المراحل الرئيسية للصراع داخل الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في عام الوحدة مايو ١٩٤٧-يونيو ١٩٤٨م

تقرير من هنري كورييل إلى رفاقه في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في نهاية عام ١٩٥٥م.

مقدمة

إن الغرض من هذا التقرير هو تقديم وصف سريع للمراحل الرئيسية للصراع داخل الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، أثناء العام المسمى «بعام الوحدة» (مايو سنة ١٩٤٧-يونيو سنة ١٩٤٨م)، وهو لا يُعد تقريرًا تحليليًّا، ولا نقديًّا، كما لا يمكن اعتباره من قبيل النقد الذاتي.

وبالرغم من ضعف الموضوع إلا أن لهذا التقرير أهمية خاصة، فهو يكشف بالفعل مجريات الأمور في أعنف صراع داخلي عرفته الحركة الشيوعية المصرية إلى اليوم، وهو الصراع بين الحركة المصرية للتحرر الوطني والتيار المدعو «بالإسكري».

إن هذا الصراع لا يُعد جديدًا بالنسبة للعارفين بتاريخ وتطور الحركة الشيوعية في مصر، فهو قد بدأ منذ عام ١٩٤٢م داخل دوائر محدودة جدًّا من الشباب المثقف ثقافة أجنبية والذي ينتمي إلى الماركسية، في وقت كانت تُعد فيه الشيوعية غريبة تمامًا على المصريين، الذين كانوا لا يعرفون شيئًا عنها؛ حيث إنهم قد نسوا بالكامل تجربة الحزب الشيوعي المصري في الفترة من سنة ١٩١٩م إلى سنة ١٩٢٤م، ولم يبقَ أحد من كوادر الحزب القديمة؛١ ينبغي إذَن إعادة البناء كله، والبدء من الصفر دون دراية بالصراع السياسي ولا التنظيم السري.

كان تفسير الكتب الماركسية التي لم يترجم واحد منها في هذه الفترة يؤدي إلى مناقشات لا نهاية لها، وقد ظهر اتجاهان داخل هذه الدوائر الأولية: اتجاه ثوري يحدِّد قولًا وفعلًا قلب نظام الحكم الإمبريالي القائم كهدف له؛ وينتمي التيار الثاني إلى الماركسية اللينينية قولًا، ويتبنى بالفعل مواقف مُهادنة توفيقية فهو تيار ثائر فحسب على بعض القيود والعراقيل في المجتمع المصري ولا يرغب في قلب «النظام» الإمبريالي.

انفصل هذان التياران في سنة ١٩٤٢م، وبينما أنشأ التيار الأول الحركة المصرية للتحرر الوطني أسَّس التيار الثاني إسكرا؛ ولم يكُن كلٌّ من التيارين يضم أكثر من اثني عشر عضوًا.

أخذ هذان التنظيمان يعملان ويتطوران بسرعة في ظِل انتصار النظام الاشتراكي، وهزيمة الفاشية، والدفعة المحررة للشعوب، حيث لم تكن الإمبريالية والبرجوازية المصرية مسلحتين بدرجة كافية لمقاومة التنظيمات السرية محدودة الاتساع.

إن الحركة المصرية للتحرر الوطني وإسكرا كانتا تشكلان بلا جدال التنظيمين الشيوعيين المصريين الرئيسيين من حيث العدد والتأثير والتنظيم … إلخ؛ وهما مع هذا، وبالرغم من انتساب كلٍّ منهما إلى الماركسية اللينينية، غير متطابقين؛ وقد تأكدت ونمت الاتجاهات المختلفة فيهما خلال ثلاث سنوات حتى انتهت بالانفصال عام ١٩٤٢م.٢

بينما كانت الحركة المصرية للتحرر الوطني تمارس سياسة «تمصير» وترتبط بالبرجوازية المصرية الصغيرة والفقيرة وبالعناصر العمالية «البروليتارية» الأولى، كانت إسكرا التي ترفض التمصير باعتباره علامة من علامات التطرف الوطني تنمو بصفة خاصة بين طبقات البرجوازية اليهودية ميسورة الحال، وبين العناصر المثقَّفة والمتقدمة في البرجوازية المصرية الثرية.

كان للتركيب العضوي لهاتين الحركتين أثر حاسم على تنظيم وأسلوب عمل كلٍّ منهما: كانت الحركة المصرية تعد أساليب للنضال مرتبطة بالجماهير الكادحة «البروليتاريا» وصغار البرجوازيين الفقراء، أما إسكرا فكانت تُعد سياسة «حزبية» كنشاط سياسي (؟) ووسيلة لاجتذاب الأعضاء؛ وبينما تعد الحركة المصرية للتحرر الوطني «مفهوم الخلية وحدة النضال» كأساس للتنظيم، كانت إسكرا تطبِّق مبدأ «الخلية وحدة الدراسة»؛ وبينما تؤيد إسكرا براودر Browder وتتحيز لنظرياته browderisme، كانت الحركة المصرية للتحرر الوطني ترفض مواقفه الإصلاحية منذ البداية، أي قبل النقد العظيم الذي قدمه الرفيق دوكلوس Duclos عن هذه النظريات.

ومع هذا، ليس من المبالغة القول بأن معرفة الحركتين ببعضهما البعض، بعد صراع دام ثلاث سنوات في مجالات عمل واسعة الاختلاف، معرفة محدودة لدرجة يصعب معها، حتى على أقدم القادة، تحديد أوجه الخلاف بينهما بدقة؛ وكان الأعضاء الأساسيون غير قادرين على فهم أو تبرير الانفصال. وخاصة أن العمل الممتد للتنظيمين، لقاء عناصرهما أثناء العمل: في الجامعة بصفة رئيسية وفي الأحياء العمالية بالقاهرة، كل هذا جعل من محاولة الوحدة ضرورة.

كان لقاء تيارين إصلاحيين ثوريين في تنظيم شيوعي واحد شيئًا جديدًا في مصر فهو يُعد تجربة جديدة بالنسبة للثوريين المصريين؛ لقد عرفت الحركة المصرية للتحرر الوطني في تاريخها القصير صراعًا داخليًّا أخذ في بعض الأوقات طابعًا لا ينقصه العنف، ولكن العمل مع أعضاء تنظيم مختلف لهم مفهومهم السياسي المختلف كان أمرًا جديدًا عليها؛ أما إسكرا فلم تعرف انشقاقًا ولا صراعًا داخليًّا.

بالنسبة للحركة الشيوعية المصرية، كان عام الوحدة، وهو فترة قصيرة للغاية بالقياس إلى أهمية وتأثير الأحداث التي جرت فيه، هو العام الذي حدثت فيه تجربة سياسية ذات أهمية بالغة إذ أدرك التياران اللذان عملا جانبًا إلى جنب تناقضهما الأساسي في هذا العام، ولم تكُن الحركة المصرية للتحرر الوطني هي التي وضعت نهاية للوحدة، فالإسكريون هم الذين انشقوا وانقسموا إلى مجموعات عديدة؛ واليوم يعتبر اسم «إسكرا» أو الوصف «بالإسكرية» إهانة داخل الحركة التقدمية المصرية، وأول المتنكرين لماضيهم والرافضين له هم المؤسسون والأعضاء القدماء بإسكرا الذين يظنون أن الكلمات قادرة على الإقناع بأن انتهازيتهم قد انتهت.

واليوم إذ تستمر الحركة المصرية للتحرر الوطني في طريقها باسم «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني» فهي تواصل النضال من أجل التحرر الوطني، والسلام، والاشتراكية، غنية بتجربة جديدة، وقوية بالنضال الذي قادته بلا هوادة ضد جميع التيارات والانحرافات، وممتلئة ثقة وإيمانًا.

(١) الصراع بين التيار الثوري والتيار الانتهازي داخل الحركة المصرية للتحرر الوطني

(١-١) الحقبة الثانية: من يونيو سنة ١٩٤٧م إلى يوليو سنة ١٩٤٨م

مقدمة

(١) الإعداد للوحدة

تمَّت في الفترة التي تسبق مباشرة الوحدة بين الحركة المصرية للتحرر الوطني وإسكرا اتحادات ثانوية تدور حول هذين القطبين الرئيسيين إذ انضم إلى الحركة المصرية للتحرر الوطني جزء من تنظيمي «تحرير الشعب» و«القلعة»، بينما انضم بقية أعضاء التنظيمين إلى إسكرا التي لم تنجح مع هذا في ضم قطاع الإسكندرية من تنظيم «الطليعة».

كانت إسكرا تستعد للوحدة برفع جميع مرشحيها إلى مرتبة الأعضاء وبإعلانهم بالوحدة مع الحركة المصرية للتحرر الوطني؛ وبهذه الطريقة تقدَّمَت إسكرا للوحدة وعدد أعضائها حوالي الثمانمائة، بينما كان عدد أعضاء الحركة المصرية للتحرر الوطني خمسمائة تقريبًا.

(٢) الاتحاد

تم الاتحاد على الصعيد التنظيمي بين الحركة المصرية للتحرر الوطني وإسكرا على قاعدة من المساواة حوالي نهاية مايو سنة ١٩٤٧م، وتكوَّنَت اللجنة المركزية من عشرة أعضاء يتم اختيارهم بالتساوي من أعضاء الحركتين، وظلَّت التنظيمات الأساسية بلا تغيير، وإن أصبحت تابعة لهيئات متحدة أعلى.

(٣) مراحل هذه الحقبة

يمكن تقسيم هذه الحقبة إلى أربع مراحل رئيسية وفقًا لتطور الصراع الداخلي بين التنظيمين اللذين يمثِّلان في جوهرهما تيارين مختلفين:
  • (أ)

    من يونيو سنة ١٩٤٧م إلى سبتمبر سنة ١٩٤٧م: مرحلة «شهر العسل».

  • (ب)

    من سبتمبر سنة ١٩٤٧م إلى فبراير سنة ١٩٤٨م: ظهور اتجاهات للانقسام والانشقاق مرتبطة بفشل كوادر إسكرا في الصراع.

  • (جـ)

    من فبراير إلى مايو سنة ١٩٤٨م: تبلور الانقسامات وفساد الحركة.

  • (د)
    من مايو إلى يوليو سنة ١٩٤٨م: انشقاق «عادل»٣ وإعلان الأحكام العرفية.

والجدير بالذكر أن جميع هذه المراحل حدثت خلال سنة واحدة، وهي فترة قصيرة بالمقارنة بما جرى فيها من أحداث وتبلور الاتجاهات، وبالمقارنة بالخطوات الواسعة التي قطعها الوعي الشيوعي في مصر، رغم الانقسامات والانشقاقات؛ لقد كانت الوحدة بين «الحركة المصرية للتحرر الوطني» و«إسكرا» مرحلة ضرورية ينبغي المرور بها سواء في مايو سنة ١٩٤٧م أو بعدها.

المرحلة الأولى: ويمثلها تشكيل الحركة الديمقراطية للتحرُّر الوطني كنتيجة للوحدة، ومواقفها السياسية، ووجود أسلوبين للعمل بها، إنها مرحلة شهر العسل الممتدة من يونيو سنة ١٩٤٧م إلى سبتمبر سنة ١٩٤٧م.
التركيب الاجتماعي للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني.

يمكن إعطاء الجدول التالي من خلال الأرقام التي قدمتها كلٌّ من الحركتين عند القيام بالوحدة.

الحركة المصرية إسكرا الحركة الديمقراطية
عمال ٢٥٠ ٥٠٪ ١٤٠ ١٦٪ ٣٩٠ ٢٨٪
طلبة ٨٠ ١٦٪ ٢٠٠ ٢٢٪ ٢٨٠ ٢٠٪
شباب ٩٠ ١٨٪ ٩٠ ٦٪
مثقفون ٢٠٠ ٢٢٪ ٢٠٠ ١٤٪
أجانب ٣٦٠ ٤٠٪ ٣٦٠ ٢٦٪
جيش ٢٥ ٥٪ ٢٥ ٢٪
أزهريون ٢٥ ٥٪ ٢٥ ٢٪
سودانيون ٣٠ ٦٪ ٣٠ ٢٪
المجموع ٥٠٠ ٩٠٠ ١٤٠٠

كان نصف الأعضاء التسعمائة الذين قدمتهم إسكرا من المرشحين الذين أصبحوا أعضاءً عند القيام بالوحدة، ولكن الأهم من هذا هو أن الأرقام التي قدمتها إسكرا مُبالَغ فيها إلى حدٍّ لا يُستهان به، إذ اكتشفنا عند الوحدة وجود أسماء وهمية وأخرى موجودة على قائمتي التنظيمَين معًا؛ يمكننا إذن القول إن الحركة الديمقراطية تضم حوالي ألف عضو؛ وقد يحتوي هذا التقدير أيضًا على نسبة من الخطأ.

وجدير بالذكر أيضًا أن المستوى العام للأعضاء قد انخفض بالنسبة لِما كان عليه في الحركة المصرية للتحرر الوطني، حيث قلَّت كثيرًا بالنسبة المئوية للعمال، بينما زاد التدفق الحقيقي للمثقفين والأجانب بين صفوف الحركة؛ ومع هذا فقد تقدَّمَت الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني على إسكرا من حيث التركيب العضوي، وهذا ما ظهر في تحمُّس أعضاء إسكرا المُطلَق للوحدة.

ولإدراك هذه الحقيقة، يكفي إلقاء نظرة على طبيعة الأعضاء الذين تتشكل منهم اللجنة المركزية الجديدة والأمانة.
  • اللجنة المركزية: حركة مصرية: حميدو،٤ بدر،٥ علام٦ من العمال، يونس٧ يهودي ثقافته أجنبية، وشوقي٨ طالب.
  • إسكرا: عادل،٩ سليمان،١٠ عباس١١ من المثقفين، شديد١٢ طالب، وشندي١٣ يهودي ثقافته أجنبية.
  • الأمانة العمالية: بدر وحميدو من الحركة المصرية، عادل وعباس من المثقفين بإسكرا.
  • الأمانة غير العمالية: يونس، شوقي، عارف من المثقفين بالحركة المصرية، شندي، شديد وسليم١٤ من المثقفين بإسكرا.

يلاحَظ في تشكيل اللجنة المركزية عجز إسكرا عن تقديم عضو من العمال للترشيح للإدارة مقابل ثلاثة قدمتهم الحركة المصرية، ومقابل ذلك قدمت إسكرا عددًا كبيرًا من المثقفين؛ يلاحَظ أيضًا وجود صِلات قُربى أو زمالة دراسية بين الأعضاء من القادة الذين قدمتهم إسكرا، وهو أمر لا وجود له في الحركة المصرية للتحرر الوطني.

رد فعل الوحدة

(أ) في الداخل
  • بين الأعضاء: حماس عام بين أعضاء إسكرا وحماس جزئي بين أعضاء الحركة المصرية للتحرر الوطني؛ كان من نتيجة هذه المشاعر المتنوعة أن اعتبر الأعضاء أنفسهم في فترة «شهر عسل»، فأهملوا الصراع الداخلي من أجل تحقيق وحدة حقيقية بعد الوحدة على الصعيد التنظيمي.

  • بين قادة إسكرا: استسلام مؤقَّت يصحبه ميل إلى التحكم في القطاعات العمالية التي يركزون كوادرهم المثقفة بها.

    بين قادة الحركة المصرية للتحرر الوطني: حماس ساذج للوحدة واعتقاد خاطئ بضعف التيار الانتهازي في إسكرا مع تركيز العمل الخارجي.

(ب) في الخارج

  • اتحاد تنظيم «الطليعة» بالإسكندرية مع الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، ويمثِّل «الطليعة» في اللجنة المركزية «صلاح».

  • اتحاد التنظيمات الماركسية الأخرى مثل «العصبة الماركسية» و«الفجر الجديد» و«وادي النيل»، والبقية الباقية من «تحرير الشعب» في كتلة واحدة هي «كتلة المعارضة» التي تهدف إلى القضاء على «الفاشية والإمبريالية الصهيونية» الممثَّلة، من وجهة نظرهم، في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، إذ ترى هذه التنظيمات أن الحركة المصرية للتحرر الوطني التي تمثِّل تيارًا سليمًا نسبيًّا قد وقعت تحت التأثير الانتهازي لإسكرا؛ لم يكُن لهذه الحملة المصحوبة بجميع أنواع الافتراءات إلا تأثير ضعيف جدًّا أدى إلى انفصال بعض أعضاء تنظيم «القلعة» بقيادة شخص يُدعى «خانا» Khana وانضمامهم إلى «كتلة المعارضة» بالاتحاد مع «العصبة الماركسية».

كانت هذه الكتلة تعبِّر عن ميل الدوائر الصغيرة للاتحاد من أجل التصدي لتأثير الحركة الديمقراطية الكبيرة على أعضائها؛ وبينما هي تدَّعي محاربة انتهازية إسكرا، كانت في الواقع تريد تحطيم الوحدة القائمة.

أسلوبان للعمل

كان لكلٍّ من التنظيمَين سياسة وأسلوب خاص في العمل، بالإضافة إلى الاتجاهات الذاتية لكلٍّ منهما؛ والمهم هنا هو التركيز على أسلوب العمل الذي جرَّبه تيار الحركة المصرية للتحرر الوطني؛ وهو التيار الثوري داخل التنظيم الموحد.
  • سياسة «تحويل» الحركة الديمقراطية إلى «حركة عمالية (بروليتارية)» والاستمرار في تطوير خط الحركة المصرية.

  • سياسة عزل الأجانب داخل الحركة باعتبارهم عناصر لم يتم تمصيرها، وهي عناصر من إسكرا.

  • محاربة التأثير السيئ للعناصر الإسكرية المثقَّفة، ومحاولة عزلها حتى لا «تحول» العمال إلى «مثقفين» بالمعنى السيئ للكلمة.

  • وضع حد للفضائح الجنسية المنتشرة في إسكرا، وتشكيل قطاع مستقل للمرأة.

  • وضع حد «للأقسام» و«الأندية الحمراء ١٠٠٪» التي تشكِّل أسلوب إسكرا الرئيسي في العمل والنضال السياسي، مع إقامة فواصل رأسية وأفقية لضمان الحماية للتنظيم السري.

  • وضع حد «للشللية» — سواء العائلية أو تلك المؤلَّفة من أصدقاء — التي هي أساس التنظيم في إسكرا، وإقامة التنظيم على أساس «الخلية وحدة النضال» مكان العمل، وبدرجة أقل المسكن، كما كان الحال أثناء فترة الكوليرا، والنضال من أجل عرض المسألة المصرية على مجلس الأمن.

  • دعم نقاط الارتكاز الضعيفة بإعطائها استقلالًا واسعًا يُتيح لها التطور مع ربطها بالمركز: العمال، السودانيون، الأزهريون، والأقاليم.

من المهم ملاحظة أن مستوى التنظيم والإدراك لمعنى كلمة «تنظيم» وماهيته كانا ضعيفين للغاية، حيث إن مفهوم «الخلية وحدة النضال» الذي تم إعداده وتطويره في الحركة المصرية كان مجهولًا تمامًا في إسكرا، أي إنه مجهول من أكثر من نصف أعضاء التنظيم الجديد؛ و«مراكز النشاط» لم تتعد في أغلب الأحيان تشكيل «الدوائر المحدودة»؛ أما «النضال»، والارتباط بالجماهير»، و«المشاركة في نضال الجماهير»، هذه المفاهيم في مجموعها كانت مجهولة تمامًا في إسكرا التي يركِّز أسلوب العمل بها على الدراسة النظرية للماركسية، على ضم الأعضاء على «أساس القناعة الشخصية»؛ لذا شعر الأعضاء الأساسيون بالحركة المصرية للتحرر الوطني «بالاغتراب»، فالغالبية العظمى منهم تنتمي إلى البرجوازية الصغيرة والفقيرة أو إلى العمال، كما أنهم أقل «تعليمًا» من عناصر إسكرا التي يغلب على تكوينها المثقفون من كبار البرجوازيين، وهم لا يعرفون كيف يجذبون هذه العناصر إلى النضال؛ هذه هي عناصر الوضع بالحركة الديمقراطية للتحرر الوطني التي تسود مفهوم التنظيم لديها فكرة تكوين قطاعات، بصفة عامة مستقلة، تتعاون فيما بينها وتجمعها أمانة عامة مشتركة أو غيرها؛ كان هذا الأسلوب يتيح لأعضاء كل قطاع إدراك معنى النضال في الوسط المناسب لهم: العمال بين العمال، والطلبة بين الطلبة، وجنود الجيش بالجيش، والأزهريون بالأزهر … إلخ. كما يتيح أيضًا عدم إغراق العمال الضعاف جدًّا من الناحية السياسية، والذين لم يحصلوا إلا على القليل جدًّا من التدريب باستثناء عدد محدود من الكوادر العمالية، في أوساط المثقفين بإسكرا الذين لا تعني «المسئولية» لديهم «أكثر من دراسة نظرية ولَبَاقة في الحديث».

على هذا الأساس، انقسمت الحركة إلى قطاعات، ويُعد هذا الشكل التنظيمي شكلًا انتقاليًّا إلى شكل تنظيمي أعلى، وتم تشكيل أمانتين: أمانة عمالية، وأخرى «غير عمالية» مكلَّفة بإدارة نضال القطاعات غير العمالية والتنسيق بينها.

بعد شهرين تقريبًا من التنظيم الأول، اتضح أن القطاعات تتطلب إشرافًا مباشرًا من المركز، أي إن اللجنة المركزية عليها أن تتخلَّص من بعض العناصر لتصبح أكثر إنتاجية، وقد استبعد منها بالفعل أربعة أعضاء وهم شوقي وعلام وعباس وشديد، كما تم حل الأمانة غير العمالية التي تبين عجزها الفعلي عن إدارة جميع القطاعات غير العمالية، وتكونت أمانة أخرى من شوقي وشكري وشديد وعادل الذي أُقصي من الأمانة العمالية ليحل مكانه حلمي،١٥ وهو مثقف مصري حاصل على لقب جامعي وعضو بإسكرا.

تم أيضًا تشكيل «مكتب دعاية» ثم «لجنة إشراف» مؤلفة أساسًا من عناصر من الحركة المصرية؛ وقد عملت القيادة عندئذٍ على دعم العناصر العمالية بالوجه البحري كما استعدت لتطوير هذا العمل في الوجه القبلي.

(٣) المواقف السياسية

(أ) اسم الحركة

كان اختيار الاسم بمثابة معركة صغيرة وهادئة اقترح فيها يونس اسم «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني»، الذي لا يُعد جديدًا بالنسبة للأعضاء القدامى بالحركة المصرية للتحرر الوطني، نظرًا للمضمون السياسي الذي تحتويه كل كلمة من كلماته، واقترح عادل اسم «الحركة العمالية للتحرر الوطني» الذي رفض بالإجماع، بعد تقرير الزميل يونس على أساس أنه ذو جوهر «انعزالي» ولا يُعد مطابقًا لتكوين الحركة ولا لحقيقة نضالها.

(ب) السودان

كان على الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، أثناء نظر المسألة المصرية بمجلس الأمن، تقديم حل فوري، وعدم الاكتفاء بصيغ عامة مثل: «النضال المشترك ضد الإمبريالية» و«حق تقرير المصير للسودانيين» بعد الجلاء، فقدم يونس تقريرًا يقترح فيه «الوصاية المصرية على السودان تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة إلى أن يتمكَّن السودانيون من ممارسة حق تقرير المصير بعد جلاء الجيوش الإنجليزية» بينما كان الهم الوحيد للقادة الإسكريين الذين تبنوا موقفًا سلبيًّا من المسائل السياسية هو الطريقة التي يتم بها إيفاد عادل إلى الأمم المتحدة لعرض وجهة نظر التقدميين المصريين؛ وقد انتهت قيادة الحركة إلى الموافقة على اقتراح يونس بعد مناقشة واسعة له.

المرحلة الثانية: من سبتمبر ١٩٤٧م إلى فبراير ١٩٤٨م

تشكيل قيادة مركزية، الإعداد لمشروع الخط السياسي المقدم من يونس إنشاء «مدرسة كوادر» عمالية، بداية ظهور وتبلور اتجاهات للانقسام والانشقاق، المواقف السياسية، فشل الإسكريين وانكشافهم في الصراع المحتدِم بين التيارين، تشكيل قيادة مركزية.

أوضحت تجربة الشهور السابقة عجز اللجنة المركزية عن قيادة الحركة، حيث أصبحت الحاجة مُلِحَّة إلى قيادة حقيقية لا مجرد لجنة للتنسيق بين القطاعات المختلفة؛ لهذا قررت اللجنة المركزية الدعوة إلى مؤتمر لتشكيل قيادة جديدة حوالي منتصف سبتمبر.

المؤتمر

ضم المؤتمر واحدًا وعشرين عضوًا منهم أعضاء اللجنة المركزية السبعة، وأعضاء الأمانتين، والمسئولون السياسيون بالقطاعات، وفيما يلي نقدِّم هؤلاء الأعضاء وفقًا لانتمائهم الأصلي:
  • الحركة المصرية: يونس، بدر، شوقي، حميدو، علام،١٦ منتصر، خليل، وعارف.
  • إسكرا: شندي، عادل، سليمان، عباس، شديد، حلمي، أميرة،١٧ ومجاهد.١٨
  • الطليعة: نور١٩ وصلاح.
كانت القرارات الرئيسية للمؤتمر هي:
  • انتخاب أمانة اللجنة المركزية وتضم: يونس، بدر، شندي، عادل.

  • انتخاب المكتب السياسي للجنة المركزية: شوقي، حميدو، سليمان، نور، يونس، بدر، عادل.

  • تكليف الأمانة والمكتب السياسي بتشكيل اللجنة المركزية.

الاتجاه «السليماني»!٢٠

أثناء انعقاد هذا المؤتمر ظهرت أولى النغمات الشاذة أو أول صراع مُعلَن وضع نهاية ﻟ «شهر العسل»، اقترح سليمان في هذا المؤتمر استبعاد يونس وشندي لأصلهما الأجنبي، فهما يهوديان مثقفان ثقافة أجنبية وإنْ كانا يتمتعان بالجنسية المصرية، ولحجب المعنى الحقيقي لاقتراحه باستبعاد يونس مؤسس الحركة المصرية للتحرر الوطني وقائدها الرئيسي، تحدث سليمان عن «تمصير» القيادة مكررًا الشعار الذي تستخدمه الحركة المصرية للتحرر الوطني لفضح طبيعة إسكرا الحقة؛ ولكن التمصير لم يكُن مشكلة إذ ذاك، حيث لم يكن بوسع أحد التشكيك في الطبيعة المصرية للحركة وقيادتها؛ وقد رفض المؤتمر اقتراح سليمان بالتصويت بعد مناقشة عنيفة له، وكانت نتيجة التصويت: عشرون صوتًا مقابل صوت واحد هو صوت سليمان الذي قد يكون اتخذ هذا الموقف لفشله كمسئول سياسي عن المجلة الرسمية للحركة وبسبب النقد الموجَّه إلى إدارتها.

الأمانة والمكتب السياسي في العمل

كان أول عمل للأمانة هو إقصاء سليمان بالإجماع من إدارة المجلة، لسان حال الحركة الرئيسي في ذلك الوقت، وتعيين عباس، مثقف من أعضاء إسكرا، بدلًا منه، وقد اختير عباس أيضًا للمكتب السياسي، واستُبعد «مرسي» الإسكري من قطاع الأجانب الذي يتولى مسئوليته ليصبح مسئولًا عن مكتب الدعاية، هذا المكتب الذي أصبح فيما بعد وكرًا للمؤامرات الانفصالية من جانب إسكرا، كما أصبح عارف مسئولًا عن لجنة الإشراف التي تسيطر عليها عناصر الحركة المصرية للتحرر الوطني.

كان عادل يعمل ﺑ «الدعاية» بطريقة سطحية وغير محدَّدة، مما أثار الدهشة ثم الشعور بالغضب والثورة ضده، وكان عدم انتظام صدور نشرة «الكادر»، اللسان السري الداخلي للحركة، أحد الأسباب الرئيسية للشكوى منه، فاضطرت الأمانة بكاملها إلى أن تتولى مسئولية إصدار هذه النشرة بانتظام، وقد جعلت منها بحق لسانًا لقيادة الحركة، وكان الأعضاء يشكون أيضًا من الضعف السياسي والصحفي للمجلة الرسمية بالحركة؛ أما شندي، وهو المسئول عن قطاع الأجانب، فقد تولى إدارة «العصبة اليهودية لمكافحة الصهيونية»، وهي الرابطة التي شكلتها إسكرا بالرغم من معارضة الحركة المصرية العنيفة لها، وكان تأسيس هذه الرابطة في هذه المرحلة من الحياة السياسية المصرية ومن تطور المسألة الفلسطينية خطأ خطيرًا، حيث أدى تطبيق الخط السياسي للرابطة إلى أحداث استفزازية في أوساط الشباب اليهودي، وقد بلغت هذه الأحداث حد التحدي السافر بين الأعضاء اليهود من ساكني الأحياء التي يتمركز فيها صغار البرجوازيين (كحي الظاهر مثلًا) وبين قيادة القطاع فقام شندي بحل العصبة «بهدوء» لأن الاعتراف بخطأ تشكيل العصبة يعني الاعتراف بفشل إسكرا كلها؛ وقد زاد من الغضب على شندي الذي يتولى مسئولية التنظيم استيلاء البوليس على مخزن سرِّي للكتب.

بالإضافة إلى هذا، كانت الأمانة المحلية بالقاهرة عاجزة عن قيادة القطاعات المختلفة؛ كما أدَّى الفهم الخاطئ للمركزية إلى عدم استقلال القطاعات التي لم تتح لها فرصة التطور، وتبيَّن فشل الأمانة العمالية حين ظهر — نتيجةً لتأثير العناصر الإسكرية التي تولت مسئولية القيادة — اتجاهٌ لعزل العمال عن الجماهير إذ إن هذه العناصر تُعتبر قيادة النضال مسئولية تربوية وفكرية.

زاد الغضب في القطاعات العمالية: إذ بدأ الإسكريون حملة إثارة داخلية، مدعين أن الحركة تقف في طريق وصول النظرية إلى الطبقة العمالية، وطالبوا بتدفق المثقفين على القطاعات العمالية كرد على شعار «ربط التثقيف بالنضال» الذي رفعه الرفيق بدر وهو عامل من أعضاء اللجنة المركزية بالحركة المصرية للتحرر الوطني.
قررت اللجنة المركزية تخفيض الإعانات الممنوحة للمحترفين إلى ثمانية جنيهات أو اثني عشر جنيهًا مصريًّا؛ كانت هذه الإعانات تتراوح، تحت قيادة عادل، بين ستة عشر وثمانية عشر جنيهًا مصريًّا أي ثلاثة أضعاف ما كانت الحركة المصرية للتحرر الوطني تدفعه: أربعة أو ستة جنيهات مصرية، وأعقب هذا التخفيض انهيار بالقطاعات العمالية الإسكرية الصامدة فقط بفعل النقود (!).
  • الاتجاه إلى عزل بعض العناصر من وسطها الطبيعي، ومن مركز عملها، أو التقليل من مسئوليتها: علام، منتصر، حميدو … إلخ.

  • بداية تبلور الصراع بين أسلوبين لإعداد الكوادر العمالية: من ناحية التثقيف والعمل وسط الجماهير.

  • توقف شبه كامل يتلوه هجر جزئي للعمل الخارجي بالقطاعات العمالية.

  • إن هذه الأحداث كلها لعبت دورًا كبيرًا في التفشي السريع لروح الغضب داخل هذه القطاعات المختلفة.

•••

في قطاعات القاهرة: بين الطلبة بصفة خاصة
  • ازدياد عدد الأعضاء الجدد والمستويات الرأسية.

  • سيطرة «التكتلات» القائمة بين العناصر الإسكرية على هيئات القيادة، ووجود جو من عدم الاستقرار، بالإضافة إلى فَقْد الكثير من الأعضاء بسبب «إعادة التنظيم».

  • سيطرة الإسكريين على هيئات القيادة العاجزة والضعيفة للغاية.

•••

في الإسكندرية: صراع شرِس بين عناصر الحركة المصرية وإسكرا للسيطرة على اللجنة المحلية التي يديرها، تحت ستار من «الحيدة»، عناصر قديمة بالطليعة:
  • انشقاق الإسكريين بالإسكندرية وانسحابهم بقيادة «عابدين»٢١ ولكن عادل يقنعهم بالعودة ويلومهم على «تسرعهم الشديد في إظهار غضبهم»!
  • اتحاد العناصر «الإسكرية والطليعية» ضد عناصر الحركة المصرية التي يتم إبعادها عن كل المسئوليات: أبعد الرفيق «فوزي» عن اللجنة المحلية وأوفد إلى القاهرة.

  • رد فعل عنيف من عناصر الحركة المصرية التي تطالب بعودة المسئولين إلى مواقعهم، فتقوم لجنة تحقيق بإعادة الأمور مؤقتًا إلى نصابها عن طريق توزيع المسئوليات بين عناصر الحركة المصرية وإسكرا، ويوفد الرفيق «خليل»٢٢ من الحركة المصرية إلى اللجنة المحلية بالإسكندرية.

تغيير الأمانات

تبنَّت الأمانة المركزية أسلوب الإشراف المباشر على العمل في القطاعات المختلفة بواسطة نظام الاتصالات الأفقية فقامت بحل الأمانة المحلية بالقاهرة وتولَّت مسئولية القيادة مباشرة، كما تم اختيار الرفيق «شوقي» لأمانة العمال.

وبعد فترة انحلَّت الأمانة العمالية لتأخذ مكانها «لجنة سياسية عمالية» مؤلَّفة من:

بدر وحميدو: عاملان من أعضاء الحركة المصرية.

شوقي: طالب فقير من صغار البرجوازيين وعضو بالحركة المصرية أيضًا.

حلمي: مثقف من البرجوازيين الأثرياء وهو عضو بإسكرا، وكانت هذه اللجنة على اتصال مباشر بالأمانة المركزية.

خط الإعداد للكوادر العمالية

قبل حَل الأمانة قدمت عناصر الحركة المصرية مشروعًا لمحاولة القضاء على موجة المعارضة داخل القطاعات العمالية، ويشمل هذا المشروع إنشاء مدرسة للكوادر على المدى الطويل بهدف الحد من سياسة الإثارة التي ينتهجها الإسكريون باحتجاجهم على «الحواجز» القائمة بين العمال والنظرية.

علينا هنا أن نعترف بأن عناصر الحركة المصرية كانت على خطأ في هذا الموقف؛ إذ إنها بدلًا من أن تعارض علنًا الاتجاهات الإسكرية؛ وبدلًا من أن تفضحها وتكشف عن جذورها، قدمت هذا التقرير الذي يُعد تنازلًا ساعد على زيادة السخط وعلى نمو الاتجاهات الانقسامية.

في الوقت ذاته، كان هناك الاكتتاب الاستثنائي لجمع أربعة آلاف جنيه مصري كمحاولة لحل المشكلة المالية التي تعاني منها الحركة، وقد تم جمع ثلاثة أرباع هذا المبلغ ودفع الأجانب النسبة الغالبة منها.

اللجنة المركزية الجديدة (نوفمبر)

قرر المكتب السياسي والأمانة المركزية بالإجماع تشكيل لجنة مركزية من تسعة٢٣ عناصر من الحركة المصرية وهم: يونس، شوقي، بدر، حميدو، علام، مجاهد، عامر، أميرة (وهي من عناصر إسكرا ولكنها تساند أفكار ومواقف الحركة المصرية)؛ وخمسة من إسكرا: شندي، وعادل، عباس، سليمان وشديد وعنصر من «الطليعة»: نور.

لم يُثِر هذا الاختيار اعتراضًا واحدًا إذ كانت هذه العناصر في رأي الجميع هي بحقٍّ العناصر التي تمثل الحركة وتتولى قيادتها.

وافقت اللجنة المركزية على الاكتتاب وعلى مشروع إنشاء مدرسة للكوادر، كما وافقت على تقرير عن «وحدة الحركة» يطرح الدفاع عن هذه الوحدة كواجب ويطالب بالنضال الجدي من أجل التأسيس السريع للحزب، ووافقت أيضًا على صيغة «قسم» يلزم جميع الأعضاء بالدفاع عن وحدة الحركة واتباع مبادئها.

صفحة مفقودة من الأصل (حوالي ٤٥٠ كلمة).

بتأثيرٍ من قيادة إسكرية مؤلَّفة من أبناء الباشوات و«الأجانب» — يطلق هذا الاسم على عناصر من جنسيات أجنبية مختلفة تعيش بعيدة تمامًا عن الحياة في مصر، وعلى اليهود البرجوازيين الأثرياء الذين لا يعرفون العربية حيث إن ثقافتهم أجنبية — الذين لا يشاركون في نضال الحركة إلا في نطاق ضيق جدًّا، والذين رأوا تأثيرهم الطاغي في إسكرا يصل إلى الصفر في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني؛ كان طبيعيًّا إذن أن تثور هذه العناصر ضد «المركزية وضد التنظيم» في تنظيم لا يسوده صراحة التيار الثوري.

كانت «الكتلة الثورية» هي طليعة العناصر الإصلاحية، والتي يزيد شعورها بالاختناق داخل التنظيم كلما زاد تأثير التيار الثوري بالحركة (انظر التشكيل الجديد للجنة المركزية)، وقد تبنَّت هذه الكتلة شعارات مثل «المركزية الدكتاتورية» و«الإرهاب داخل اللجنة المركزية» و«١٠٠٪ عمل بين العمال الصناعيين» إلى آخِر هذه الشعارات التي رفعها فيما بعدُ المنشقون الآخرون.

مدارس الكوادر العمالية

في يناير سنة ١٩٤٨م، تم تأسيس المدرسة من فصلين، وكان من المتوقع أن يضم هذان الفصلان أربعة عشر كادرًا عماليًّا، ولكنهما لم يضمَّا بالفعل إلا ثمانية أو تسعة؛ وقد أظهر الإسكريون حماسًا بالغًا لهذه المدرسة، وجنَّدوا أفضل كوادرهم للتدريس بها والإشراف عليها: عادل، حلمي، عباس، مرسي …٢٤ إلخ. ولم تُعطِ عناصر الحركة المصرية مثل شوقي ومنير إلا عددًا محدودًا جدًّا من المحاضرات.

وسرعان ما أصبحت المدرسة مدرسة للانقسام الإسكري إذ كان لها تأثير كبير على تطور الصراع الداخلي الذي ساعدت على إثارته وازدياده.

مشروع الخط السياسي

كلَّف المكتب السياسي والأمانة المركزية الرفيق يونس بإعداد مشروع خط سياسي؛ قام يونس بإعداد المشروع وقدمه في اجتماع اللجنة المركزية في يناير سنة ١٩٤٨م؛ صدقت اللجنة على المشروع وأمرت بنشره وتوزيعه على جميع الأعضاء لمناقشته على أساس أنه مقدَّم من اللجنة المركزية جمعاء.

كان المشروع يعرض للوضع الدولي، ويحدِّد أهداف النضال بالحركة وهي: التحرر الوطني، نظام ديمقراطي شعبي، والاشتراكية، ويبرز دور جميع طبقات المجتمع المصري في هذا النضال، ويضع استراتيجية الحركة على أساس تحالُف متين بين الطبقة العاملة والفلاحين أولًا، ثم صغار البرجوازيين الفقراء بالمدن والريف وجميع العناصر الراغبة بصدق في النضال ضد الإمبريالية.

ومن الناحية الداخلية، أعلن يونس في مشروعه أن الحلقة الرئيسية في خط التطوير بالحركة هي «التعميل» بمعنى إعداد كوادر عمالية، والتحسين من تركيب الحركة الاجتماعية عن طريق الزيادة المستمرة للعناصر العمالية بها، وتحقيق الارتباط الوثيق بين الحركة، وبصفة خاصة الأقسام المتقدمة بها، والطبقة العاملة، وتوسيع ودعم النضال الخارجي للحركة، و«التحول» الأيديولوجي إلى «التعميل»، وتجنيد الحركة ككل لبلوغ هذا الهدف، كما طالب المشروع أيضًا بالنضال من أجل إعداد «نظرية مصرية» أي ملائمة للظروف الخاصة بالمجتمع وللنضال في مصر.

أما من ناحية التنظيم، فيوصي مشروع الرفيق يونس بالانتقال من مرحلة التنظيم ذي القطاعات، إلى «تنظيم حزبي ماركسي-لينيني» على أساس مفهوم «الخلية وحدة للنضال»، ويتألف هذا التنظيم من نواة مركزية من الثوريين المحترفين أساسًا، ومن تنظيمات دائرية أساسية، وتنظيمات حزبية من نوع «الشباب الشيوعي» … إلخ، وتنظيمات ديمقراطية يشرف عليها الحزب؛ وقد وافقت اللجنة المركزية على التقرير، وأمرت في الاجتماع ذاته بالتحقيق في المؤامرات الانفصالية التي يدبِّرها «التكتل الثوري».

بعد فترة قصيرة من هذا الاجتماع، قام المكتب السياسي والأمانة المركزية بتعيين ثلاثة رفاق جدد باللجنة المركزية وهم سالم،٢٥ وتوفيق، ومنتصر؛ والثلاثة أعضاء بالحركة المصرية.

الاتجاهات الانقسامية تنمو بين العناصر الإسكرية التي تحاول التحكم في قيادة الحركة

كان موقف كلٍّ من شندي وعادل ضعيفًا للغاية بسبب فشلهما المحقَّق والمستمر في العمل، وقد حاول شندي الذي رأى الجميع ضرورة تركه للجنة المركزية، بمساعدة مرسي المسئول عن مكتب الدعاية، العودة إلى الفكرة القديمة وهي فكرة «التمصير الكامل للقيادة»، فبدأ معًا سلسلة من الاتصالات السرية بالعناصر الإسكرية في قطاع الأجانب، وقدَّم شندي اقتراحه «بتمصير القيادة» في اجتماع اللجنة المركزية في فبراير، واستغلَّ هذا الاقتراح كلٌّ من منتصر وعلام اللذين طالَبَا ﺑ «إفساح مكان» للعمال في القيادة بالرغم من أن الرأي العام يرى أنه باستثناء العمال الموجودين بالفعل في القيادة لا يوجد عمال على درجة كافية من الإعداد لتولي المسئولية.

في اجتماع اللجنة المركزية في فبراير سنة ١٩٤٨م، كشف سليمان تمامًا عن موقفه الانقسامي ودافع عن فكرة «تكوين أقسام» داخل الحركة.

أثارت هذه الأحداث رد فعل عنيفًا من جانب الحركة المصرية، وقررت اللجنة المركزية في هذا الاجتماع، بموافقة العناصر الإسكرية (عادل … إلخ) طرد سليمان وسيف٢٦ وزوزو٢٧ من الحركة وإدانة انقسامهم كما قررت أيضًا القيام بحملة واسعة لمحاربة الاتجاهات الانقسامية.
تم التصويت على اقتراح شندي ورُفض، وأُجريَت انتخابات جديدة للأمانة والمكتب السياسي، وقد أسفرت هذه الانتخابات عن إعطاء ١٠٠٪ من المقاعد لأعضاء الحركة المصرية:
  • الأمانة: يونس، بدر، شوقي، راشد.٢٨
  • المكتب السياسي: يونس، بدر، راشد، حميدو (الحركة المصرية)، عادل، عباس (إسكرا) نور (الطليعة).

المواقف السياسية

كان الموقف الرئيسي الذي ينبغي تحديده في هذه الفترة التي تُعد فيها الإمبريالية والرجعية لحرب فلسطين هو الموقف من المشكلة الفلسطينية: قرَّر المكتب السياسي تأييد قرار الأمم المتحدة بالتقسيم فور إعلانه، وقد حققت المجلة الرسمية للحركة، التي يُوزَّع منها حوالي ١٢٠٠ نسخة أسبوعيًّا، انتشارًا واسعًا لهذا الموقف، هذا بخلاف المجلات غير الرسمية والمنشورات؛ وجدير بالذكر عدم ظهور خلاف سياسي بين أعضاء القيادة حول هذه المسألة.

•••

المرحلة الثالثة: فبراير إلى مارس سنة ١٩٤٨م
  • تبلور الاتجاهات الانقسامية.

  • نشر اللوائح.

  • تغيير الأمانة وشلل القيادة.

محاربة انقسام سليمان

نشرت الأمانة والمكتب السياسي تقارير عن الانقسام، أخذ فيها عادل موقفًا ضد سليمان الذي كان على خلاف معه منذ مدة، وعقد أعضاء الحركة المصرية خاصة المؤتمرات في القطاعات العمالية لإعلان وتفسير الانقسام.

وقد ظهر بوضوح أن قطاع الطلبة المكوَّن من السيدات اللاتي لم يكُن لهن تنظيم شبابي مستقل، تحت استمالته إلى الانقسام، فطلبت القيادة من كل عضو بالحركة تحديد موقفه، الأمر الذي أدى إلى طرد عدد من الأعضاء؛ وقررت اللجنة المركزية إعادة تكوين قطاع طلابي على أساس سليم، وإقصاء الانقسامين والقضاء على «التجمعات» البرجوازية المتحررة التي تسود هذا القطاع، كما أُجرِي تحقيق مع شديد الإسكري المسئول بالقطاع لتحديد مسئوليته في امتداد مؤامرات الانقسامين إلى قطاعه دون علمه أولًا، ثم في الإجراءات الضعيفة التي اتخِذَت ضد الانقسامين.

انقسامات جديدة في طريقها إلى التبلور

دفع تأليف الأمانة من عناصر الحركة المصرية الإسكريين، الذين لم يكونوا ليخضعوا لهذا الإجراء، إلى التجمع في تقسيمات متنوِّعة بدأت سرية، ثم انتهت بالإعلان عن نفسها في آخر مارس.

قسم «نحو منظمة بلشفية»

تأسَّس هذا القسم، بالاتفاق سرًّا مع عادل، على قاعدة اقتصادية وهي أن يكون العمل كله مركزًا بين العمال فقط على أساس مطالبهم اليومية؛ وكان قادته جميعًا إسكريين باستثناء يوسف الذي انضم إليهم.

قسم «صوت المعارضة»

وُلد وتطوَّر هذا القسم الذي يديره سليم وزوجته وهما إسكريان، بين المثقفين والأجانب، وبشكل جزئي بين السيدات، وكانت القاعدة التي تكون على أساسها هي «١٠٠٪ عمل بين العمال»، ومعظم شعاراته منقولة من ترسانة انقسام «سليمان» وكان أعضاؤه يعتبرون «المركزية» داخل التنظيم نوعًا من الفاشية فأعلن القسم تمرُّده ضد القيادة المركزية، وأنشأ مركزًا مستقلًّا وأصدر نشرة «صوت المعارضة».

«العادليون»

كان شعار هذا القسم الذي بدأ بالتطور بين العمال والسيدات بقيادة عادل ومرسي وحلمي وزوجته ليلى هو «المثقفون والعمال» ثم اقترح العادليون شعار «٨٠٪ عمل بين العمال و٢٠٪ بين الطلبة» كما طالبوا بإعادة تنظيم الحركة على أساس قطاع عمالي كبير، وقد استغل العادليون مدرسة الكوادر لإشاعة أفكارهم الانقسامية ولإبعاد العمال عن أعضاء الحركة المصرية.

•••

عادت الأساليب الإسكرية القديمة للظهور في الأقسام التي يسيطر عليها الإسكريون، محطِّمة في طريقها الإضافة الإيجابية للحركة، وساد العملَ التحزُّبُ العائلي والتشرذم، وتكوَّنَت من جديد «الشراذم» السرية الحمراء، وتزايدت الاتصالات المخالفة للتنظيم، كما أصبحت النقود هي وسيلة العمل الرئيسية في القطاعات العمالية إذ طالب قطاع النقل المشترك (ترام، أوتوبيس … إلخ) الذي يسيطر عليه الإسكريون تمامًا بمبالغ ضخمة نسبيًّا للإعداد لانتخابات عمال الترام.

لقد شُلت الحركة! وكان طبيعيًّا أن يؤدي هذا إلى نتائج مؤسفة فتعرض الأمن الداخلي للخطر، وزادت الاعتقالات، وبخاصة في القطاع «الفني» الطباعة، التوزيع، المخازن … إلخ، بالإضافة إلى اعتداء الانقسامين على المخازن المعروفة لهم لسرقتها.

موقف الأمانة

كانت الوسيلة المُثلى لعلاج الموقف في رأي الأمانة هي دفع حركة العمل على الصعيد الخارجي والمشاركة بفعالية في الصراع السياسي الذي ازدادت خطورته في ذلك الوقت، فقدمت إلى اللجنة المركزية تقريرًا تعرض فيه بالتفصيل وضع الحركة وتركيبها العضوي، وانتهت إلى أن هناك مع هذا تقدمًا بالنسبة لما كان عليه الوضع قبل الوحدة؛ ومن الناحية التنظيمية اقترحت الأمانة تشكيل «مجموعات من المؤيدين» في المصانع ومواقع العمل، للعمل على تفاقُم السخط في الخارج، وشكلت لجنة محلية جديدة لمدينة القاهرة من عناصر الحركة المصرية خاصة؛ ثم وجهت بعد هذا اهتمامها إلى القطاعات العمالية التي قصرت عدد المحترفين بها على العمال الذين أثبتوا ارتباطهم بالعمل أثناء النضال، كما أوفدت إلى الوجهَين القبلي والبحري بعض المحترفين، وكلَّفتهم بالعمل على زيادة مراكز نشاط الحركة في أقاليمهم، وهاجمت بعنف الاتصالات المُفسِدة للتنظيم، ومنعت بشدة الاتصال بين الأعضاء القدامى بالحركة المصرية.

كانت الأمانة في الواقع مخطئة في هذه الإجراءات التي منعت أعضاء الحركة المصرية من المشاركة بفعالية في الصراع الداخلي لأنها، بدلًا من إظهار حقيقة الانقسام والكشف عن جذوره، أدَّت إلى كبت السخط وازدياد حدَّته، هكذا اضطر أعضاء الحركة المصرية إلى العمل المستقل بعد أن قطع الإسكريون اتصالهم بالمركز، وبعد أن وقف قرار الأمانة حائلًا دون الاتصالات غير التنظيمية، فحاول كلٌّ منهم النضال في وسطه، لمنع الانهيار التام للحركة، بالطريقة التي يراها صحيحة.

اللوائح

قدمت الأمانة والمكتب السياسي مشروعًا للوائح وعرضته للمناقشة العامة، قام الأعضاء بنقد بعض النقاط وتم تغييرها ثم عرض المشروع على اللجنة المركزية التي وافقت عليه بعد نقاش سريع حول طريقة تحديد اللوائح للأهداف الاشتراكية للحركة، وهل يجب أن تذكرها بالتفصيل كما يطلب «العادليون» أو تكتفي بإعطاء ملخَّص لها كما يوصي يونس والأمانة؟

تغيير الأمانة – شلل القيادة

بعد التحقق من مؤازرة الدارسين في مدرسة الكوادر بدأ عادل سلسلة من المناورات بغرض تغيير الأمانة متحدِّثًا هذه المرة عن «تحويل» القيادة إلى «التعميل» لا «التمصير».

اكتشاف «خط القوى الوطنية الديمقراطية»

كان المسئول عن التنظيم باللجنة المركزية يزعم أن «الحلقة» الرئيسية في فهم الأزمة هي «سوء التنظيم»! فأوصى بإعادة تنظيم الحركة على أساس مكان «السكن»، وهاجم مشروع خط اللجنة المركزية المسمى «خط يونس» داعيًا إياه «خط القوى الوطنية الديمقراطية»، ولكن سرعان ما هاجم عادل اقتراح شندي وسمَّاه أيضًا «اتجاهًا وطنيًّا ديمقراطيًّا»، فسحب شندي اقتراحه المقدَّم من خلال مشروع خط مضاد، وعندما لم يرَ حوله إلا قلة من المؤيدين انضم إلى عادل واشترك معه في الهجوم على مشروع يونس الذي وصفاه بمشروع «القوى الوطنية الديمقراطية»؛ وتبلور النقاش حول نقطة رئيسية؛ هل ينبغي العمل على إعداد كوادر عمالية كما يطلب عادل، أو على «تعميل» الحركة بناءً على توصية يونس في مشروعه؟

لقد انتهى النقاش باقتراحٍ بالدعوة إلى مؤتمر يُعقَد بعد شهر ونصف، وبدأ الاتجاه «العادلي» حملة إثارة واسعة حول ما أسماه «خط القوى الوطنية الديمقراطية» ووجه إلى مشروع يونس نقدًا يتلخَّص في ثلاث نقاط:
  • (أ)

    إنكار الدور القيادي للطبقة العمالية.

  • (ب)

    الخلط بين الحزب والجبهة الشعبية.

  • (جـ)

    المبالغة في تقدير الدور الثوري للبرجوازية الصغيرة ومساواته بدور الطبقة العمالية.

وكان يؤيد نقده بالحديث عن نظام القطاعات السائد في الحركة الديمقراطية، وعن العدد الكبير الذي تضمه من صغار البرجوازيين والطلبة والأجانب … إلخ، ويزعم أن الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني تمثِّل جبهة شعبية «ذاب» فيها التنظيم الرئيسي، هكذا كان عادل والإسكريون يبرِّرون انقسامهم وقيامهم بإفساد الحركة وشلها عمدًا.

ظهور معسكرين بالحركة الديمقراطية للتحرر الوطني

اتضحت المواقف أثناء المناقشات التي دارت في اللجنة المركزية خلال شهر مارس إذ هاجمت «أميرة»، وهي أصلًا إسكرية، «عادل» ومؤيديه بعنف؛ وكشفت عن مناوراتهم وأخذت موقفًا علنيًّا ضدهم بمساندتها للتيار الثوري الذي يقوده الرفيق يونس، وهو الموقف الذي أخذه قبلها الرفيق مجاهد، أما منتصر وعلام وهما من العمال الذين مروا بمدرسة «عادل» للكوادر فقد ساندا عادل، وتبنى الرفيق حميدو وهو عامل من أعضاء الحركة المصرية موقفًا تهادنيًّا انتهى به إلى الانضمام إلى عادل في بداية انشقاقه، ثم إلى تركه والاعتراف علنًا بخطئه والعودة إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في معسكر الاعتقال.

لقد ظهر واضحًا أن جميع الانقسامات تنتمي إلى اتجاه واحد بالرغم من تنوُّع شعاراتها إذ إنها تعود بطريقة أو بأخرى إلى إسكرا القديمة فتجمع الإسكريون القدامى حول ميول شخصية، وقد تشابهت الشعارات هي الأخرى: إن الشعارين الذين رفعهما سليمان، وهما شعارا «المركزية الفاشية» و«١٠٠٪ عمل بين العمال» هما ذاتهما الشعاران اللذان رفعهما عادل في «صوت المعارضة» … بعد أن خفض النسبة إلى «٨٠٪ عمل …»

كانت الانقسامات تتكون إذَن تبعًا لميول شخصية، أو أحقاد أو مشاجرات بين القادة، أو تبعًا للوسط الذي تظهر فيه: طلاب، مثقفون، أجانب … إلخ، إنها الأساليب الإسكرية؛ تتكيف وفقًا للظروف.

دور شعار «التعميل»

هذا الشعار الذي قدَّمَه الرفيق يونس بمساندة جميع الأعضاء القدامى بالحركة المصرية هل قام بدور في الصراع؟ الجواب: نعم، بلا جدال؛ لقد ساعد هذا الشعار على اندلاع التيار الإصلاحي الانتهازي بالحركة، إذ شعر الإسكريون أن تطبيق مشروع الرفيق يونس سيفقدهم نفوذهم داخل الحركة، فكانوا من جانبهم يقولون: «لا فرق هنالك بين الشيوعيين، مثقفين كانوا أو عمالًا»، ويضيفون: إن مهمة المثقفين هي تعليم العمال، ولا تقتصر على نقل النظرية إليهم فحسب.

هكذا قام الإسكريون بإثارة السخط بين أعضاء الحركة من العمال، وحرَّضوهم على أعضاء الحركة المصرية الذين اتُّهِموا بأنهم من المثقفين! وهكذا تحول شعار «تعميل الحركة» إلى هيجان عمالي يطالب بتعميل القيادة ويساعد على إفساد نظام الحركة بين العمال.

تعديل تشكيل القيادة

في أحد اجتماعات اللجنة المركزية وكان الرفيقان راشد وسالم غائبَين، استغلَّ عادل ومؤيدوه الجدل المُثار حول «تعميل القيادة» واقترحوا تغييرها وإدخال العناصر الموالية لهم في الأمانة والمكتب السياسي من أجل «إعداد سليم» للمؤتمر؛ فتشكلت القيادة من: يونس، بدر، شوقي، عادل وحميدو. وتألَّف المكتب السياسي من: توفيق، خليل، يونس، راشد، حميدو، عادل وعباس.

وطلب عادل أن يتولى حميدو العامل المسئولية السياسية بالأمانة، هادفًا من وراء هذا إلى استغلاله في أغراضه الشخصية، ولكن هذا الاقتراح رُفض، ولم يحدث اتفاق على توزيع المسئوليات، ولم يرغب أعضاء الحركة المصرية في استغلال الأغلبية التي في حوزتهم حتى لا يعجلوا بالانشقاق فأصاب الشلل القيادة.

بعد فترة قصيرة من هذا الاجتماع اختير باللجنة المركزية الرفيقان حمودة المسئول عن الوجه البحري بالحركة المصرية وعابدين٢٩ المسئول عن الإسكندرية بإسكرا.

المرحلة الرابعة مارس–يوليو سنة ١٩٤٨م

الإعداد للمؤتمر، أغلبية وأقلية: ٩ ضد ٨؛ الإعداد لانشقاق عادل، إشراف العادليين على مجلة «نضال العمال»، والعناصر الثورية على «الرباط»؛ إعلان الأحكام العرفية: اعتقالات عديدة بين كوادر الحركة؛ انشقاق عادل وطرد الانقسامين «بصوت المعارضة» «نحو منظمة بلشفية» من الحركة.

إعادة تنظيم الحركة

شُلَّت الأمانة تمامًا، وتحوَّل المكتب السياسي إلى نادٍ تدور فيه مناقشات لا نهاية لها حول الأزمة وحلها؛ وقد أظهرت هذه المناقشات انهيار القطاع العمالي بشبرا الخيمة حيث لم يعُد به أكثر من أربعة أعضاء لا سبعين كما يزعم عادل في تقاريره.

انهار أيضًا قسم «النقل المشترك» وضاع المركز النقابي وسط مناقشات هادي وخضر من الحركة المصرية من ناحية، وحلمي وكامل من إسكرا من ناحية أخرى، أما قسم «النسيج بالقاهرة» فكان يعقد المؤتمر تلو المؤتمر ويصفي كل نشاط له كما ضعف التنظيم بالمحلة الكبرى على أثر الإضراب الكبير وموجة الخوف والاعتقالات التي أعقبته، وهرب العديد من الرفاق إلى القاهرة؛ حيث يستطيعون المشاركة في المناقشة العامة، وإن كان حضور البعض لقبض «أجورهم»!

أما الطلبة فقد شلوا تمامًا، بسبب الانقسامات التي تسودهم، والامتحانات التي تقترب، بينما كان المثقفون والأجانب يسودون مئات الصفحات التي تنشرها «صوت المعارضة» بدعوى «حرية النقد».

كان جميع الأعضاء بالحركة يشعرون أن القيادة فقدت سيطرتها الكاملة على التنظيم، وهو شعور مطابق لواقع الأشياء.

اجتماع اللجنة المركزية في أبريل

طلب العادليون اجتماعًا خاصًّا للجنة المركزية في أبريل لمناقشة السؤال الذي تطرحه ضرورة الدعوة السريعة للمؤتمر، وقد ضم الاجتماع سبعة عشر عضوًا وهم:
  • يونس، شوقي، بدر، خليل، راشد، أميرة، سالم، حمودة، توفيق: حركة مصرية/٩.

  • عادل، شندي، عباس، منتصر، علام، حميدو، عابدين، نور: إسكرا/٨.

تخلف من تيار الحركة المصرية الرفيق مجاهد بسبب ظرف طارئ كما غاب عن الجهة الأخرى (أي من تيار إسكرا) شندي بسبب إيقافه والتحقيق الجاري معه عن الانقسام بقطاع الطلبة.

كان السؤال المحوري الذي طُرح في الاجتماع هو: «ممَّن سيتكون المؤتمر؟» اقترح علام من التيار الإسكري العادلي أن يتكون المؤتمر من عمال فقط سواء كانوا مجرد نقابيين أو كانوا أعضاء أو غير أعضاء بالحركة، وقال إنهم بصفتهم عمالًا يملكون حق المشاركة في المؤتمر وإن ثقته بهم على كل حال أكبر من ثقته في أعضاء الحركة من غير العمال — من البديهي أنه يقصد أعضاء الحركة المصرية —، أيَّدَه عادل بطريقة أقل تطرُّفًا وكان يعتمد على الأعضاء الذين مروا «بمدرسة الكوادر العمالية»؛ اقترح يونس أن يتكون المؤتمر من الرفاق المسئولين بالحركة في مختلف المناطق أو مراكز النشاط مع إعطاء الأقسام العمالية تمثيلًا أكبر.

انقسمت اللجنة المركزية في هذا الاجتماع إلى شقَّين متباينَين: التيار الثوري وله تسعة أصوات، والتيار الإصلاحي وله ثمانية أصوات، فدار الحديث عندئذٍ عن البلشفيين والمنشقين بالمعنيين الثوري والإصلاحي لا للتعبير عن الأغلبية فحسب.

الإعداد للمؤتمر

أثناء النقاش، نجحت اللجنة المركزية في اختيار اثنين وسبعين عضوًا من المعروفين بقدرتهم على المشاركة في المؤتمر، وكان معظم هؤلاء ينتمون إلى الحركة المصرية (أي التيار الثوري)، فرفض العادليون التصديق على هذه النتيجة وحاولوا تغييرها ولكن الأغلبية رفضت وطالبت باحترام القرارات.

كان لخبر الإعداد للمؤتمر ردود فعل متنوعة في قطاعات الحركة المختلفة، وبينما أثار العادليون هيجانًا واسعًا بين مؤيدين للطلبة بإشراك أعضاء جدد في المؤتمر الذي طالبوا بدعوته للانعقاد، كان التيار الثوري مدركًا لخطورة الوضع في البلد، فاعترض بعنف على انعقاد المؤتمر لاستحالة الإعداد له ماديًّا، وبسبب الاستعدادات التي تقوم بها الرجعية عشية الحرب: اعتقالات أول مايو، وحالة الفساد وانعدام الأمن السائدة في الحركة؛ وقد رأت لجنة الإشراف التي حضرت الاجتماع المشترك أن من الظلم دعوة الأعضاء الاثنين والسبعين، وهو رقم لم يتحقَّق في مصر من قبل، الذين يشكلون أفضل كوادر الحركة الشيوعية المصرية، لعقد مؤتمر في ظلِّ هذه الظروف؛ لم ينتهِ الاجتماع إلى قرار محدَّد ولكنه أجل موعد الدعوة للمؤتمر.

«خط عادل السياسي»

في هذه الفترة ذاتها قدَّم عادل تقريرًا إلى اللجنة المركزية، وقد دُعي هذا التقرير ﺑ «خط عادل السياسي»، وفيه ينتقد عادل الخط السياسي للرفيق يونس ويصفه بأنه «خط للقوى الوطنية الديمقراطية».

أحالت اللجنة المركزية التقرير إلى المكتب السياسي الذي أرسله للطباعة تمهيدًا لتوزيعه على أعضاء الحركة، وإذ تأخر التقرير بالمطبعة عدة أيام أسرع العادليون إلى طبعه بطريقتهم، خارجين مرة أخرى على قواعد التنظيم وقاموا بتوزيعه على الأعضاء بأنفسهم.

ومع هذا، لم يكُن هناك تأثير عملي لهذا الخط الذي ضاع بين المناقشات العامة ولم يسمع عنه أحد منذ ذلك الحين.

الإعداد للانشقاق «العادلي»

قام العادليون بإفساد الحركة الديمقراطية تمامًا باتصالاتهم، وأثاروا الشعور بالغضب العام بمساعدة الانقسامات الأخرى كما أثاروا جميع الخلافات داخل الحركة مما أدى إلى شل القيادة بالكامل؛ ثم بعد ذلك وصلوا إلى مرحلة الإعداد العملي للانشقاق الذي حدث بعد شهرين.

العادليون يشرفون على «نضال العمال»

أغلق البوليس المجلة الرسمية للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في أبريل سنة ١٩٤٨م، وتولى العادليون الإشراف على المجلة السرية للحركة «نضال العمال» بمساعدة مؤيديهم من «المدرسة العمالية للكوادر»؛ وقاموا أيضًا، بمساعدة حميدو الذي اكتسبوا صداقته بالإشراف على القطاع العمالي بشبرا الخيمة وطردوا منه الزميل أمين؛ أما قطاع عمال الحكومة والسكك الحديدية … إلخ، فلم يكُن للعادليين به إلا القليل من المؤيدين، كما فشلوا أيضًا في المكتب النقابي؛ حيث لم يستطيعوا اجتذاب إلا القليل جدًّا من أعضائه، وذلك بفضل كامل أحد المسئولين بالمكتب.

وبالنسبة للسيدات، نجح العادليون في اجتذاب اللاتي لم ينضممن منهن إلى الانقسامات الأخرى؛ ونجح «جمجوم»٣٠ في اجتذاب بعض العناصر من القطاع الجديد «الشباب» الذي ظلَّت الأغلبية به وفية للتيار الثوري؛ وقد ظلَّ كل قطاع «الظاهر» من الأجانب وفيًّا للحركة بينما انضم الآخرون إلى الانقسامات المختلفة، أو هجروا الحركة تمامًا.

أما تنظيمات الوجهين القبلي والبحري فقد ظلَّت وفيَّة للحركة باستثناء الإسكندرية التي تَوزَّع تنظيمها بين الانقسامات المختلِفة والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني؛ وقد ظلَّ النوبيون والسودانيون بمصر أوفياء للتيار الثوري الذي ساندته بعمق الحركة السودانية للتحرر الوطني وظلَّت للنهاية حليفًا مخلِصًا له.

لقد كان مكتب الدعاية المكون من مثقفي إسكرا هو المحرك للانشقاق بقيادة مرسي.٣١

إعلان الأحكام العرفية

أُعلنت الأحكام العرفية في البلاد في ١٥ مايو سنة ١٩٤٨م وبدأت الحرب الظالمة ضد دولة إسرائيل.

قبض البوليس في هذا اليوم على المئات من الديمقراطيين والنقابيين واليهود … إلخ، وزج بهم في معسكرات الاعتقال التي ضمَّت أكثر من مائة من أعضاء الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني.

أثر الأحداث على الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني

إن شلل الحركة وعجزها عن المقاومة وعن قيادة النضال ضد الحرب الإجرامية التي شنتها الإمبريالية والرجعية، وعدم قدرتها على تطبيق الخط السياسي الصحيح، وذلك بتحويل الحرب الإمبريالية الظالمة إلى حرب عادلة ضد الإمبريالية والرجعية، إن كل هذا قد أظهر لأية درجة تصبح المؤامرات السياسية أسلحة ثمينة في أيدي أعداء الشعب؛ زادت الاعتقالات وضمَّت السجون أو معسكرات الاعتقال عددًا من أفضل كوادر القادة بالحركة بينما استمر المنشقون في مخالفة قواعد الأمن بدعوى «تنوير» كل الأعضاء بالحركة؛ وبينما كانت الكوادر الثورية للحركة تطالب كل الأعضاء بالالتفاف حول اللجنة المركزية وبمضاعفة جهودهم للنضال استمر الانقساميون وعلى رأسهم عادل ومرسي في المطالبة بالدعوة للمؤتمر، ورفضوا العمل قائلين: «الاتفاق على الخط السياسي أولًا ثم العمل»، أو «فلنناقش أولًا ثم نعمل»؛ هكذا كانوا يردون على نداء النضال بنداء النقاش.

كان واضحًا أن الاستمرار في مهادنة المنشقين يعني خيانة الحركة ومعاونة الرجعية والإمبريالية؛ وأصبح من الضروري جمع كل العناصر الثورية الصادقة والراغبة في النضال لاستئناف العمل بأي ثمن.

اجتماع اللجنة المركزية في يوليو

اجتمعت اللجنة المركزية التي فقدت عددًا من أعضائها بالاعتقال في شهر يوليو؛ وقد طرح الثوريون المشكلة بوضوح في هذا الاجتماع، حتى تتمكن الحركة من الاستمرار ومن القيام بالمهام العديدة والثقيلة للغاية التي تواجهها ينبغي الكف فورًا عن أي عمل انشقاقي.

رفض عادل والمنشقون الآخرون، واقترحوا في المقابل الدعوة لانعقاد «مؤتمر من أجل تأسيس حزب»! وأن الانشقاق قد حدث بصورة نهائية في هذا الاجتماع؛ حيث استقل العادليون بتنظيمهم الذي أطلقوا عليه اسم «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني – عمال ثوريون»؛ وشكل شندي هو الآخَر تنظيمًا مستقلًّا أسماه «نحو حزب شيوعي»، وانضمَّ انقسام «نحو منظمة بلشفية» إلى «صوت المعارضة».

لقد انشقت إسكرا القديمة وانقسمت إلى سلسلة من التنظيمات الصغيرة التي تناضل بشراسة الواحدة ضد الأخرى وتتكتَّل فيما بينها ضد الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني؛ أما الحركة الديمقراطية فقد نادت بالْتِفاف جميع المناضلين الصادقين واستأنفت النضال على الفور واثقة من اجتماع جميع الشيوعيين واتحادهم في بوتقة العمل.

figure
وصف هنري كورييل لحرب فلسطين ١٩٤٨م بالحرب الإمبريالية الظالمة ضد دولة إسرائيل وانعكاس هذا الموقف على الانشقاقات داخل التنظيم.
١  هذا افتئات على الحقيقة التاريخية؛ فقد كان هناك مناضلون من الحزب القديم يمارسون نشاطهم عندئذٍ مثل شعبان حافظ، وصفوان أبو الفتح ود. حسونة وغيرهم.
٢  من الملاحظ أن كورييل يخلط بين مرحلة «الصالونات» الماركسية السابقة على تكوين التنظيمات، ومرحلة التنظيم، فإن كلًّا من «إسكرا» و«حمتو» تأسَّسا في ١٩٤٣م، ولم يكُن لهما وجود تنظيمي قبل ذلك التاريخ.
٣  عبد المعبود الجبيلي.
٤  محمد شطا.
٥  سيد رفاعي.
٦  على كامل.
٧  هنري كورييل.
٨  كمال شعبان.
٩  عبد المعبود الجبيلي.
١٠  شهدي عطية الشافعي.
١١  عبد الرحمن الناصر.
١٢  غير معروف.
١٣  هليل شوارتز.
١٤  سدني سلامون.
١٥  جلال كشك.
١٦  علي كامل.
١٧  إيمي ستون.
١٨  أحمد حمروش.
١٩  عدلي جرجس.
٢٠  نسبة إلى «سليمان» وهو شهدي عطية الشافعي.
٢١  عبد المنعم إبراهيم.
٢٢  كمال عبد الحليم.
٢٣  يلاحظ أن هنري كورييل لم يعدِّد هنا سوى ثمانية أفراد فقط.
٢٤  مارسيل إسرائيل.
٢٥  فؤاد عبد الحليم.
٢٦  أنور عبد الملك.
٢٧  حسين كاظم.
٢٨  عبد الخالق محجوب.
٢٩  عبد المنعم إبراهيم.
٣٠  إبراهيم المانسترلي.
٣١  مارسيل إسرائيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤