تقديم

رغم أن ندرة الوثائق وصعوبة الوصول إليها سِمة بارزة من سمات تاريخ مصر المعاصر عامة، وتاريخ الحركات السياسية والأيديولوجية خاصة، إلا أن تاريخ الحركة الشيوعية المصرية يعاني نقصًا خطيرًا في الوثائق التي تتصل بالمنظمات الشيوعية المصرية عَبْر ما يزيد على نصف القرن. ولعل ظروف الحركة الشيوعية المصرية كانت وراء ندرة الوثائق المتعلِّقة بها، فمنذ عُدِّل قانون العقوبات عام ١٩٢٤ وأُضيفت إليه مادة جديدة تجرِّم النشاط السياسي الذي يدعو إلى تغيير نظام «الهيئة الاجتماعية» ويحرِّض طبقة على أخرى، أصبح النشاط الشيوعي محظورًا مطاردًا من السلطة في كل العهود، ومن ثَم لجأ الشيوعيون إلى العمل السري، ولمَّا كانوا مُعرَّضين دائمًا لملاحقة أجهزة الأمن، وخاصة «البوليس السياسي»، فكثيرًا ما كانوا يتخلَّصون من وثائقهم عند الإحساس بالخطر، وحتى تلك التي بقيت في أيديهم ووقعت في أيدي أجهزة الأمن أصبح الاطلاع عليها — بعد مرور السنوات وتغير العهود — من المحظورات التي تُعد مستحيلة المنال بالنسبة للباحثين المصريين، فسلطات الأمن تحتفظ بتلك الوثائق في أرشيفها الخاص، وتعتبر أن ما تحت أيديها من وثائق «مادة جنائية»، وليست تعبيرًا عن حركات سياسية أنتجها تفاعل أجيال من شباب هذا الوطن مع واقع مجتمعهم، وليست تعبيرًا عن رؤًى سياسية وفكرية لأزمة المجتمع المصري في مختلف مراحل تطوُّره، ولهذا ظلَّت وثائق الحركات السياسية المصرية بعيدة عن متناول الباحثين.

ولكن ثمَّة القليل من تلك الوثائق التي أُتيح للباحثين الاطلاع عليها، هي تلك التي ضمَّتها ملفات القضايا السياسية والتي كانت — إلى عهد قريب — متاحة للاطلاع بالمتحف القضائي المصري، حتى جاء أنور السادات فمنع الاطلاع عليها وأصدر قرارًا بمنع الاطلاع على الوثائق التاريخية قبل انقضاء نصف قرن على الأحداث التي تتناولها، وهكذا أُغلقت ملفات القضايا السياسية في وجوه الباحثين، ما عدا تلك التي بقيت لدى بعض المحامين الذين ترافعوا عن المتهمين في تلك القضايا أمام المحاكم الاستثنائية والجنائية، والاطلاع على ما لدى المحامين من ملفات يعتمد على الصلات الشخصية، وهو ما لا يتوافر إلا لقلة من الباحثين.

وحتى الصحافة اليسارية العلنية التي صدرت في الأربعينيات والخمسينيات لا توجد نسخة كاملة منها بالمكتبة القومية (دار الكتب المصرية)، وإنما نجد بعض أعدادها، وحتى تلك الأعداد التي نجَت من مكائد الدهر في حالة يُرثى لها، نتيجة تخلُّف نظام الحفظ بتلك الدار العتيدة.

ولم يعُد هناك مفر أمام الباحثين الذين يتصدون للتأريخ للحركة الشيوعية المصرية من الاعتماد بصفة أساسية على الروايات الشفوية للمناضلين القدامى الذين شاركوا في صنع تلك الحركة وفي فعالياتها المختلفة (على نحو ما فعل رفعت السعيد)، وهي طريقة مَعيبة منهجيًّا رغم أنها السبيل الوحيد المُتاح للباحثين؛ لأنها تعتمد على الذاكرة، وكثيرًا ما تخون الذاكرة المناضلين القدامى الذين مرُّوا بتجارب نفسية وبدنية لا إنسانية خلال سنوات الاعتقال الطويلة، والذين مزَّقَتهم الانقسامات والمشاحنات، والذين لا بد أن يُبالغوا أحيانًا في الأدوار التي لعبوها أو لعبتها منظماتهم. ولعلَّ مَن يقرأ مؤلفات رفعت السعيد يلحظ ذلك بوضوح، كما يتضح تحيُّزه كثيرًا لمنظمة بعينها كان له حظ النضال في صفوفها.

مجموعة واحدة من وثائق الحركة الشيوعية المصرية نجَت من الضياع، وظلَّت محفوظة هناك … في باريس … ولا تزال، هي وثائق المجموعة التي أطلقت على نفسها «مجموعة روما للحركة الديمقراطية للتحرُّر الوطني (حدتو)»، وهي المجموعة التي نظمها هنري كورييل — الأب الروحي لحدتو — بعد نفيه من مصر عام ١٩٥٠ وظلَّت تُمارس نشاطها من باريس حتى صدور قرار «الحزب الشيوعي المصري المتحد» بحلها في أوائل ١٩٥٨، وإنْ بقيت على صِلة وثيقة ببعض كوادر حدتو، ومدَّت لهم يد العون المادي والأدبي خلال محنة الاعتقال.

وتتضمن وثائق مجموعة روما عددًا كبيرًا من المراسلات المتبادلة بين كوادر حدتو وهنري كورييل، كما تتضمَّن البيانات والمراسلات التي أصدرتها المجموعة (باسم حدتو) ووجهتها إلى الأحزاب والمنظمات التقدُّمية العالَمية في مناسبات مختلفة، وكذلك التقارير التي كان هنري كورييل يُوافي بها حدتو من منفاه.

والوثائق التي ننشرها هنا من وثائق مجموعة روما التي يحتفظ بها «جماعة أصدقاء هنري كورييل» بباريس، وقد حصلنا عليها من خلال باحث أجنبي شاب ربطتنا به صِلة تعاوُن علمي، وللأسف لن نستطيع ذكر اسمه هنا — عرفانًا بفضله — لأنه حصل على هذه الوثائق لاستخدامه الشخصي، ولم تُخوله «جماعة أصدقاء هنري كورييل» حق إتاحة الاطلاع عليها للآخَرين. وهذه المجموعة من الوثائق كُتبت أصلًا بالفرنسية، فيما عدا الوثيقة الخاصة باحتجاج المجموعة على القرار الصادر بحلها من الحزب الشيوعي المصري، فقد جاء أصلها باللغة العربية منسوخًا على الآلة الكاتبة إلى جانب النص الفرنسي، وفضَّلنا هنا استخدام النص العربي.

وقد عكفت الأستاذة عزة رياض على ترجمتها إلى العربية بتكليفٍ من دار سينا للنشر، وقمنا بمراجعة الترجمة مراجعة دقيقة على النص الفرنسي، ولكن لا يسعنا هنا إلا أن ننوِّه بالجهد الكبير الذي بذلَتْه المترجمة في تعريب هذه الوثائق.

وربما عنَّ سؤال للقارئ الكريم عن مدى صحة هذه الوثائق، وهو سؤال منطقي لا يبرِّر عدم إثارته ثقتنا في الباحث الأجنبي الذي حصلنا على هذه الوثائق عن طريقه. وقد تأكدنا من صحة هذه الوثائق من خلال مراجعة الكتاب الذي ألفه الصحفي الفرنسي جيل بيرو بعنوان «هنري كورييل، رجل من طراز فريد» ونُشر بالفرنسية عام ١٩٨٤، ونُشرت ترجمته العربية في بيروت عام ١٩٨٦، فقد اعتمد الكاتب على مذكرات هنري كورييل عن نشاطه في مصر (التي ننشرها هنا كاملة)، وكذلك على بعض التقارير التي كتبها هنري كورييل عن الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني والصراع داخل الحركة بعد الوحدة الأولى عام ١٩٤٧ (وهي منشورة هنا أيضًا). كذلك راجعنا المعلومات التي أوردها رفعت السعيد في دراساته منسوبة إلى أرشيف «مجموعة روما»، فتبين لنا صحة ما بين أيدينا من وثائق، وصحة نسبتها إلى هنري كورييل ومجموعة روما.

وقد قسمنا مجموعة الوثائق التي ننشرها هنا إلى خمسة أقسام على النحو التالي:
  • (١)

    «هنري كورييل، سيرة ذاتية»، وهي عبارة عن ذكريات كتبها هنري كورييل بخط يده أثناء اعتقاله في فرنسا (أكتوبر–ديسمبر ١٩٧٧)، ولم يتمكَّن من مراجعتها واستكمالها وإعدادها للنشر بسبب اغتياله في ٤ مايو ١٩٧٨.

  • (٢)

    تقرير من هنري كورييل إلى حدتو بعنوان: «نضال الحركة المصرية للتحرر الوطني والحركة الديمقراطية للتحرُّر الوطني منذ تأسيسها حتى إعلان الأحكام العُرفية في مايو ١٩٤٨م» ويحمل التقرير تاريخ سبتمبر–أكتوبر ١٩٥١م.

  • (٣)

    تقرير من هنري كورييل إلى حدتو بعنوان: «المراحل الرئيسية للصراع داخل الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في عام الوحدة، مايو ١٩٤٧–يونيو ١٩٤٨م» ويحمل غلاف التقرير إشارة إلى أنه كُتب في نهاية عام ١٩٥٥م.

  • (٤)

    وثائق مجموعة روما، مارس ١٩٥١–أبريل ١٩٥٨م، وهي مجموعة مراسلات صادرة باسم المجموعة إلى حدتو والحركة الشيوعية المصرية ينتهي بالوثيقة الخاصة بموافقة المجموعة على قرار الحل.

  • (٥)

    رسالتان من هنري كورييل إلى نعومي كانل (إحدى كوادر حدتو بالإسكندرية) أثناء وجودها بالسجن، وهما رسالتان تُشيران إشارة واضحة إلى موقف هنري كورييل من ثورة يوليو ومن إسرائيل.

ولمَّا كان هنري كورييل قد استخدم في تقاريره — التي كانت أصولها تُكتب عادة بالحبر السري وترسل مع بعض المسافرين إلى مصر أو بطُرق أخرى — الأسماء الحركية للكوادر التي وردت بتلك التقارير، فقد استعنَّا ببعض الأصدقاء للتعرف على الأسماء الأصلية لأولئك المناضلين، طالما أن أدوارهم النضالية أصبحت جزءًا من تاريخ مصر المعاصر، وقد لقينا في هذا الصدد معاونة الكثيرين، ولكننا نخص بالشكر الصديقَين د. فتحي عبد الفتاح والأستاذ بدر رفاعي لعونهما الصادق في هذا المجال. ورغم ذلك بقيت بعض الأسماء الحركية غامضة بالنسبة لنا، ربما لأن هؤلاء تركوا الحركة الشيوعية في وقت مبكِّر، أو لأن ذاكرة المناضلين لم تُسعفهم بالأسماء الحقيقية لأولئك الرفاق القدامى.

ولمَّا كان «هنري كورييل» صاحب هذه المجموعة من الوثائق، فقد رأينا أن نقدم لها بدراسة عن «هنري كورييل والحركة الشيوعية المصرية»، ضمناها دراسة نقدية لكلٍّ من المجموعات الخمس من الوثائق التي يضمها هذا الكتاب.

وبعدُ … عزيزي القارئ … إن هذه الوثائق التي تُلقي أضواء هامة على فصيل كبير من فصائل الحركة الشيوعية المصرية منذ الأربعينيات حتى الخمسينيات، حافلة بالتجارب النضالية التي تشكل — بسلبياتها وإيجابياتها — ركنًا من أركان تاريخ مصر المعاصر، من حق الأجيال التي لم تعشه أن تتعرف عليه، وأن يكون لها حكمها الخاص عليه.

والله والوطن من وراء القصد.

القاهرة في ١٥ سبتمبر ١٩٨٧م
د. رءوف عباس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤