» وجوامع سياسة أفلاطون، وفي سنة ١٣٣٧م ترجم تودروس تودروسي الآرلي Todros Todrosi d’Arles شروح الجدل والسوفسطائية والخطابة والشعر والأخلاق، وهناك عدد من المترجمين الآخرين الغامض أمرهم أو الذين يُشك في زمنهم، وهم: يعقوب بن شمطوب (تحاليل القياس الأولى) ويهودا بن تاشين ميمون Juda ben–Tachin Maimon (الطبيعيات، كتاب السماء والعالم وكتاب الكون والفساد)، وشمطوب بن إسحاق الطرطوشي (شرح الطبيعيات وكتاب النفس)، وموسى بن تابورا بن شموئيل بن شدائي Moise Ben–Tabora ben Samuel ben–Shudai (كتاب السماء والعالم)، وموسى بن شلومو السالوني Moise ben–Salomon de Salon، (الميتافيزيقا) ويهودا بن يعقوب (الأجزاء ١١–١٩ من الحيوان) وشلومو بن موسى الغواري Salomon ben–Mosé Alguari في المنام واليقظة، وتُرْجِمَ كتاب «جوهر الأجرام السماوية» de Substantia Orbis من العربية إلى اللاتينية ومن اللاتينية إلى العبرية من قِبَل يهودا بن موسى بن دانيا نزيل روما مع كثير من الرسائل لألبرت الكبير والقديس توما الأكويني وجيل دي روم Gilles de Rome.

المراجع

الكتاب الأساسي هو كتاب استاينشنيدر الذي ذكرناه سالفًا (انظر ص٥٩) وكتب مونك ورينان وفاجدا Vajda (انظر ص٥٥، ٥٦، ٣٣٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤